تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 16
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 16
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 16
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء السادس العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة القصص مكيه، وهى ثمان وثمانون آيه) بسم الله الرحمن الرحيم. طسم - 1. تلك آيات الكتاب المبين - 2. نتلوا عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم يومنون - 3. ان فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفه منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم انه كان من المفسدين - 4. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين - 5. ونمكن لهم في الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون - 6. وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزني انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين - 7. فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين - 8. وقالت امرأة فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون - 9. وأصبح
[ 6 ]
فؤاد أم موسى فارغا ان كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين - 10. وقالت لاخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون - 11. وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون - 12. فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 13. ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين - 14. (بيان) غرض السوره الوعد الجميل للمؤمنين وهم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش وطغاتها واليوم يوم شدة وعسرة وفتنة بأن الله سيمن عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم ويرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى وفرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بنى اسرائيل يذبح ابناءهم ويستحيى نساءهم فرباه في حجر عدو، حتى إذا استوى وبلغ أشده نجاه وأخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم
رسولا منه بسلطان مبين حتى اذاأغرق فرعون وجنوده أجمعين وجعل بنى اسرائيل هم الوارثين وأنزل التوراة على موسى هدى وبصائر للمؤمنين. وعلى هذا المجرى يجرى حال المؤمنين وفيه وعد لهم بالملك والعزة والسلطان ووعد للنبى ص برده إلى معاد. وانتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى
[ 7 ]
والجواب عنه، وتعللهم عن الايمان بقولهم: ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا والجواب عنه وفيه التمثل بقصة قارون وخسفه. والسورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، وما أوردناه من الايات فصل من قصة موسى وفرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده. قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين) تقدم الكلام فيه في نظائره. قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) (من) للتبعيض و (بالحق) متعلق بقوله: (نتلو) أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا وبوحى منا من غير أن يداخل في القائه الشياطين، ويمكن أن يكون متعلقا بنبأ أي حال كون النبأ الذى نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه. وقوله: (لقوم يؤمنون) اللام فيه للتعليل وهو متعلق بقوله: (نتلو) أي نتلو عليك من نبأهما لاجل قوم يؤمنون بآياتنا. ومحصل المعنى: نتلو عليك بعض نبا موسى وفرعون تلاوة بالحق لاجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك وهم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدى فراعنة قريش وطغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذى آمنوا به وبرسوله وتحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذى أنشأ موسى ع لاحياء الحق وانجاء بنى اسرائيل
واعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم وقد علا فرعون وأنشب فيهم مخالب قهره وأحاط بهم بجوره. أنشأه والجو ذلك الجو المظلم الذى لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجا به بنى اسرائيل وأفنى بيده فرعون وجنوده وجعلهم أحاديث وأحلاما. فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم ويرمز له ولهم بقوله: (لقوم يؤمنون) أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل باولئك ويمن على هؤلاء المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببنى اسرائيل. قوله تعالى: (ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم) الخ، العلو في الارض كناية عن التجبر والاستكبار، والشيع جمع شيعة وهى
[ 8 ]
الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق وكل فرقة شيعة وسموا بذلك لان بعضهم يتابع بعضا. انتهى. وكأن المراد بجعل أهل الارض - وكأنهم أهل مصر واللام للعهد - فرقا القاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه ويقلبوا عليه الامور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة وتقوية السلطة، واستحياء النساء ابقاء حياتهن. ومحصل المعنى: أن فرعون علا في الارض وتفوق فيها ببسط السلطة على الناس وانفاذ القدرة فيهم وجعل أهلها شيعا وفرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شئ وبذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته والامتناع من نفوذ ارادته. وهو يستضعف طائفه منهم وهم بنو اسرائيل وهم أولاد يعقوب عليه السلام وقد قطنوا بمصر منذ أحضريوسف عليه السلام أباه واخوته وأشخصهم هناك فسكنوها وتناسلوا بها حتى بلغوا الالوف. وكان فرعون هذا وهو ملك مصر المعاصر لموسى عليه السلام يعاملهم معاملة الاسراء
الارقاء ويزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم واستبقاء نسائهم وكان فيه افناء رجالهم بقتل الابناء الذكور وفيه فناء القوم. والسبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الارض فان الخلقة العامة التى أوجدت الانسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب وشعب من الشعوب الانسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الارضية ولكل ما يعادل قيمته في المجتمع وما يساوى زنته في التعاون. هذا هو الاصلاح الذى يهتف به الصنع والايجاد، والتعدى عن ذلك بتحرير قوم وتعبيد آخرين وتمتيع شعب بما لا يستحقونه وتحريم غيرهم ما يصلحون له هو الافساد الذى يسوق الانسانية إلى البيد والهلاك. وفى الاية تصوير الظرف الذى ولد فيه موسى عليه السلام وقد أحدقت الاسباب المبيدة لبنى اسرائيل على افنائه. قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض إلى قوله - ما كانوا يحذرون) الاصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل ومنه تسمية ما يوزن به منا، والمنة النعمة الثقيلة ومن عليه منا أي أثقله بالنعمة. قال: ويقال
[ 9 ]
ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم والثانى بالقول كقوله: (يمنون عليك أن أسلموا) وهو مستقبح الا عند كفران النعمة. انتهى ملخصا. وتمكينهم في الارض اعطاؤهم فيها مكانا يملكونه ويستقرون فيه، وعن الخليل أن المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال. فقيل: تمكن وتمسكن نحو تمنزل انتهى. وقوله: (ونريد ان نمن) الخ الانسب أن يكون حالا من (طائفة) والتقدير
يستضعف طائفة منهم ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا الخ وقيل: معطوف على قوله: (ان فرعون علا في الارض) والاول أظهر، و (نريد) على أي حال لحكاية الحال الماضية. وقوله: (ونجعلهم أئمة) عطف تفسير على قوله: (نمن) وكذا ما بعده من الجمل المتعاقبة. والمعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، وتفريقه بين الناس واستضعافه لبنى اسرائيل استضعافا يبيدهم ويفنيهم والحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم وذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، ونجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم ونمكن لهم في الارض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه ويملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان الا ما أراد غيرهم أن يبوءهم فيه ويقرهم عليه، ونرى فرعون وهو ملك مصر وهامان وهو وزيره وجنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون وهو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم ومالهم وسنتهم كما قالوا في موسى وأخيه لما أرسلا إليهم: (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) طه: 63. والاية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذى قضى على بنى اسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس ولا يبقى منهم نافخ نار وقد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية وملا أقطار وجودهم رعبه وهو يستضعفهم حتى يقضى عليهم بالبيد هذا ظاهر الامر وفى باطنه الارادة الالهية تعلقت بأن تنجيهم منهم وتحول ثقل النعمة من آل فرعون
[ 10 ]
الاقوياء العالين إلى بنى اسرائيل الاذلاء المستضعفين وتبدل من الاسباب ما كان على بنى اسرائيل لهم وما كان لال فرعون عليهم والله يحكم لا معقب لحكمه. قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في
اليم (إلى آخر الآية، الايحاء هو التكليم الخفى ويستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الالهام والالقاء في القلب كما في قوله: (بأن ربك أوحى لها) الزلزال: 5، وقوله: (وأوحى ربك إلى النحل) النحل: 68، وقوله في أم موسى: (وأوحينا إلى أم موسى) الاية أو بنحو آخر كما في الانبياء والرسل، وفى غيره تعالى كما في قوله: (ان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) الانعام: 121، والالقاء الطرح، واليم البحر والنهر الكبير. وقوله: (وأوحينا إلى أم موسى) في الكلام ايجاز بالحذف والتقدير وحبلت أم موسى به - والحال هذه الحال من الشدة والحدة - ووضعته وأوحينا إليها الخ. والمعنى. وقلنا بنوع من الالهام لام موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه ويقتلوه - فألقيه في البحر وهو النيل على ما وردت به الرواية ولا تخافى عليه القتل ولا تحزني لفقده ومفارقته اياك انا رادوه اليك بعد ذلك وجاعلوه من المرسلين فيكون رسولا إلى آل فرعون وبنى اسرائيل. فقوله: (انا رادوه اليك) تعليل للنهى في قوله: (ولا تحزني) كما يشهد به أيضا قوله بعد: (فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن) والفرق بين الخوف والحزن بحسب المورد أن الخوف انما يكون في مكروه محتمل الوقوع والحزن في مكروه قطعي الوقوف. قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) الالتقاط اصابة الشئ وأخذه من غير طلب، ومنه اللقطة واللام في قوله: (ليكون لهم عدوا وحزنا) للعاقبة - على ما قيل - والحزن بفتحتين والحزن بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم والسقم، والمراد بالحزن سبب الحزن فاطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم.
[ 11 ]
والخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأ كعلم يعلم علمأ كما أن المخطئ اسم فاعل من أخطأ يخطئ اخطاء، والفرق بين الخاطئ والمخطئ على ما ذكره الراغب أن الخاطئ يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: (ان قتلهم كان خطأ كبيرا)، وقال: (وان كنا لخاطئين)، والمخطئ يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه فوقع منه غيره واسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ) النساء: 92، والمعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخصا. فقوله: (ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بنى اسرائيل وموسى تحذرا من انهدام ملكهم وذهاب سلطانهم بيدهم ارادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الابناء ولا شأن لهم في ذلك وتركوا موسى حيث التقطوه وربورهم في حجورهم وكان هو الذى بيده انقراض دولتهم وزوال ملكهم. والمعنى: فأصابه آل فرعون وأخذوه من اليم وكان غاية ذلك أن يكون لهم عدوا وسبب حزن ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين في قتل الابناء وترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضى عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه ويجدون في تربيته. وبذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله ان ربى عدوهم على أيديهم ليس بسديد. قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (شفاعة من امرأة فرعون وقد كانت عنده حينما جاؤا إليه بموسى - وهو طفل ملتقط من اليم - تخاطب فرعون بقوله: (قرة عين لى ولك) أي هو قرة عين لنا (لا تقتلوه) وانما خاطب بالجمع لان شركاء القتل
كانوا كثيرين من سبب ومباشر وآمر ومأمور. وانما قالت ما قالت لان الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل وتضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى ع: (وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى) طه. 39.
[ 12 ]
وقوله: (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) قالته لما رأت في وجهه من آثار الجلال وسيماء الجذبة الالهية، وفى قولها: (أو نتخذه ولدا) دلالة على أنهما كانا فاقدين للابن. وقوله: (وهم لا يشعرون) جملة حالية أي قالت ما قالت وشفعت له وصرفت عنه القتل والقوم لا يشعرون ماذا يفعلون وما هي حقيقة الحال وما عاقبته ؟ قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ان كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) الابداء بالشئ اظهاره، والربط على الشئ شده وهو كناية عن التثبيت. والمراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه وخلوه من الخوف والحزن وكان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة وأوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدى ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها. وذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم ابدائها له فراغ قلبها وسبب فراغ قلبها الربط على قلبها وسبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: (لا تخافى ولا تحزني انا رادوه اليك) الخ. وقوله: (ان كادت لتبدى به لولا) الخ، (ان) مخففة من الثقيلة أي انها قربت من أن تظهر الامر وتفشى السر لولا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، وقوله: (لتكون من المؤمنين) أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر ولا تجزع عليه فلا يبدو أمره.
والمجموع أعنى قوله: (ان كادت لتبدى به) إلى آخر الاية في مقام البيان لقوله: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) ومحصل معنى الاية وصار قلب أم موسى بسبب وحينا خاليا من الخوف والحزن المؤديين إلى اظهار الامر، لولا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحى لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه. وبما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الاية كقول بعضهم في (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، وقول آخرين: أي فارغا من الوحى الذى أوحى إليها
[ 13 ]
بالنسيان، وما قيل: أي فارغا من كل شئ الا ذكر موسى أي صار فارغا له فانها جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق. ونظير ذلك في الضعف قولهم: ان جواب لولا محذوف والتقدير لولا أن ربطنا على قلبها لا بدته وأظهرته، والوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: ان لولا شبيهة بأدوات الشرط فلها الصدر ولا يتقدم جوابها عليها. وقد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) يوسف: 24. قوله تعالى: (وقالت لاخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) قال في المجمع: القص اتباع الاثر ومنه القصص في الحديث لانه يتبع فيه الثاني الاول. وقال: ومعنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى. والمعنى: وقالت أم موسى لاخته اتبعى أثرموسى حتى ترين إلى م يؤل أمره فرأته عن بعد وقد أخذه خدم فرعون وهم لا يشعرون بأنها تقصه وتراقبه. قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) التحريم في الاية تكويني لا تشريعي ومعناه جعله بحيث لا يقبل ثدى مرضع ويمتنع من ارتضاعها.
وقوله: (من قبل) أي من قبل حضورها هناك ومجيئها إليهم والمراضع جمع مرضعة كما قيل. وقوله: (فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون) تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: وحرمنا عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجئ اخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلما جاءت اخته ورأت الحال قالت عند ذلك لا فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم وهم له ناصحون ؟ قوله تعالى: (فرددناه إلى امه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق، والمحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على امه فسلموه إليها فرددناه إلى امه بنظم هذه الاسباب.
[ 14 ]
وقوله: (كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم) الخ، تعليل للرد والمراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فانها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق وكانت مؤمنة وانما أريد بالرد أن توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق. والمراد بوعد الله مطلق الوعد الالهى بدليل قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يوقنون بذلك ويرتابون في مواعده تعالى ولا تطمئن إليها نفوسهم، ومحصله أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذى وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق. وربما يقال: ان المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الاية السابقة: (انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين) ولا يلائمه قوله بعد: (ولكن) الخ على ما تقدم. قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين) بلوغ الاشد أن يعمر الانسان ما تشتد عند ذلك قواه ويكون في الغالب في الثمان عشرة، والاستواء الاعتدال والاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الانسان في
أمر حياته ويختلف في الافراد وهو على الاغلب بعد بلوغ الاشد، وقد تقدم الكلام في معنى الحكم والعلم وايتائهما ومعنى الاحسان في مواضع من الكتاب. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب رضى الله عنه في قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) قال: يوسف وولده. أقول: لعل المراد بنو اسرائيل، والا فظهور الاية في خلافه غير خفى. وفى معاني الاخبار باسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان رسول الله ص نظر إلى على والحسن والحسين عليهم السلام فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدى. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك ؟ قال: معناه أنكم الائمة بعدى ان الله عز وجل يقول: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) فهذه الاية جارية فينا إلى يوم القيامة.
[ 15 ]
أقول: والروايات من طرق الشيعة في كون الاية في أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة وبهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجرى والانطباق. وفى نهج البلاغة: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها وتلا عقيب ذلك (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى) إلى آخر الاية حدثنى أبى عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر ع قال: انه لما حملت به أمه لم يظهر حملها الا عند وضعها له وكان فرعون قد وكل بنساء بنى اسرائيل نساء من القبط يحفظنهن وذلك أنه كان لما بلغه عن بنى اسرائيل
أنهم يقولون: انه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لاقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس. فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: يذبح الساعة فعطف الله عز وجل قلب الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: مالك قد اصفر لونك ؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدى فقالت: لا تخافى وكان موسى لا يراه أحد الا أحبه وهو قول الله: (وألقيت عليك محبة منى). فأحبته القبطية الموكلة بها وأنزل الله على أم موسى التابوت، ونوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليم وهو البحر (ولا تخافى ولا تحزني انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين) فوضعته في التابوت وأطبقته عليه وألقته في النيل. وكان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره - ومعه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الامواج والرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فاخذ التابوت ورفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا اسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة وكذلك في قلب آسية. وأراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعناأو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون أنه موسى.
[ 16 ]
وفى المجمع في قوله تعالى: (قرة عين لى ولك لا تقتلوه) الخ، عن النبي ص: والذى يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها ولكنه أبى للشقاء الذى كتبه الله عليه. وفى المعاني باسناده عن محمد بن نعمان الاحول عن أبى عبد الله ع في قول الله عز وجل: (فلما بلغ أشده واستوى) قال: أشده ثمان عشرة سنة (واستوى) التحى.
* * * ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين - 15. قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له انه هو الغفور الرحيم - 16. قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين - 17. فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى انك لغوى مبين - 18. فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ان تريد الا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين - 19. وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى ان الملاء ياتمرون بك ليقتلوك فاخرج انى لك من الناصحين - 20.
[ 17 ]
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين - 21. (بيان) فصل ثان من قصة موسى ع فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فادى إلى خروجه من مصر وقصده مدين. قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) الخ، لا ريب أن المدينة التى دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، وأنه كان يعيش عند فرعون، ويستفاد من ذلك أن القصر الملكى الذى كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة وأنه خرج منه ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، ويؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: (وجاء من أقصى
المدينة رجل يسعى) على ما سيجئ من الاستظهار. وحين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الاسواق وتخلو الشوارع والازقة من المارة كالظهيرة وأواسط الليل. وقوله: (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يتنازعان ويتضاربان، وقوله: (هذا من شيعته وهذا من عدوه) حكاية حال تمثل به الواقعة، ومعناه: أن أحدهما كان اسرائيليا من متبعيه في دينه - فان بنى اسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم ابراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام في دينهم وان كان لم يبق لهم منه الا الاسم وكانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - والاخر قبطيا عدوا له لان القبط كانوا أعداء بنى اسرائيل، ومن الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه: (ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون) الشعراء: 14. وقوله: (فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه) الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الاسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطى. وقوله: (فوكزه موسى فقضى عليه) ضميرا (وكزه) و (عليه) للذى من عدوه والوكز - على ما ذكره الراغب وغيره - الطعن والدفع والضرب بجمع الكف،
[ 18 ]
والقضاء هو الحكم والقضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، والمعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، وكان قتل خطأ ولو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل. وقوله: (قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين) الاشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطى وقد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: (هذا من عمل الشيطان) و (من) ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية، والمعنى: هذا الذى وقع من المعاداة والاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى
الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فانه هو الذى أوقع العداوة والبغضاء بينهما وأغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى وقتل القبطى بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم وقد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة وأن القبط سيثورون عليه وأشرافهم وملاؤهم وعلى رأسهم فرعون سينتقمون منه ومن كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام. فعند ذلك تنبه عليه السلام أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذى أورده مورد الهلكة ولا ينسب الوقوع في الخطأ إلى الله سبحانه لانه لا يهدى الا إلى الحق والصواب فقضى أن ذلك منسوب إلى الشيطان. وفعله ذاك وان لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ وكون دفاعه عن الاسرائيلي دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الانسان في الاثم والمعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة والمشقة كما أوقع آدم وزوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة. فقوله: (هذا من عمل الشيطان) انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدى إلى قتل القبطى ووقوعه في عظيم الخطر وندم منه على ذلك، وقوله: (انه عدو مضل مبين) اشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان وان لم يكن من المعصية التى فيها اثم ومؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذى هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير وضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة ولذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: (وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت
[ 19 ]
من الكافرين) أجابه بقوله: (فعلتها إذا وأنا من الضالين) الشعراء: 20. قوله تعالى: (قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له انه هو الغفور الرحيم) اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر وألقاها في التهلكة،
ومنه يظهر أن المراد بالمغفرة المسؤولة في قوله: فاغفر لى) هو الغاء تبعة فعله وانجاؤه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملاه، كما يظهر من قوله تعالى: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) طه: 40. وهذا الاعتراف بالظلم وسؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم وزوجه المحكى في قوله تعالى: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، الاعراف: 23. قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قيل: الباء في قوله: (بما أنعمت للسببية والمعنى رب بسبب ما أنعمت على، لك على أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى وقيل: الباء للقسم والجواب محذوف والمعنى: أقسم بما أنعمت على لاتوبن أو لامتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، وقيل: القسم استعطافى وهو القسم الواقع في الانشاء كقولك بالله زرنى، والمعنى أقسمك أن تعطف على وتعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين. والوجه الاول هو الاوجه لان المراد بقوله: (بما أنعمت على) - على ما ذكروه - اما انعامه تعالى عليه إذ حفظه وخلصه من قتل فرعون ورده إلى أمه، واما انعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطى وغفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بالهام أو رؤيا أو نحوهما وكيف كان فهو اقسام بغيره تعالى، والمعنى أقسم بحفظك اياى أو أقسم بمغفرتك لى، ولم يعهد في كلامه تعالى حكايه قسم من غيره بغيره بهذا النحو. وقوله: (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدت اعانته إلى جرم كالاسرائيلى الذى خاصمه القبطى فأوقعت اعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما. وقيل: المراد بالمجرمين فرعون وقومه والمعنى: أقسم بانعامك على لاتوبن فلن
[ 20 ]
أكون معينا لفرعون وقومه بصحبتهم وملازمتهم وتكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم. ورد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام. والحق أن قوله: (رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) عهد من موسى عليه السلام أن لا يعين مجرما على اجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، والمراد بالنعمة وقد أطلقت اطلاقا الولاية الالهية على ما يشهد به قوله تعالى: (فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) النساء: 69. وهؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال والغضب لقوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الفاتحة: 7، وترتب الامتناع عن اعانة المجرمين على الانعام بهذا المعنى ظاهر لاسترة عليه. ومن هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون وقومه دون أمثال الاسرائيلي الذى أعانه فلم يكن في اعانته جرم ولا كان وكز القبطى جرما حتى يتوب عليه السلام منه كيف ؟ وهو عليه السلام من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، وقد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالاغواء حيث قال: (انه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) مريم: 51. وقد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين ومن المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغى أو اعانة ونصرة لمجرم في اجرامه. وقد كرر (قال) ثلاثا حيث قيل: (قال هذا من عمل الشيطان) (قال رب انى ظلمت نفسي) (قال رب بما أنعمت على) وذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الاولى قضاء منه وحكم، والجملة الثانية استغفار ودعاء، والجملة الثالثة عهد والتزام.
قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفا يترقب فاذاالذى استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى انك لغوى مبين) تقييد (أصبح) بقوله: (في المدينة) دليل على أنه بقى في المدينة ولم يرجع إلى قصر فرعون، والاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، والغواية اخطاء الصواب خلاف الرشد.
[ 21 ]
والمعنى: فأصبح موسى في المدينة - ولم يرجع إلى بلاط فرعون - والحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الاسرائيلي الذى استنصره على القبطى بالامس يستغيث به رافعا صوته على قبطى آخر قال موسى للاسرائيلي توبيخا وتأنيبا: انك لغوى مبين لا تسلك سبيل الرشد والصواب لانه كان يخاصم ويقتتل قوما ليس في مخاصمتهم والمقاومة عليهم الا الشر كل الشر. قوله تعالى: (فلما أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس) إلى آخر الاية، ذكر جل المفسرين أن ضمير (قال) للاسرائيلي الذى كان يستصرخه وذلك أنه ظن أن موسى انما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: (انك لغوى مبين) فهاله ما رأى من ارادته البطش فقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس) الخ، فعلم القبطى عند ذلك أن موسى هو الذى قتل القبطى بالامس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى وعزموا على قتله. وما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: ان القائل هو القبطى دون الاسرائيلي، هذا ومعنى باقى الاية ظاهر. وفى قوله: (أن يبطش بالذى هو عدو لهما) تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا اسرائيليين، وفيه أيضا تأييد أن القائل: (يا موسى أتريد) الخ، الاسرائيلي دون القبطى لان سياقه سياق اللوم والشكوى.
قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى ان الملا يأتمرون بك ليقتلوك) الخ، الائتمار المشاورة، والنصيحة خلاف الخيانة. والظاهر كون قوله: (من أقصى المدينة (قيدا لقوله: (جاء) فسياق القصة يعطى أن الائتمار كان عند فرعون وبأمر منه، وأن هذا الرجل جاء من هناك وقد كان قصر فرعون في أقصى المدينة وخارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله وأشار عليه بالخروج من المدينة. وهذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصرفرعون الذى كان يسكنه كان خارج المدينة، ومعنى الاية ظاهر.
[ 22 ]
قوله تعالى: (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطى خطأ جرما لنفسه. (بحث روائي) في تفسير القمى قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال وكان ينكر عليه ما يتكلم به موسى عليه السلام من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده ودخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى والاخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الذى من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه وتوارى في المدينة. فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذى يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ؟ فخلى عن صاحبه وهرب. وفى العيون باسناده إلى على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: ان الانبياء معصومون ؟
قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) قال الرضا عليه السلام: ان موسى عليه السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: هذا من عمل الشيطان يعنى الاقتتال الذى وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليه السلام من قتله (انه) يعنى الشيطان (عدو مضل مبين). قال المأمون: فما معنى قول موسى: رب انى ظلمت نفسي فاغفر لى) ؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لى أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بى فيقتلوني فغفر له انه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما أنعمت على من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل اجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى.
[ 23 ]
فأصبح موسى عليه السلام في المدينة خائفا يترقب فاذاالذى استنصره بالامس يستصرخه على آخر قال له موسى انك لغوى مبين قاتلت رجلا بالامس وتقاتل هذا اليوم لاؤدبنك وأراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما وهو من شيعته قال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ؟ ان تريد الا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين. قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن. * * * ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل - 22. ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر
الرعاء وأبونا شيخ كبير - 23. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير - 24. فجاءته احداهما تمشى على استحياء قالت ان أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين - 25. قالت احداهما يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوى الامين - 26. قال انى أريد أن أنكحك احدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فان أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني ان شاء الله من الصالحين - 27.
[ 24 ]
قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل - 28. (بيان) فصل ثالث من قصته عليه السلام يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطى خوفا من فرعون وتزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وبعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين. قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل) قال في المجمع: تلقاء الشئ حذاؤه، ويقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعى نفسه. وقال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى. ومدين - على ما في مراصد الاطلاع - مدينة قوم شعيب وهى تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل وهى أكبر من تبوك وبها البئر التى استقى منها موسى لغنم شعيب عليهما السلام انتهى، ويقال: انه كان بينهما وبين مصر مسيرة ثمان وكانت
خارجة من سلطان فرعون ولذا توجه إليها. والمعنى: ولما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربى أن يهدينى وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه والخروج منه إلى غيره. والسياق - كما ترى - يعطى أنه عليه السلام كان قاصدا لمدين وهو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه. قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) الخ الذود الحبس والمنع، والمراد بقوله: (تذودان) أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: (يسقون) سقيهم أغنامهم ومواشيهم، والرعاء جمع الراعى وهو الذى يرعى الغنم.
[ 25 ]
والمعنى: ولما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم ووجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما وتمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما - حيث وجدهما تذودان الغنم وليس على غنمهما رجل -: ما شأنكما ؟ قالتا لا نسقى غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون ويخرجوا أغنامهم وأبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقى ولذا تصدينا الامر. قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) فهم عليه السلام من كلامهما أن تأخرهما في السقى نوع تعفف وتحجب منهما وتعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك وسقى لهما. وقوله: (ثم تولى إلى الظل وقال رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه والحر شديد وقال ما قال، وقد حمل الا كثرون قوله: (رب انى لما أنزلت) الخ على سؤال طعام يسد به الجوع، وعليه فالاولى أن يكون المراد بقوله (ما أنزلت إلى) القوة البدنية التى كان يعمل بها الاعمال الصالحة التى فيها
رضى الله كالدفاع عن الاسرائيلي والهرب من فرعون بقصد مدين وسقى غنم شعيب واللام في (لما أنزلت) بمعنى إلى واظهار الفقر إلى هذه القوة التى أنزلها الله إليه من عنده بالافاضة كناية عن اظهار الفقر إلى شئ من الطعام تستبقي به هذه القوة النازلة الموهوبة. ويظهر منه أنه عليه السلام كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل ولا يريده وان كان مما يقتضيه طبعه البشرى الا ابتغاء مرضاة ربه وجهادافيه، وهذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطى: رب بما أنعمت على فلن اكون ظهيرا للمجرمين ثم القائل لما خرج من مصرخائفا يترقب: (رب نجنى من القوم الظالمين) ثم القائل لما أخذ في السلوك: (عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل) ثم القائل لما سقى وتولى إلى الظل: (رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا وعقد على بنته: (والله على ما نقول وكيل). وما نقل عن بعضهم ان اللام في (لما أنزلت) للتعليل، وكذا قول بعضهم ان المراد بالخير خير الدين وهو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.
[ 26 ]
قوله تعالى: (فجاءته احداهما تمشى على استحياء) إلى آخر الاية. ضمير احداهما للمرأتين، وتنكير الاستحياء للتفخيم والمراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، وقوله: (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، وقوله: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف) الخ يلوح إلى ان شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجى منهم إذ لا سلطان لهم على مدين. وعند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى عليه السلام أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب عليه السلام بالنجاة
وترجى أن يهديه سواء السبيل وهو في معنى الدعاء فورد مدين، وسأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى وزاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين ووهب له زوجا يسكن إليها. قوله تعالى: (قالت احداهما يا أبت استأجره ان خيرمن استأجرت القوى الامين) اطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التى تستدعى من يقوم مقامه وان كانت العهدة باقتضاء المقام رعى الغنم. وقوله: (ان خير من استأجرت) الخ، في مقام التعليل لقوله: (استأجره) وهو من وضع السبب موضع المسبب والتقدير استأجره لانه قوى أمين وخير من استأجرت هو القوى الامين. وفى حكمها بأنه قوى أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقى الاغنام ما استدلت به على قوته وكذا من ظهور عفته في تكليمهما وسقى أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته. ومن هنا يظهر أن هذه القائلة: (يا أبت استأجره) الخ، هي التى جاءته وأخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وذهب إليه جمع من المفسرين. قوله تعالى: (قال انى أريد أن أنكحك احدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج) الخ، عرض من شعيب لموسى عليه السلام أن يأجره نفسه ثمانى سنين أو عشرا
[ 27 ]
قبال تزويجه احدى ابنتيه وليس بعقد قاطع ومن الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه عليه السلام. فقوله: (احدى ابنتى هاتين) دليل على حضورهما إذ ذاك، وقوله: (على أن تأجرني ثمانى حجج) أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لى ثمانى حجج،
والحجج جمع حجة والمراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، وبه يظهر أن حج البيت - وهو من شريعة ابراهيم عليه السلام - كان معمولا به عندهم. وقوله: (فان أتممت عشرا فمن عندك) أي فان أتممته عشر سنين فهو من عندك وباختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي. وقوله: (وما أريد أن أشق عليك) اخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة وأنه عمل غير موصوف بالمشقة وأنه مخدوم صالح. وقوله: (ستجدني ان شاء الله من الصالحين) أي انى من الصالحين وستجدنى منهم ان شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى اياه منهم لا بكونه في نفسه منهم. قوله تعالى: (قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل) الضمير لموسى عليه السلام. وقوله: (ذلك بينى وبينك) أي ذلك الذى ذكرته وقررته من المشارطة والمعاهدة وعرضته على ثابت بيننا ليس لى ولا لك أن نخالف ما شارطناه، وقوله: (أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) بيان للاجل المردد المضروب في كلام شعيب عليه السلام وهو قوله: (ثمانى حجج وان أتممت عشرا فمن عندك) أي لى أن أختار أي الاجلين شئت فان اخترت الثمانى سنين فليس لك أن تعدو على وتلزمني بالزيادة وان اخترت الزيادة وخدمتك عشرا فليس لك أن تعدو على بالمنع من الزيادة. وقوله: (والله على ما نقول وكيل) توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن اشهاده تعالى على ما يقولان وارجاع الحكم والقضاء بينهما إليه لو اختلفا، ولذا اختار التوكيل على الاشهاد لان الشهادة والقضاء كليهما إليه تعالى، وهذا كقول يعقوب عليه السلام حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: (فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل) يوسف: 66.
[ 28 ]
(بحث روائي) في كتاب كمال الدين باسناده إلى سدير الصيرفى عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث طويل: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى ان الملاء يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج انى لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب من مصر بغير ظهر ولا دابة ولا خادم تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين. فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر وإذا عندها أمة من الناس يسقون وإذا جاريتان ضعيفتان وإذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير ونحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس. ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها وقال: (رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) فروى أنه قال ذلك وهو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة ؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لاحداهما اذهبي فادعيه لى فجاءته احداهما تمشى على استحياء قالت: ان أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فروى أن موسى عليه السلام قال لها: وجهنى إلى الطريق وامشي خلفي فانا بنى يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قال: انى أريد أن أنكحك احدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فان أتممت عشرا فمن عندك فروى أنه قضى أتمهما لان الانبياء عليهم السلام لا تأخذ الا بالفضل والتمام. أقول: وروى ما في معناه القمى في تفسيره. وفى الكافي عن على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عمن ذكره عن أبى عبد الله
عليه السلام في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام: (رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير) قال: سأل الطعام. أقول: وروى العياشي عن حفص عنه عليه السلام مثله، ولفظه انما عنى الطعام
[ 29 ]
وأيضا عن ليث عن أبى جعفر عليه السلام مثله، وفى نهج البلاغه مثله ولفظه والله ما سأله الا خبزأ يأكله. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير قال: انه يومئذ فقير إلى كف من تمر. وفى تفسير القمى قال: قالت احدى بنات شعيب: يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوى الامين، فقال لها شعيب عليه السلام: أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقى الدلو وحده فبم عرفت أمانته ؟ فقالت: انه لما قال لى: تأخري عنى ودليني على الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته. أقول: وروى مثله في المجمع عن على عليه السلام. وفى المجمع وروى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: رسائل أيتهما التى قالت: ان أبى يدعوك ؟ قال: التى تزوج بها. قيل: فأى الاجلين قضى ؟ قال: أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضى الشرط أو بعد انقضائه ؟ قال: قبل أن ينقضى. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لابيها اجارة شهرين أيجوز ذلك ؟ قال: ان موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف ؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفى. أقول: وروى قضاء عشر سنين في الدر المنثورعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة طرق.
وفى تفسير العياشي وقال الحلبي: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن البيت أكان يحج قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: نعم وتصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى عليهما السلام حيث تزوج: (على أن تأجرني ثمانى حجج) ولم يقل ثمانى سنين. * * * فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور
[ 30 ]
نارا قال لاهله امكثوا انى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون - 29. فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى انى أنا الله رب العالمين - 30. وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف انك من الامنين - 31. أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه انهم كانوا قوما فاسقين - 32. قال رب انى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون - 33. وأخى هرون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقني انى أخاف أن يكذبون - 34. قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون - 35. فلما جاءهم موسى باياتنا بينات قالوا ما هذا الا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين - 36. وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار انه لا يفلح الظالمون - 37. وقال فرعون يا أيها الملؤ ما علمت لكم من اله غيرى فأوقد لى يا
هامان على الطين فاجعل لى صرحالعلى أطلع إلى اله موسى وانى
[ 31 ]
لاظنه من الكاذبين - 38. واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوا أنهم الينا لا يرجعون - 39. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين - 40. وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون - 41. وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين - 42. (بيان) فصل آخر من قصة موسى عليه السلام وقد أودع فيه اجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر وبعثته بالرسالة إلى فرعون وملئه لانجاء بنى اسرائيل وتكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم وتنتهى القصة إلى ايتائه الكتاب وكأنه هو العمدة في سرد القصة. قوله تعالى: (فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا) الخ، المراد بقضائه الاجل اتمامه مدة خدمته لشعيب عليه السلام والمروى أنه قضى أطول الاجلين، والايناس الابصار والرؤية، والجذوة من النار القطعة منها، والاصطلاء الاستدفاء. والسياق يشهد أن الامر كان بالليل وكانت ليلة شديدة البرد وقد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور وقد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، وقد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: (لعلى آتيكم منها بخبر) الخ قوله: (لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) طه: 10، وهو أدل على كونهم ضلوا الطريق. وكذا في قوله خطابا لاهله: (امكثوا) الخ، شهادة على أنه كان معها من يصح
[ 32 ]
معه خطاب (1) الجمع. قوله تعالى: (فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة) الخ قال في المفردات: شاطئ الوادي جانبه، وقال: أصل الوادي الموضع الذى يسيل منه الماء ومنه سمى المنفرج بين الجبلين واديا وجمعه أوديه انتهى والبقعة القطعة من الارض على غير هيئة التى إلى جنبها. والمراد بالايمن الجانب الايمن مقابل الايسر وهو صفة الشاطئ ولا يعبؤ بما قاله بعضهم: ان الايمن من اليمين مقابل الا شأم من الشؤم. والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الايمن في الوادي كانت فيه الشجرة التى نودى منها، ومباركتها لتشرفها بالتقريب والتكليم الالهى وقد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: (فاخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى) طه: 12. ولا ريب في دلالة الاية على أن الشجرة كانت مبدء للنداء والتكليم بوجه غير أن الكلام وهو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن الا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب وهو على كل شئ محيط، قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى باذنه ما يشاء) الشورى: 51. ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: ان الشجرة كانت محل الكلام لان الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به. وكذا ما قيل: ان هذا التكليم أعلى منازل الانبياء عليهم السلام أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة ومبلغ. وذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب والحجاب واسطة وظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحى من
غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.
(1) وفى التوراة الحاضرة أنه حمل معه إلى مصر امرأته وبنيه (سفر الخروج الاصحاح الرابع آية 20). (*)
[ 33 ]
وقوله: (أن يا موسى انى أنا الله رب العالمين) أن فيه تفسيرية، وفيه انباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا - والرب هو المالك المدبر لملكه الذى يستحق العبادة من مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره واله معبود سواه. ففى الاية اجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الاشارة إلى الاصول الثلاثة أعنى التوحيد والنبوة والمعاد إذ قال: (اننى أنا الله لا اله الا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى ان الساعة آتية) الايات طه: 14 - 16. قوله تعالى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) تقدم تفسيره في سورة النمل. قوله تعالى: (يا موسى أقبل ولا تخف انك من الامنين) بتقدير القول أي قيل له: أقبل ولا تخف انك من الامنين، وفى هذا الخطاب تأمين له، وبه يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: (يا موسى لا تخف انى لا يخاف لدى المرسلون) النمل: 10 وأنه تأمين معناه انك مرسل والمرسلون آمنون لدى وليس من العتاب والتوبيخ في شئ. قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) المراد بسلوك يده في جيبه ادخاله فيه، والمراد بالسوء - على ما قيل - البرص. والظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا (1) الموضع من
القصة: ثم قال له الرب أيضا: ادخل يدك في عبك فادخل يده في عبه ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج. قوله تعالى: (واضمم اليك جناحك من الرهب) إلى آخر الاية، الرهب بالفتح فالسكون وبفتحتين وبالضم فالسكون الخوف، والجناح قيل: المراد به اليد وقيل: العضد.
(1) سفر الخروج الاصحاح الرابع آية 6. (*)
[ 34 ]
قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف. وقيل: انه لما ألقى العصا وصارت حية بسط يديه كالمتقي وهما جناحاه فقيل له: اضمم اليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فانك آمن من ضررها. والوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعنى قوله: (واضمم) الخ، من تتمة قوله: (أقبل ولا تخف انك من الامنين) وهذا لا يلائم تخلل قوله: (اسلك يدك في جيبك) الخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف. وقيل: الجملة كناية عن الامر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه والحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الاحوال. ولا يبعد أن يكون المراد بالجملة الامر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فان من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه وجنبيه كالمتمطى في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع للمؤمنين بقوله: (واخفض جناحك للمؤمنين) الحجر: 88 على بعض المعاني. قوله تعالى: (قال رب انى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) اشارة إلى قتله القبطى بالوكز وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا.
قوله تعالى: (وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقني انى أخاف أن يكذبون) قال في المجمع: يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشد ظهره. انتهى. وقوله: (انى أخاف أن يكذبون) تعليل لسؤاله ارسال هارون معه، والسياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب ولا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل ارساله لئلا يكذبوه فان من يكذبه لا يبالى أن يكذب هارون معه ومن الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: (قال رب انى أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون) الشعراء: 13. فمحصل المعنى: أن أخى هارون هوأفصح منى لسانا فأرسله معينا لى يبين
[ 35 ]
صدقي في دعواى إذا خاصمونى انى أخاف أن يكذبونى فلا أستطيع بيان صدق دعواى. قوله تعالى: (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، وعدم الوصول اليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه كأن الطائفتين يتسابقان واحداهما متقدمة دائما والاخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم. والمعنى: قال سنقويك ونعينك بأخيك هارون ونجعل لكما سلطة وغلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التى نظهر كما بها. ثم قال: (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وهو بيان لقوله: (ونجعل لكما سلطانا) الخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما ومن اتبعهما من الناس. وقد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر والغلبة وقيل: هو بمعنى الحجة والاولى حينئذ أن يكون قوله: (بآياتنا) متعلقا بقوله: (الغالبون) لا بقوله:: (فلا يصلون
اليكما) وقد ذكروا في الاية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها. قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا الا سحر مفترى) الخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى والمفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمى وصف به السحر مبالغة. والاشارة في قوله: (ما هذا الا سحر مفترى) إلى ما جاء به من الايات أي ليس ما جاء به من الخوارق الا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا. والاشارة في قوله: (وما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين) إلى ما جاء به من الدعوة وأقام عليها حجة الايات، وأما احتمال أن يراد بها الاشارة إلى الايات فلا يلائمه تكرار اسم الاشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: (فلنأتينك بسحر مثله) طه: 58، على أن عدم معهودية السحر وعدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه. فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الاولين أنهم اتخذوه في وقت من الاوقات، ويناسبه ما حكى في الاية التالية من قول موسى: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى) الخ.
[ 36 ]
قوله تعالى: (وقال موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار) الخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: (وما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين) في رد دعوى موسى، وهو جواب مبنى على التحدي كأنه يقول: ان ربى - وهو رب العالمين له الخلق والامر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار وهو الذى أرسلني رسولا جائيا بالهدى - وهو دين التوحيد - ووعدني أن من أخذ بدينى فله عاقبة الدار، والحجة على ذلك الايات البينات التى آتانيها من عنده.
فقوله: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يريد به نفسه والمراد بالهدى الدعوة الدينية التى جاء بها. وقوله: (ومن تكون له عاقبة الدار) المراد بعاقبة الدار اما الجنة التى هي الدار الاخرة التى يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: (وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) الزمر: 74، واما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: (قال موسى لقومه استعينوا الله واصبرواان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) الاعراف: 128، واما الاعم الشامل للدنيا والاخرة، والثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: (انه لا يفلح الظالمون). وفى قوله: (انه لا يفلح الظالمون) تعريض لفرعون وقومه وفيه نفى أن تكون لهم عاقبة الدار فانهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التى تهدى إليها فطرة الانسان الموافقة للنظام الكونى. قال بعض المفسرين: والوجه في عطف قوله: (وقال موسى ربى أعلم) الخ، على قولهم: (ما هذا الا سحر مفترى) الخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد. انتهى. وما قدمناه من كون قول موسى عليه السلام مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق. قوله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من اله غيرى) إلى آخر الاية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالايات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى ولا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من
[ 37 ]
عند الله وأنه ما علم لهم من اله غيره. فقوله: (ما علمت لكم من اله رغيرى) سوق للكلام في صورة الانصاف ليقع في قلوب الملا موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكى في موضع آخر: (ما أريكم الا ما
أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد المؤمن: 29. فمحصل المعنى: أنه ظهر للملا أنه لم يتضح له من دعوة موسى وآياته أن هناك الها هو رب العالمين ولا حصل له علم بأن هناك الها غيره ثم أمر هامان أن يبنى له صرحا لعله يطلع إلى اله موسى. وبذلك يظهر أن قوله: (ما علمت لكم من اله غيرى) من قبيل قصر القلب فقد كان موسى عليه السلام يثبت الالوهية لله سبحانه وينفيها عن غيره وهو ينفيها عنه تعالى ويثبتها لنفسه، وأما سائر الالهة التى كان يعبدها هو وقومه فلا تعرض لها. وقوله: (فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا) المراد بالايقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الاجر المستعمل في الابنية، والصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشئ إذا ظهر ففى الجملة أمر باتخاذ الاجر وبناء قصر عال منه. وقوله: (لعلى أطلع إلى اله موسى) نسب الاله إلى موسى بعناية أنه هو الذى يدعو إليه، والكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة والتقدير: اجعل لى صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلى أطلع إلى اله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الافلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس واضلالهم. ويمكن أن يكون المراد أن يبنى له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى عليه السلام، ويؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: (يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الاسباب أسباب السماوات فأطلع إلى اله موسى وانى لاظنه كاذبا) المؤمن: 37. وقوله: (وانى لاظنه من الكاذبين) ترق منه من الجهل الذى يدل عليه قوله: (ما علمت لكم من اله غيرى) إلى الظن بعدم الوجود وقد كان كاذبا في قوله هذا ولا يقوله الا تمويها وتعمية على الناس وقد خاطبه موسى بقوله: (لقد علمت ما أنزل
[ 38 ]
هؤلاء الا رب السماوات والارض) أسرى: 102. وذكر بعضهم أن قوله: (ما علمت لكم من اله غيرى) من قبيل نفى المعلوم بنفى العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: (قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات والارض) يونس: 18، وأنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الاية. قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الارض وظنوا أنهم الينا لا يرجعون) أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع وذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده) الخ النبذ الطرح، واليم البحر والباقى ظاهر. وفى الاية من الاستهانة بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى. قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي لكونها هي التى تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب اطلاق المسبب وارادة سببه. ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم اللاحقون ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجحود وليس من الاضلال الابتدائي في شئ. وقيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا) الزخرف: 19. وفيه أن الاية التالية على ما سيجئ من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل في الاية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم. وقوله: (ويوم القيامة لا ينصرون) أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.
قوله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) بيان للازم ما وصفهم به في الاية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدى بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الاوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم.
[ 39 ]
فالاية في معنى قوله: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) العنكبوت: 13 وقوله: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس: 12، وتنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها واستمرارها. وكذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر ويشمئز عنهم النفوس ويفر منهم الناس ولا يدنو منهم أحد وهو معنى القبح وقد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه. (بحث روائي) في المجمع روى الواحدى بالاسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الاجلين قضى موسى ؟ قال: أوفاهما وأبطأهما. أقول: وروى ما في معناه بالاسناد عن أبى ذر عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما فقلت له: أي الاجلين قضى موسى ؟ الاول أو الاخر ؟ قال: الاخر. وفى المجمع روى أبو بصير عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما قضى موسى الاجل وسار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا (قال لاهله امكثواانى آنست نارا). وعن كتاب طب الائمة باسناده عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: وقال الله عز وجل في قصة موسى عليه السلام: (وادخل يدك في جيبك تخرج
بيضاء من غير سوء) يعنى من غير برص. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (وأخى هارون هوأفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقني) قال الراوى: فقلت لابي جعفر عليه السلام: فكم مكث موسى عليه السلام غائبا عن أمه حتى رده الله عز وجل عليها ؟ قال: ثلاثة أيام. قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى عليهما السلام لابيه وأمه ؟ قال: نعم أما تسمع الله عز وجل يقول: (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) ؟ فقلت:
[ 40 ]
فأيهما كان أكثر سنا ؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحى ينزل عليهما جميعا ؟ قال: كان الوحى ينزل على موسى وموسى يوحيه إلى هارون. فقلت له: أخبرني عن الاحكام والقضاء والامر والنهى كان ذلك اليهما ؟ قال: كان موسى الذى يناجى ربه ويكتب العلم ويقضى بين بنى اسرائيل وهارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة قلت: فأيهما مات قبل صاحبه ؟ قال: مات هارون قبل موسى وماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد ؟ قال: لا كان الولد لهارون والذرية له. أقول: وآخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، وفى التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك. في جوامع الجامع في قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده) قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة ازارى فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في النار. وفى الكافي باسناده عن طلحة بن زيد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال: ان الائمة في كتاب الله عز وجل امامان قال الله تبارك وتعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم. قال:
(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل. (كلام حول قصص موسى وهارون عليهما السلام) في فصول 1 - منزلة موسى عند الله وموقفه العبود: كان عليه السلام أحد الخمسة أولى العزم الذين هم سادة الانبياء ولهم كتاب وشريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: (واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) الاحزاب: 7، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13.
[ 41 ]
ولقد امتن الله سبحانه عليه وعلى أخيه في قوله: (ولقد مننا على موسى وهارون) الصافات: 114 وسلم عليهما في قوله: (سلام على موسى وهارون) الصافات: 120. وأثنى على موسى عليه السلام بأجمل الثناء في قوله: (واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا) مريم: 52، وقال: (وكان عند الله وجيها) الاحزاب: 69، وقال: (وكلم الله موسى تكليما) النساء: 164. وذكره في جملة من ذكرهم من الانبياء في سورة الانعام الاية 84 - 88 فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين وأنه فضلهم على العالمين واجتباهم وهداهم الى صراط مستقيم. وذكره في جملة الانبياء في سورة مريم ثم ذكر في الاية 58 منها أنهم الذين أنعم الله عليهم. فاجتمع بذلك له عليه السلام معنى الا خلاص والتقريب والوجاهة والاحسان والصلاح
والتفضيل والاجتباء والهداية والانعام وقد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب وكذا البحث عن معنى النبوة والرسالة والتكليم. وذكر الكتاب النازل عليه وهو التوراة فوصفها بأنها امام ورحمة (سورة الاحقاف: 12) وبأنها فرقان وضياء وذكر (الانبياء: 48) وبأن فيها هدى ونور (المائدة: 44) وقال: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ) الاعراف: 145. غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها واختلفوا فيها. وقصة بختنصر وفتحه فلسطين ثانيا وهدمه الهيكل واحراقه التوراة وحشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة وثمان وثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة وثمان وثلاثين قبل المسيح واذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا وكتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ وقد تقدمت الاشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح عليه السلام. 2 - قصص موسى عليه السلام في القرآن: هو عليه السلام أكثر الانبياء ذكرا في
[ 42 ]
القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوه - مائة وستة وستين موضعا من كلامه تعالى، وأشير إلى قصته اجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، وقد اختص من بين الانبياء بكثرة المعجزات، وقد ذكر في القرآن شئ كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانزال المن والسلوى، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، واحياء الموتى، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك. وقد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه عليه السلام من دون استيفائها في كل ما دق وجل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية والارشاد على ما
هو دأب القرآن الكريم في الاشارة إلى قصص الانبياء وأممهم. وهذه الفصول التى فيها كليات قصصه هي: أنه تولد بمصرفى بيت اسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بنى اسرائيل بأمرفرعون وجعلت أمه اياه في تابوت وألقته في البحر وأخذ فرعون اياه ثم رده إلى أمه للارضاع والتربية ونشأ في بيت فرعون. ثم بلغ أشده وقتل القبطى وهرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون وملئه أن يقتلوه قصاصا. ثم مكث في مدين عند شعيب النبي عليه السلام وتزوج احدى بنتيه. ثم لما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا وقد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم وذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة وكلمه واجتباه وآتاه معجزة العصا واليد البيضاء في تسع آيات واختاره للرسالة إلى فرعون وملئه وانجاء بنى اسرائيل وأمره بالذهاب إليه. فأتى فرعون ودعاه إلى كلمة الحق وأن يرسل معه بنى اسرائيل ولا يعذبهم وأراه آية العصا واليد البيضاء فأبى وعارضه بسحر السحرة وقد جاؤا بسحر عظيم من ثعابين وحيأت فألقى عصاه فاذاهى تلقف ما يأفكون فالقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأصر فرعون على جحوده وهدد السحرة ولم يؤمن.
[ 43 ]
فلم يزل موسى عليه السلام يدعوه وملاه ويريهم الاية بعد الاية كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وهم يصرون على استكبارهم، وكلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى اسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا
هم ينكثون. فأمره الله أن يسرى بنى اسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى أنا لمدركون قال كلا ان معى ربى سيهدين فامر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر وأتبعهم فرعون وجنوده حتى إذا ادار كوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم. ولما أنجاهم الله من فرعون وجنوده وأخرجهم إلى البر ولا ماء فيه ولا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن والسلوى وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها وأكلوا منهما وظللهم الغمام. ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى اياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ولما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة وأخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل. فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل ونسفه في اليم وطرد السامري وقال له: اذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس وأما القوم فامروا أن يتوبوا ويقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم. ثم انهم ملوا المن والسلوى وقالوا لن نصبر على طعام واحد وسألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فامروا أن يدخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم وابتلاهم بالتيه يتيهون في الارض أربعين سنه. ومن قصص موسى عليه السلام ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى
[ 44 ]
مجمع البحرين للقاء العبد الصالح وصحبته حتى فارقه. 3 - منزلة هارون ع عند الله وموقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع موسى عليهما السلام في سورة الصافات في المن وايتاء الكتاب والهداية إلى الصراط المستقيم وفى التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين (الصافات: 114 - 122) وعده مرسلا (طه: 47) ونبيا (مريم: 53) وأنه ممن أنعم عليهم (مريم: 58) وأشركه مع من عدهم من الانبياء في سورة الانعام في صفاتهم الجميلة من الاحسان والصلاح والفضل والاجتباء والهداية (الانعام: 84 - 88). وفى دعاء موسى ليلة الطور: (واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى أشدد به أزرى وأشركه في أمرى كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا) طه: 35. وكان عليه السلام ملازما لاخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره ويعينه على جميع مقاصده. ولم يرد في القرآن الكريم ممايختص به من القصص الا خلافته لاخيه حين غاب عن القوم للميقات وقال لاخيه هارون اخلفنى في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وقد عبدوا العجل ألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بى الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لى ولاخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين. 4 - قصة موسى عليه السلام في التوراة الحاضرة: قصصه عليه السلام موضوعة فيما عدا السفر الاول من أسفار التوراة الخمسة وهى: سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه عليه السلام من حين ولادته إلى حين وفاته وما أوحى إليه من الشرائع والاحكام.
غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسير ة. ومن أهمها أنها تذكر أن نداء موسى وتكليمه من الشجرة كان في أرض مدين
[ 45 ]
قبل أن يسير بأهله وذلك حين كان يرعى غنم يثرون (1) حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله وكلمه بما كلمه وأرسله إلى فرعون لانجاء بنى اسرائيل (2). ومنها ما ذكرت أن فرعون الذى أرسل إليه موسى غير فرعون الذى أخذ موسى ورباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطى خوفا من القصاص (3). ومنها أنها لم تذكر ايمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون وعارضوا موسى في آيتى الدم والضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى عليه السلام معجزة (4). ومنها أنها تذكر أن الذى صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى عليهما السلام وذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لان هذا (موسى) الرجل الذى أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه ؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التى في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التى في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالازميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أهذه آلهتك يا اسرائيل التى أصعدتك من أرض مصر (5). وفى الايات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه عليه السلام غير خفية على المتدبر فيها. وهناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطى أن
(1) تسمى التوراة أبا زوجة موسى يثرون كأهن مديان. (2) الاصحاح الثالثة من سفر الخروج. (3) سفر الخروج، الاصحاح الثاني. الاية 23. (4) الاصحاح السابع والثامن من سفر الخروج. (5) الاصحاح الثاني والثلائون من سفر الخروج. (*)
[ 46 ]
المتضاربين ثانيا كانا جميعا اسرائيليين (1) وأيضا وقع فيها أن الذى ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى (2). وأيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات ونزول الصاعقة عليهم واحياءهم بعده. وأيضا فيها أن الالواح التى كانت مع موسى لما نزل من الجبل وألقاها كانت لوحين من حجر وهما لوحا الشهادة (3). إلى غير ذلك من الاختلافات. * * * ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون - 43. وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين - 44. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين - 45. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون - 46. ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا
(1) الاصحاح الثاني من سفر الخروج. (2) الاصحاح السابع من سفر الخروج. (3) الاصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج. (*)
[ 47 ]
فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين - 47. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا انا بكل كافرون - 48. قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين - 49. فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدى القوم الظالمين - 50. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون - 51). الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يومنون - 52. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين - 53. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون - 54. وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين - 55. انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين - 56. (بيان) سياق الايات يشهد أن المشركين من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره صلى الله عليه وآله وسلم وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه وهو
[ 48 ]
مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه والايمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة وأنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: (واذايتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين). فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا: ان القرآن سحر والتوراة سحر مثله (سحران تظاهرا) (وانا بكل كافرون) فأعرض الكتابيون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين. هذا ما يلوح إليه الايات الكريمة بسياقها، وهو سبحانه لما ساق قصة موسى عليه السلام وأنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذى يذبح بأمره الالوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه ورده إليهم وأظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين وأنجا شعب اسرائيل فكانوا هم الوارثين. عطف القول على الكتاب السماوي الذى هو المتضمن للدعوة وبه تتم الحجة وهو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى عليه السلام فيه بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الاولى بمعاصيهم. وكذاأنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وقص عليه قصص موسى عليه السلام ولم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه ولا حاضرا في الطور لما ناداه وكلمه، وقص عليه ما جرى بين موسى وشعيب عليهما السلام ولم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته ولكن أنزله وقص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لانهم بسبب كفرهم وفسوقهم في معرض نزول العذاب واصابة المصيبة فلو لم ينزل الكتاب ولم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك وكانت الحجة لهم على الله سبحانه. فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن قالوا: لو لا أوتى مثل
ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: سحران تظاهرا يعنون التوراة والقرآن، وقالوا انا بكل كافرون.
[ 49 ]
ثم لقن سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عليهم بقوله: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هوأهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين) أي ان من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدى إلى الحق وتتم به الحجة على الناس وهم يعرفون فان لم تكن التوراة والقرآن كتابي هدى وكافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما وليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالاعجاز وبدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى والقوم في الاعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم وهو قوله: (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) الخ. ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فأظهروا لهم الايمان والتصديق وأعرضوا عن لغو القول الذى جبهوهم به. قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى بصائر للناس) الخ، اللام للقسم أي اقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة بوحيه إليه. وقوله: (من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) أي الاجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الامم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون، وفى هذا التقييد اشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لا ندراس معالم الدين الالهى بمضي الماضين وليشار في الكتاب الالهى إلى قصصهم وحلول العذاب الالهى بهم بسبب تكذيبهم لايات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكربه المتذكرون.
وقوله: (بصائر للناس) جمع بصيرة بمعنى ما يبصر به وكأن المراد بها الحجج البينة التى يبصر بهاالحق ويميز بها بينه وبين الباطل، وهى حال من الكتاب وقيل: مفعول له. وقوله: (وهدى) بمعنى الهادى أو ما يهتدى به وكذا قوله: (ورحمة) بمعنى ما يرحم به وهما حالان من الكتاب كبصائر، وقيل: كل منهما مفعول له. والمعنى: وأقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة من بعد ما أهلكنا
[ 50 ]
الاجيال الاولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة والانذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة وهدى يهتدون به إليها ورحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه وأحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل. قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين) الخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، والغربي صفة محذوفة الموصوف والمراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي. وقوله: (إذ قضينا إلى موسى الامر) كأن القضاء مضمن معنى العهد، والمراد بعهد الامر إليه - على ما قيل - احكام أمر نبوته بانزال التوراة إليه وأما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) وقوله: (وما كنت من الشاهدين) تأكيد لسابقه. والمعنى: وما كنت حاضرا وشاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل. قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) تطاول العمر تمادى الامد والجملة استدراك عن النفى في قوله: (وما كنت بجانب الغربي)، والمعنى: ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه ولكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الامد
ثم أنزلنا عليك قصته وخبر نزول الكتاب عليه ففى الكلام ايجاز بالحذف لدلالة المقام عليه. قوله تعالى: (وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين) الثاوى المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، والضمير في (عليهم) لمشركي مكة الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم آيات الله التى تقص ما جرى على موسى عليه السلام في مدين زمن كونه فيه. وقوله: (ولكنا كنا مرسلين) استدراك من النفى في صدر الاية. والمعنى: وما كنت مقيما في أهل مدين - وهم شعيب وقومه - مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك ولكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الايات اليك لتتلوها عليهم.
[ 51 ]
قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) إلى آخر الاية، الظاهر من مقابلة الاية لقوله السابق: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا) الخ، أن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التى آنس فيها من جانب الطور نارا. وقوله: (ولكن رحمة من ربك) الخ، استدراك عن النفى السابق، والظاهر أن (رحمة) مفعول له، والالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: (من ربك) للدلالة على كمال عنايته تعالى به صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم ومن يقارنهم من آبائهم فان العرب خلت فيهم رسل منهم كهود وصالح وشعيب واسماعيل عليهم السلام. والمعنى: وما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى وكلمناه واخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة اخبار الحاضر المشاهد ولكن لرحمة منا أخبرناك بها
لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. قوله تعالى: (ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا) الخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد والعمل بدليل ذيل الاية، والمراد بالمصيبة التى تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا والاخرة فان الاعراض عن الحق بالكفر والفسوق يستتبع المؤاخذة الالهية في الدنيا كما يستتبعها في الاخرة، وقد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) الاعراف: 96 وغيره. وقوله: (فيقولوا ربنا لو لا أرسلت) متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم ارسال الرسول وجواب لو لا محذوف لظهوره والتقدير: لما أرسلنا رسولا. ومحصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم ارسال الرسول وأخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر والفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك التى يتلوها علينا ونكون من المؤمنين. قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى)
[ 52 ]
الخ، أي فارسلنا إليهم الرسول بالحق وأنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا والظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول وهو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمراد بقولهم: (لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى) أي لو لا أوتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل التوراة التى أوتيها موسى عليه السلام، وكأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: (وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة) الفرقان: 32. وقد أجاب الله عن قولهم بقوله: (أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا
سحران تظاهرا) يعنون القرآن والتوراة (وقالوا انا بكل كافرون). والفرق بين القولين أن الاول كفر بالكتابين والثانى كفر بأصل النبوة ولعله الوجه لتكرار (قالوا) في الكلام. قوله تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هوأهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين) تفريع على كون القرآن والتوراة سحرين تظاهرا، ولا يصح هذا التفريع الا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم ويجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، وهو كذلك على ما تبين بقوله: (ولو لا أن تصيبهم مصيبة) الخ، أن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب ويرسل إليهم الرسول، ولذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه. ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذى يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فان لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما. والقرآن الكريم وان كان يصرح بتسرب التحريف والخلل في التوراة الحاضرة وذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى عليه السلام وهى التى يصدقها القرآن.
[ 53 ]
على أن موضوع الكلام هما معا والقرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما. وقوله: (ان كنتم صادقين) أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.
قوله تعالى: (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) إلى آخر الاية، الاستجابة والاجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه والى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى. فقوله: (فان لم يستجيبوا لك) تفريع على قوله: (قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما أتبعه) أي فان قلت لهم كذا وكلفتهم بذالك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن والتوراة وتعين أن لا هدى أتم كمل من هداهما وهم مع ذلك يرمونها بالسحر ويعرضون عنهما فاعلم انهم ليسوا في طلب الحق ولا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل وانما يتبعون أهواءهم ويدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الاباطيل: (سحران تظاهرا) (انا بكل كافرون). ويمكن أن يكون المراد بقوله: (انما يتبعون أهواءهم) انهم ان لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وهم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم انما يبنون سنة الحياة على اتباع الاهواء ولا يعتقدون بأصل النبوة وأن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحى وعليهم ان يتبعوه ويسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، وربما أيد هذا المعنى قوله بعد: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) الخ. وقوله: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) استفهام انكاري والمراد به استنتاج انهم ضالون، وقوله: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين) تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فان اتباع الهوى اعراض عن الحق وانحراف عن صراط الرشد وذلك ظلم والله لا يهدى القوم الظالمين وغير المهتدى هو الضال. ومحصل الحجة انهم ان لم يأتوا بكتاب هوأهدى منهما وليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، ومتبع الهوى ظالم والظالم غير مهتد وغير المهتدى ضال فهم ضالون. قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) التوصيل تفعيل من
[ 54 ]
الوصل يفيد التكثير كالقطع والتقطيع والقتل والتقتيل، والضمير لمشركي مكة والمعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الاية بعد الاية، والسورة اثرالسورة من وعد ووعيد ومعارف وأحكام وقصص وعبر وحكم ومواعظ لعلهم يتذكرون. قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) الضميران للقرآن وقيل: للنبى صلى الله عليه وآله وسلم. والاول أوفق للسياق، وفى الاية وما بعدها مدح طائفة من مؤمنى أهل الكتاب بعد ما تقدم في الايات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة. وسياق ذيل الايات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبؤ بما قيل ان المراد بهم مطلق المؤمنين منهم. قوله تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا) الخ، ضمائر الافراد للقرآن، واللام في (الحق) للعهد والمعنى وإذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به انه الحق الذى نعهده من ربنا فانه عرفناه من قبل. وقوله: (انا كنا من قبله مسلمين) تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي انا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذى يدعو إليه ويسميه اسلاما. وقيل: الضمير ان للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وما تقدم أوفق للسياق، وكيف كان فهم يعنون بذلك ما قرؤه في كتبهم من أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) الاعراف: 157، وقوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل) الشعراء: 197. قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة) الخ في الاية وعد جميل لهم على ما فعلوا ومدح لهم على حسن سلوكهم ومداراتهم مع جهلة المشركين ولذا كان الاقرب إلى الفهم أن يكون المراد بايتائهم أجرهم مرتين
ايتاؤهم أجر الايمان بكتابهم وأجر الايمان بالقرآن وصبرهم على الايمان بعد الايمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى. وقيل: المراد ايتاؤهم الاجر بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار وتحمل المشاق وقد عرفت ما يؤيده السياق.
[ 55 ]
وقوله: (ويدرؤن بالحسنة السيئة) الخ الدرء الدفع، والمراد بالحسنة والسيئة قيل: الكلام الحسن والكلام القبيح، وقيل: العمل الحسن والسئ وهما المعروف والمنكر، وقيل: الخلق الحسن والسيئ وهما الحلم والجهل، وسياق الايات أوفق للمعنى الاخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمداراة، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) الخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، والمراد سقط القول الذى لا ينبغى الاشتغال به من هذر أو سب وكل ما فيه خشونة، ولذا لما سمعوه أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وهو متاركة، وقوله: (سلام عليكم) أي أمان منا لكم، وهو أيضا متاركة وتوديع تكرما كما قال تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). وقوله: (لا نبتغى الجاهلين) أي لا نطلبهم بمعاشرة ومجالسة، وفيه تأكيد لما تقدمه، وهو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ. قوله تعالى: (انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) المراد بالهداية الايصال إلى المطلوب ومرجعه إلى افاضة الايمان على القلب ومعلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، وليس المراد بها اراءة الطريق فانه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، والمراد بالاهتداء قبول الهداية.
لما بين في الايات السابقة حرمان المشركين وهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نعمة الهداية وضلالهم باتباع الهوى واستكبارهم عن الحق النازل عليهم وايمان أهل الكتاب به واعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا اليك يهدى هؤلاء وهم من غير قومك الذين تدعوهم ولا يهدى هؤلاء وهم قومك الذين تحب اهتداءهم وهو أعلم بالمهتدين. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبى
[ 56 ]
سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الارض غير القرية التى مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) ؟ أقول: وفى دلالة الاية على الاهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء. وفيه في قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطوراذ نادينا) الاية، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك منى ؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما. قال: نعم، محمد أكرم على منك. قال: فان كان محمد أكرم عليك منى فهل أمة محمد أكرم من بنى اسرائيل ؟ فلقت لهم البحر وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال: نعم، أمة محمد أكرم على من بنى اسرائيل. قال: الهى أرنيهم. قال: انك لن تراهم وان شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم الهى. فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام
امهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال: صدقتم وأنا ربكم وأنتم عبيدى حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألونى فمن لقيني منكم بشهادة أن لا اله الا الله دخل الجنة. قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى امته فقال: يا محمد (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا). أقول: ورواه فيه أيضا بطرق اخرى عن غيره، وروى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام لكن حمل الاية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق وفساد ارتباط الجمل المتقدمة والمتأخره بعضها ببعض. وفى البصائر باسناده عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن عليه السلام في قول الله عز وجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) يعنى من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى.
[ 57 ]
أقول: وروى مثله باسناده عن المعلى عن أبى عبد الله عليه السلام وهو من الجرى أو من البطن. وفى المجمع في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب) الايات، نزل قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) وما بعده في عبد الله بن سلام وتميم الدارى والجارود والعبدى وسلمان الفارسى فانهم لما أسلموا نزلت فيهم الايات. عن قتادة. وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الانجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبى طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام منهم بحيرا وأبرهة والاشرف وأيمن وادريس ونافع وتميم. أقول: وروى غير ذلك. وفيه في معنى قوله تعالى: (ويدرؤن بالحسنة السيئة) وقيل: يدفعون بالحلم
جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، ومعناه يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم، وروى مثل ذلك عن أبى عبد الله عليه السلام. وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبى هريرة قال: لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عماه قل: لا اله الا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن يعيرنى قريش يقولون ما حمله عليها الا جزعه من الموت لا قررت بها عليك فأنزل الله عليه: (انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). أقول: وروى ما في معناه عن ابن عمر وابن المسيب وغيرهما، وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام مستفيضة على ايمانه والمنقول من اشعار مشحون بالاقرار على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقية دينه، وهو الذى آوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغيرا وحماه بعد البعثه وقبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والانصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة. * * * وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن
[ 58 ]
لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون - 57. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن الوارثين - 58. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى الا وأهلها ظالمون - 59. وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون - 60. أفمن وعدناه وعدا
حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين - 61. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون - 62. قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا اليك ما كانوا ايانا يعبدون - 63. وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون - 64. ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين - 65. فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون - 66. فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين - 67. وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون - 68. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون - 69.
[ 59 ]
وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم واليه ترجعون - 70. قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون - 71. قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من آله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون - 72. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 73. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون - 74. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون - 75. (بيان) تذكر الايات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الايمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: (لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى) وردته وهو قولهم: ان
آمنا بما جاء به كتابك من الهدى وهو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل والسبي والنهب وسلب الامن والسلام. فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب ويجبى إليه ثمرات كل شئ فلا موجب لخوفهم من تخطفهم. على أن تنعمهم بالاموال والاولاد وبطر معيشتهم لا يضمن لهم الامن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله واستأصلها وورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا.
[ 60 ]
على أن الذى يؤثرونه على اتباع الهدى انما هومتاع الحياة الدنيا العاجلة ولا يختاره عاقل على الحياة الاخرة الخالدة التى عند الله سبحانه. على أن الخلق والامر لله فإذا اختار شيئا وأمر به فليس لاحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون وخسفه به وبداره الارض. قوله تعالى: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) إلى آخر الاية. التخطف الاختلاس بسرعة، وقيل الخطف والتخطف الاستلاب من كل وجه، وكأن تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل والسبي ونهب الاموال كأنهم وما يتعلق بهم من أهل ومال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، والمراد بالارض أرض مكة والحرم بدليل قوله بعد: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) والقائل بعض مشركي مكة. والجملة مسوقة للاعتذار عن الايمان بأنهم ان آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لانهم مشركون لا يرضون بايمانهم ورفض أوثانهم فهو من قبيل ابداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة وأن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله والايمان به، ولهذا عبر بقوله: (ان نتبع الهدى معك) ولم يقل:
ان نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك. وقوله: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) قيل: التمكين مضمن معنى الجعل والمعنى أو لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين اياهم، وقيل: حرما منصوبا على الظرفية والمعنى: أو لم نمكن لهم في حرم، و (آمنا) صفة (حرما) أي حرما ذا أمن، وعد الحرم ذا أمن - والمتلبس بالامن أهله - من المجاز في النسبة، والجملة معطوفة على محذوف والتقدير أو لم نعصمهم ونجعل لهم حرما آمنا ممكنين اياهم. وهذا جواب أول منه تعالى لقولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ومحصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها ان آمنوا. وقوله: (يجبى إليه ثمرات كل شئ) الجباية الجمع، والكل للتكثير لا للعموم لعدم ارادة العموم قطعا، والمعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الاشياء، والجملة
[ 61 ]
صفة لحرما جيئ بها لما عسى أن يتوهم انهم يتضررون ان آمنوا بانقطاع الميرة. وقوله: (رزقا من لدنا) مفعول مطلق أو حال من ثمرات، وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) استدراك عن جميع ما تقدم أي انا نحن حفظناهم في أمن ورزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذى يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم وعبادتهم الاصنام. قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) إلى آخر الاية البطر الطغيان عند النعمة، و (معيشتها) منصوب بنزع الخافض أي وكم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها. وقوله: (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا) أي ان مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر ولم تسكن
بعد هلاكهم الا قليلا منها. وبذلك يظهر أن الانسب كون (الا قليلا) استثناء من (مساكنهم) لا من قوله: (من بعدهم) بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم الا زمانا قليلا إذ لا يسكنها الا المارة يوما أو بعض يوم في الاسفار. وقوله: (وكنا نحن الوارثين) حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، وفى الجملة أعنى قوله: (كنا نحن الوارثين) عناية لطيفة فانه تعالى هو المالك لكل شئ ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم وقد ملكها اياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم باهلاكهم وبقيت بعدهم لا مالك لها الا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم وهو المالك لما كان بأيديهم كأن ملكهم الاعتباري انتقل إليه ولا انتقال هناك بالحقيقة وانما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري. والاية جواب ثان منه تعالى لقولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ومحصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء ولا يحفظ لكم أرضكم والتنعم فيها كما تشاؤن فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر وبطر أهلكنا أهلها وبقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها الا الله.
[ 62 ]
قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) أم القرى هي أصلها وكبيرتها التى ترجع إليها وفى الاية بيان السنة الالهية في عذاب القرى بالاستئصال وهو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى الا بعد اتمام الحجة عليهم بارسال رسول يتلو عليهم آيات الله، والا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله وتكذيب رسوله. وفى تعقيب الاية السابقة بهذه الاية الشارحة لسنته تعالى في اهلاك القرى تخويف
لاهل مكة المشركين بالايماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لان الله قد بعث في أم قراهم وهى مكة رسولا يتلو عليهم آياته وهم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم. وبذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: (وما كان ربك مهلك القرى) فان في الايماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقوية لنفسه وتأكيدا لحجته، وأما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله: (وما كنا مهلكي القرى) فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر. قوله تعالى: (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخ الايتاء: الاعطاء و (من شئ) بيان لما لافادة العموم أي كل شئ أو تيتموه، والمتاع ما يتمتع به والزينة ما ينضم إلى الشئ ليفيده جمالا وحسنا، والحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التى هي أقرب الحياتين منا وتقابلها الحياة الاخرة التى هي خالدة مؤبدة، والمراد بما عند الله الحياة الاخرة السعيدة التى عند الله وجواره ولذا عد خيرا وأبقى. والمعنى: أن جميع النعم الدنيوية التى أعطاكم الله اياها متاع وزينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التى هي أقرب الحياتين منكم وهى بائدة فانية وما عند الله من ثوابه في الدار الاخرة المترتب على اتباع الهدى والايمان بآيات الله خير وأبقى فينبغي ان تؤثروه على متاع الدنيا وزينتها أفلا تعقلون. والاية جواب ثالث عن قولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) محصله لنسلم انكم ان اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذى تفقدونه هومتاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع
[ 63 ]
الهدى وسعادة الحياة الاخرة وهى خير وأبقى. قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا
ثم هو يوم القيامة من المحضرين) الاية إلى تمام سبع آيات ايضاح لمضمون الاية السابقة - وهو أن ايثار اتباع الهدى أولى من تركه والتمتع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى وما يلقاه من الوعد الحسن الذى وعده الله، من حال من لم يتبعه واقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا وسيستقبله يوم القيامة الاحضار وتبرى آلهته منه وعدم استجابتهم لدعوته ومشاهدة العذاب والسؤال عن اجابتهم الرسل. فقوله: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) الاستفهام انكاري، والوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة والجنة كما قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة: 9، ولا يكذب وعده تعالى قال (الا ان وعد الله حق) يونس: 55. وقوله: (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) أي وهو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، والدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد والتمتيع. وقوله: (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) أي للعذاب، أو للسؤال والمؤاخذة و (ثم) للترتيب الكلامي واتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: (فهو لاقيه) للدلالة على التحقق. قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا وكونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شؤونه تعالى كالعبادة والتدبير، وفى قوله: (يناديهم) اشارة إلى بعدهم وخذلانهم يومئذ. قوله تعالى: (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين وعيسى بن مريم عليه السلام، وصنف منهم كعتاة الجن ومدعى الالوهية
من الانس كفرعون ونمرود وغيرهما وقد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل
[ 64 ]
كابليس وقرناء الشياطين وأئمة الضلال كما قال: ألم أعهد اليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان - إلى أن قال - ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) يس: 62، وقال: (أفرأيت من اتخذ الهه هواه) الجاثية: 23، وقال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة: 31. والذين يشير إليهم قوله: (قال الذين حق عليهم القول) هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم اغواءهم وتبريهم من عبادتهم وهؤلاء المشركون وان كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: (حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) الم السجدة: 13، ولكن المراد بهم في الاية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهى إليهم الشرك والضلال. وايراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسؤولين أشاروا إليهم لعله للاشارة إلى انهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) حم السجدة: 48. وقوله: (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم الذين أغويناهم والجملة توطئة للجملة التالية. وقوله: (أغويناهم كما غوينا) أي كانت غوايتهم باغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير الجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غيرالجاء، والدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن ابليس يومئذ إذ قال: (وما كان لى عليكم من سلطان. الا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) ابراهيم: 22، وقال حاكيا لتساؤل الظالمين وقرنائهم: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا انكم كنتم تأتوننا
عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا انا لذائقون فأغويناكم انا كنا غاوين) الصافات: 32، أي ما كان ليصل اليكم منا ونحن غاون غير الغواية. ومن هنا يظهر أن لقولهم: (أغويناهم كما غوينا) معنى آخر، وهو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذى كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بالجاء.
[ 65 ]
وقوله: (تبرأنا اليك) تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجؤهم ويسلبوا منهم الاختيار، وقوله: (ما كانوا ايانا يعبدون) أي بالجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فان من تبرء من عمل لم ينتسب إليه والى هذا المعنى يؤل قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) الانعام: 24 (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) حم السجدة: 48 (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون) يونس: 28، إلى غير ذلك من الايات فافهم. وقيل: المعنى تبر أنااليك من أعمالهم ما كانوا ايانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. ولا يخلو من سخافة. ولكون كل من قوليه: (تبرأنا اليك) (ما كانوا ايانا يعبدون) في معنى قوله: (أغويناهم كما غوينا) جئ بالفصل من غير عطف. قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) المراد بشركائهم الالهة التى كانوا شركاء لله بزعمهم ولذا أضافهم إليهم. والمراد بدعوتهم دعوتهم اياهم لينصروهم ويدفعوا عنهم العذاب ولذا قال:
(ورأوا العذاب) بعد قوله: (فلم يستجيبوا لهم). وقوله: (لو أنهم كانوا يهتدون) قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، ويمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون. قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) معطوف على قوله السابق: (ويوم يناديهم) الخ، سئلوا أولا: عن شركائهم وأمروا أن يستنصروهم، وثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله. والمعنى: ماذا قلتم في جواب من أرسل اليكم من رسل الله فدعوكم إلى الايمان والعمل الصالح ؟ قوله تعالى: (فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون) العمى استعارة عن
[ 66 ]
جعل الانسان بحيث لا يهتدى إلى خبر، وكان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الانباء لكن عكس الامر فقيل: (فعميت عليهم الانباء) للدلالة على أخذهم من كل جانب وسد جميع الطرق وتقطع الاسباب بهم كما قال: (وتقطعت بهم الاسباب) البقرة: 166، فلسقوط الاسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدى إليهم الاخبار ولا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب. وقوله: (فهم لا يتساءلون) تفريع على عمى الانباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل وردهم الدعوة. وقد فسرصدر الاية وذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى. قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين)
أي هذه حال من كفر ولم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع وآمن وعمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، وعسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، والمعنى: فليتوقع الفلاح. قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير. والاية جواب رابع عن قولهم: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) والذى يتضمنه حجة قاطعة. بيان ذلك: أن الخلق وهو الصنع والايجاد ينتهى إليه تعالى كما قال: (الله خالق كل شئ) الزمر: 62 فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شئ هناك يلجئه تعالى على فعل من الافعال فان هذا الشئ المفروض اما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده وآثار وجوده ينتهى إليه تعالى ولا معنى لتأثير الشئ ولا لتأثير أثره في نفسه واما غير مخلوق له ولا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالالجاء والقهر ولا مؤثر في الوجود غيره ولا أن هناك شيئا لا ينتهى في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شئ أثرا ولا يمنعه شئ من أثر كما قال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال: والله غالب على أمره) يوسف: 21.
[ 67 ]
واذ لا قاهر يقهره على فعل ولا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين والتشريع يتبعه فان حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم الا باتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وترك أمور هي المحرمات وما في حكمها فما ينتفع به الانسان في كما له وسعادته هو الذى أمر به وندب إليه وما يتضرر به هو الذى نهى عنه وحذر منه. فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الاحكام والقوانين ما يشاء كما أن له
أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق والتدبير ما يشاء، وهذا معنى قوله: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) وقد أطلق اطلاقا. والظاهر أن قوله: (يخلق ما يشاء) اشارة إلى اختياره التكويني فان معنى اطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شئ ولا يمنعه شئ عما يشاؤه وبعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شئ لا بنفسه ولا بمانع يمنع وهذا هو الاختيار بحقيقة معناه، وقوله: (ويختار) اشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري ويكون عطفه على قوله: (يخلق ما يشاء) من عطف المسبب على سببه لكون التشريع والاعتبار متفرعا على التكوين والحقيقة. ويمكن حمل قوله: (يخلق ما يشاء) على الاختيار التكويني وقوله: (ويختار) على الاعم من الحقيقة والاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، ومن الدليل عليه كون المنفى في قوله الاتى: (ما كان لهم الخيرة) هو الاختيار التشريعي الاعتباري، والاختيار المثبت في قوله (ويختار) يقابله فالمراد اثبات الاختيار التشريعي الاعتباري. ثم لا ريب في أن الانسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الافعال الصادرة عنه بالعلم والارادة وان لم يكن اختيارا مطلقا فان للاسباب والعلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا وقابليته وملائمته وقربه منه ومساعدة أدوات الاخذ والقبض والالتقام والمضغ والبلع وغير ذلك مما لا يحصى. فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الاسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، والله سبحانه في رأس تلك الاسباب جميعا واليه ينتهى الكل وهو الذى خلق الانسان منعوتا بنعت الاختيار وأعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.
[ 68 ]
ثم ان الانسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء من غير أن يكون
لاحد من بنى نوعه أن يحمله على شئ أو يمنعه عن شئ لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشئ في معنى الانسانية ولا يملكون منه شيئا، وهذا هو المراد بكون الانسان حرا بالطبع. فالانسان مختار في نفسه حر بالطبع الا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الانسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن والقوانين الجارية في مجتمعه بدخوله في المجتمع وامضائه ما يجرى فيه من سنن وقوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، وكما أن المتقاتلين يملك كل منهما الاخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، وكما أن الاجير إذا ابتاع عمله وآجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية. فالانسان بالنسبة إلى سائر بنى نوعه حر في عمله مختار في فعله الا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، والله سبحانه يملك الانسان في نفسه وفى فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني وبالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له ولا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهى تشريعيين كما لا خيرة ولا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية. وهذا هو المراد بقوله: (ما كان لهم الخيرة) أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لانفسهم ما يشاؤن وان خالف ما اختاره الله والاية قريبة المعنى من قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الاحزاب: 36، وللقوم في تفسير الاية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات. وقوله: (سبحان الله وتعالى عما يشركون) أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله. وههنا معنى آخر أدق أي تنزه وتعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة
إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فان الخيرة بهذا المعنى لا تتم الا بدعوى الاستقلال في
[ 69 ]
الوجود والاستغناء عنه تعالى ولا تتم الا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الالوهية. وفى قوله: (وربك يخلق) التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة والنكتة فيه تأييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقويته وتطييب نفسه باضافه صفة الرب إليه فان معناه ان ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله ورده، ولانهم لا يقبلون ربوبيته. وفى قوله: (سبحان الله) وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه ارجاع الامر إلى الذات المتعالية التى هي المبدأ للتنزه والتعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فانه تعالى يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقص لانه هو الله عز اسمه. قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) الاكنان الاخفاء والاعلان الاظهار، ولكون الصدر يعد مخزنا للاسرار نسب الاكنان إلى الصدور والاعلان إليهم أنفسهم. ولعل تعقيب الاية السابقة بهذه الاية للاشارة إلى أنه تعالى انما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم وباطنهم من أوساخ الشرك والمعصية فطهرهم بذلك بحكمته. قوله تعالى: (وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم واليه ترجعون) ظاهر السياق أن الضمير في صدر الاية راجع إلى (ربك) في الاية السابقة، والظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، وقوله: (لا اله الا هو) تأكيد للحصر المستفاد من قوله: (هو الله) كأنه قيل: وهو الاله - المتصف وحده بالالوهية - لا اله الا هو. وعلى ذلك فالاية كالمتمم لبيان الاية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، وهو يعلم ظاهرهم وباطنهم فله أن يقضى عليهم أن
يعبدوه وحده وهو الاله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده. ويكون ما في ذيل الاية من قوله: (له الحمد) الخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده. أما قوله: (له الحمد في الاولى والاخرة) فلان كل كمال موجود في الدنيا والاخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، وكل جميل من هذه النعم
[ 70 ]
الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء ولا يستقل شئ غيره بشئ من الثناء يثنى عليه به الا وينتهى إليه والعبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده. وأما قوله: (وله الحكم) فلانه سبحانه هو المالك على الاطلاق لا يملك غيره الا ما ملكه اياه وهو المالك لما ملكه وهو سبحانه مالك في مرحلة التشريع والاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين والحقيقة، ومن آثار ملكه أن يقضى على عبيده ومملوكيه أن لا يعبدوا الا اياه. وأما قوله: (واليه ترجعون) فلان الرجوع للحساب والجزاء واذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازى واذ كان هو المحاسب المجازى وحده فهو الذى يجب أن يعبد وحده وله دين يجب أن يتعبد به وحده. قوله تعالى: (قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) إلى آخر الاية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، وقيل: هومن السرد والميم زائدة ومعناه المتتابع المطرد، وتقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة. وقوله: (من اله غير الله يأتيكم بضياء) أي من الاله الذى ينقض حكمه تعالى ويأتيكم بضياء تستضيئون به وتسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، ويجرى نظيره في قوله الاتى: (من اله يأتيكم بليل) الخ.
وبذلك يندفع ما استشكل على الايتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الاتيان بضياء أصلا لان الذى يأتي به اما هو الله تعالى واما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، وأما الله تعالى فاتيانه به يستلزم اجتماع الليل والنهار وهو محال والمحال لا يتعلق به القدرة ولا الارادة، وكذا الكلام في جانب النهار. وربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: (ان جعل الله عليكم) ان أراد الله أن يجعل عليكم. وهو كما ترى. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: من اله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل والنهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل
[ 71 ]
الالزام في الحجة بأهون ما يفرض وأيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى اله يدبر أمر العالم فان جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشئ على ذلك ان القدرة كلها لله سبحانه. ولا يجرى نظير هذا الوجه في الاية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من اله غير الله يأتيكم بظلمة لان المأتى به ان كان ظلمة ما لم تكف للسكن وان كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل. وتنكير (ضياء) يؤيد ما ذكر من الوجه، وقد أوردوا وجوها اخرى في ذلك لا تخلو من تعسف. وقوله: (أفلا تسمعون) أي سمع تفهم وتفكرحتى تتفكروا فتفهمواأن لا اله غيره تعالى. قوله تعالى: (قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من
اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش. وقوله: (أفلا تبصرون) أي ابصار تفهم وتذكر واذ لم يبصروا ولم يسمعوا فهم عمى صم، ومن اللطيف تذييل الايتين بقوله: (أفلا تسمعون) (أفلا تبصرون) ولعل آية النهار خص بالابصار لمناسبة ضوء النهار الابصار وبقى السمع لاية الليل وهو لا يخلو من مناسبة معه. قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) الاية بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الايتين السابقتين سيقت بعد ابطال دعوى الخصم في صورة الاخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض. وقوله: (لتسكنوا فيه) اللام للتعليل والضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، وقوله: (لتبتغوا من فضله) أي وجعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذى هو عطيته فرجوع (لتسكنوا) و (لتبتغوا) إلى الليل والنهار بطريق اللف والنشر المرتب، وقوله: (ولعلكم تشكرون) راجع اليهما جميعا.
[ 72 ]
وقوله: (ومن رحمته جعل لكم) في معنى قولنا: جعل لكم وذلك رحمة منه وفيه اشارة إلى أن التكوين كالسكون والابتغاء والتشريع وهو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك. قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) تقدم تفسيره وقد كررت الاية لحاجة مضمون الاية التالية إليها. قوله تعالى: (ونزعنا من كل امة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم) إلى آخر الاية، اشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، والمراد بالشهيد شهيد الاعمال - كما تقدمت الاشارة إليه مرارا - ولا ظهور للاية في كونه هو النبي المبعوث إلى الامة نظرا
إلى افراد الشهيد وذكر الامة إذ الامة هي الجماعة من الناس ولا ظهور ولا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبى وان كانت من مصاديقها. وقوله: (فقلنا هاتوا برهانكم) أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء. وقوله: (فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الالوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسروه، ففى الكلام تقديم وتأخير والاصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله. وعلى هذا فقوله: (أن الحق لله) نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: ان الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الالوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعى تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالالوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له. وهذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التى يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فيرتفع به كل باطل يلتبس به الامر ويتشبه بالحق، ولازمه أن يظهر أمر الالوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء
[ 73 ]
فيستنتج منه توحده تعالى بالالوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك. وبذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم ولا موجب على هذالتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، ويرتفع ثانيا حديث التقديم والتأخير المذكور الذى لا نكتة له ظاهرا الا
رعاية السجع. ومن الممكن أن يكون (الحق) في قوله: (فعلموا أن الحق لله) مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: (ويعلمون أن الله هوالحق المبين) النور: 25، فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا ان أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به ان أريد به غيره، كما قال تعالى: (الحق من ربك) آل عمران: 60، ولم يقل: الحق مع ربك. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) الاية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاسلام والهجرة وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز وجل: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون). أقول: وروى هذا المعنى في كشف المحجة وروضة الواعظين للمفيد ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وفى الدر المنثور أخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس أن الحارث بن عامر ابن نوفل الذى قال: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) الاية، قال: يختار الله عز وجل الامام وليس لهم أن يختاروا. أقول: وهو من الجرى مبنيا على وجوب نصب الامام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبى، وقد تفصيل الكلام فيه.
[ 74 ]
وفيه في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (ونزعنا من
كل أمة شهيدا) يقول: من هذه الامة امامها. أقول: وهو من الجرى. * * * ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين - 76. وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض ان الله لا يحب المفسدين - 77. قال انما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون - 78. فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم - 79. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون - 80. فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين - 81. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون
[ 75 ]
ويكان الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لو لا أن من الله علينا لخسف بنا ويكانه لا يفلح الكافرون - 82. تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين - 83. من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات الا ما كانوا يعملون - 84.
(بيان) قصة قارون من بنى اسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) وأجاب عنه بما مر من الاجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة فظن أنه هو الذى جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره فأمن العذاب الالهى وآثر الحياة الدنيا على الاخرة وبغى الفساد في الارض فخسف الله به وبداره الارض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. قوله تعالى: (ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) قال في المجمع: البغى طلب العتو بغير حق. قال: والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح ومعناهما واحد وهو عبارة عما يفتح به الاغلاق. قال: وناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. وقال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله وهو الاوفق للاية. وقال في المجمع أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. وقال: واختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، وقيل: ما بين عشرة
[ 76 ]
إلى أربعين عن قتادة، وقيل: أربعون رجلا عن أبى صالح (1)، وقيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، وقيل: انهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. ويزيف غير القولين الاخيرين قول اخوة يوسف: (ونحن عصبة) يوسف: 8، وهم تسعة نفر. والمعنى: ان قارون كان من بنى اسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق وأعطيناه من الكنوز ما ان مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوى القوة، وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، وليس بذاك.
قوله تعالى: (إذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين) فسرالفرح بالبطر وهو لازم الفرح والسرور المفرط بمتاع الدنيا فانه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسى الاخرة ويورث البطر والاشر، ولذا قال تعالى: (ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) الحديد: 23. ولذاأيضا علل النهى بقوله: (ان الله لا يحب الفرحين). قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة) إلى آخر الاية أي واطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الاخرة بانفاقه في سبيل الله ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى. وقوله: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسى واعمل فيه لاخرتك لان حقيقة نصيب الانسان من الدنيا هو ما يعمل به لاخرته فهو الذى يبقى له. وقيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شئ قليل مما أوتيت وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا والباقى فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك وأحسن بالفضل وهذا وجه جيد. وهناك وجوه أخر غير ملائمه للسياق. وقوله: (وأحسن كما أحسن الله اليك) أي أنفقه لغيرك احسانا كما آتاكه الله احسانا من غير أن تستحقه وتستوجبه، وهذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) على أول الوجهين السابقين ومتممة له على الوجه الثاني.
(1) وروى في الدر المنثور عن أبى صالح سبعين. (*)
[ 77 ]
وقوله: (ولا تبغ الفساد في الارض ان الله لا يحب المفسدين) أي لا تطلب الفساد في الارض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة ان الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والاصلاح.
قوله تعالى: (قال انما أوتيته على علم عندي) إلى آخر الاية. لا شك أن قوله (انما أوتيته على علم عندي) جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه ونصحوه به وكان كلامهم مبنيا على أن ماله من الثروة انما آتاه الله احسانا إليه وفضلا منه من غير استيجاب واستحقاق فيجب عليه أن يبتغى فيه الدار الاخرة ويحسن به إلى الناس ولا يفسد في الارض بالاستعلاء والاستكبار والبطر. فأجاب بنفى كونه انما أوتيه احسانا من غير استحقاق ودعوى أنه انما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره وليس عند غيره ذلك، وإذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الامال والاماني. وهذه المزعمة التى ابتلى بها قارون فأهلكته - أعنى زعمه أن الذى حصل له الكنوز وساق إليه القوة والجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة وقدرته النفسانية لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير ووافقته الاسباب الظاهرة من عزة عاجلة وقوة مستعارة الا أن نفسه هي الفاعلة له وعلمه هو السائق له إليه وخبرته هي الماسكة له لاجله. والى عموم هذه المزعمة وركون الانسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: (وإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال انما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيأت ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيأت ما كسبوا وما هم بمعجزين أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون) الزمر: 52، وقال: (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا
[ 78 ]
به يستهزؤن) المؤمن: 83، وعرض الايات على قصة قارون لا يبقى شكا في أن المراد بالعلم في كلامه ما قدمناه. وفى قوله: (انما أوتيته) من غير اسناد الايتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: (فيما آتاك الله) نوع اعراض عن ذكره تعالى وازراء بساحة كبريائه. وقوله: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) استفهام توبيخي وجواب عن قوله: (انما أوتيته على علم عندي) بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فانه كان يرى أن الذى اقتنى به المال وهو يبقيه له ويمتعه منه هو علمه الذى عنده وهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، وكان ما له من القوة والجمع عن علم عنده على زعمه، وقد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذى يغتر ويتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه ولم يكن بايتاء الله فضلا واحسانا لنجاهم من الهلاك ومتعهم من أموالهم ودافعوا بقوتهم وانتصروا بجمعهم. وقوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الالهية في تعذيب المجرمين واهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم امهالهم والاصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيؤه من التذلل والانابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولى الطول والقوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، وربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم وانما يقضى عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود. والظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق ويكون جوابا عن اسناده ثروته إلى علمه، ومحصله أن المؤاخذة الالهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا
لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه وانما يؤاخذه بذنبه، وأيضا يؤاخذه بغتة وهو لا يشعر. هذا ما يعطيه السياق في معنى الاية ولهم فيها أقاويل أخرى:
[ 79 ]
فقيل: المراد بالعلم في قوله: (انما أوتيته على علم عندي) علم التوراة فانه كان أعلم بنى اسرائيل بها. وقيل: المراد علم الكيمياء وكان قد تعلمه من موسى ويوشع بن نون وكالب بن يوقنا والمراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس وقد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب. وقيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز والدفائن وقد استخرج به كنوزا ودفائن كثيرة. وقيل: المراد بالعلم علم الله تعالى والمعنى: أوتيته على علم من الله وتخصيص منه قصدني به، ومعنى قوله: (عندي) هو كذلك في ظنى ورأيى. وقيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، والمعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و (على) على جميع هذه الاقوال للاستعلاء وجوز أن تكون للتعليل. وقيل: المراد بالسؤال في قوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) سؤال يوم القيامة والمنفى سؤال الاستعلام لان الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال والملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم ويعرفونهم بسيماهم وأما قوله تعالى: (وقفوهم انهم مسؤلون) الصافات: 24 فهو سؤال تقريع وتوبيخ لا سؤال استعلام، ويمكن أن يكون السؤال في الايتين بمعنى واحد والنفى والاثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف ولا يسألون في آخر فلا تناقض بين الايتين.
وقيل: الضمير في قوله: (عن ذنوبهم) لمن هو أشد والمراد بالمجرمين غيرهم والمعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين. وهذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق. قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما اوتى قارون انه لذو حظ عظيم) الحظ هوالنصيب من السعادة والبخت. وقوله: (يريدون الحياة الدنيا) أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الاخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم)
[ 80 ]
النجم: 30 ولذلك عدوا ما اوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط. قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) الخ، الويل الهلاك ويستعمل للدعاء بالهلاك وزجرا عما لا يرتضى، وهو في المقام زجرا عن التمنى. والقائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتى قارون وعدوه سعادة عظيمة على الاطلاق، ومرادهم أن ثواب الله خيرلمن آمن وعمل صالحا مما أوتى قارون فان كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه. وقوله: (وما يلقاها الا الصابرون) التلقية التفهيم والتلقى التفهم والاخذ، والضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق، والمعنى: وما يفهم هذه الكلمة - وهى قولهم: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا - الا الصابرون. وقيل: الضمير للسيرة أو الطريقة ومعنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها. والصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد وعلى الطاعات وعن المعاصي، ووجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب
الاخرة خيرا من الحظ الدنيوي - وهو لا ينفك عن الايمان والعمل الصالح الملازمين لترك كثير من الاهواء والحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق الا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع وعصيان النفس الامارة. قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الارض) إلى آخر الاية، الضميران لقارون والجملة متفرعة على بغيه. وقوله: (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، وفى النصر والانتصار معنى المنع والامتناع، ومحصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذى يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه ولم تفده قوته من دون الله وبان أن الله سبحانه هو الذى آتاه ما آتاه. فالفاء في قوله: (فما كان) لتفريع الجملة على قوله: (فخسفنا به) الخ، أي فظهر بخسفنا به وبداره الارض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء
[ 81 ]
عن الله سبحانه وأن الذى يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي. قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) الخ، ذكروا أن (وى) كلمة تندم وربما تستعمل للتعجب وكلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد وان كان التندم أسبق إلى الذهن. وقوله: (كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه أن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الانسان في علمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق وضيقه بمشية من الله. والمقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك والتردد لكنهم انما استعملوا
في كلامهم (كأن) للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون وقد قبلوه وصدقوه من قبل وهذه صنعة شائعة في الاستعمال. والدليل على ذلك قولهم بعده: (لو لا أن من الله علينا لخسف بنا) على طريق الجزم والتحقيق. وقوله: (ويكأنه لا يفلح الكافرون) تندم منهم ثانيا وانتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون. قوله تعالى: (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوافى الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) الاية وما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة. وقوله: (تلك الدار الاخرة) الاشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها وبهائها وعلو مكانتها وهو الشاهد على أن المراد بها الدار الاخرة السعيدة ولذا فسروها بالجنة. وقوله: (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا) أي نختصها بهم وارادة العلو هو الاستعلاء والاستكبار على عباد الله وارادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فان الله بنى شرائعه التى هي تكاليف للانسان على مقتضيات فطرته وخلقته ولا تقتضي فطرته الا ما يوافق النظام الاحسن الجارى في الحياة الانسانية الارضية فكل معصية تقضى إلى فساد في الارض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: (ظهر
[ 82 ]
الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس) الروم: 41. ومن هنا ظهر أن ارادة العلو من مصاديق ارادة الفساد وانما أفردت وخصت بالذكر اعتناء بامرها، ومحصل المعنى: تلك الدار الاخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الارض بالعلو على عباد الله ولا بأى معصية اخرى. والاية عامة يخصصها قوله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء: 31.
وقوله: (والعاقبة للمتقين) أي العاقبة المحمودة الجميلة وهى الدار الاخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا والاخرة لكن سياق الايتين يؤيد الأول. قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) أي لانها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام: 160. قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات الا ما كانوا يعملون) أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا وفيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخيرمنها كمال الفضل. وكان مقتضى الظاهر في قوله: (فلا يجزى الذين عملوا) الخ، الاضمار ولعل في وضع الموصول موضع الضمير اشارة إلى أن هذا الجزاء انما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية وأحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، وقوله: (كانوا يعملون) الدال على الاصرار والاستمرار، وأما من جاء بالسيئة والحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم) التوبة: 102. وليعلم أن الملاك في الحسنة والسيئة على الاثر الحاصل منها عند الانسان وبها تسمى الاعمال حسنة أو سيئة وعليها - لا على متن العمل الخارجي الذى هو نوع من الحركة - يثاب الانسان أو يعاقب، قال تعالى: (وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة: 284. وبه يظهر الجواب عما استشكل على اطلاق الاية بأن التوحيد حسنة ولا يعقل خير منه وأفضل، فالاية اما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.
[ 83 ]
وذلك أن الاثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه وان لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.
على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة والضعف والزيادة والنقيصة وإذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه وكان يبتغى العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده. فقال له موسى عليه السلام: ان الله أمرنى أن آخذ الزكاة فأبى فقال: ان موسى يريد أن ياكل أموالكم جاءكم بالصلا وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم ؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى ؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغى من بغايا بنى اسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بنى اسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك ؟ قال: أمرنى أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرنى في الزانى إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وان كنت أنت ؟ قال: نعم. قالوا: فانك قد زنيت، قال: أنا ؟ فأرسلوا الى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى ؟ فقا لها موسى عليه السلام أنشدتك بالله الا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فانهم دعوني وجعلوا لى جعلا على أن أقذفك بنفسى وأنا أشهد أنك برئ وأنك رسول الله. فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكى فأوحى الله إليه: ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الارض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا
[ 84 ]
موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي وتضرعوا اليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لاجبتهم. قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الارض) خسف به إلى الارض السفلى. أقول: وروى فيه أيضا عن عبد الرزاق وابن أبى حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملا من بنى اسرائيل على موسى عليه السلام بالفجور وتشكوه إلى قارون فجاءت إليه واعترفت عند الملا بالحق فبلغ ذلك موسى عليه السلام فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه. وروى القمى في تفسيره في القصة أن موسى عليه السلام جاء إلى قارون وبلغه حكم الزكاة فاستهزأ به وأخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به وبداره الارض، والرواية موقوفة مشتملة على امور منكرة ولذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس وابن نوفل أيضا موقوفتان. على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى عليه السلام والذى تقصه الايات بغيه على بنى اسرائيل، وتشير إلى أن العلم الذى عنده هو ما حصله بالتعلم وظاهر الاية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة ونحوها. وقد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففى الاصحاح السادس عشر من سفرالعدد: وأخذ قورح بن بصهاربن نهات بن لاوى وداثان وأبيرام ابنا ألياب وأون بن فالت بنور أوبين يقاومون موسى مع أناس من بنى اسرائيل مئتين وخمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوى اسم. فاجتمعوا على موسى وهارون وقالوا لهما كفاكما. ان كل الجماعة بأسرها مقدسة وفى وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب ؟
فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح وجميع قومه قائلا: غدايعلن الرب من هوله ؟ ومن المقدس ؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح وكل جماعته واجعلوا فيها نارا وضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذى يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بنى لاوى.
[ 85 ]
ثم سيقت القصة وذكر فيها حضورهم غدا ومجيئهم بالمجامر وفيها النار والبخور واجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الارض التى تحتهم وفتحت الارض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الاموال فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الارض فبادوا من بين الجماعة، وكل اسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لانهم قالوا: لعل الارض تبتلعنا، وخرجت نار من عند الرب وأكلت المئتين والخمسين رجلا الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة. وفى المجمع في قوله تعالى: (ان قارون كان من قوم موسى): وهو ابن خالته عن عطاء عن ابن عباس وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (ما ان مفاتحه لتنوء) الاية، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة اولوا القوة. وفى المعاني باسناده عن موسى بن اسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه عن جده عن آبائه عن على عليه السلام في قول الله عز وجل: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال: لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الاخرة. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) قال: في الثياب المصبغات يجرها بالارض. وفى المجمع وروى زاذان عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يمشى في الاسواق وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ:
(تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا) ويقول: نزلت هذه الاية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وفيه روى سلام الاعرج عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الاية (تلك الدار الاخرة) الاية. أقول: وعن السيد ابن طاوس في سعد السعود أنه رواه عن الطبرسي هكذا: ان الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها. وفى الدر المنثور أخرج المحاملى والديلمي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاية قال: التجبر في الارض والاخذ بغير الحق.
[ 86 ]
* * * ان الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين - 85. وما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين - 86. ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت اليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين - 87. ولا تدع مع الله الها آخر لا آله الا هو كل شئ هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون - 88. (بيان) الايات خاتمة السورة وفيها وعد جميل للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره ونفوذ كلمته وتقدم دينه وانبساط الامن والسلام عليه وعلى المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى وبنى اسرائيل، وقد كانت قصة موسى وبنى اسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك.
قوله تعالى: (ان الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) إلى آخر الاية الفرض - على ما ذكره - بمعنى الايجاب فمعنى (فرض عليك القرآن) أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الاحكام ففيه مجاز في النسبة. وأحسن منه قول بعضهم: ان المعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به وذلك لكونه أوفق لقوله: (لرادك إلى معاد) بما سيجئ من معناه. وقوله: (لرادك إلى معاد) المعاد اسم مكان أو زمان من العود وقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالاية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته
[ 87 ]
إلى مكة ثانيا، وقيل: هو الموت، وقيل: هو القيامة، وقيل: هو المحشر، وقيل هو المقام المحمود وهوموقف الشفاعة الكبرى، وقيل: هو الجنة، وقيل: هو بيت المقدس، وهو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الاول: وقيل: هو الامر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الاقوال السابقة أو كلها. والذى يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الاية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الايات التالية لها تؤيده. فانه تعالى أورد قصة بنى اسرائيل وموسى عليه السلام في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالامن والسلام والعزة والتمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدى آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وقد كانت القصة تدل بالالتزام - ومطلع السورة يؤيده - على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة والشدة والعسرة ويظهر دينهم على الدين كله ويمكنهم في الارض بعد ما كانوا لاسماء تظلهم ولا أرض تقلهم. ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدى
الناس إلى الحق تذكرة واتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الاولى وكما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان كذبوا به عنادا للحق وايثارا للدنيا على الاخرة. وهذا السياق يرجى السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: (ان الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذى كان يترقبه وخاصة مع الابتداء بقوله: (ان الذى فرض عليك القرآن) وقد قدم تنظير التوراة بالقرآن وقد كان ما قصه في انجاء بنى اسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالاخذ بها والعمل بها أئمة ويكونوا هم الوارثين. فمعنى الاية: أن الذى فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس وتبلغه وتعملوا به سيردك ويصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا ويكون هو معادا لك
[ 88 ]
كما فرض التوراة على موسى ورفع به قدره وقدر قومه، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان بمكة على ما فيها من الشدة والفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا وثبتت قواعد دينه واستحكمت أركان ملته وكسرت الاصنام وانهدم بنيان الشرك والمؤمنون هم الوارثون للارض بعد ما كانوا أذلاء معذبين. وفى تنكير قوله: (معاد) اشارة إلى عظمة قدر هذا العود وأنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها والتاريخ يصدقه. وقوله: (قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين) يؤيد ما قدمنا من المعنى فانه يحاذي قول موسى عليه السلام - لما كذبوه ورموا آياته البينات بأنها سحر مفترى -: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار) فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه ورموه بالسحر ما قاله موسى لال
فرعون لما كذبوه ورموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما وسير دعوتهما كما يظهر من القصة ويظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: (انا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلناالى فرعون رسولا) المزمل: 15. ولعل الاكتفاء بالشطر الاول من قول موسى عليه السلام والسكوت عن الشطر الثاني أعنى قوله: (ومن تكون له عاقبة الدار) لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الاشارة والايماء كما يستشم من سياق قوله: (لرادك إلى معاد) أيضا حيث خص الخطاب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونكر معادا. وكيف كان فالمراد بقوله: (من جاء بالهدى) النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبقوله: (ومن هو في ضلال مبين) المشركون من قومه، واختلاف سياق الجملتين - حيث قيل في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم: (من جاء بالهدى) وفى جانبهم: (من هو في ضلال مبين) فقوبل بين ضلالهم وبين مجيئه بالهدى لابين ضلالهم واهتدائه - لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه. وقد ذكروا في قوله: (أعلم من جاء بالهدى) أن (من) منصوب بفعل مقدر يدل عليه (أعلم) والتقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، وذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم وهو بمعنى عالم ولا دليل عليه،
[ 89 ]
وما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض وان لم يظهر فيه النصب لبنائه والتقدير ربى أعلم بمن جاء بالهدى، ولا دليل على منعه. قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين) صدر الاية تقرير للوعد الذى في قوله: (ان الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) أي انه سيردك إلى معاد - وما كنت ترجوه كما ألقى اليك الكتاب وما كنت ترجوه -.
وقيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا وجه وجيه وتقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد وفيه ارتفاع ذكره وتقدم دعوته وانبساط دينه خط له السبيل التى يجب عليه سلوكها بجهد ومراقبة فبين له أن القاه الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التى من شأنها أن ترتجى وتترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه وقد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة وفى تقدم دعوته وبلوغها الغاية التى وعدها أن لا ينصر الكافرين ولا يطيعهم ويدعو إلى ربه ولا يكون من المشركين ولا يدعو معه الها آخر. وقوله: (الا رحمة من ربك) استثناء منقطع أي لكنه ألقى اليك رحمة من ربك وليس بالقاء عادى يرجى مثله. وقوله: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) تفريع على قوله: (الا رحمة من ربك) أي فإذا كان القاؤه اليك رحمة من ربك خصك بها وهو فوق رجائك فتبرأ من الكافرين ولا تكن معينا وناصرا لهم. ومن المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى عليه السلام - لما قتل القبطى: (رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) وعلى هذا يكون في النهى عن اعانتهم اشارة إلى أن القاء الكتاب إليه صلى الله عليه وآله وسلم نعمة أنعمها الله عليه يهدى به إلى الحق ويدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم ولا يميل إلى صدهم اياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى عليه السلام ربه بما أنعم عليه من الحكم والعلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، وسيأتى أن قوله: (ولا يصدنك) الخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.
[ 90 ]
قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت اليك) إلى آخر الاية، نهى له صلى الله عليه وآله وسلم على الانصراف عن آيات الله بلسان نهى الكفار عن الصد والصرف ووجهه
كون انصرافه مسببا لصدهم وهو كقوله لادم وزوجه: (فلا يخرجنكما من الجنة) أي لا تخرجا منها باخراجه لكما بالوسوسة. والظاهر أن الاية وما بعدها في مقام الشرح لقوله: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) وفائدته تأكيد النهى بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الاولين اكتتبها، وأمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، ونهاه ثالثا أن يكون من المشركين وفسره بأن يدعو مع الله الها آخر. وقد كرر صفة الرب مضافا إليه صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على اختصاصه بالرحمة والنعمة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها. قوله تعالى: (ولا تدع مع الله الها آخر) قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: (ولا تكونن من المشركين). قوله تعالى: (لا اله الا هو كل شئ هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون) كلمة الاخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: (ولا تدع مع الله الها آخر) أي لانه لا اله غيره وما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح. وقوله: (كل شئ هالك الا وجهه) الشئ مساو للموجود ويطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله) الانعام: 19، والهلاك البطلان والانعدام. والوجه والجهة واحد كالوعد والعدة، ووجه الشئ في العرف العام ما يستقبل به غيره ويرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه ووجه الانسان النصف المقدم من رأسه ووجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه ويتوجه إليه خلقه به وهو صفاته الكريمة من حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وما ينتهى إليها من صفات الفعل كالخلق والرزق والاحياء والامانة والمغفرة والرحمة وكذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.
فكل شئ هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له الا ما كان عنده مما أفاضه
[ 91 ]
الله عليه وأما ما لا ينسب إليه تعالى فليس الا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال وذلك كالاصنام ليس لها من الحقيقة الا أنها حجارة أو خشبة أو شئ من الفلزات وأما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست الا أسماء سماها عبدتهم وكالانسان ليس له من الحقيقة الا ما أودعه فيه الخلقة من الروح والجسم وما اكتسبه من صفات الكمال والجميع منسوبة إلى الله سبحانه وأما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة وسلطة ورئاسة ووجاهة وثروة وعزة وأولاد وأعضاد فليس الا سرابا هالكا وامنية كاذبة وعلى هذا السبيل سائر الموجودات. فليس عندها من الحقيقة الا ما أفاض الله عليها بفضله وهى آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة ورزق وفضل واحسان وغير ذلك. فالحقيقة الثابتة في الواقع التى ليست هالكة باطلة من الاشياء هي صفاته الكريمة وآياته الدالة عليها والجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة. هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الاية الهالك بالفعل وعلى هذا يكون محصل تعليل كلمة الاخلاص بقوله: (كل شئ هالك الا وجهه) أن الاله وهو المعبود بالحق انما يكون الها معبودا إذا كان أامرا ذا حقيقة واقعية غير هالك ولا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت وكل شئ غيره تعالى هالك باطل في نفسه الا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود اله غيره سبحانه. والوثنيون وان كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى ومن جهته الا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، ولذلك يعبدونها من دون الله، ولا استقلال لشئ في شئ عنه تعالى فلا يستحق العبادة الا هو.
وههنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشئ فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار ووجه الطريق لنفسهما وان أمكنت المناقشة فيه، وذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم وهو من المجاز المرسل أو الاستعارة وعلى كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة والممكن وان كان موجودا بايجاده تعالى فهو معدوم بالنظر
[ 92 ]
إلى حد ذاته هالك في نفسه والذى لا سبيل للبطلان والهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها. ومحصل التعليل على هذا المعنى: أن الاله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شئ من تدبير العالم، والتدبير الكونى لا ينفك عن الخلق والايجاد فلا معنى لان يوجد الحوادث شئ ويدبر أمرها شئ آخر - وقد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - ولا يكون الخالق الموجد الا واجب الوجود ولا واجب الا هو تعالى فلا اله الا هو. وقولهم: انه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربى حضرته من الملائكة الكرام وغيرهم ليكونوا شفعاء عنده. مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الاحاطى بل يكفى فيه المعرفة بوجه وهو حاصل بالضرورة. وأما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك والفناء بناء على ما قيل: ان اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الاية أن كل شئ سيستقبله الهلاك بعد وجوده الا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الاشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها وبطلانها بعده وفى غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب. وهلاك الاشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي وخلو النشأة الاولى عنها بانتقالها إلى النشأة الاخرى ورجوعها إلى الله واستقرارها عنده، وأما البطلان المطلق
بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالايات متتابعة في أن كل شئ مرجعه إلى الله وأنه المنتهى واليه الرجعى وهو الذى يبدئ الخلق ثم يعيده. فمحصل معنى الاية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شئ سيخلى مكانه ويرجع إليه الا صفاته الكريمة التى هي مبادى فيضه فهى تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له والاله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته ولا انقطاع لصفاته الفياضة وليس شئ غيره تعالى بهذه الصفة فلا اله الا هو. ولو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شئ سيستقبله الهلاك والفناء بالرجوع إلى الله سبحانه الا ذاته الحقة الثابتة التى لا سبيل للبطلان إليها - والصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - والاله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه
[ 93 ]
وليس شئ غيره بهذه الصفة فلا اله الا هو. وبما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الاية بمثل الجنة والنار والعرش فان الجنة والنار لا تنعدمان بعد الوجود وتبقيان إلى غير النهاية، والعرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش. وجه الاندفاع ان المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود والرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الاخرة والتلبس بالعود بعد البدء، وهذا انما يكون فيما هو موجود بوجود بدئى دنيوى، وأما الدار الاخرة وما هو موجود بوجود أخروى كالجنة والنار فلا يتصف شئ من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى. قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل: 96، وقال: (وما عند الله خير للابرار) آل عمران: 198، وقال: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد) الانعام: 124، ونظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: (وان من شئ الا عندنا خزائنه) الحجر: 21، وكذا اللوح المحفوظ كما قال: (وعندنا كتاب
حفيظ) ق: 4. وأما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: (ان ربكم الله) الاية، الاعراف: 54. ويمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التى تنسب إليه وهى الناحية التى يقصد منها ويتوجه إليه بها، وتؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله: (يريدون وجهه) الانعام: 52، وقوله: (الا ابتغاء وجه ربه الاعلى) الليل: 20، إلى غيرذلك من الايات الكثيرة جدا. وعليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فان كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الاول الذى أوردناه ويكون من مصاديقه أسماؤه وصفاته وأنبياؤه وخلفاؤه ودينه الذى يؤتى منه. وان خص الوجه بالدين فحسب - كما وقع في بعض الروايات ان لم يكن من باب التطبيق - كان المراد بالهلاك الفساد وعدم الاثر، وكانت الجملة تعليلا لقوله: (ولا تدع مع الله الها آخر) وكان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشئ الدين والاعمال المتعلقة
[ 94 ]
به وكان محصل المعنى: ولا تتدين بغير دين التوحيد لان كل دين باطل لا أثر له الا دينه. والانسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الاية بمعنى الحكم التشريعي أو الاعم منه ومن التكويني والمعنى: كل دين هالك الا دينه لان تشريع الدين إليه واليه ترجعون لا اله مشرعي الاديان الاخر. هذا ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة وللمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة. فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة وبالهلاك الانعدام، والمعنى: كل شئ في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيرالا ذاته الواجبة الوجود، والكلام على هذا مبنى على التشبيه أي كل شئ غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.
وقيل: الوجه بمعنى الذات والمراد به ذات الشئ والضمير لله باعتبار أن وجه الشئ مملوك له، والمعنى: كل شئ هالك الا وجه الله الذى هو ذات ذلك الشئ ووجوده. وقيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة والضمير لله، والمعنى: كل شئ هالك بجميع ما يتعلق به الا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهوالوجود الذى أفاضه الله تعالى عليه. وقيل: الوجهة هو الجهة المقصودة والمراد به الله سبحانه الذى يتوجه إليه كل شئ والضمير للشئ، والمعنى: كل شئ هالك الا الله الذى هو الجهة المطلوبة له. وقيل: المراد بالهلاك هلاك الموت والعموم مخصوص بذوى الحياة، والمعنى: كل ذى حياة فانه سيموت الا وجهه. وقيل: المراد بالوجه العمل الصالح والمعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لامره تعالى أبقاه الله من غير احباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لان الجزاء قائم مقامه وهو باق. وقيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذى أثبته في الناس. وقيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهى متغيرة هالكة دائما في الدنيا والاخرة والمعنى كل شئ متغير الذات دائما الا وجهه. وهذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الاية وبين ما لا ينجح به حجتها وبين ما هو بعيد عن الفهم، وبالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.
[ 95 ]
وقوله: (له الحكم واليه ترجعون) الحكم هو قضاؤه النافذ في الاشياء وعليه يدور التدبير في نظام الكون، وأما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذى هو يوم القيامة فان فصل القضاء متفرع عليه. وكلتا الجملتين مسوقتان للتعليل وكل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده.
تعالى بالالوهية صالحة للتعليل كلمة الاخلاص، وقد تقدم امكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى: (لرادك إلى معاد) قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. أقول: وروى عنه وعن أبى سعيد الخدرى أن المراد به الموت، وأيضا عن على عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المراد به الجنة وانطباقهما على الاية لا يخلو من خفاء. وروى القمى في تفسيره عن حريز عن أبى جعفر عليه السلام وعن أبى خالد الكابلي عن على بن الحسين عليه السلام أن المراد به الرجعة ولعله من البطن دون التفسير. وفى الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: وأما قوله (كل شئ هالك الا وجهه) فالمراد كل شئ هالك الا دينه، لان من المحال أن يهلك منه كل شئ ويبقى الوجه. هو أجل وأعظم من ذلك وانما يهلك من ليس منه ألا ترى أنه قال: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) ففصل بين خلقه ووجهه ؟ وفى الكافي باسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصرى قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: (كل شئ هالك الا وجهه) فقال: ما يقولون فيه ؟ قلت: يقولون: يهلك كل شئ الا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما انما عنى به وجه الله الذى يؤتى منه. أقول: وروى مثله في التوحيد باسناده عن الحارث بن المغيرة النصرى عنه
[ 96 ]
عليه السلام ولفظه سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (كل شئ هالك الا وجهه) قال: كل شئ هالك الا من أخذ طريق الحق.
وفى محاسن البرقى مثله الا أن آخره (من أخذ الطريق الذى أنتم عليه). والتشويش الذى يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فان كان المراد بالوجه الذى يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه وكان من صقعه تعالى ومن جانبه كان منطبقا على المعنى الاول الذى قدمناه في معنى الاية. وان كان الوجه بمعنى الدين الذى يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان وعدم التأثير وكان المعنى: لا اله الا هو كل دين باطل الا دينه الحق الذى يؤتى منه فانه سينفع ويثاب عليه، وقد تقدمت الاشارة إلى الوجهين في تفسير الاية. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) قال: المخاطبة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى للناس، وقوله: (ولا تدع مع الله الها آخر) المخاطبة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى للناس، وهو قول الصادق عليه السلام: ان الله بعث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم باياك أعنى، واسمعي يا جارة.
[ 97 ]
(سورة العنكبوت مكية، وهى تسع وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الم - 1. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - 2. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين - 3. أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون - 4. من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات وهو السميع العليم - 5. ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ان الله لغنى عن العالمين - 6. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون - 7. ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم
بما كنتم تعملون - 8. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين - 9. ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنه الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنامعكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين - 10.
[ 98 ]
وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين - 11. وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ انهم لكاذبون - 12. وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون - 13. (بيان) يلوح من سياق آيات السورة وخاصة ما في صدرها من الايات أن بعضا ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من قبل المشركين فان المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم ويضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم ان اتبعوا سبيلهم فان أبوا فتنوهم وعذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم. يشير الى ذلك قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) الاية، وقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) الاية. وكأن في هؤلاء الراجعين عن ايمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع والحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما) الاية، وقد نزلت السورة في شأن هؤلاء. فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها وختامها والسياق الجارى فيها أن الذى
يريده الله سبحانه من الايمان ليس هو مجرد قولهم: آمنا بالله بل هو حقيقة الايمان التى لا تحركها عواصف الفتن ولا تغيرها غير الزمن وهى انما تتثبت وتستقر بتوارد الفتن وتراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: آمنا بالله دون أن يفتنوا ويمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الايمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
[ 99 ]
فالفتنة والمحنة سنة الهية لا معدل عنها تجرى في الناس الحاضرين كما جرت في الامم الماضين كقوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم ولوط وشعيب وموسى فاستقام منهم من استقام وهلك منهم من هلك وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على ايمانه ويعبد الله وحده فان تعذر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة ولا يخف عسر المعاش فان الرزق على الله وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياه. وأما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه الا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله ويسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين وايذاؤهم وتعذيبهم فانما هي فتنة لهم وللمؤمنين غير خارجة عن علم الله وتقديره، فهى فتنة وهى محفوظة عليهم ان شاء أخذهم بوبالها في الدنيا وان شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه وما لهم من محيص. وأما ما لفقوه من الحجة وركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم والحجة قائمة تامة عليهم. فهذا محصل غرض السورة ومقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، وقول القائل: انها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - وسيجئ في البحث الروائي التالى - غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم الا زمن العسرة والشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) الحسبان هو الظن، وجملة (أن يتركوا) قائمة مقام مفعوليه، وقوله: (أن يقولوا) بتقدير باء السببية، والفتنة الامتحان وربما تطلق على المصيبة والعذاب، والاوفق للسياق هو المعنى الاول، والاستفهام للانكار. والمعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الايمان بمجرد قولهم: آمنا ؟ وقيل: المعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية ولا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الايمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الانسان مدى حياته ؟ ولا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الايات.
[ 100 ]
قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) اللامان للقسم، وقوله: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) حال من الناس في قوله: (أحسب الناس) أو من ضمير الجمع في قوله (لا يفتنون) وعلى الاول فالانكار والتوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الالهية على الفتنة والامتحان وعلى الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما ولا يفتن آخرين، ولعل الوجه الاول أوفق للسياق. فالظاهر أن المراد بقوله: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أن الفتنة والامتحان سنة جارية لنا وقد جرت في الذين من قبلهم وهى جارية فيهم ولن تجد لسنة الله تبديلا. وقوله: (فليعلمن الله الذين صدقوا) الخ تعليل لما قبله، والمراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم وكذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة والامتحان الملازم لثبوت الايمان في قلوبهم حقيقة وعدم ثبوته فيها حقيقة فان السعادة التى تترتب على الايمان المدعو إليه وكذا الثواب انما تترتب على حقيقة الايمان الذى له
آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره والصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله لا على دعوى الايمان المجردة. ويمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلى الذى هو نفس الامر الخارجي فان الامور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، وأما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان البتة. والمعنى: أحسبوا أن يتركوا ولا يفتنوا بمجرد دعوى الايمان واظهاره والحال أن الفتنة سنتنا وقد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من الكاذبين بظهورآثار صدق هؤلاء وآثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الايمان في قلوب هؤلاء وزوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك. والالتفات في قوله: (فليعلمن الله) إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل وتربية المهابة والظاهر أنه في أمثال المقام لافادة نوع من التعليل وذلك أن الدعوة إلى الايمان والهداية إليه والثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله الذى منه يبدأ كل شئ وبه يقوم كل شئ واليه ينتهى كل شئ بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الايمان من
[ 101 ]
دعواه الخالية ويخرج عن حال الابهام إلى حال الصراحة ولذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمن إلى قوله: (فليعلمن الله). قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) أم منقطعة، والمراد بقوله: (الذين يعملون السيئات) المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين ويصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: (أحسب الناس) هم الذين قالوا: آمنا وهم في معرض الرجوع عن الايمان خوفا من الفتنة والتعذيب. والمراد بقوله: (أن يسبقونا) الغلبة والتعجيز بسبب فتنة المؤمنين وصدهم عن سبيل الله - على ما يعطيه السياق.
وقوله: (ساء ما يحكمون) تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة وصد فان ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم وصد لهم عن سبيل السعادة ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله. وقيل: مفاد الاية توبيخ العصاة من المؤمنين وهم المراد بقوله: (الذين يعملون السيئات) والمراد بالسيئات المعاصي التى يقترفونها غير الشرك، وأنت خبير بأن السياق لا يساعد عليه. وقيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك واقتراف سائر المعاصي فالاية عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك. وفيه أن اعتبار الاية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر واعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر والذى يقتضيه الاعتبار الاول وهو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، وأما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم ولا ضير فيه على ذلك التقدير. قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات وهو السميع العليم) إلى تمام ثلاث آيات. لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الايمان ورجوعهم عنه بأى فتنة وايذاء من المشركين ووبخ المشركين على فتنتهم وايذائهم المؤمنين وصدهم عن سبيل الله ارادة لاطفاء نور الله وتعجيزا له فيما شاء وخطا الفريقين فيما ظنوا. رجع إلى بيان الحق الذى لا معدل عنه والواجب الذى لا مخلص منه، فبين في
[ 102 ]
هذه الايات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه ولقائه فليعلم أنه آت لا محالة وأن الله سميع لاقواله عليم بأحواله وأعماله فليأخذ حذره وليؤمن حق الايمان الذى لا يصرفه عنه فتنة ولا ايذاء وليجاهد في الله حق جهاده، وليعلم أن الذى ينتفع بجهاده هو نفسه ولا حاجة لله سبحانه إلى ايمانه ولا إلى غيره من العالمين وليعلم أنه ان آمن
وعمل صالحا فان الله سيكفر عنه سيئاته ويجزيه بأحسن أعماله، والعلمان الاخير ان يؤكدان العلم الاول ويستوجبان لزومه الايمان وصبره على الفتن والمحن في جنب الله. فقوله: (من كان يرجو لقاء الله) رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فانه انما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغى الدين من أصله، فالمراد بقوله: (من كان يرجو لقاء الله) من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب. والمراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه وبين ربه كما هو الشأن يوم القيامة الذى هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين). وقيل: المراد بلقاء الله هو البعث، وقيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت والحساب والجزاء، وقيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب وقيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، والرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف. وهذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها الا أن يكون من التفسير بلازم المعنى. وقوله: (فان أجل الله لات) الاجل هو الغاية التى ينتهى إليها زمان الدين ونحوه وقد يطلق على مجموع ذلك الزمان والغالب في استعماله هو المعنى الاول. و (أجل الله) هو الغاية التى عينها الله تعالى للقائه، وهو آت لا ريب فيه وقد أكد القول تأكيدا بالغا، ولازم تحتم اتيان هذا الاجل وهو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره ولا يستهان بأمر الايمان بالله حق الايمان والصبر عليه عند الفتن والمحن من غير رجوع وارتداد، وقد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: (وهو السميع العليم) إذ هو تعالى لما كان سميعا لاقوالهم عليما بأحوالهم فلا ينبغى أن يقول القائل: آمنت بالله الا عن ظهر القلب ومع الصبر على كل فتنة ومحنة. ومن هنا يظهر أن ذيل الاية: (فان أجل الله لات) الخ، من قبيل وضع
[ 103 ]
السبب موضع المسبب كما كان صدرها: (من كان يرجو لقاء الله) أيضا كذلك، والاصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه. وقوله: (ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ان الله لغنى عن العالمين) المجاهدة والجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، وفيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الايمان والصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم ويلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل انما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الايمان ويصبروا على المكاره دونه. فقوله: (ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه) تأكيد لحجة الاية السابقة، وقوله: (ان الله لغنى عن العالمين) تعليل لما قبله. والالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الايتين نظير ما مر من الالتفات في قوله: (فليعلمن الله الذين صدقوا) الاية. وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون) بيان لعاقبة ايمانهم حق الايمان المقارن للجهاد ويتبين به أن نفع ايمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه وأنه عطية من الله وفضل. وعلى هذا فالاية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الايمان والعمل الصالح فانها في معنى تبديل قوله في الاية السابقة: (ومن جاهد) من قوله في هذه الاية: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات). وتكفير السيئات هوالعفو عنها والاصل في معنى الكفر هو الستر، وقيل: تكفير السيئات هوتبديل كفرهم السابق ايمانا ومعاصيهم السابقة طاعات، وليس بذاك. وجزاؤهم بأحسن الذى كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة وخسة فيعاملون في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن
الصلاة وان اشتملت على بعض جهات الرداءة وهكذا. قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك على أن لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما) الخ، التوصية العهد وهو ههنا الامر، وقوله: (حسنا)
[ 104 ]
مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف والتقدير: ووصينا الانسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن اليهما وهذا مثل قوله: (وقولوا للناس حسنا) أي قولا حسنا أو ذا حسن، ويمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، وربما وجه بتوجيهات أخر. وقوله: (وان جاهداك على أن لتشرك بى) الخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهى للانسان بنهيه عن اطاعة والديه ان دعواه إلى الشرك والوجه في ذلك أن التوصية في معنى الامر فكأنه قيل: وقلنا للانسان أحسن إلى والديك وان جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما. ولم يقل: وأن لا يطيعهما ان جاهداه على أن يشرك الخ، لما في الخطاب من الصراحة وارتفاع الابهام ولذلك قال أيضا: (لتشرك بى) بضمير المتكلم وحده فافهمه ويؤل معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما ورفعنا عنه كل ابهام. وفى قوله: (ما ليس لك به علم اشارة إلى علة النهى عن الطاعة فان دعوتهما إلى الشرك بعبادة اله من دون الله دعوة إلى الجهل وعبادة ما ليس له به علم افتراء على الله وقد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: (ولا تقف ما ليس لك به علم) أسرى: 38، وبهذه المناسبة ذيلها بقوله: (إلى مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون) أي ساعلمكم ما معنى أعمالكم ومنها عبادتكم الاصنام وشرككم بالله سبحانه. ومعنى الاية: وعهدناالى الانسان في والديه عهدا حسنا - وأمرناه أن أحسن إلى والديك - وان بذلا جهدهما أن تشرك بى فلا تطعهما لانه اتباع ما ليس لك به علم.
وفى الاية - كما تقدمت الاشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع عن ايمانه بمجاهدة من والديه. قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) معنى الاية ظاهر، وفى وقوعها بعد الاية السابقة وفى سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى وتطييب نفس لمن ابتلى من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما وفارقهما، يقول سبحانه: ان جاهداه على الشرك فعصاهما وهجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فانا سنرزقه خيرا منهما وندخله بايمانه وعمله الصالح في الصالحين وهم العباد
[ 105 ]
المنعمون في الجنة، قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الفجر: 30. وأما ارادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق. قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) إلى آخر الاية، لما كان ايمان هؤلاء مقيدا بالعافية والسلامة مغيى بالايذاء والابتلاء لم يعده ايمانا بقول مطلق ولم يقل: ومن الناس من يؤمن بالله بل قال: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) فالاية بوجه نظيرة قوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه) الحج: 11. وقوله: (فإذا أوذى في الله) أي أوذى لاجل الايمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل وفيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الايمان بالله - ظرفا للايذاء ولمن يقع عليه الايذاء ليفيد أن الايذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه وينطبق على معنى السببية والغرضية ونظيره قوله: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) الزمر: 56، وقوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) حيث جعل الجهاد في الله طريقا الى الاهتداء إلى سبله ولو كانا
بمعنى واحد لم يصح ذلك. وقوله: (جعل فتنة الناس كعذاب الله) أي نزل العذاب والايذاء الذى يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذى يجب أن يتحرز منه فرجع عن الايمان إلى الشرك خوفا وجزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الاخر بنجاة أو موت ولا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذى يستتبع الهلاك الدائم.
[ 106 ]
وقوله: (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم) أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج ويسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة والعسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء انا كنا معكم فلنا منه نصيب. و (ليقولن) بضم اللام صيغة جمع، والضمير راجع إلى (من) باعتبار المعنى كما أن ضمائر الافراد الاخر راجعة إليها باعتبار اللفظ. وقوله: (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) استفهام انكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور ولا تنطوى قلوب هؤلاء على ايمان. والمراد بالعالمين الجماعات من الانسان أو الجماعات المختلفه من أولى العقل انسانا كان أو غيره كالجن والملك، ولو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوى الشعور وغيرهم كان المراد بالصدور البواطن وهو بعيد. قوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) من تتمة الكلام في الاية السابقة والمحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين والمنافقين بالفتنة والامتحان. وفى الاية اشارة إلى كون هؤلاء منافقين وذلك لكون ايمانهم مقيدا بعدم الفتنة وهم يظهرونه مطلقا غير مقيد والفتنة سنة الهية جارية لا معدل عنها. وقد استدل بالايتين على أن السورة أو خصوص هذه الايات مدنية وذلك أن الاية تحدث عن النفاق والنفاق انما ظهر بالمدينة بعد الهجرة وأما مكة قبل الهجرة فلم
يكن للاسلام فيها شوكة ولا للمسلمين فيها الا الذلة والاهانة والشدة والفتنة ولا للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في المجتمع العربي يومئذ وخاصة عند قريش عزة ولا منزلة فلم يكن لاحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالايمان وهو ينوى الكفر. على ان قوله في الايه ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم) يخبر عن النصر وهوالفتح والغنيمة وقد كان ذلك بالمدينة دون مكة. ونظير الايتين قوله السابق: (ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه) ضرورة وأن الجهاد والقتال انما كان بالمدينة بعد الهجرة. وهو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الاية ملاكا للنفاق وهو قولهم: آمنا بالله حتى إذا اوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في
[ 107 ]
غيرها وهو ظاهر بل الذى ذكر من الايذاء والفتنة انما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة. وأما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح والغنيمة فله مصاديق اخر يفرج الله بها عن عباده. على أن الاية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: (فإذا اوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك قالوا انا كنا معكم) يدل على تحقق الايذاء والفتنة حيث عبر باذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيئ النصر حيث عبر عنه بان الشرطية الدالة على امكان الوقوع دون تحققه. وأما قوله تعالى: (ومن جاهد) الخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شئ من الايات على كون السورة أو بعضها مدنية. قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ انهم لكاذبون) المراد بالذين كفروا مشركوا مكة
الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، وبالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة وقولهم لهم: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) نوع استمالة لهم وتطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك واتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، وان كانت فهم حاملون لها عنهم، ولذلك لم يقولوا: ولنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد. فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فانا نحملها عنكم ونحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو انا نحمل عنكم خطاياكم عامة ومن جملتها هذه الخطيئة. وقوله: (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ) رد لقولهم: (ولنحمل خطاياكم وهو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم ورجوعهم عن الايمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين وانتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى اذن من الله ورضى فهو الذى يؤاخذهم به ويجازيهم وهو سبحانه يصرح ويقول: (ما هم بحاملين من خطاياهم من شئ) وقد عمم النفى لكل شئ من خطاياهم. وقوله: (انهم لكاذبون) تكذيب لهم لما أن قولهم: (ولنحمل خطاياكم) يشتمل على دعوى ضمنى أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها وأن الله يجيز لهم ذلك.
[ 108 ]
قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) من تمام القول السابق في ردهم وهو في محل الاستدراك أي انهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهى لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا وأحمالا من الاوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم وأحمالها لما أنهم ضالون مضلون. فالاية في معنى قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) النحل: 25.
وقوله: (وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) فشركهم افتراء على الله سبحانه وكذا دعواهم القدرة على انجاز ما وعدوه وأن الله يجيز لهم ذلك. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وأيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكة. أقول: وقد نقل في روح المعاني عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية. وفى المجمع قيل: نزلت الاية يعنى قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا) في عمار بن ياسر وكان يعذب في الله. عن ابن جريج. وفى الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن الشعبى في قوله: (الم أحسب الناس أن يتركوا) الاية، قال: أنزلت في أناس بمكة قد أقروا بالاسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم اقرار ولا اسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الاية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم: (ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم).
[ 109 ]
وفيه أخرج ابن جرير عن قتادة (ومن الناس من يقول آمنا بالله - إلى قوله - وليعلمن المنافقين) قال: هذه الايات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهذه الايات العشر مدنية. وفيه أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)
قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله. وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبى وقاص قال: قالت امى: لا أكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفربمحمد فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الاية (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) الاية. وفى المجمع قال الكلبى نزل قوله: (ومن الناس من يقول) الاية في عياش بن أبى ربيعة المخزومى وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبى جندل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل كنا حتى يرجع إليها - فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام - وهما أخوا عياش لامه - جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه وذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه وتبعهما وقد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت. فلما خرجوا من المدينة أخذاه وأوثقاه كتافا وجلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برئ من دين محمد جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغى فنزلت الاية وكان الحارث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه. فلما رجعوا الى مكة مكثوا حينا ثم هاجرالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى المدينة وهاجر عياش وحسن اسلامه وأسلم الحارث بن هشام وهاجر إلى المدينة وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الاسلام ولم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا ولم يشعر باسلامه فضرب عنقه فقيل له: ان الرجل قد أسلم فاسترجع عياش وبكى ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك فنزل: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) الاية.
[ 110 ]
أقول: وأنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الايات وقد تقدم أن الذى يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة. وفى الكافي عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا بالله وهم لا يفتنون). ثم قال لى: ما الفتنة ؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: (يفتنون كما يفتن الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب. وفى المجمع قيل: ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم. وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وفيه في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا) وفى تفسير الكلبى أنه لما نزلت هذه الاية قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم قام وصلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض. فنزل جبرئيل ولم يجرهم من الخصلتين الاخيرتين فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل ما بقاء امتى مع قتل بعضهم بعضا ؟ فقام وعاد إلى الدعاء فنزل: (الم أحسب الناس أن يتركوا) الايتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بهاالامة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لان الوحى انقطع وبقى السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة. وفى نهج البلاغة: وقام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ؟ فقال عليه السلام: لما أنزل الله سبحانه قوله: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التى أخبرك الله بها ؟ فقال: يا على ان امتى سيفتنون من بعدى. وفى التوحيد عن على عليه السلام - في حديث طويل: وقد سأله رجل عن آيات من
القرآن - وقوله: (من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات) يعنى بقوله: من كان يؤمن بأنه مبعوث فان وعد الله لات من الثواب والعقاب فاللقاء ههنا ليس بالرؤية واللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فانه يعنى بذلك البعث.
[ 111 ]
أقول: مراده عليه السلام نفى الرؤية الحسية والتفسير بلازم المعنى. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله) الاية قال: من أحب لقاء الله جاءه الاجل (ومن جاهد) نفسه عن اللذات والشهوات والمعاصي (فانما يجاهد لنفسه ان الله لغنى عن العالمين). (ووصينا الانسان بوالديه حسنا) قال: هما اللذان ولداه. وفيه في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فان الذى تخافون أنتم ليس بشئ فان كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز وجل مرتين: مرة بذنوبهم ومرة بذنوب غيرهم. وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن الحنفية قال: كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون يقولون: انه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أو زاركم فنزلت هذه الاية: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم). وفيه أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك القوم ثم ان رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا. أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر وفى بعضها تفسير قوله: (وليحملن
أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) بذلك. * * * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون - 14. فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين - 15. وابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله
[ 112 ]
واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون - 16. انما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون افكا ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون - 17. وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول الا البلاغ المبين - 18. أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير - 19. قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الاخرة ان الله على كل شئ قدير - 20. يعذب من يشاء ويرحم من يشاء واليه تقلبون - 21. وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير - 22. والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتى وأولئك لهم عذاب أليم - 23. فما كان جواب قومه الا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 24. وقال انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين - 25. فآمن له لوط وقال انى مهاجر
إلى ربى انه هو العزيز الحكيم - 26. ووهبنا له اسحق ويعقوب
[ 113 ]
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين - 27. ولوطا إذ قال لقومه انكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين - 28. أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه الا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين - 29. قال رب انصرني على القوم المفسدين - 30. ولما جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية ان أهلها كانوا ظالمين - 31. قال ان فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين - 32. ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن انا منجوك وأهلك الا امرأتك كانت من الغابرين - 33. انا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون - 34. ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون - 35. والى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا في الارض مفسدين - 36. فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين - 37. وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم
[ 114 ]
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين - 38. وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين - 39. فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من
أرسلنا عليهم حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 40. (بيان) لما ذكر سبحانه في صدرالسورة أن الفتنة سنة الهية لا معدل عنها وقد جرت في الامم السابقة عقب ذلك بالاشارة إلى قصص سبعة من الانبياء الماضين وأممهم وهم: نوح وابراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام فتنهم الله وامتحنهم فنجى منهم من نجى وهلك منهم من هلك، وقد ذكر سبحانه في الثلاثة الاول النجاة والهلاك معا وفى الاربعة الاخيرة الهلاك فحسب. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) في المجمع: الطوفان الماء الكثير الغامر لانه يطوف بكثرته في نواحى الارض، انتهى. وقيل: هو كل ما يطوف بالشئ على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام والغالب استعماله في طوفان الماء. والتعبير بألف سنة الا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة وخمسين سنة للتكثير والاية ظاهرة في أن الالف الا خمسين مدة دعوة نوح ع ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره ع وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في قصصه ع في تفسير سورة هود، والباقى ظاهر. قوله تعالى: فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) أي فأنجينا
[ 115 ]
نوحا وأصحاب السفينة الراكبين معه فيها وهم أهله وعدة قليلة من المؤمنين به ولم يكونوا ظالمين. وقوله: (وجعلناها آية للعالمين) الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة وأما
رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الاجيال اللاحقة بهم. قوله تعالى: (وابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) معطوف على قوله: (نوحا) أي وأرسلنا ابراهيم إلى قومه. وقوله لقومه: (اعبدوا الله واتقوه) دعوة إلى التوحيد وانذار بقرينة الايات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر. على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه وانما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى لا يمكن أن يعبد الا من طريق الاسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة والجن ولو عبد لكان معبودا وحده من غيرشريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: (اعبدوا الله) تفيد الدعوة إليه وحده وان لم تقيد بأداة الحصر. قوله تعالى: (انما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون افكا) إلى آخر الاية، الاوثان جمع وثن بفتحتين وهو الصنم، والافك الامر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا. وقوله: (انما تعبدون من دون الله أوثانا) بيان لبطلان عبادة الاوثان ويظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقة وبالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى (أوثانا) منكر للدلالة على وهن أمرها وكون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله الا أو ثانا من أمرها كذا وكذا. ولذا عقب الجملة بقوله: (وتخلقون افكا) أي وتفتعلون كذبا بتسميتها آلهة وعبادتها بعد ذلك فهناك اله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الاوثان. وقوله: (ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الاوثان آلهة وعبادتها ومحصله أن هؤلاء الذين تعبدون من دون الله وهم الاوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة والجن انما تعبدونهم لجلب النفع وهو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم ويدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا
[ 116 ]
فان الله هو الذى يملك رزقكم الذى هو السبب الممد لبقائكم لانه الذى خلقكم وخلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم والملك تابع للخلق والايجاد. ولذلك عقبه بقوله: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) أي فاطلبوا الرزق من عند الله لانه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله واشكروا له على ما رزقكم وأنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم. وقوله: (إليه ترجعون) في مقام التعليل لقوله: (واعبدوه واشكروا له) ولذا جئ بالفصل من غير عطف، وفى هذا التعليل صرفهم عن عبادة الاله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع والحساب إذ لولا المعاد لم يكن لعبادة الاله سبب محصل لان الرزق وما يجرى مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات والقربات ولا يزيد ولا ينقص بايمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالايمان والكفر والعبادة والشكر وخلافهما فليكن الرجوع إلى الله هوالباعث إلى العبادة والشكر دون ابتغاء الرزق. قوله تعالى: (وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول الا البلاغ المبين) الظاهر أنه من تمام كلام ابراهيم ع، وذكر بعضهم أنه خطاب منه تعالى لمشركي قريش ولا يخلو من بعد. ومعنى الشرط والجزاء في صدر الآية أن التكذيب هوالمتوقع منكم لانه كالسنة الجارية في الامم المشركة وقد كذب من قبلكم وأنتم منهم وفى آخرهم وليس على بما أنا رسول الا البلاغ المبين. ويمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الامم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله ولم يكونوا بمعجزين في الارض ولا في السماء ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير، فكذلكم أنتم، وقوله: (وما على الرسول) يناسب الوجهين جميعا.
قوله تعالى: (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير) هذه الاية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد وترفع استبعادهم له متعلقة بما تقدم من حيث ان العمدة في تكذيبهم الرسل انكارهم للمعاد كما يشير إليه قول ابراهيم: (إليه ترجعون وان تكذبوافقد كذب أمم من قبلكم).
[ 117 ]
فقوله: (أو لم يروا) الخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الامم من سابق ولا حق والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، وقوله: (كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) في موضع المفعول لقوله: (يروا) بعطف (يعيده) على موضع (يبدئ) خلافا لمن يرى عطفه على (أو لم يروا) والاستفهام للتوبيخ. والمعنى: أو لم يعلموا كيفية الابداء ثم الاعادة أي انهما من سنخ واحد هو انشاء ما لم يكن، وقوله: (ان ذلك على الله يسير) الاشارة فيه الى الاعادة بعد الابداء وفيه رفع الاستبعاد لانه انشاء بعد انشاء واذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالايجاد فهى جائزة التعلق بالانشاء بعد الانشاء وهى في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار وانزال للسائرين إليه في دار القرار. وقول بعضهم: ان المراد بالابداء ثم الاعادة انشاء الخلق ثم اعادة أمثالهم بعد افنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذى هو اعادة عين ما فنى دون مثله. قوله تعالى: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الاخرة ان الله على كل شئ قدير) الاية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبى ص أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الارض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق وانشائهم على اختلاف طبائعهم وتفاوت ألوانهم وأشكالهم من غير مثال سابق وحصر أو تحديد في عدتهم وعدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الالهية فهو
ينشئ النشأة الاخرة كما أنشأ النشأة الاولى فالاية في معنى قوله: (ولقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكرون) الواقعة: 62. قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء واليه تقلبون) من مقول القول، والظاهر أنه بيان لقوله: (ينشئ النشأة الاخرة) وقلب الشئ تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه وجعل باطنه ظاهره وهذا المعنى الاخير يناسب قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر) الطارق: 9. وفسروا القلب بالرد قال في المجمع: والقلب هو الرجوع والرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الاخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر الا الله. انتهى وهذا
[ 118 ]
معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله والرد إليه وهو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الاسباب ولا يحكم فيه الا الله سبحانه فالاية في معنى قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) يونس: 30. ومحصل المعنى: أن النشأة الاخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء وهم المجرمون ويرحم من يشاء وهم غيرهم واليه تردون فلا يحكم فيكم غيره. قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) من مقول القول وتوصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الاية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ. فقوله: (وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء أي انكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه والخروج من حكمه وسلطانه بالفرار والخروج من ملكه والنفوذ من أقطار الارض والسماء، فالاية تجرى مجرى قوله: (يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا) الرحمن: 33. وقيل: الكلام في معنى (من في السماء) فحذف من لدلالة الكلام عليه والتقدير
وما أنتم بمعجزين في الارض ولا من في السماء بمعجزين في السماء. وهو بعيد ودلالة الكلام عليه غير مسلمة ولو بنى عليه لكفى فيه أن الخطاب للاعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن والملك والمعنى: وما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الارض ولا في السماء. وقوله: (وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) أي ليس لكم اليوم ولى من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله ولا نصير ينصركم فيقوى جانبكم ويتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه. فالاية - كما ترى - تنفى ظهورهم على الله وتعجيزهم له بالخروج والامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك وهو قوله: (وما أنتم بمعجزين) الخ ولا غيرهم يستقل بذلك وهو قوله: (وما لكم من دون الله من ولى) ولا المجموع منهم ومن غيرهم يعجزه تعالى وهو قوله: (ولا نصير). قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتى وأولئك
[ 119 ]
لهم عذاب أليم) خطاب مصروف إلى النبي ص خارج من مقول القول السابق (قل سيروا في الارض) الخ والمطلوب فيه أن ينبئه ص صريح الحق فيمن يشقى ويهلك يوم القيامة فانه أبهم ذلك في قوله أولا: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء). ومن الدليل عليه الخطاب في (اولئك) مرتين ولو كان من كلام النبي ص لقيل: (اولئكم). ويؤيد ذلك أيضا قوله: (من رحمتى) فان الانتقال من مثل قولنا: اولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: (اولئك يئسوا من رحمتى) يفيد التصديق والاعتراف مضافا إلى أصل الاخبار فيفيد صريح التعيين لاهل العذاب، ويؤيد ذلك أيضاتكرار الاشارة وما في السياق من التأكيد.
وكان في تخصيص النبي ص بهذا الاخبار تقوية لنفسه الشريفة وعزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله وهم لا يؤمنون. والمراد بآيات الله - على ما يفيده اطلاق اللفظ - جميع الادلة الدالة على الوحدانية والنبوة والمعاد من الايات الكونية والمعجزات النبوية ومنها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء وهو المعاد بعد الكفر بالايات من ذكرالخاص بعد العام والوجه فيه الاشارة إلى أهمية الايمان بالمعاد إذ مع انكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله وهو ظاهر. والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب ويلازم الجنة وقد تكرر في كلامه تعالى اطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمتة) الجاثية: 30، وقوله: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) الانسان: 31. والمراد باسناد اليأس إليهم اما تلبسهم به حقيقة فانهم لجحدهم الحياة الاخرة آيسون من السعادة المؤبدة والجنة الخالدة واما انه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر. والمعنى: والذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق وخاصة المعاد اولئك يئسوا من الرحمة والجنة واولئك لهم عذاب أليم.
[ 120 ]
قوله تعالى: (فما كان جواب قومه الا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار) الخ، تفريع على قوله في صدر القصة: (وابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه). وظاهر قوله: (قالوا اقتلوه أو حرقوه) أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه وان
اتفقوا بعد ذلك على احراقه كما قال (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) الانبياء: 68، ويمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على احراقه. وقوله: (فأنجاه الله من النار) فيه حذف وايجاز وتقديره ثم اتفقوا على احراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، وقد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى. قوله تعالى: (وقال انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا إلى آخر الاية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الاوثان لم يبق لهم مما يستنون به الا الاستنان بسنة من يعظمونه ويحترمون جانبه كالاباء للابناء والرؤساء المعظمين لاتباعهم والاصدقاء لاصدقائهم وبالاخرة الامة لافرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها. فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار المودات الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده والاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية ويقيم الاتحاد والاتفاق على ساقه. هذه حال العامة منهم وأما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة وما هو بحجة كقولهم: ان الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة والجن ليقربونا إليه زلفى ويشفعوا لنا عنده. فقوله: (انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا) خطاب منه ع لعامة قومه في أمر اتخاذهم الاوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، وقد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم (إذ قال لابيه وقومه
[ 121 ]
ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) الانبياء: 53،
(قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) الشعراء: 74. ومن هنا يظهر أن قوله: (مودة بينكم) صالح لان يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل والمودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الاوثان، وأن يكون مفعولا له، والمودة غاية مقصودة من اتخاذ الاوثان، لكن ذيل الاية انما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر. ثم عقب ع بقوله: (انما اتخذتم) الخ، بقوله: (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) يبين لهم عاقبة اتخاذهم الاوثان للمودة وهو باطن هذه المودة المقصودة الذى سيظهر يوم تبلى السرائر فانهم توسلواالى هذا المتاع القليل بالشرك الذى هو أعظم الظلم وأكبر الكبائر الموبقة واجتمعوا عليه وتوافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم ويلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض وينكره بعضهم على بعض. والمراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم وتبريهم منهم، كما قال تعالى: سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) مريم: 82، وقال: (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) فاطر: 14، وفى معناه: تبرى المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى: (إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) البقرة: 166، والمراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: (كلما دخلت أمة لعنت أختها) الاعراف: 38. ثم عقب ذلك بقوله: (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) اشارة إلى لحوق الوبال ووقوع الجزاء وهو النار التى فيها الهلاك المؤبد ولا ناصر ينصرهم ويدفع عنهم العذاب فهم انما توسلوا إلى المودة ليتناصروا ويتعاونوا ويتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة ومضادة وأورثت تبريا وخذلانا. قوله تعالى: (فآمن له لوط وقال انى مهاجر إلى ربى انه هو العزيز الحكيم)
أي آمن به لوط والايمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء والمعنى واحد.
[ 122 ]
وقوله: (وقال انى مهاجر إلى ربى) قيل الضمير راجع إلى لوط، وقيل: راجع إلى ابراهيم ويؤيده قوله تعالى حكاية عن ابراهيم (وقال انى ذاهب إلى ربى سيهدين) الصافات: 99. وكان المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه وخروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون ولا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي. وقوله: (انه عزيز حكيم) أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه. قوله تعالى: (ووهبنا له اسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) معناه ظاهر. قوله تعالى: (وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين) الاجر هو الجزاء الذى يقابل العمل ويعود إلى عامله والفرق بينه وبين الاجرة أن الاجرة تختص بالجزاء الدنيوي والاجر يعم الدنيا والاخرة، والفرق بينه وبين الجزاء أن الاجر لا يقال الا في الخير والنافع، والجزاء يعم الخير والشر والنافع والضار. والغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الاجر في جزاء العمل العبودي الذى أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الاخرة من مقامات القرب ودرجات الولاية ومنها الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف ع: (انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين) يوسف: 90، وقوله: (وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) يوسف: 56 اطلاق الاجر على الجزاء الدنيوي الحسن. فقوله: (وآتيناه أجره في الدنيا) يمكن أن يكون المراد به ايتاء الاجر الدنيوي
الحسن والانسب على هذا أن يكون (في الدنيا) متعلقا بالاجر لا بالايتاء وربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه ع في موضع آخر: (وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين) النحل: 122، فان الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة وايتاؤها فعلية اعطائها دون تقديرها وكتابتها. ويمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الاخرة من مقامات
[ 123 ]
القرب في حقه ع وايتائه ذلك في الدنيا وقد تقدم احصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته ع في قصصه من تفسير سورة الانعام. وقوله: (وانه في الاخرة لمن الصالحين) تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين) البقره: 130 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه انكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) أي وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا إذ قال لقومه، وقوله: (انكم لتأتون الفاحشة) اخبار بداعي الاستعجاب والانكار، والمراد بالفاحشة اتيان الذكران. وقوله: (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) استئناف يوضح معنى الفاحشة ويؤكده، وكأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل (لتأتون). قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) إلى آخر الاية، استفهام من أمر من الحرى أن لا يصدقه سامع ولا يقبله ذو لب ولذا أكد بالنون واللام، وهذا السياق يشهد أن المراد باتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل اهمال طريق التناسل والغاؤها وهى اتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الاعراض عن النساء وترك نكاحهن، وباتيانهم المنكرفى ناديهم - والنادى هو المجلس الذى
يجتمعون فيه ولا يسمى ناديه الا إذا كان فيه أهله - الاتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة. وقيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فانهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضى بذلك وقيل: بل كانوا يقطعون الطرق، وقد عرفت أن السياق يقضى بخلاف ذلك. وقيل: المراد باتيان المنكر في النادى أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الاحجار على من مربهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط ونحو ذلك، وقد عرفت ما يقتضيه السياق.
[ 124 ]
وقوله: (فما كان جواب قومه الا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين) استهزاء وسخرية منهم، ويظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله وقد قال الله في قصته في موضع آخر: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر) القمر: 36. قوله تعالى: (قال رب انصرني على القوم المفسدين) سؤال للفتح ودعاء منه عليهم، وقد عدهم مفسدين لعملهم الذى يفسد الارض ويقطع النسل ويهدد الانسانية بالفناء. قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية ان أهلها كانوا ظالمين) اجمال قصة هلاك قوم لوط، وقد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أولا إلى ابراهيم ع فبشروه وبشروا امرأته باسحاق ويعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لاهلاك قوم لوط، والقصة مفصلة في سورة هود وغيرها. وقوله: (قالوا انا مهلكوا أهل هذه القرية) أي قالوا لابراهيم، وفى الاتيان بلفظ الاشارة القريبة - هذه القرية - دلالة على قربها من الارض التى كان ابراهيم ع نازلا بها، وهى الارض المقدسة.
وقوله: (ان أهلها كانوا ظالمين) تعليل لاهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم رذيلة الظلم، وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: انهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للاشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك وليس من مطلق الظلم الذى كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: ان أهلها بما أنهم أهلها ظالمون. قوله تعالى: (قال ان فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين) ظاهر السياق أنه ع كان يريد بقوله: (ان فيها لوطا) أن يصرف العذاب بأن فيهالوطا واهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب وهم أهله الا امرأته. لكنه ع لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا وهو نبى مرسل، وان شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته ولا أنه يخوفه ويزعره ويفزعه بقهره عليهم بل كان ع يريد بقوله: (ان فيها لوطا) أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فاجيب بأنهم مأمورون بانجائه واخراجه من بين أهل القرية ومعه أهله الا امرأته كانت من الغابرين.
[ 125 ]
والدليل على هذا الذى ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة: (فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ان ابراهيم لحليم أواه منيب، يا ابراهيم أعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وانهم آتيهم عذاب غير مردود) هود: 76، فالايات أظهر ما يكون في أن ابراهيم ع كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه. فظاهر كلامه ع في الاية التى نحن فيها الدفاع عن لوط وعلى ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره وأجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها وعالمون بأن فيها لوطا ومعه أهله ممن لا ينبغى أن يعذب لكنهم سينجونه وأهله الا
امرأته، لكن الذى أراده ابراهيم ع بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فاجيب بأنه من الامر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود. وللقوم في قوله: (ان أهلها كانوا ظالمين)، وقوله: (قال ان فيها لوطا) مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن) إلى آخر الاية، ضميرا الجمع في (سئ بهم وضاق بهم) للرسل والباء للسببية أي أخذته المساءة وهى سوء الحال بسببهم وضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم اياهم بالسوء وضعف لوط من أن يدفعهم عنهم وهم ضيف له نازلون بداره. وقوله: (وقالوا لا تخف ولا تحزن) أي لا خطر محتملا يهددك ولا مقطوعا يقع عليك فان الخوف انما هو في المكروه الممكن والحزن في المكروه الواقع. وقوله: (انا منجوك وأهلك الا امرأتك كانت من الغابرين) أي الباقين في العذاب تعليل لنفى الخوف والحزن. قوله تعالى: (انا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) بيان لما يشير إليه قوله: (انا منجوك وأهلك) من العذاب، والرجز العذاب. قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) ضمير التأنيث للقرية
[ 126 ]
والترك الابقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله وهى الاثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب. وهى اليوم مجهولة المحل لا أثر منها وربما يقال: ان الماء غمرها بعد وهى بحر لوط، لكن الاية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن وأوضح منها قوله تعالى: (وانها لبسبيل مقيم) الحجر: 76، وقوله: (وانكم
لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) الصافات: 138. قوله تعالى: (والى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا في الارض مفسدين) يدعوهم إلى عبادة الله وهو التوحيد والى رجاء اليوم الاخر وهو الاعتقاد بالمعاد وأن لا يفسدوا في الارض وكانت عمدة افسادهم فيها - على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر - نقص الميزان والمكيال. قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، والجثم والجثوم في المكان القعود فيه أو البروك على الارض وهو كناية عن الموت والمعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم. وقال في قصتهم في موضع آخر: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود: 94. ويستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة والرجفة. قوله تعالى: (وعادا وثمود قد تبين لكم من مساكنهم) إلى آخر الاية غير السياق تفننا فبدأ بذكر عاد وثمود وكذا في الاية التالية بدأ بذكر قارون وفرعون وهامان بخلاف قصص الامم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح وابراهيم ولوط وشعيب. وقوله: (وعادا وثمود) منصوبان بفعل مقدر تقديره واذكر عادا وثمود. وقوله: (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم وتأكيد تعلقهم بها وصده اياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التى هي سبيل الفطرة، ولذا قال بعضهم: ان المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.
[ 127 ]
لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: (كان الناس امة واحدة فبعث الله
النبيين) البقرة: 213 أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح ع وعاد وثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله ودين التوحيد وهو دين الفطرة. قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين) السبق استعارة كنائية من الغلبة، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (فكلا أخذنا بذنبه) إلى آخر الاية أي كل واحدة من الامم المذكورين أاخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) والحاصب الحجارة وقيل: الريح التى ترمى بالحصا وعلى الاول فهم قوم لوط، وعلى الثاني قوم عاد (ومنهم من أخذته الصيحة وهم قوم ثمود وقوم شعيب (ومنهم من خسفنا به الارض) وهو قارون (ومنهم من أغرقنا) وهم قوم نوح وفرعون وهامان وقومهما. ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة وما انتهى إليه أمر تلك الامم من الاخذ والعذاب فبين ببيان عام أن الذى أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لانفسهم فقال: (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي فيجازيهم الله على ظلمهم لان الدار دار الفتنة والامتحان وهى السنة الالهية التى لا معدل عنها فمن أهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضل فعليها. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن أبى عمرو الزبيري عن أبى عبد الله ع في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: (وقال انما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) يعنى يتبرأ بعضكم من بعض. الحديث. أقول: وروى هذا المعنى في التوحيد عن على ع في حديث طويل يجيب فيه
عما سئل عنه من تهافت الايات وفيه: والكفر في هذه الاية البراءة يقول: يتبرأ
[ 128 ]
بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة ابراهيم قول الشيطان: (انى كفرت بما أشركتمون من قبل) وقول ابراهيم خليل الرحمن: (كفرنا بكم (أي تبرأنا). وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي ص نهى عن الخذف (1) وهو قول الله: (وتأتون في ناديكم المنكر). أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن ام هاني بنت أبى طالب ولفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله ص عن قول الله: (وتأتون في ناديكم المنكر) قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل ويسخرون منهم. وفى الكافي باسناده عن أبى زيد الحماد عن أبى عبد الله ع في حديث نزول الملائكة على ابراهيم بالبشرى قال: فقال لهم ابراهيم: لماذا جئتم ؟ قالوا: في اهلاك قوم لوط. فقال لهم: ان كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم ؟ فقال جبرئيل: لا. قال: فان كان فيها خمسون ؟ قال: لا. قال: فان كان فيها ثلاثون ؟ قال لا. قال: فان كان فيها عشرون ؟ قال: لا. قال: فان كان فيها عشرة ؟ قال: لا. قال: فان كان فيها خمسة ؟ قال: لا. قال: فان كان فيهاواحد ؟ قال: لا. قال: فان فيها لوطا ؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين. قال الحسن بن على ع: لا أعلم هذا القول الا وهو يستبقيهم وهو قول الله عز وجل: (يجادلنا في قوم لوط). * * * مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون - 41. ان الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم - 42.
(1) الخذف بالحصاة والتواة الرمى بها من بين السبابتين. (*)
[ 129 ]
وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون - 43. خلق الله السماوات والارض بالحق ان في ذلك لاية للمؤمنين - 44. أتل ما أوحى اليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون - 45. ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتى هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذى أنزل الينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون - 46. وكذلك أنزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا الا الكافرون - 47. وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون - 48. بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتناالا الظالمون - 49. وقالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الايات عند الله وانما أنا نذير مبين - 50. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ان في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون - 51. قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والارض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون - 52. ويستعجلونك
[ 130 ]
بالعذاب ولو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب ولياتينهم بغتة وهم لا يشعرون - 53. يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة بالكافرين - 54. يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت
أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون - 55. (بيان) تتضمن الايات تذييلا لقصص اولئك الامم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادى ببطلانه وفساده خلق السماوات والارض وأنهم ليس لهم من دونه من ولى كما يذكره هذا الكتاب. ومن هنا ينتقل إلى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة هذا الكتاب الذى أوحى إليه واقامة الصلاة ودعوة أهل الكتاب بقول لين ومجادلة حسناء ويجيب عن اقتراح المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بآيات غير القرآن وأن يعجلهم بالعذاب الذى ينذرهم به. قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) إلى آخر الاية، العنكبوت معروف ويطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث. العناية في قوله: (مثل الذين اتخذوا) الخ، باتخاذ الاولياء من دون الله ولذا جئ بالموصول والصلة كما أن العناية في قوله: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) إلى اتخاذها البيت فيؤل المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، وهو الوصف الذى يدل عليه تنكير (بيتا). ويكون قوله: (ان أوهن البيوت لبيت العنكبوت) بيانا لصفة البيت الذى أخذته العنكبوت ولم يقل: ان أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة بمنزلة المثل السائر الذى لا يتغير. والمعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء وهم آلهتهم الذين يتولونهم ويركنون
[ 131 ]
إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت الا اسمه لا يدفع حرا ولا بردا ولا يكن شخصا ولا يقى من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم الا الاسم فقط لاينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الالهة من الاولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الالهة زعمهم أن لهم ولاية لامرهم وتدبيرا لشأنهم من جلب الخير إليهم ودفع الشر عنهم والشفاعة في حقهم. والاية - مضافا إلى ايفاء هذه النكتة - تشمل باطلاقها كل من اتخذ في أمر من الامور وشأن من الشؤن وليا من دون الله يركن إليه ويراه مستقلا في أثره الذى يرجوه منه وان لم يعد من الاصنام الا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول والائمة والمؤمنين كما قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون) يوسف: 106. وقوله: (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما اتخذوهم أولياء. كذا قيل. قوله تعالى: (ان الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم) يمكن أن يكون (ما) في (ما يدعون) موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و (من) في (من شئ) على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد وعلى الباقي للتبيين وأرجح الاحتمالات الاولان وأرجحهما أولهما. والمعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي أن الذى يعبدونه من الالهة لا حقيقه له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا. والمعنى: على الاول أن الله يعلم الشئ الذى يدعون من دونه ولا يجهل ذلك فيكون كناية عن أن المثل الذى ضربه في محله، وليس لاوليائهم من الولاية الا اسمها. ويؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الاية فهو تعالى العزيز الذى لا يغلبه شئ فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق والايجاد أحد، الحكيم الذى يأتي بالمتقن من الفعل والتدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى أحد، وهذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: (خلق الله السماوات والارض بالحق).
[ 132 ]
قوله تعالى: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) يشير إلى أن الامثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الاشراف على حقيقة معانيها ولب مقاصدها خاصة لاهل العلم ممن يعقل حقائق الامور ولا ينجمد على ظواهرها. والدليل على هذا المعنى قوله: (ولا يعقلها) دون أن يقول: وما يؤمن بها أو ما في معناه. فالامثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لاحظ له منها الا تلقى ألفاظها وتصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها وسبر لاغوارها، ومن سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة ويعقل حقائقها الانيقة. وفيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعرى ودعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية وحقيقة حقه ثابتة وهى التى تشير إليه الاية التالية. قوله تعالى: (خلق الله السماوات والارض بالحق ان في ذلك لاية للمؤمنين) المراد بكون خلق السماوات والارض بالحق نفى اللعب في خلقها، كما قال تعالى: (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) الدخان: 39. فخلق السماوات والارض على نظام ثابت لا يتغير وسنة الهية جارية لا تختلف ولا تتخلف، والخلق والتدبير لا يختلفان حقيقة ولا ينفك أحدهما عن الاخر (1)، واذ كان الخلق والصنع ينتهى إليه تعالى انتهاء ضروريا ولا محيص فالتدبير أيضا له ولا محيص وما من شئ غيره تعالى الا وهو مخلوقه القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا ولا
ضرا، ومن المحال قيامه بشئ من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا
(1) وذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون ومعناه تعقيب حادث بحادث آخر على نظم وترتيب يؤدى إلى غايات حقة وحقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق والايجاد باعتبار قياس الشئ إلى آخر مثله وانضمامه إليه فليس وراء الخلق والايجاد شئ منه. (*)
[ 133 ]
في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذى لا لعب فيه والجد الذى لا هزل فيه. فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب وتفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعبا منه تعالى وتقدس إذ ليس الا فرضا لا حقيقة له ووهما لا واقع له وهو معنى اللعب. ومنه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها الا اسم الولاية من غير مسمى كما أن بيت العنكبوت كذلك. وقوله: (ان في ذلك لاية للمؤمنين) تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الاية لهم ولغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم. قوله تعالى: (اتل ما أوحى اليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) الخ، لما ذكراجمال قصص الامم وما انتهى إليه شركهم وارتكابهم الفحشاء والمنكر من الشقاء اللازم والخسران الدائم انتقل من ذلك - مستأنفا للكلام - إلى أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك وارتكاب الفحشاء والمنكر بما فيه من الايات البينات التى تتضمن حججا نيرة على الحق وتشتمل على القصص والعبر والمواعظ والتبشير والانذار والوعد والوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه ومن سمعه. وشفعه بالامر باقامة الصلاة التى هي خير العمل وعلل ذلك بقوله: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) والسياق يشهد أن المراد بهذا النهى ردع طبيعة العمل عن
الفحشاء والمنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة. فلطبيعة هذاالتوجه العبادي - إذ أتى به العبد وهو يكرره كل يوم خمس مرات ويداوم عليه وخاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به ويهتم فيه بما اهتم به - أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الدينى كقتل النفس عدوانا وأكل مال اليتيم ظلما والزنا واللواط، وعن كل ما ينكره الطبع السليم والفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين والعمل. وذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الايمان بوحدانيته تعالى والرسالة وجزاء يوم الجزاء وأن يخاطب ربه باخلاص العبادة والاستعانة به وسؤال الهداية إلى صراطه
[ 134 ]
المستقيم متعوذا من غضبه ومن الضلال، ويحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه وبدنه إلى ساحة العظمة والكبرياء ويذكر ربه بحمده والثناء عليه وتسبيحه وتكبيره ثم السلام على نفسه وأترابه وجميع الصالحين من عباد الله. مضافا إلى حمله اياه على التطهر من الحدث والخبث في بدنه والطهارة في لباسه والتحرز عن الغصب في لباسه ومكانه واستقبال بيت ربه فالانسان لو داوم على صلاته مدة يسيرة واستعمل في اقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء والمنكر البتة، ولو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها لهذاالشأن وتتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة ولا روضك بأزيد مما تروضك به. وقد استشكل على الاية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالى ارتكاب الكبائر ولا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر. ولذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الاية بمعنى الدعاء والمراد الدعوة إلى أمر الله والمعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فان ذلك يردع الناس عن الفحشاء والمنكر. وفيه
أنه صرف الكلام عن ظاهره. وذكر آخرون أن الصلاة في الاية في معنى النكرة والمعنى أن بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وهو كذلك وليس المراد الاستغراق حتى يرد الاشكال. وذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء والمنكر ما دامت قائمة والمصلى في صلاته كأنه قيل: ان المصلى ما دام مصليا في شغل من معصية الله باتيان الفحشاء والمنكر. وقال بعضهم: ان الاية على ظاهرها والصلاة بمنزلة من ينهى ويقول: لا تفعل كذا ولا تقترف كذا لكن النهى لا يستوجب الانتهاء فليس نهى الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر) النحل 90، ونهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء وليس الاشكال الا مبنيا على توهم استلزام النهى للانتهاء وهو توهم باطل. وعن بعضهم في دفع الاشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: (أقم
[ 135 ]
الصلاة لذكرى) ومن كان ذاكر الله تعالى منعه ذلك عن الاتيان بما يكرهه وكل من تراه يصلى ويأتى بالفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد اتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره. وأنت خبير بأن شيئا من هذه الاجوبة لا يلائم سياق الحكم والتعليل في الاية فان الذى يعطيه السياق أن الامر باقامة الصلاة انما علل بقوله: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث اقامته صفة روحية في الانسان تكون رادعة له عن الفحشاء والمنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء والمنكر وتتطهر عن قذارة الذنوب والاثام. فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التى هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء
لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، ولا أنها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، ولا أن المراد هو التوسل إلى تلقى نهى الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، ولا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذى تشتمل عليه عن الفحشاء والمنكر كما في الجواب الخامس. فالحق في الجواب أن الردع أثرطبيعة الصلاة التى هي توجه خاص عبادي إلى الله سبحانه وهو بنحوا لاقتضاء دون الاستيجاب والعلية التامة فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التى تضعف الذكر وتقربه من الغفلة والانصراف عن حاق الذكر فكلما قوى الذكر وكمل الحضور والخشوع وتمحض الاخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء والمنكر وكلما ضعف ضعف الاثر. وأنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالاسلام من الناس وهو تارك الصلاة وجدته يضيع باضاعة الصلاة فريضة الصوم والحج والزكاة والخمس وعامة الواجبات الدينية ولا يفرق بين طاهر ونجس وحلال وحرام فيذهب لوجهه لا يلوى على شئ ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا عن كثير ممايقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمرالصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه وعلى هذا القياس.
[ 136 ]
وقوله: (ولذكر الله أكبر) قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ الا أن الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشئ القلب أو القول ولذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن ادامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. انتهى.
والظاهر أن الاصل في معناه هو المعنى الاول وتسمية اللفظ ذكرا انما هو لاشتماله على المعنى القلبى والذكر القلبى بالنسبة إلى اللفظى كالاثر المترتب على سببه والغاية المقصودة من الفعل. والصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الاذكار القولية من تهليل وتحميد وتنزيه وهى باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لانها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه كما قال: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله) الجمعة: 9، وهى باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذى الغاية يشير إليه قوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكرى) طه: 14. والذكر الذى هو غاية مترتبة على الصلاة أعنى الذكر القلبى بمعنى استحضار المذكور في ظرف الادراك بعد غيبته نسيانا أو ادامة استحضاره، أفضل عمل يتصور صدوره عن الانسان وأعلاه كعبا وأعظمه قدرا وأثرافانه السعادة الاخيرة التى هيئت للانسان ومفتاح كل خير. ثم ان الظاهر من سياق قوله: (وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) أن قوله: (ولذكر الله أكبر) متصل به مبين لاثر آخر للصلاة وهو أكبر مما بين قبله، فيقع قوله: (ولذكر الله أكبر) موقع الاضراب والترقى ويكون المراد الذكر القلبى الذى يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذى الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء والمنكر بل الذى تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهى عن الفحشاء والمنكر لانه أعظم ما يناله الانسان من الخير وهو مفتاح كل خير والنهى عن الفحشاء والمنكر بعض الخير. ومن المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة
[ 137 ]
والجملة أيضا واقعة موقع الاضراب، والمعنى: بل الذى تشتمل عليه الصلاة من ذكر
الله أو نفس الصلاة التى هي ذكر الله أكبر من هذا الاثر الذى هو النهى عن الفحشاء والمنكر لان النهى أثر من آثارها الحسنة و (ذكر الله) على الاحتمالين جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله والمفضل عليه لقوله: (أكبر) هو النهى عن الفحشاء والمنكر. ولهم في معنى الذكر وكون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر وكون المفضل عليه خاصا أو عاما أقوال أخر. فقيل: معنى الاية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى وذلك أن الله تعالى يذكر من ذكره لقوله: (فاذكروني أذ كركم) البقرة: 152، وقيل: المعنى: ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، وقيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شئ. وقيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، وقيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، وقيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات، وقيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة وردعها، وقيل: ان قوله: (أكبر) معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: (ما عند الله خير من اللهو). فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها ايثارا للاختصار، والتدبر في الاية يكفى مؤنة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى. وقوله: (والله يعلم ما تصنعون) أي ما تفعلونه من خير أو شرفعليكم أن تراقبوه ولا تغفلوا عنه ففيه حث وتحريض على المراقبة وخاصة على القول الاول. قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتى هي أحسن الا الذين ظلموا منهم) لما أمر في قوله: (اتل ما أوحى اليك) الخ، بالتبليغ والدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب وهم على ما يقتضيه الاطلاق اليهود والنصارى ويلحق بهم المجوس والصابئون - الا بالمجادلة - التى
هي أحسن المجادلة. والمجادلة انما تحسن إذا لم تتضمن اغلاظا وطعنا واهانة، فمن حسنها أن تقارن
[ 138 ]
رفقا ولينا في القول لا يتأذى به الخصم وأن يقترب المجادل من خصمه ويدنو منه حتى يتفقا ويتعاضدا لاظهار الحق من غير لجاج وعناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام والاقتراب بوجه زادت حسناعلى حسن فكانت أحسن. ولهذا لما نهى عن مجادلتهم الا بالتى هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم، فان المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق واللين والاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة وهوان للمجادل ويعتبره تمويها واحتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالاحسن. ولهذاأيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم وبناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه ويتعاضدان على ظهور الحق فقال: (وقولوا آمنا بالذى أنزل الينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون) والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا الا الكافرون) أي على تلك الصفة وهى الاسلام لله وتصديق كتبه ورسله أنزلنا اليك القرآن. وقيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى وعيسى الكتاب أنزلنا اليك الكتاب وهو القرآن. فقوله: (فالذين آتيناهم الكتاب) الخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الاسلام لله وتصديق كتبه ورسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الايمان بالله وتصديق كتبه ورسله، ومن هؤلاء وهم المشركون من عبدة الاوثان من يؤمن به وما يجحد بآياتنا ولا ينكرها من أهل الكتاب وهؤلاء
المشركين الا الكافرون وهم الساترون للحق بالباطل. وقد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين والمشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب وهو بعيد، ومثله في البعد ارجاع الضمير في (يؤمن به) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى قوله: (ومن هؤلاء من يؤمن به) نوع استقلال لمن آمن به من المشركين. قوله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط، والمراد به
[ 139 ]
في الاية الثاني بقرينة المقام، والخط الكتابة، والمبطلون جمع مبطل وهو الذى يأتي بالباطل من القول، ويقال أيضا للذى يبطل الحق أي يدعى بطلانه، والانسب في الاية المعنى الثاني وان جاز أن يراد المعنى الاول. وظاهر التعبير في قوله: (وما كنت تتلو) الخ، نفى العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو وتخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) يونس: 16. وقيل المراد به نفى القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو وتخط من قبله والوجه الاول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة وقد أقامها لتثبيت حقية القرآن ونزوله من عنده. وتقييد قوله: (ولا تخطه) بقوله: (بيمينك) نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعينى وسمعته باذنى. والمعنى: وما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا ولا كان من عادتك أن تخط كتابا وتكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة والكتابة لكونك أميا - ولو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة والكتابة واستمرت على ذلك وعرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم ومعاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل اليك أنه كلام الله تعالى
وليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين ونقلته من أقاصيصهم وغيرهم حتى يرتاب المبطلون ويعتذروا به. قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون) اضراب عن مقدر يستفاد من الاية السابقة كأنه لما نفى عنه صلى الله عليه وآله وسلم التلاوة والخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: (بل هو - أي القرآن - آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم). وقوله: (وما يجحد بآياتنا الا الظالمون) المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لايات الله بتكذيبها والاستكبار عن قبولها عنادا وتعنتا. قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل انما الايات عند الله وانما أنانذير مبين) لما ذكر الكتاب وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلوه ويدعوهم إليه به وأن منهم
[ 140 ]
من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وهم الكافرون الظالمون أشار في هذه الاية والايتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذى هو آية النبوة واقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بآيات غيره والجواب عنه. فقوله: (وقالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه) اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية وزعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة الهية غيبية يقوى على كل ما يريد، وفى قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: (يا أيها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة ان كنت من الصادقين) الحجر: 7. وقوله: (قل انما الايات عند الله) جواب عن زعمهم أن من يدعى الرسالة يدعى قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الايات عند الله ينزلها متى ما أراد وكيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شئ الا أن يشاء الله ثم زاده بيانا
بقصر شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الانذار فحسب بقوله: (انما أنا نذير مبين). قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) إلى آخر الاية توطئة وتمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، والاستفهام للانكار والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذى أنزلناه عليك وهو يتلى عليهم فيسمعونه ويعرفون مكانته من الاعجاز وهو مملو رحمة وتذكرة للمؤمنين. قوله تعالى: (قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا) القاء جواب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليجيبهم به وهو أن الله سبحانه شهيد بينى وبينكم فيما نتخاصم فيه وهو أمر الرسالة فانه سبحانه يشهد في كلامه الذى أنزله على برسالتى وهو تعالى يعلم ما في السماوات والارض من غير أن يجهل شيئا وكفى بشهادته لى دليلا على دعواى. وليس لهم أن يقولوا انه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال الايات ومنه يعلم أن قوله: (قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم) ليس دعوى مجردة أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالى وحجة قاطعة على ما عرفت. وقوله: (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله اولئك هم الخاسرون) قصر الخسران فيهم لعدم ايمانهم بالله بالكفر بكتابه الذى فيه شهادته على الرسالة وهم بكفرهم بالله
[ 141 ]
الحق يؤمنون بالباطل ولذلك خسروا في ايمانهم. قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) اشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين، وقد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) هود: 8. والمراد بالاجل المسمى هو الذى قضاه لبنى آدم حين أهبط آدم إلى الارض فقال: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36، وقال: (ولكل أمة أجل
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الاعراف: 34. وهذا العذاب الذى يحول بينه وبينهم الاجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) الكهف: 58، ولا ينافى ذلك تعجيل العذاب بنزول الايات المقترحة على الرسول من غير امهال وانظار، قال تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون) أسرى: 59. قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم العذاب) إلى آخر الاية، تكرار (يستعجلونك) للدلالة على كمال جهلهم وفساد فهمهم وأن استعجالهم استعجال لامر مؤجل لا معجل أولا واستعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لانهم مجزيون بأعمالهم التى لا تفارقهم ثانيا. والغشاوة والغشاية التغطية بنحو الاحاطة، وقوله: (يوم يغشاهم) ظرف لقوله: (محيطة) والباقى ظاهر. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (وما يعقلها الا العالمون) روى الواحدى بالاسناد عن جابر قال: تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية وقال: العالم الذى يعقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.
[ 142 ]
وفيه في قوله تعالى: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعدا. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عمران بن الحصين وابن مسعود وابن عباس وابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ورواه القمى في تفسيره مضمرا مرسلا. وفيه وأيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لم تطع الصلاة وطاعة الصلاة أن تنتهى
عن الفحشاء والمنكر. أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مسعود وغيره. وفيه وروى أنس أن فتى من الانصار كان يصلى الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان صلاته تنهاه يوما ما. وفيه روى أصحابنا عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (ولذكر الله أكبر) في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (ولذكر الله أكبر) يقول: ذكر الله لاهل الصلاة أكبر من ذكرهم اياه، ألا ترى أنه يقول: (اذكروني أذكركم). أقول: وهذا أحد المعاني التى تقدم نقلها. وفى نور الثقلين عن مجمع البيان وروى أصحابنا عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ذكر الله عند ما أحل وحرم. وفيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الاعمال أحب إلى الله ؟ قال: أن تمو ت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل. وفيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا معا ان السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز وجل ومن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز وجل. وفى الكافي باسناده عن العبدى عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) قال: هم الائمة. أقول: وهذا المعنى مروى في الكافي وفى بصائر الدرجات بعدة طرق: وهو من الجرى بمعنى انطباق الاية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الاتية.
[ 143 ]
وفى البصائر باسناده عن بريد بن معاوية عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له:
(بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا ؟ وفى الدر المنثور أخرج الاسماعيلي في معجمه وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبى هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان أحمق الحمق وأضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبى غير نبيهم والى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) الاية. وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن أبى مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها وقالت: يتتبع الكتب وقد قال الله: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) فقيل لها: انه عبد الله بن عامر فقبلها. أقول: ظاهر الروايتين وخاصة الاولى نزول الاية في بعض الصحابة وسياق الايات يأبى ذلك. * * * يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة فاياى فاعبدون - 56. كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون - 57. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نعم أجر العاملين - 58. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون - 59. وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم - 60.
[ 144 ]
(بيان) لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف
الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة وكانوا يهددونهم بالفتنة والعذاب فأمرهم أن يصبروا ويتو كلوا على ربهم وأن يهاجروا منها ان أشكل عليهم أمر الدين واقامة فرائضه، وأن لا يخافوا أمر الرزق فان الرزق على الله سبحانه وهو يرزقهم ان ارتحلوا وهاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم. قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة فاياى فاعبدون) توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق والاستنان بسنته ويدل على ذلك ذيل الاية. وقوله: (ان أرضى واسعة) الذى يظهرمن السياق أن المراد بالارض هذه الارض التى نعيش عليها واضافتها الى ضمير التكلم للاشارة إلى أن جميع الارض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، ووسعة الارض كناية عن أنه ان امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق والعمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال. وقوله: (فاياى فاعبدون) الفاء الاولى للتفريع على سعة الارض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي والفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام والظاهر أن تقديم (اياى) لافادة الحصر فيكون قصر قلب والمعنى: لا تعبدوا غيرى بل اعبدوني، وقوله: (فاعبدون) قائم مقام الجزاء. ومحصل المعنى: أن أرضى واسعة ان امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي اخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا غيرى فان لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها واعبدوني وحدي فيها. قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون) الاية تأكيد للامر السابق في قوله: (فاياى فاعبدون) وكالتوطئة لقوله الاتى: (الذين صبروا) الخ. وقوله: (كل نفس ذائقة الموت) من الاستعارة بالكناية والمراد أن كل نفس
[ 145 ]
ستموت لا محالة، والالتفات في قوله: (ثم الينا ترجعون) من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. ومحصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست الا أياما قلائل والموت وراءه ثم الرجوع الينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا - وهى زينة فانية - عن التهيئ للقاء الله بالايمان والعمل ففيه السعادة الباقية وفى الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد. قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) الخ، بيان لاجر الايمان والعمل الصالح بعد الموت والرجوع إلى الله وفيه حث وترغيب للمؤمنين على الصبر في الله والتوكل على الله، والتبوئة الانزال على وجه الاقامة، والغرف جمع غرفة وهى في الدار، العلية العالية. وقد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال: (ونعم أجر العاملين) ثم فسر العاملين بقوله: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) فعاد بذلك الصبر والتوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن انما يرضى عن ايمانه إذا صبر في الله وتوكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى وجفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه اقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج وليهاجر إلى أرض غيرها وليصبر على ما يصيبه من التعب والعناء في الله. قوله تعالى: (الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وصف للعاملين، والصبر أعم من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على المعصية، وان كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة. قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم) كأين للتكثير، وحمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الانسان والنمل والفار والنحل من سائر الحيوان.
وفى الاية تطييب لنفس المؤمنين وتقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا ولا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: وكثير من
[ 146 ]
الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله ويرزقكم معاشر الادميين الذين يدخرون الارزاق وهو السميع العليم. وفى تذييل الاية بالاسمين الكريمين السميع العليم اشارة إلى الحجة على مضمونها وهو أن الانسان وسائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه والله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه ومقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم. (بحث روائي) في تفسير القمى وفى رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا ان أرضى واسعة) يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فان خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فان أرضى واسعة، وهو يقول: (فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض) فقال: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). وفى المجمع: وقال أبو عبد الله عليه السلام معناه إذا عصى الله في أرض أنت بها فاخرج منها الى غيرها. وفى العيون باسناده إلى الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما نزلت (انك ميت وانهم ميتون) قلت: يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الانبياء ؟ فنزلت (كل نفس ذائقة الموت). اقول: ورواه أيضا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن على، ولا يخلو متنه عن شئ فان قوله: (انك ميت وانهم ميتون) يخبر عن موته صلى الله عليه وآله وسلم وموت سائر الناس، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن الانبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أيموت الخلائق كلهم ويبقى الانبياء.
وفى الجمع عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخلنا بعض حيطان الانصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال لى: يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولو شئت لدعوت ربى فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر
[ 147 ]
إذا بقيت مع قوم يخبؤن رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم). اقول: وقد روى الرواية في الدر المنثور وضعف سندها وهى مع ذلك لا تلائم وقوع الاية في سياق ما تقدمها. * * * ولئن سئلتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون - 61. ألله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ان الله بكل شئ عليم - 62. ولئن سئلتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون - 63. وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون - 64. فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون - 65. ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون - 66. أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبا لباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون - 67. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين - 68. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان
الله لمع المحسنين - 69.
[ 148 ]
(بيان) الايات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع وان كان في اللفظ خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم لان الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع. والايات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقى في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فانهم يعترفون أن خالق السماوات والارض ومدبر الشمس والقمر - وعليهما مدار الارزاق - هو الله وأن منزل الماء من السماء ومحيى الارض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم وهم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره ويقيمون في حرم آمن وهو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل ويجحدون الحق ويكفرون بنعمة الله. وما ختمت به السورة من قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) يلائم ما في مفتتح السورة (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - إلى أن قال - ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه) الخ. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون). خلق السماوات والارض من الايجاد وتسخير الشمس والقمر - وذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع والغروب والقرب والبعد من الارض - من التدبير الذى يتفرع عليه كينونة أرزاق الانسان وسائر الحيوان وهذا الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الاخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالاخر. وإذا كان الله هو الخالق وبيده تدبير السماوات ويتبعه تدبير الارض وكينونة الارزاق كان هو الذى يجب أن يدعى للرزق وسائر التدبير فمن العجب حينئذ أن
يصرف عنه الانسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا وهو قوله: (فأنى يصرفون) أي فإذا كان الخلق وتدبير الشمس والقمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الاصنام وعبادته. قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ان الله بكل شئ
[ 149 ]
عليم) في الاية تصريح بما تلوح إليه الاية السابقة، والقدر التضييق ويقابله البسط والمراد به لازم معناه وهو التوسعة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (ان الله بكل شئ عليم) للدلالة على تعليل الحكم، والمعنى: وهو بكل شئ عليم لانه الله. والمعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء - ولا يشاء الا على طبق المصلحة - لانه بكل شئ عليم لانه الله الذى هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها - إلى قوله - لا يعقلون) المراد باحياء الارض بعد موتها انبات النبات في الربيع. وقوله: (قل الحمد لله) أي أحمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لامر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الاصنام وأرباب الاصنام. وقوله: (بل أكثرهم لا يعقلون) أي لا يتدبرون الايات ولا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله ويميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل. قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) اللهو ما يلهيك ويشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لانها تلهى الانسان وتشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية. واللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان والحياة الدنيا لعب لانها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه ويتولعون
به ساعة ثم يتفرقون وسرعان ما يتفرقون. على أن عامة المقاصد التى يتنافس فيها المتنافسون ويتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالاموال والازواج والبنين وأنواع التقدم والتصدر والرئاسة والمولوية والخدم والانصار وغيرها فالانسان لا يملك شيئا منها الا في ظرف الوهم والخيال. وأما الحياة الاخرة التى يعيش فيها الانسان بكماله الواقعي الذى اكتسبه بايمانه وعمله الصالح فهى المهمة التى لا لهو في الاشتغال بها والجد الذى لالعب فيها ولا لغو ولا تأثيم، والبقاء الذى لا فناء معه، واللذة التى لا ألم عندها، والسعادة التى لا شقاء دونها، فهى الحياة بحقيقة معنى الكلمة.
[ 150 ]
وهذا معنى قوله سبحانه: (وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الاخرة لهى الحيوان). وفى الاية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللهو واللعب والاشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير وقصر الحياة الاخرة في الحيوان وهوالحياة وتأكيده بأدوات التأكيد كان واللام وضمير الفصل والجملة الاسمية. وقوله: (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الامر كما وصفنا. قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) تفريع على ما تحصل من الايات السابقة من شأنهم وهو أنهم يؤفكون وأن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون ويصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وأكثرهم لا يعقلون ويناقضون أنفسهم بالاعتراف والجحد فإذا ركبوا (الخ). والركوب الاستعلاء بالجلوس على الشئ المتحرك وهو متعد بنفسه وتعديته في الاية بفى لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، والمعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، ومعنى الاية ظاهر وهى تحكى عنهم تناقضا آخر
وكفرانا للنعمة. قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) اللام في (ليكفروا) و (ليتمتعوا) لام الامر وأمر الامر بما لا يرتضيه تهديد وانذار كقولك لمن تهدده: (افعل ما شئت)، قال تعالى: (اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير) حم السجدة: 40. واحتمل كون اللام للغاية، والمعنى: أنهم يأتون بهذه الاعمال لتنتهي بهم الى كفران النعمة التى آتيناهم والى التمتع، وأول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الاية: (فسوف يعلمون)، ويؤيده قوله في موضع آخر: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) الروم: 34، ولذا قرأه من قرأ (وليتمتعوا) بسكون اللام إذ لا يسكن غيرلام الامر. قوله تعالى: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) الحرم الامن هو مكة وما حولها وقد جعله الله مأمنا بدعاء ابراهيم عليه السلام والتخطف
[ 151 ]
كالخطف استلاب الشئ بسرعة واختلاسه وقد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور والتناهب ولا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل والسبي والنهب لكنهم يحترمون الحرم ولا يتعرضون لمن أقام بها فيها. والمعنى: أو لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبى أو نهب والحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم. وقوله: (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة وهى نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالاصنام وهى باطلة ليس لها الا الاسم. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس
في جهنم مثوى للكافرين) تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم وأعظمه وهو افتراء الكذب على الله بالقول بالالهة وأن الله اتخذهم شركاء لنفسه، وتكذيب الانسان بالحق لما جاءه والوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الاصنام وكذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون ومثوى الكافرين ومحل اقامتهم في الاخرة جهنم. قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) الجهد الوسع والطاقة والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس كذا ذكره الراغب. وقوله: (جاهدوا فينا) أي استقر جهادهم فينا وهو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد وعمل، فلا ينصرف عن الايمان به والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه. وقوله: (لنهدينهم سبلنا) أثبت لنفسه سبلا وهى أياما كانت تنتهى إليه تعالى فانما السبيل سبيل لتأديته إلى ذى السبيل وهو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه والهادية إليه تعالى، واذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) محمد: 17. ومما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: (فينا) إلى تقدير مضاف كشأن والتقدير في شأننا.
[ 152 ]
وقوله: (وان الله لمع المحسنين) قيل: أي معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج اليهما قرينة قوية على ارادة ذلك. انتهى. وهو وجه حسن وأحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة والعناية فيشمل معية النصرة والمعونة وغيرهما من أقسام العنايات التى له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم وشمول رحمته لهم، وهذه المعية أخص من معية الوجود الذى ينبئ عنه قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4.
وقد تقدمت الاشارة إلى أن الاية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبى جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور. وفيه أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك الا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) الاية. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام قال: هذه الاية لا محمد عليهم السلام ولاشياعهم.
[ 153 ]
(سورة الروم مكية، وهى ستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الم - 1. غلبت الروم - 2. في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون - 3. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون - 4. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم - 5. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 6. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون - 7. أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون - 8.
أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 9. ثم كان عاقبة الذين أساؤا السو آى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن - 10. الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون - 11. ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون - 12.
[ 154 ]
ولم يكن لهم من شركائهم شفعؤا وكانوا بشركائهم كافرين - 13. ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - 14. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون - 15. وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الاخرة فأولئك في العذاب محضرون - 16. فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون - 17. وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون - 18. يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحيى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون - 19. (بيان) تفتتح السورة بوعد من الله وهو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر وهو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله وتقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكرآيات الربوبية وتصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتؤكد القول فيه إذ تقول: (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) وقد قيل قبيل ذلك: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين).
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصره دينه وقد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بانجاز هذا الوعد على انجاز ذلك الوعد، وكذا يحتج به ومن طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.
[ 155 ]
قوله تعالى: (غلبت الروم في أدنى الارض) الروم جيل من الناس على ساحل البحر الابيض بالمغرب كانت لهم امبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم وبين الفرس حرب عوان في بعض نواحى الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس وانهزمت الروم، والظاهر أن المراد بالارض أرض الحجاز واللام للعهد. قوله تعالى: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) ضمير الجمع الاول للروم وكذا الثالث وأما الثاني فقد قيل انه للفرس والمعنى: والروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، ويمكن أن يكون الغلب من المصدر المبنى للمفعول والضمير للروم كالضميرين قبلها وبعدها فلا تختلف الضمائر والمعنى: والروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. والبضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة. قوله تعالى: (لله الامر من قبل ومن بعد) قبل وبعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر والتقدير لله الامر من قبل أن غلبت الروم ومن بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقيل: المعنى لله الامر من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين ووقت كونهم غالبين والمعنى الاول أرحج ان لم يكن راجحا متعينا. قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) الظرف متعلق بيفرح وكذا قوله (ينصر) والمعنى: ويوم إذ يعلب الروم يفرح المؤمنون
بنصر الله الروم، ثم استأنف وقال: (ينصر من يشاء) تقريرا لقوله: (لله الامر من قبل ومن بعد). وقوله: وهو العزيز الرحيم) أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء. وفى الاية وجوه أخر ضعيفة ذكروها: منها: أن قوله: (ويومئذ) عطف على قوله: (من قبل) والمراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الازمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال كأنه قيل: لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ ثم ابتدأ وقيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. وفيه أنه يبطل
[ 156 ]
انسجام الاية وينقطع به آخرها عن أولها. ومنها: أن قوله: (بنصر) متعلق بقوله: (المؤمنون دون (يفرح) ويدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله. وفيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس ويوم غلبة الروم جميعا فان في الغلبة نصرا وكل نصر من الله قال تعالى: (وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم) آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه. ومنها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصرالروم على الفرس وان توافق النصران زمانا فكأنه قيل: ان الروم سيغلبون في بضع سنين ويوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله اياهم. وفيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: (ينصر من يشاء). ومنها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق اخبارهم بغلبة الروم، وقيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض وتفرق كلمتهم وانكسار شوكتهم. وهذان وما يشبههما وجوه لا يعبؤ بها.
قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (وعد الله) مفعول مطلق محذوف العامل والتقدير وعد الله وعدا واخلاف الوعد خلاف انجازه وقوله: (وعد الله) تأكيد وتقرير للوعد السابق في قوله: (سيغلبون) و (يفرح المؤمنون) كما أن قوله: (لا يخلف الله وعده) تأكيد وتقرير لقوله: (وعد الله). وقوله: (لا يخلف الله وعده) كقوله: (ان الله لا يخلف الميعاد) الرعد: 31 وخلف الوعد وان لم يكن قبيحا بالذات لانه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال. على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه تعالى. على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد وهو أصدق الصادقين وهو القائل عز من قائل: (والحق أقول) صلى الله عليه وآله وسلم: 84. وقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي هم جهلاء بشؤونه تعالى لا يثقون بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف.
[ 157 ]
قوله تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) جملة (يعلمون) على ما ذكره في الكشاف بدل من قوله: (لا يعلمون) وفى هذا الابدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذى هو الجهل وبين وجود العلم الذى لا يتجاوز الدنيا انتهى. وقيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق وأن لله الامر من قبل ومن بعد وأنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى وهذا أظهر. وتنكير (ظاهرا) للتحقير وظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها وهو الذى يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها والعكوف عليها والاخلاد إليها ونسيان ما وراءها من الحياة الاخرة والمعارف المتعلقة بها والغفلة عما فيه خيرهم ونفعهم
بحقيقة معنى الكلمة. وقيل: الظهور في الاية بمعنى الزوال واستشهد بقوله: وعيرها الواشون أنى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. والمعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال. قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى) الخ المراد من خلق السماوات والارض وما بينهما - وذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد ويعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض وغاية فهو تعالى انما خلقها لغاية تترتب عليها. ثم ان العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الاخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق وكل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم وهذا المعنى هو المراد بتقييد قوله: (ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما) بقوله: (وأجل مسمى) بعد تقييده بقوله: (الا بالحق). فقوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) الاستفهام للتعجيب، وكونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال وحضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بامور الدنيا وسعيهم للمعيشة وتشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين
[ 158 ]
في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الواقع. وقيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم وأن الواحد منهم محدث والمحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حى قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة وليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل
إلى الخلق وهو الثواب ولا يكون الا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السئ فلا بد من دار يمتحنون فيها وهى الدنيا ودار يثابون فيها وهى الاخرة. وفيه أن الجملة أعنى قوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) صالح في نفسه لان يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: (ما خلق الله السماوات) الخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الاية وذيلها على هذا التقدير. وقوله: (ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى) هو الفكر الذى يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم وتقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا ولا بعضا الا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له ولا إلى أجل معين فلا يبقى شئ منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى وينقطع وإذا كان كل من أجزائه والمجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها وليس شئ منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده وفنائه، وهذا هو الاخرة التى ستظهر بعد انقضاء الدنيا وفنائها. وقوله: (وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون) مسوق سوق التعجيب كما بدأت الاية باستفهام التعجيب، والمراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، وقد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا إليه، ولذلك أكده بان اشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به. قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) إلى آخر الاية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد وذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الامم الكافرة وما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. واثارة الارض قلبها ظهر البطن للحرث والتعمير ونحو ذلك.
[ 159 ]
وقوله: (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي بالكفر والمعاصي. قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين ولذا عبر بثم، و (عاقبة) بالنصب خبر كان واسمه (السوآى) قدم الخبر عليه لافادة الحصر و (أساؤا) مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، والسوآى الخلة التى يسوء صاحبها والمراد بها سوء العذاب و (أن كذبوا بآيات الله) بحذف لام التعليل والتقدير لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها. والمعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذى انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها. وقيل: ان (السوآى) مفعول لقوله: (أساؤا) وخبر كان هو قوله: (أن كذبوا) الخ، والمراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله والاستهزاء بها. وفيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الاول لان المقام مقام الاعتبار والانذار والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذى هو أعظمها. قوله تعالى: (الله يبدا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) بعد ما ذكر الحجة وتكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها وهو أن البدء والعود بيده سبحانه وسيرجع إليه الجميع، والمراد بالخلق المخلوقون، ولذا أرجع إليه ضمير الجمع في (ترجعون). قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة وهى ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب والجزاء، والابلاس اليأس من الله وفيه كل الشقاء. قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم
شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين. قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون) قال
[ 160 ]
في المجمع: الروضة البستان المتناهى منظرا وطيبا. انتهى. وقال في المفردات: الحبر الاثر المستحسن - إلى أن قال - وقوله عز وجل: (في روضة يحبرون) أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى. والمراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين ودخول هؤلاء النار ودخول اولئك الجنة على ما يشير إليه الايتان التاليتان. ولزوم هذا التميز والتفرق في الوجود هو الذى أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: 21. قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون) لما ذكر أنه يبدء الخلق ثم يعيدهم ويرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة والنعمة وأهل النار والعذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات وأما أهل النار فهم الكفار المكذبون لايات الله وقد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة ونعمة لكنهم نسواالاخرة وكذبوا بآيات الله واستهزؤا بها حتى انتهى بهم الامر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا الهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون وأن للانسان على توالى الازمنة والدهور آثاما وخطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه واتخاذ شركاء له وانكار لقائه إلى سائر المعاصي.
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين وتحميده على صنعه وتدبيره في السماوات والارض وهو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة والاعمال الردية ومحمود في جميع ما خلقه ودبره في السماوات والارض. ومن هناك يظهر: أولا: أن التسبيح والتحميد في الايتين انشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه كقوله: (سبحان ربك رب العزة) الصافات: 180 وقوله: (الحمد لله الذى نزل الفرقان على عبده) الفرقان: 1.
[ 161 ]
وثانيا: أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. والمعنى: قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله. وثالثا: أن قوله: (وله الحمد في السماوات والارض) معترضة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، وقوله: (وعشيا وحين تظهرون) معطوفان على محل (حين تمسون) لا على قوله: (في السماوات والارض) حتى يختص المساء والصباح بالتسبيح والسماوات والارض والعشي والظهيرة بالتحميد بل الاوقات وما فيها للتسبيح والامكنة وما فيها للتحميد. فالسياق يشير الى أن ما في السماوات والارض من خلق وأمر هو لله يستدعى بحسنه حمدا وثناء لله سبحانه وأن للانسان على مر الدهور وتغير الازمنة والاوقات من الشرك والمعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى وتقدس. نعم ههنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد والتسبيح وهو أن الازمنة والاوقات على تغيرها وتصرمها من جملة ما في السماوات والارض فهى بوجودها يثنى على الله
تعالى، ثم كل ما في السماوات والارض بفقرها إليه تعالى وذلتها دونه ونقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44، لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الايتين اللتين نحن فيهما. وللمفسرين في الايتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التى قدمناها. وتغيير السياق في قوله: (وعشيا) لكون العشى لم يبن منه فعل من باب الافعال بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بنى منها الامساء والاصباح والاظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة كذا قيل. والخطاب الذى في الايتين في قوله: (تمسون وتصبحون وتظهرون) ليس من الالتفات في شئ بل تعميم للخطاب الذى للنبى صلى الله عليه وآله وسلم منذ شرعت السورة، والمعنى:
[ 162 ]
فإذا كان الامر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء وحينما دخلتم في صباح وفى العشى وحينما دخلتم في ظهيرة وله الثناء الجميل في السماوات والارض. ونظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: (إليه ترجعون) ولاحقا في قوله: (وكذلك تخرجون). قوله تعالى: (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحيى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون) ظاهر اخراج الحى من الميت وبالعكس خلق ذوى الحياة من الارض الميتة ثم تبديل ذوى الحياة أرضا ميتة، وقد فسر بخلق المؤمن من الكافر وخلق الكافر من المؤمن فانه يعد المؤمن حيا والكافر ميتا، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) الانعام: 122. وأما احياء الارض بعد موتها فهو انتعاش الارض وابتهاجها بالنبات في الربيع
والصيف بعد خمودها في الخريف والشتاء، وقوله: (وكذلك تخرجون) أي تبعثون وتخرجون من قبوركم باحياء جديد كاحياء الارض بعد موتها، وقد تقدم تفسير نظير صدر الاية وذيلها مرارا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء عن ابن عباس في قوله: (الم غلبت الروم) قال: غلبت وغلبت. قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لانهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لانهم أصحاب كتاب، فذكروه لابي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما انهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا وكذا وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا جعلته - أراد - قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: الم غلبت الروم فغلبت ثم غلبت بعد.
[ 163 ]
يقول الله: (لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر. اقول: وفى هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففى بعضها أن المقامرة كانت بين أبى بكر وأبى بن خلف وفى بعضها أنها كانت بين المسلمين والمشركين وكان أبو بكر من قبل المسلمين وأبى من قبل المشركين، وفى بعضها أنها كانت بين الطائفتين، وفى بعضها بين أبى بكر وبين المشركين كما في هذه الرواية. ثم الاجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، وفى بعضها خمس، وفى بعضها ست،
وفى بعضها سبع سنين. وفى بعضها أن الاجل المضروب أولا انقضى بمكة وهو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغلبت الروم، وفى بعضها خلافه. ثم في بعضها أن الاجل الثاني انقضى بمكة وفى بعضها أنه انقضى بعد الهجرة وكانت غلبة الروم يوم بدر، وفى بعضها يوم الحديبية. وفى بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر وهو مائة قلوص وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انه سحت تصدق به. والذى تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم وكان القمار باشارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فانه حرم مع الخمر في سورة المائدة وقد نزلت في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر والميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة وكان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر والزنا. على ان الخمر والميسر من الاثم بنص آية البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير) الاية البقرة: 219. والاثم محرم بنص آية الاعراف: (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى) الاية الاعراف: 33، والاعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمقامرة. وعلى تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر لما أتى بالخطر إليه انه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شئ من ذلك
[ 164 ]
بالموازين الفقهية وقد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد الا اشكالا. ثم ان ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الاوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فانهم وان كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.
وفى تفسير القمى في قوله: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) قال: يرون حاضر الدنيا ويتغافلون عن الاخرة. وفى الخصال وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: (أو لم يسيروا في الارض) فقال: أو لم ينظروا في القرآن. وفى تفسير القمى وقوله عز وجل: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال: إلى الجنة والنار. * * * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون - 20. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون - 21. ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لايات للعالمين - 22. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ان في ذلك لايات لقوم يسمعون - 23. ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى به الارض بعد موتها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون - 24. ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا
[ 165 ]
أنتم تخرجون - 25. وله من في السماوات والارض كل له قانتون - 26. (بيان) يذكر في هذا الفصل عدة من الايات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية، ويشار فيها إلى امتزاج الخلق والتدبير وتداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية
بمعنى ملك التدبير والالوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما الا الله الذى خلق الاشياء وأوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده والتدبير والعبادة لارباب الاصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، وليس له سبحانه الا أنه رب الارباب واله الالهة. قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الانسان إلى الارض فان مراتب تكون الانسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهى إلى العناصر الارضية. وقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم اناسي تنتشرون في الارض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوى حياة وشعور عقلي ينتشرون في الارض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) في معنى قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر) المؤمنون: 14. فخلق الانسان أي جمع أجزائه من الارض وتأليفها آية وكينونة هذا المجموع انسانا ذا حياة وشعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حى عليم يدبر الامر ويجرى هذا النظام العجيب. وقد ظهر بهذا المعنى أن (ثم) للتراخي الرتبى والجملة معطوفة على قوله: (خلقكم) لا على قوله: (أن خلقكم). قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)
[ 166 ]
إلى آخر الاية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج ولكل قرينين فيها وفى غيرها: زوج، قال تعالى: (وجعل منه الزوجين الذكر والانثى) وقال: (وزوجك الجنة) وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات - إلى أن قال - وجمع الزوج أزواج. انتهى.
فقوله: (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) أي خلق لاجلكم - أو لينفعكم - من جنسكم قرائن وذلك أن كل واحد من الرجل والمرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الاخر ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الاخر ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الاخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لان كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره وهذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين. وقوله: (وجعل بينكم مودة ورحمة) المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذى هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء. والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى انجائه من الحرمان ورفع نقصه. ومن أجل موارد المودة والرحمة المجتمع المنزلى فان الزوجين يتلازمان بالمودة والمحبة وهما معا وخاصة الزوجة يرحمان الصغار من الاولاد لما يريان ضعفهم وعجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وايوائهم وتربيتهم ولو لا هذه الرحمة لا نقطع النسل ولم يعش النوع قط. ونظير هذه المودة والرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدنى بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة ويرحم المساكين والعجزة والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة. والمراد بالمودة والرحمة في الاية الاوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الاخيرتان على ما يعطيه اطلاق الاية.
[ 167 ]
وقوله: (لايات لقوم يتفكرون) لانهم إذا تفكروا في الاصول التكوينية التى يبعث الانسان إلى عقد المجتمع من الذكورة والانوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلى والمودة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنى ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الانسان في حياتيه الدنيا والاخرى عثروا من عجائب الايات الالهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم وتدهش به أحلامهم. قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) إلى آخر الاية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الالسن اختلاف اللغات من العربية والفارسية والاردوية وغيرها وباختلاف الالوان اختلاف الامم في ألوانهم كالبياض والسواد والصفرة والحمرة. ويمكن أن يستفاد اختلاف الالسنة من جهة النغم والاصوات ونحو التكلم والنطق وباختلاف الالوان اختلاف كل فردين من أفراد الانسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن. فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع والايجاد مع النظام الجارى فيه لا يقوم الا بالله ولا ينتهى الا إليه. قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) إلى آخر الاية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة ويطلق على العطية لان المعطى انما يعطى ما فضل من مقدار حاجته، والمراد به في الاية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق. وفى خلق الانسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق ورفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة والسعى ثم هدايته إلى الاستراحة والسكون لرفع متاعب السعي وتجديد تجهيز القوى وتخصيص الليل والنهار المتعاقبين للسعى والسكون والتسبيب إلى وجود الليل والنهار بأوضاع سماوية قائمة بالارض والشمس لايات نافعة لمن له سمع واع يعقل
ما يسمع فإذا وجده حقااتبعه. قال في الكشاف في الاية: هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار الا أنه فصل بين القرينين الاولين بالقرينين الاخرين لانهما زمانان والزمان والواقع فيه كشئ واحد مع اعانة اللف على الاتحاد ويجوز أن
[ 168 ]
يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والظاهر هو الاول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى. وقد ظهر مما تقدم معنى تذييل الاية بقوله: (ان في ذلك لايات لقوم يسمعون). قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى به الارض بعد موتها) الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر ولذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله: (أن خلقكم) وقوله: (أن خلق لكم) وتنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة وعليه يحمل المثل السائر: (وتسمع بالمعيدى خير من أن تراه) ولا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الايات بفنون التعبير كقوله: (منامكم) (يريكم) (أن تقوم). واحتمل في قوله: (يريكم) أن يكون بحذف أن المصدرية والتقدير أن يريكم البرق وأيد بقراءة النصب في يريكم. واحتمل أن يكون من حذف المضاف، والتقدير: ومن آياته آية أن يريكم البرق، واحتمل أن يكون التقدير ومن آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق الخ، واحتمل أن يكون (من آياته) متعلقا بقوله: (يريكم)، والتقدير: ويريكم من آياته البرق، واحتمل أن يكون (من آياته) حالا من البرق، والتقدير: ويريكم البرق حال كون البرق من آياته. وهذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الاية
عن موافقة السياق في الايات السابقة النظيرة له كالوجهين الاخيرين. وقوله: (خوفا وطمعا) أي خوفا من الصاعقة وطمعا في المطر، وقوله: (وينزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها) تقدم تفسيره كرارا، وقوله: (ان في ذلك لايات لقوم يعقلون) أي ان أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقة بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق وصدفة. قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) القيام مقابل القعود ولما كان أعدل حالات الانسان حيث يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشئ واستقراره على أعدل حالاته كما يستعار
[ 169 ]
لتدبير الامر، قال تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) الرعد: 33. والمراد بقيام السماء والارض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة وسكون وتغير وثبات بأمره تعالى وقد عرف أمره بقوله: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82. وقوله: (ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) (إذا) الاولى شرطية و (إذا) الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و (من الارض) متعلق بقوله: (دعوة) والجملة معطوفة على محل الجملة الاولى لان المراد بالجملة أعنى قوله: (ثم إذا دعاكم) الخ البعث والرجوع إلى الله وليس في عداد الايات بل الجملة اخبار بأمر احتج عليه سابقا وسيحتج عليه لاحقا. وأما قول القائل: ان الجملة على تأويل المفرد وهى معطوفة على (أن تقوم) والتقدير ومن آياته قيام السماء والارض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الارض. فلازمه كون البعث معدودا من الايات وليس منها على أن البعث أحد الاصول الثلاثة التى يحتج بالايات عليه، ولا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد
عليه فافهم ذلك. ولما كانت الايات المذكورة من خلق البشر من تراب وخلقهم أزواجا واختلاف ألسنتهم وألوانهم ومنامهم وابتغائهم من فضله واراءة البرق وتنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الانسان كان المراد بقوله: (أن تقوم السماء والارض) بمعونة السياق ثبات السماء والارض على وضعهما الطبيعي وحالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الانساني المرتبطة بهما وكان قوله: (ثم إذا دعاكم) الخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي أن خروجهم من الارض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى. ويظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق (ومن آياته خلق السماوات والارض) خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية وينفعانها. وقد رتبت الايات المذكورة آخذة من بدء خلق الانسان وتكونه ثم تصنفه صنفين: الذكر والانثى ثم ارتباط وجوده بالسماء والارض واختلاف ألسنتهم وألوانهم
[ 170 ]
ثم السعي في طلب الرزق وسكون المنام ثم اراءة البرق وتنزيل الامطار حتى تنتهى إلى قيام السماء والارض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الانساني ما قدر له من أمد الحياة ويعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الايات من النكات. وقد رتبت الفواصل أعنى قوله (يتفكرون) (للعالمين) (يسمعون) (يعقلون) على هذا الترتيب لان الانسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله والله أعلم. قوله تعالى: (وله من في السماوات والارض كل له قانتون) كانت الايات المذكورة مسوقة لاثبات ربوبيته تعالى وألوهيته كما تقدمت الاشارة إليه ولما انتهى الكلام إلى ذكر البعث والرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على امكانه والحجة مأخوذة
من الخلق والتدبير المذكورين في الايات السابقة. فقوله: (وله من في السماوات والارض) اشارة إلى احاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات والارض وهم المحشورون إليه وذلك لان وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر وحاجة لا استقلال ولا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه وهذا هو الملك الحقيقي الذى أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكية بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الاخرة. وقد أكد ذلك بقوله: (كل له قانتون) والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات - والمراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية - على ما يعطيه السياق - دون التشريعية التى ربما تخلفت. وذلك أنهم الملائكة والجن والانس فأما الملائكة فليس عندهم الا خضوع الطاعة، وأما الجن والانس فهم مطيعون منقادون للعلل والاسباب الكونية وكلما احتالوا في الغاء أثر علة من العلل أو سبب من الاسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى وسبب آخر كونى ثم علمهم وارادتهم كاختيارهم جميعا من الاسباب الكونية فلا يكون الا ما شاء الله أي الذى تمت علله في الخارج ولا يتحقق مما شاؤا الا ما أذن فيه وشاءه فهو المالك لهم ولما يملكونه.
[ 171 ]
* * * وهو الذى يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم - 27. ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون - 28. بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير
علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين - 29. فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 30. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا من المشركين - 31. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون - 32. وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون - 33. ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون - 34. أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون - 35. وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون - 36. أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم
[ 172 ]
يؤمنون - 37. فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون - 38. وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - 39. (بيان) لما انساق الاحتجاج على الوحدانية والمعاد من طريق عد الايات الدالة على ذلك بقوله: (ومن آياته) إلى قوله: (وله من في السماوات والارض) الاية، وهو من صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالايات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية وأوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية والمعاد وهى قوله: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده) الخ، وقوله: (الله
الذى خلقكم ثم رزقكم) الخ، وقوله: (الله الذى يرسل الرياح) الخ، وقوله: (الله الذى خلقكم من ضعف) الخ. وانما لم يبدأ الفصل الاول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الاخر لسبق ذكره في الاية السابقة عليه المتصلة به أعنى قوله: (وله من في السماوات والارض كل له قانتون) الذى هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده) فصل في صورة الوصل. قوله تعالى: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) إلى آخر الاية، بدء الخلق انشاؤه ابتداء من غير مثال سابق والاعادة انشاء بعد انشاء. وقوله: (وهو أهون عليه) الضمير الاول للاعادة المفهوم من قوله: (يعيد) والضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق. وقد استشكل قوله: (وهو أهون عليه) الدال ظاهرا على كون الاعادة أسهل وأهون عليه من البدء وهو ينافى كون قدرته مطلقة غير محدودة فان القدرة
[ 173 ]
اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشئ دون شئ فتعلقها بالصعب والسهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل ههنا. وقد أجيب عنه بوجوه: منها: أن ضمير (عليه) راجع إلى الخلق دونه تعالى والاعادة أهون على الخلق لانه مسبوق بالابتداء الذى يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذى لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الاعادة والاعادة بالعكس، فالمعنى: أن الاعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق وإذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق. وفيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الاية.
ومنها: أن أفعل ههنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير قوله: (ما عند الله خير من اللهو). وفيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه. ومنها: أن التفضيل انما هو للاعادة في نفسها بالقياس إلى الانشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى: (لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس) المؤمن: 57. وهذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فان قلت: ما بال الاعادة استعظمت في قوله: (ثم إذا دعاكم) حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والارض بأمره ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت: الاعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى الانشاء. انتهى. وفيه أن تقييد الوصف بقوله: (عليه) أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الاعادة والانشاء انما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الاعادة والانشاء فالاشكال على ما كان. ومنها: أن التفضيل انما هو بالنظر إلى الاصول الدائرة بين الناس والموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الامر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: والاعادة
[ 174 ]
أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم والا فالانشاء والاعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء. وفيه: أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ ولا شاهد عليه من جهة لفظ الاية. ومنها: ما ذكره أيضا في الكشاف قال: ووجه آخر وهو أن الانشاء من قبيل
التفضل الذى يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والاعادة من قبيل الواجب الذى لا بد له من فعله لانها لجزاء الاعمال وجزاؤها واجب والافعال اما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور واما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لان الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الاحالة، واما تفضل والتفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، واما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الاخلال به. فكان الواجب أبعد الافعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الاعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الافعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتى والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الانشاء انتهى. وفيه أولا: أنه مبنى على تحقق الاشياء بالاولوية دون الوجوب وقد تحقق في محله بطلانه. وثانيا: أن القرب والبعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض والسهولة والصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشئ من حيث صدوره عن فاعله الموجد له ولا يبتنى الوصف الوجودى على الاعتبار العقلي. وثالثا: أن الانشاء أيضا كالا عادة في الابتناء على المصلحة وهى الغاية فما لم يكن الانشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الاعادة كذلك فهما في القرب والبعد من الامتناع على السواء كما قيل. ورابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الاعادة أهون من الانشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث ويتوجه إليه ما توجه إليه.
[ 175 ]
والذى ينبغى أن يقال أن الجملة أعنى قوله: (وهو أهون عليه) معلل بقوله
بعده: (ولله المثل الاعلى في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) فهو الحجة المثبتة لقوله: (وهو أهون عليه). والمستفاد من قوله: (ولله المثل الاعلى) الخ، أن كل وصف كمالي يمثل به شئ في السماوات والارض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء وغيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف وأرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال: (ولله الاسماء الحسنى) الاعراف: 180. وذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شئ مما في السماوات والارض فله في حد نفسه ما يقابله فانه مما أفاضه الله عليه وهو في نفسه خال عنه فالحي منها ميت في ذاته والقادر منها عاجز في ذاته ولذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشئ دون شئ وحال دون حال، وهكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه وكذلك الحياة والقدرة والملك والعظمة وغيرها. والله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله والذى له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود وصرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه ولا ممات يقابل حياته وهكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية والارضية - وهى صفات غير ممحضة ولا مطلقة ما هو أعلاها أي مطلقها ومحضها. فكل صفة توجد فيه تعالى وفى غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها وأفضلها والذى في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده. ولما كانت الاعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الانشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة ومشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق ولا يلزم منه أن يكون في الانشاء صعوبة ومشقة عليه تعالى لان المشقة والصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة وكلما كثرت قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، وقدرته تعالى غير
متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا وهو المستفاد من قوله: (ان الله على كل شئ قدير) فان القدرة إذا جاز تعلقها بكل شئ لم تكن الا غير متناهية فافهم ذلك.
[ 176 ]
وقوله: (ولله المثل الاعلى في السماوات والارض) تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله: (وهو أهون عليه) ومحصله أن كل صفة كمالية يتصف به شئ مما في السماوات والارض من جمال أو جلال فان لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد ومحضها من غير شوب وصرفها من غير خلط. وقوله: (وهو العزيز الحكيم) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ولله المثل الاعلى) الخ، أي انه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شئ حكيم لا يعرض فعله فتور، ولو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة ومخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص والقصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الاطلاق وأحدث ذاك النقص في فعله ثلمة وفتورا فلم يكن حكيما على الاطلاق. قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) الخ، (من) في قوله: (من أنفسكم) لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التى لديكم، وقوله: (هل لكم) شروع في المثل المضروب والاستفهام للانكار، و (ما) في (مما ملكت) للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والاماء، و (من) في (من شركاء) زائدة وهو مبتدأ، وقوله: (فأنتم فيه سواء تفريع على الشركة، و (أنتم) خطاب شامل للمالكين والمملوكين على طريق التغليب، وقوله: (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك من غير اذن منهم ورضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الاحرار.
وهذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في الالوهية والربوبية وقد ألقى المثل في صورة الاستفهام الانكارى: هل يوجد بين مماليككم من العبيد والاماء من يكونون شركاء لكم في الاموال التى رزقناكم - والحال أنهم مماليك لكم تملكونهم وما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير اذن منهم ورضى كما تخافون الشركاء الاحرار من نوع أنفسكم ؟ ! لا يكون ذلك أبدا ولا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله وإذا لم
[ 177 ]
يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة والجن وهم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه وآلهة وأربابا من دونه ؟ ثم تمم الكلام بقوله: (كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون) وفيه تمهيد لما يتلوه من الكلام. قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) اضراب عما يستفاد من ذيل الاية السابقة والتقدير وهؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا وانما بدله من قوله: (بل اتبع الذين ظلموا) فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: (فمن يهدى من أضل الله) فالظلم يستتبع الاضلال الالهى، قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) ابراهيم: 27. فقوله: (فمن يهدى من أضل الله) استفهام انكاري مدلوله الايآس من نعمة الهداية للمشركين المتبعين لاهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لاضلالهم وقد تكرر في كلامه تعالى: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين).
وقوله: (وما لهم من ناصرين) نفى لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال وتبعاته من عند أنفسهم لاضلال الله لهم ونفى الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء. وقول القائل ان معنى نفى الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد. ومعنى الاية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم وتعقل فأضلهم الله بظلمهم ولا هادى يهديهم وليس لهم ناصرون ينصرونهم. قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الكلام متفرع على ما تحصل
[ 178 ]
من الايات السابقة المثبتة للمبدأ والمعاد أي إذا ثبت أن الخلق والتدبير لله وحده لا شريك له وهو سيبعث ويحاسب ولا نجاة لمن أعرض عنه وأقبل على غيره فأقم وجهك للدين والزمه فانه الدين الذى تدعو إليه الخلقة الالهية. وقيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على ما هو الحق وأن المشركين لظلمهم اتبعوا الاهواء وأعرضوا عن التعقل الصحيح فأضلهم الله ولم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية ولا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت ولا غيرك فاستيئس منهم واهتم بخاصة نفسك ومن تبعك من المؤمنين وأقم وجهك ومن تبعك للدين. فقوله: (فأقم وجهك للدين) المراد باقامة الوجه للدين الاقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشئ بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا وشمالا والظاهر أن اللام في الدين للعهد والمراد به الاسلام. وقوله: (حنيفا) حال من فاعل أقم وجوز أن يكون حالا من الدين أو حالا
من الوجه والاول أظهر وأنسب للسياق، والحنف ميل القدمين إلى الوسط والمراد به الاعتدال. وقوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الايجاد والابداع و (فطرة الله) منصوب على الاغراء أي الزم الفطرة ففيه اشارة إلى أن هذا الدين الذى يجب اقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة ويهدى إليه الفطرة الالهية التى لا تبديل لها. وذلك أنه ليس الدين الا سنة الحياة والسبيل التى يجب على الانسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للانسان يتبعها الا السعادة وقد هدى كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التى هي بغية حياته بفطرته ونوع خلقته وجهز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: (ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى) الاعلى: 3. فالانسان كسائر الانواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه وتهتف له بما ينفعه وما يضره في حياته، قال تعالى: (ونفس وما سواها
[ 179 ]
فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8، وهو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: (ثم السبيل يسره) عبس: 20. فللانسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة وسبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له الا أن يسلكها خاصة وهو قوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها وليس الانسان العائش في هذه النشأة الا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه وما يضره بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح وبدن فما للانسان من جهة أنه انسان الا سعادة واحدة وشفاء واحد فمن الضرورى حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هاد واحد ثابت.
وليكن ذاك الهادى هو الفطرة ونوع الخلقة ولذلك عقب قوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) بقوله: (لا تبديل لخلق الله). فلو اختلفت سعادة الانسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الافراد المجتمعين، ولو اختلفت السعادة باختلاف الاقطار التى تعيش فيها الامم المختلفة بمعنى أن يكون الاساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعنى الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الانسان أنواعا مختلفة باختلاف الاقطار، ولو اختلفت السعادة باختلاف الازمنة بمعنى أن تكون الاعصار والقرون هي الاساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم ولم يسر الاجتماع الانساني سير التكامل ولم تكن الانسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص والكمال الا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما. وليس المراد بهذا انكارأن يكون لاختلاف الافراد أو الامكنة أو الازمنة بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل اثبات أن الاساس للسنة الدينية هو البنية الانسانية التى هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الافراد، فللانسانية سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذى هو الانسان وهى التى تدير رحى الانسانية مع ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الافراد أو الامكنة أو الازمنة. وهذا هو الذى يشير إلى قوله بعد: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وسنزيد المقام ايضاحا في بحث مستقل ان شاء الله تعالى.
[ 180 ]
وللقوم في مفردات الاية ومعناها أقوال أخر متفرقة: منها: أن المراد باقامة الوجه تسديد العمل فان الوجه هو ما يتوجه إليه وهو العمل واقامته تسديده. وفيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه وهى غير العمل والذى في الاية هو (فأقم وجهك) ولم يقل: فأقم وجه عملك.
ومنها: أن (فطرة الله) منصوب بتقدير أعنى والفطرة هي الملة، والمعنى: اثبت وأدم الاستقامة للدين أعنى الملة التى خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله. وفيه: أنه مبنى على اختلاف المراد بالفطرة وهى الملة و (فطر الناس) وهو الخلقة والتفكيك خلاف ظاهر الاية ولو أخذ (فطر الناس) بمعنى الادانة أي الحمل على الدين وهو التوحيد بقى قوله: (لا تبديل لخلق الله) لا يلائم ما قبله. على أن فيه خلاف ظاهر آخر وهو حمل الدين على التوحيد، ولو أخذ الدين بمعنى الاسلام أو مجموع الدين كله وأبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها وهو الخلقة لم يستقم تقدير (أعنى) فان الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة. ومنها: أن (فطرة) بدل من (حنيفا) والفطرة بمعنى الملة ويرد عليه ما يرد على سابقه. ومنها: أن (فطرة) مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، والتقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها وفساده غنى عن البيان. ومنها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله وهو ما دلك عليه ابتداء خلقه للاشياء لانه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ. وفيه. أنه مبنى على كون (فطرة) منصوبا بتقدير اتبع وقد ذكره أبو السعود وقبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة والمراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، وهذا قريب من المعنى الذى قدمناه للاية بحمل (فطرة) على الاغراء لكن يبقى عليه أن الاية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
[ 181 ]
ومنها: أن لا في قوله: (لا تبديل لخلق الله) تفيد النهى أي لا تبدلوا خلق الله
أي دينه الذى أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بانكار دلالته على التوحيد ومنه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهى عن الخصاء. وفيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين ولا موجب لتسمية الاعراض عن دلالة الخلقة أو انكارها تبديلا لخلق الله. وأما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر. ومنها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال: ويحتمل أن يقال: خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للانسان فانه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية. وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: ان الناقص لا يصلح لعبادة الله وانما الانسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى ان عيسى كان يحل الله فيه وصار الها فقال: لا تبديل لخلق الله بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى. وفيه أنه مغالطة بين الملك والعبادة التكوينيين والملك والعبادة التشريعيين فان ملكه تعالى الذى لا يقبل الانتقال والبطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الاشياء به تعالى والعبادة التى بازائه عبادة تكوينية وهو خضوع ذوات الاشياء له تعالى ولا تقبل التبديل والترك كما في قوله: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44، وأما العبادة الدينية التى تقبل التبديل والترك فهى عبادة تشريعية بازاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه. ولو دل قوله: (لا تبديل لخلق الله) على عدم تبديل الملك والعبادة والعبودية لدل على التكويني منهما والذى يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الانسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فانما يعنى به التشريعي منهما. قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين)
تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نظير قوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) الطلاق: 1، وقوله: (فاستقم كما أمرت أنت ومن معك ولا تطغوا) هود: 112،
[ 182 ]
فيؤل المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا أنت ومن معك منيبين إلى الله، والانابة الرجوع بالتوبة. وقوله: (واتقوه وأقيموا الصلاة) التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص اقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهى عمود الدين. وقوله: (ولا تكونوا من المشركين) القول في اختصاصه من بين سائر المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، وقد قال تعالى: (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48، إلى غير ذلك من الايات. قوله تعالى: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) (من) للتبيين و (من الذين فرقوا دينهم) الخ، بيان للمشركين وفيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم وهو تفرقهم في دينهم وعودهم شيعة شيعة وحزبا حزبا يفرح ويسر كل شيعة وحزب بما عندهم من الدين والسبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الاهواء وأنه لا يهديهم ولا هادى غيره. ومن المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل ولا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الاحوال وإذا كان هو الاساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الاهواء وينزل بنزولها، ولا فرق في ذلك بين الدين الباطل والدين الحق المبنى على أساس الهوى.
ومن هنا يظهر أن النهى عن تفرق الكلمة في الدين نهى في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، وربما احتمل كون الاية استئنافا من الكلام وهو لا يلائم السياق. وفى الاية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة والتحزب في الدين. قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر
[ 183 ]
ورحمة أيضا لذلك والمعنى: إذا أصاب الناس شئ من الضر ولو قليلا كمرض ما وفقر ما وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذى كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الانداد والشركاء. أي انهم كافرون للنعمة طبعا وان اعترفوا بها عند الضر وقد أخذ لذلك فريقا منهم لان منهم من ليس كذلك. قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) تهديد لاولئك المشركين عند اذاقة الرحمة واللام في (ليكفروا) للامر الغائب وقوله: (فتمتعوا) متفرع على سابقه وهو أمر آخر والامران جميعا للتهديد، والالتفات من الامر الغائب إلى الامر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر ويكفروا إذا كشف. قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) (أم) منقطعة والمراد بالانزال الاعلام أو التعليم مجازا، والسلطان البرهان، والمراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى: بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم. ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الانزال والتكلم
والمعنى: بل أن أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم. قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) الاذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره، والقنوط اليأس. واذاالاولى شرطية والثانية فجائية، والمقابلة بين (إذا) في اذاقة الرحمة و (ان) في اصابة السيئة لان الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية، ونسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لان الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي عدم الافاضة ولذا عللها بقوله: (بما قدمت أيديهم)، وفى تعليل السيئة بذلك وعدم التعليل في جانب الرحمة بشئ اشارة إلى أن الرحمة تفضل. والتعبير في الرحمة بقوله: (فرحوا) وفى السيئة بقوله: (إذا هم يقنطون) للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فان الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة
[ 184 ]
ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم. والمراد بالاية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الامر بيد غيرهم وبمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، وإذا فقدوا قطنوا كأن ليس ذلك باذن من ربهم وإذا لم يشأ لم يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون. وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الاية وبين قوله السابق: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الاية وذلك أن مدلول هذه الاية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قطنوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا دعوا الله وهم قانطون من الشئ وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع. وربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الاية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الاية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم
في حال أخرى. وأجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافى القنوط الذى هو أمر قلبى وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور. وأجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. وفيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط. قوله تعالى: (أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون) بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند اذاقة الرحمة واصابة السيئة فان الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الانسان أن يعلم أن الرحمة التى ذاقها والسيئة التى أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله. وأما أنه أمر ظاهر للانسان مقطوع به كأنه يراه فلان الرزق الذى يناله الانسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف وألوف من الاسباب والشرائط ليس الانسان الذى يراه لنفسه الا أحد تلك الاسباب ولا السبب الذى يركن إليه ويطيب به نفسا الا بعض تلك الاسباب وعامة الاسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذى يعطى ويمنع وهو
[ 185 ]
الذى يبسط ويقدر أي يوسع ويضيق، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) الخ، ذو القربى صاحب القرابة من الارحام والمسكين أسوا حالا من الفقير وابن السبيل المسافر ذو الحاجة، واضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذى القربى حقا ثابتا، والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، فظاهر الاية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس، والقرابة على أي حال قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الاية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر
آيات السورة فالمراد مطلق الاحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل. ولعموم الاية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون). قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون) الربا نماء المال، وقوله: (ليربو) الخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذى تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا ارادة لوجه الله - بقرينة ذكر ارادة الوجه في مقابله - فليس يزيد وينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه. وقوله: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون) المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي اعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، والمضعف ذوالضعف، والمعنى: وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فاولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم. فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال وهو العطية من غير قربة، والصدقة وهى اعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الاية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة هي الزكاة المفروضة. وهذه الاية والتى قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الاجماع المنقول.
[ 186 ]
(بحث روائي) في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الاعلى والحجة العظمى
والعروة الوثقى. الحديث. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) الاية أن سبب نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج ابراهيم عليه السلام ويلبون تلبيته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. فجاءهم ابليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر عليهم ذلك وقال: انه شرك. فأنزل الله عز وجل: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) أي أترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك ؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لى شريكا فيما أملك ؟. وفى الكافي باسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا) قال: هي الولاية. وفيه باسناده عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: التوحيد. أقول: ورواه أيضا عن الحلبي وزرارة عنه عليه السلام ورواه الصدوق في التوحيد عن العلاء بن فضيل وزرارة وبكير عنه عليه السلام. وفى روضة الكافي باسناده عن اسماعيل الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام قال: كانت شريعة نوح عليه السلام أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الانداد، وهو الفطرة التى فطر الناس عليها. وفى تفسير القمى باسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن على عليهم السلام في قوله عز وجل: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال:
[ 187 ]
هو لا اله الا الله محمد رسول الله على أمير المؤمنين ولى الله إلى ههنا التوحيد. أقول: وروى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبى عبد الله عليه السلام، ورواه في التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبى جعفر عنه عليه السلام. ومعنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الانسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الاسباب المحتاجة إلى ما وراءها وهو التوحيد وبما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله وهو النبوة، وبما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين وهو الولاية والفاتح لها في الاسلام هو على عليه السلام، وليس معناه أن كل انسان حتى الانسان الاولى يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث. والى هذا يؤل معنى الرواية السابقة أنها الولاية فانها تستلزم التوحيد والنبوة وكذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فان التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد والنبوة والولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث والتوحيد والولاية واحد. وفى المحاسن باسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم ؟. وفى الكافي باسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث قال: فقال عليه السلام: ان الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التى فطرهم عليها لا يعرفون ايمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ثم بعث الله عز وجل الرسل يدعو العباد إلى الايمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده. أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) البقرة: 213 والمراد فيها بالانسان الفطري الانسان الساذج الذى يعيش
على الفطرة الانسانية الذى لم يفسده الاوهام الفكرية والاهواء النفسانية فانه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة وكليات الشرائع الالهية فانه يعيش ببعث وتحريك من فطرته وخصوص خلقته. وأما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة
[ 188 ]
وتفاصيل الشرائع الالهية فيتوقف على هداية خاصة الهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) فقال: حدثنى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: دين الله. وفيه أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ قال أبو هريرة: اقرؤا ان شئتم (فطرة الله التى فطر الناس عليها) الاية. أقول: ورواه أيضا عن مالك وأبى داود وابن مردويه عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج الابل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء. ورواه أيضا في الكافي باسناده عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام في حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله خالقه. الحديث. وفى التوحيد باسناده عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فان بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا اله الا الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وأربعة أشهر الدعاء لوالديه. أقول: هو حديث لطيف ومعناه: أن الطفل في الاربعة أشهرالاولى لا يعرف
أحدا وانما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها والرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضر عليه السلام إليه ويشهد له بالوحدانية. وفى الاربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه وبين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما والواسطة بينه وبين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبى حتى يصل بتوسطه إليه. وفى الاربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما وطلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففى الحديث ألطف الاشارة إلى كيفية جريان
[ 189 ]
الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك. وفى المجمع في قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) وروى أبو سعيد الخدرى وغيره أنه لما نزلت هذه الاية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة عليها السلام فدكا وسلمه إليها وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفى الكافي باسناده عن ابراهيم اليماني عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الربا رباءان: ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فأما الذى يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذى يؤكل، وهو قول الله عز وجل: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) وأما الذى لا يؤكل فهو الذى نهى الله عنه وأوعد عليه النار. أقول: ورواه أيضا في التهذيب عن ابراهيم بن عمر عنه عليه السلام، وفى تفسير القمى عن حفص بن عياث عنه عليه السلام، وفى المجمع مرسلا عن أبى جعفر عليه السلام. وفى المجمع في قوله تعالى: (فاولئك هم المضعفون) قال أمير المؤمنين عليه السلام: فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لاخلاص الخلق، وصلة الارحام منماة للعدد. وفى الفقيه خطبة للزهراء عليها السلام وفيها: ففرض الله الايمان تطهيرا من
الشرك والصلاة تنزيها عن الكبر والزكاة زيادة في الرزق. (كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول) 1 - إذا تأملنا هذه الانواع الموجودة التى تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذى حياة كسائر الانواع الطبيعية - على ما يظهر لنا - وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذى قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال يستكمل بطى هذه المنازل حتى ينتهى إلى آخرها وهو نهاية كماله. نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهى إلى كماله فبينها
[ 190 ]
رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير مكانه ومن هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها. فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الارض استقرارا يهيؤها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل والشرائط كالرطوبة والحرارة وغيرهما أخذ لبها في النمو وشق القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني وهو في أول وجوده قاصدا قصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التى هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة. وكذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضان مثلا لا نشك في أنها في أول تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التى هي مرتبة الضأنة الكاملة التى لها خواصها
فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها ولا تنسى غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الانواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهى إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية والنوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته. وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة الهية وهى كما عرفت لا تضل ولا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وباعمال قواه وأدواته التى جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى: (ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى والذى أخرج المرعى فجعله غثاء أهوى) الاعلى: 5. 2 - نوع الانسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعنى شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الانسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة انسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.
[ 191 ]
غير أن الانسان يفارق سائر الانواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر (1) وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الانسان لا تتم له حياته الانسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدنى يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التى جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية. وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للانسان
بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الانسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الامور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الافراد أمثاله في الاميال والمقاصد وفى الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه. وينتهى هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الاعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه. وكيف كان فالمجتمع الانساني لا يتم انعقاده ولا يعمر الا باصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة. أما الاصول العلمية فهى معرفته اجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الانسان من حيث البداية والنهاية، فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الانسان أنه مادى محض ليس له من الحياة الا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادى الكائن الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شئ.
(1) وعامة الحيوان وان كان لها شئ من الاجتماع الحيوى لكنه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به. (*)
[ 192 ]
والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على ارضاء الالهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التى بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الاصول الاعتقادية في حقيقة العالم والانسان الذى هو جزء
من أجزائه. وأما القوانين والسنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلمونها تفرق الجمع وانحل المجتمع. وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز وهى أياما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الاعمال ومفاسدها. 3 - قد عرفت أن الانسان انما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التى تليق به وهذه السعادة أمر أو امور كمالية تكوينية تلحق الانسان الناقص الذى هو أيضا موجود تكويني فتجعله انسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده. فهذه السنن والقوانين - وهى قضايا عملية اعتبارية - واقعة بين نقص الانسان وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين وهى كما عرفت تابعة للمصالح التى هي كمال أو كمالات انسانية، وهذه الكمالات امور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التى هي مصاديق حوائج الانسان الحقيقية. فحوائج الانسان الحقيقية هي التى وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الانسانية بأميالها وعزائمها ويصدقه العقل الذى هو القوة الوحيدة التى تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون ما تطلبه الاهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فانه كمال حيوانى غير انسانى. فاصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقية التى هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الاهواء النفسانية. وقد عرفت أن الصنع والايجاد قد جهز كل نوع من الانواع - ومنها الانسان -
[ 193 ]
من القوى والادوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج أن للجهازات التكوينية التى جهز بها الانسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين والقوانين التى بالعمل بهايستقر الانسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذى المعتبرة بما أن الانسان مجهز بجهاز التغذى والراجعة إلى النكاح بما أن الانسان مجهز بجهاز التوالد والتناسل. فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين - أي الاصول العلمية والسنن والقوانين العملية التى تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الانسان الحقيقية - من اقتضاءات الخلقة الانسانية وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين، وهذا هو المراد بكون الدين فطريا وهو قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم). 4 - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالاسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الانسانية تقتضيه وتهدى إليه. ويسمى اسلاما لما أن فيه تسليم العبد لارادة الله سبحانه منه، ومصداق الارادة وهى صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الانسان وما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: (ان الدين عند الله الاسلام). ويسمى دين الله لانه الذى يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى الارادة. ويسمى سبيل الله لما أنه السبيل التى أرادها الله أن يسلكها الانسان لتنتهي به إلى كماله وسعادته، قال تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) الاعراف: 45. وأما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحى والنبوة ولا يكفى فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة وغيرها من مباحث الكتاب.
[ 194 ]
* * * ألله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون - 40. ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون - 41. قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين - 42. فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون - 43. من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلا نفسهم يمهدون - 44. ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب الكافرين - 45. ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 46. ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين - 47. (بيان) هذا هوالفصل الثاني من الفصول الاربعة التى يحتج فيها بالافعال الخاصة به وان شئت فقل: بأسماء الافعال على ابطال الشركاء ونفى ربوبيتهم وألوهيتهم وعلى اثبات المعاد.
[ 195 ]
قوله تعالى: (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) الخ، اسم الجلالة مبتدأ و (الذى خلقكم) خبره، وكذا قوله: (من يفعل) الخ مبتدأ خبره (من شركائكم) المقدم عليه والاستفهام انكاري
وقد ذكر في تركيب الاية احتمالات أخر. والمعنى: أن الله سبحانه هو الذى اتصف بكذا وكذا وصفا من أوصاف الالوهية والربوبية فهل من الالهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعنى من الخلق والرزق والاماتة والاحياء واذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو الهكم وربكم لا اله الا هو. ولعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق والاحياء والاماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الاشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذى يرزق الرزق. فليس لهم أن يقولوا: ان الرازق وكذا المحيى والمميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الانسان بعض الالهة ومدبر كل شأن من شؤن العالم من الخيرات والشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق والايجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك ومن المسلم أن الرزق مثلا خلق وكذا سائر الشؤن لا تنفك عن الخلق رجع الامر كالخلق إليه تعالى ولم يبق لا لهتهم شأن من الشؤن. ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون). قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) الاية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف ويستوعبان سطح الكرة الارضية. والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الارض من الزلازل وقطع الامطار والسنين والامراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الامن وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجارى في العالم الارضى سواء كان
[ 196 ]
مستندا إلى اختيار بعض الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الانساني. وقوله: (بما كسبت أيدى الناس) أي بسبب أعمالهم التى يعملونها من شرك أو معصية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) الاية الاعراف: 96، وأيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس والحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر احداهما من صلاح الاخرى وفسادها. وقوله: (ليذيقهم بعض الذى عملوا) اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لاجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا وقد ظهر في صورة الوبال وانما كان بعض ما عملوا لان الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) الشورى: 30. والاية ناظرة إلى الوبال الدنيوي واذاقة بعضه لاكله من غير نظر إلى وبال الاعمال الاخروي فما قيل: ان المراد اذاقة الوبال الدنيوي وتأخير الوبال الاخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه ولعله جعل تقدير الكلام: (ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير (ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا)، لان الذى يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا. وقوله: (لعلهم يرجعون) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم ومعاصيهم إلى التوحيد والطاعة. ووجه اتصال الاية بما قبلها أنه لما احتج في الاية السابقة على التوحيد ونزهه عن شركهم أشار في هذه الاية إلى ما يستتبع الشرك - وهو معصية - من الفساد في
الارض واذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام. ولهم في الاية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالارض أرض مكة وقول بعضهم: المراد بالبر القفار التى لا يجرى فيها نهر وبالبحر كل قرية على شاطئ نهر عظيم، وقول بعضهم: البر الفيافي ومواضع القبائل والبحر السواحل والمدن التى عند
[ 197 ]
البحر والنهر، وقول بعضهم: البر البرية والبحر المواضع المخصبة الخضرة، وقول بعضهم: ان هناك مضافا محذوفا والتقدير في البر ومدن البحر، ولعل الذى دعاهم إلى هذه الاقاويل ما ورد أن الاية ناظرة إلى القحط الذى وقع بمكة اثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش لما لجوا في كفرهم وداموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الاية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف. وقول بعضهم: ان المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه وفى البحر أخذ كل سفينة غصبا. وهو كما ترى. قوله تعالى: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الارض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم وعفت آثارهم وبادوا عن آخرهم وانقطع دابرهم بأنواع من النوائب والبلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالاية في مقام الاستشهاد لمضمون الاية السابقة. قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون) تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك والكفر بالحق بهذه المثابة وله وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم. وقوله: (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) متعلق بقوله: (فأقم) والمرد مصدر ميمى بمعنى الرد وهو بمعنى الراد واليوم الذى لا مرد له من الله يوم القيامة.
وقوله: (يومئذ يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع في الاصل تفرق أجزاء الاواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، والمراد به - كما قيل - تفرقهم يومئذ إلى الجنة والنار. وقيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) القارعة: 4. ولكل وجه، ولعل الاظهر امتياز الفريقين كما سيأتي. قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) الظاهر أنه تفسير لقوله في الاية السابقة: (يتفرقون) وقوله: (من كفر فعليه كفره) أي وبال
[ 198 ]
كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذى سينقلب عليه نارا يخلد فيها وهذا أحد الفريقين. وقوله: (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) مهد الفراش بسطه وايطاؤه، وهؤلاء الفريق الاخرالذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد جئ بالجزاء (فلانفسهم يمهدون) جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جئ به مفردا في الشرطية السابقة (فعليه كفره) نظرا إلى اللفظ، واكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح ولم يذكر الايمان معه لان العمل انما يصلح بالايمان على أنه مذكور في الاية التالية. والمعنى: والذين عملوا عملا صالحا - بعد الايمان - فلانفسهم يوطؤن ما يعيشون به ويستقرون عليه. قوله تعالى: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب الكافرين) قال الراغب: الجزاء الغناء والكفاية، قال الله تعالى: (لا تجزى نفس عن نفس شيئا)، وقال: (لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة ان خيرا فخير وان شرا فشر، يقال: جزيته كذا وبكذا. انتهى.
وقوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) اللام للغاية ولا ينافى عد ما يؤتيهم جزاء - وفيه معنى المقابلة - عده من فضله وفيه معنى عدم الاستحقاق وذلك لانهم بأعيانهم وما يصدر عنبهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لانفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، وأين العبودية من الملك والاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق. لكنه سبحانه بفضله ورحمته اعتبر لهم ملكا لاعمالهم في عين أنه يملكهم ويملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، وجعل ما ينالونه من الجنة والزلفى أجرا مقابلا لاعمالهم وهذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه. ومنشأ ذلك حبه تعالى لهم لانهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم واتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران: 31. ولذا كانت الاية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء وفيه معنى المقابلة والمبادلة
[ 199 ]
وتعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة والمبادلة فضل منه سبحانه ومنشأه حبه تعالى لهم كما يومى إليه تذييل الاية بقوله: (انه لا يحب الكافرين). ومن هنا يظهر أن قوله: (انه لا يحب الكافرين) يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبى النفى والاثبات جميعا أي انه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل ويحرم الكافرين منه لانه يحب هؤلاء ولا يحب هؤلاء. قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله. وقوله: (وليذيقكم من رحمته) عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى
التعليل والتقدير يرسل الرياح لتبشركم وليذيقكم من رحمته والمراد باذاقة الرحمة اصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الاشجار ودفع العفونات وتصفية الاجواء وغير ذلك مما يشمله اطلاق الجملة. وقوله: (ولتجرى الفلك بأمره) أي لجريان الرياح وهبوبها. وقوله: (ولتبتغوا من فضله) أي لتطلبوا من رزقه الذى هو من فضله. وقوله: (ولعلكم تشكرون)، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية، والشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن انعام منعمه أو الثناء اللفظى عليه بذكر انعامه، وينطبق بالاخرة على عبادته ولذلك جئ بلعل المفيدة للرجاء فان الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - وأجرم صار ذا جرم نحو أثمر وأتمر وألبن واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى. والاية كالمعترضة وكأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم وهو نصرهم في الدنيا والاخرة ومنه الانتقام من المجرمين، وهذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على
[ 200 ]
نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره. وقوله: (فانتقمنا من الذين أجرموا) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم وأجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين وكان حقا علينا نصر المؤمنين بانجائهم من العذاب واهلاك مخالفيهم، وفى الاية بعض الاشعار بأن الانتقام من المجرمين لاجل المؤمنين فانه من النصر.
(بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس) قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر وكذلك هلاك دواب البحر بذلك، وقال الصادق عليه السلام: حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر والبحر، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي. أقول: وهو من الجرى. وفى روضة الكافي باسناده عن أبى الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم). وفى المجمع في قوله: (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) روى منصور بن حازم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ان العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لاحدهم خادمه فراشه. وفيه وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من امرء يرد عن عرض أخيه الا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبى الدرداء.
[ 201 ]
* * * الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون - 48. وان كانوا من قبل أن ينزل
عليهم من قبله لمبلسين - 49. فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيى الارض بعد موتها ان ذلك لمحيى الموتى وهو على كل شئ قدير - 50. ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون - 51. فانك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين - 52. وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم ان تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون - 53. (بيان) هذا هوالفصل الثالث من الايات المحتجة من طريق أفعاله تعالى وان شئت فقل: أسماء أفعاله وعمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، ولما كان عمدة انكارهم وجحودهم متوجها إلى المعاد وبانكاره يلغو الاحكام والشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بايئاس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الايمان وصلاحية الاسلام والتسليم للحق. قوله تعالى: (الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء) إلى آخر الاية، الاثارة التحريك والنشر والسحاب الغمام والسماء جهة العلو فكل ما علاك وأظلك فهو سماء والكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة وهى القطعة والودق
[ 202 ]
القطر من المطر والخلال جمع خلة وهى الفرجة. والمعنى: الله الذى يرسل الرياح فتحرك وتنشر سحابا ويبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه ويجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لانه مادة حياتهم وحياة الحيوان والنبات.
قوله تعالى: (وان كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) الابلاس: اليأس والقنوط. وضمير (ينزل) للمطر وكذا ضمير (من قبله) على ما قيل، وعليه يكون (من قبله) تأكيدا لقوله: (من قبل أن ينزل عليهم) وفائدة التأكيد - على ما قيل - الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: (من قبل أن ينزل عليهم) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء (من قبله) للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال. وفى الكشاف أن قوله: (من قبله) من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى: (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى ابلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى. وربما قيل: ان ضمير (من قبله) لارسال الرياح، والمعنى: وان كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل ارسال الرياح لائسين قانطين. قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الارض بعد موتها ان ذلك لمحيى الموتى وهو على كل شئ قدير) الاثار جمع الاثر وهو ما يبقى بعد الشئ فيدل عليه كأثر القدم وأثر البناء واستعير لكل ما يتفرع على شئ، والمراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذى بسطته الرياح، وآثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات والاشجار والاثمار وهى بعينها آثار حياة الارض بعد موتها. ولذا قال: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الارض بعد موتها) فجعل آثار الرحمة التى هي المطر كيفية احياء الارض بعد موتها، فحياة الارض بعد موتها
[ 203 ]
من آثار الرحمة والنبات والاشجار والاثمار من آثار حياتها وهى أيضا من آثار الرحمة
والتدبير تدبير الهى يتفرع على خلقة الرياح والسحاب والمطر. وقوله: (ان ذلك لمحيى الموتى) الاشارة بذلك إليه تعالى بماله من الرحمة التى من آثارها احياء الارض بعد موتها، وفى الاشارة البعيدة تعظيم، والمراد بالموتى موتى الانسان أو الانسان وغيره من ذوى الحياة. والمراد بقوله: (ان ذلك لمحيى الموتى) الدلالة على المماثلة بين احياء الارض الميتة واحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شئ محفوظ وحياة هي تجدد تلك الاثار بعد سقوطها، وقد تحقق الاحياء في الارض والنبات وحياة الانسان وغيره من ذوى الحياة مثلها وحكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الاحياء في بعض هذه الامثال وهو الارض والنبات فليجز في البعض الاخر. وقوله: (وهو على كل شئ قدير) تقرير للاحياء المذكور ببيان آخر وهو عموم القدرة فان القدرة غير محدودة ولا متناهية فيشمل الاحياء بعد الموت والا لزم تقيدها وقد فرضت مطلقة غير محدودة. قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون) ضمير (فرأوه للنبات المفهوم من السياق، وقوله: (لظلوا) جواب للقسم قائم مقام الجزاء والمعنى: وأقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم وأشجارهم بالصفار ورأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه. ففى الاية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة والنقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، وإذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم. وقيل: ضمير (فرأوه) للسحاب لان السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، وقيل: للريح فانه يذكر ويؤنث، والقولان بعيدان. قوله تعالى: (فانك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون تعليل لما يفهم
من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل ولا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الاحوال من ابلاس واستبشار وكفر ومن عدم الايمان بآياتنا وعدم تعقلها فانهم موتى وصم وعمى
[ 204 ]
وأنت لا تقدر على اسماعهم وهدايتهم وانما تسمع وتهدى من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج ويصدقها فهم مسلمون. وقد تقدم تفسير الايتين في سورة النمل. * * * الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير - 54. ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون - 55. وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون - 56. فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون - 57. ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ان أنتم الا مبطلون - 58. كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون - 59. فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون - 60. (بيان) هذا هوالفصل الرابع من الايات وهو كسابقه وفيها ختام السورة. قوله تعالى: (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) الخ، الضعف والقوة متقابلان، و (من) في قوله: (من
[ 205 ]
ضعف للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقة على ما تفيده
المقابلة أول الطفولية وان أمكن صدقه على النطفة. والمراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الاشد وبالضعف بعد القوة الشيخوخة ولذا عطف عليه (شيبة) عطف تفسير، وتنكير (ضعف) و (قوة) للدلالة على الابهام وعدم تعين المقدار لاختلاف الافراد في ذلك. وقوله: (يخلق ما يشاء) أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف بعدها فخلقه وفى ذلك أتم الاشارة إلى أن تتالى هذه الاحوال من الخلق واذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للاشياء فليس لقائل منهم أن يقول: ان ذلك من التدبير الراجع إلى اله الانسان، مثلا كما يقوله الوثنية. ثم تمم الكلام بالعلم والقدرة فقال: (وهو العليم القدير). قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون)، هذه الايات كالذنابة للايات السابقة العادة للايات والحجج على وحدانيته تعالى والبعث، وكالتمهيد والتوطئة للاية التى تختتم بها السورة فانه لما عد شيئا من الايات والحجج وأشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الايمان أو يطمع في ايمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا والايات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها وكذلك يؤفكون ولا عذر لهم يعتذرون به. وهذا الافك والتقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم ويلازمهم حتى قيام الساعة فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت والبعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا. فقوله: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)، يحكى عنهم اشتباه الامر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا ويوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات الدنيا.
وقوله: (كذلك كانوا يؤفكون) أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق ويقام عليه الحجج والايات فيظنونه باطلا من القول وخرافة من الرأى.
[ 206 ]
قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث) الخ، رد منهم لقول المجرمين: (ما لبثوا غير ساعة) فان المجرمين لاخلادهم إلى الارض وتوغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث والفصل بينه وبين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة وهو مقدار قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لانه مبلغ علمهم. فرد عليهم أهل العلم والايمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا ويوم البعث وهو الفصل الذى يشير إليه قوله: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون: 100. فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث ولكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث ولم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم الا ساعة من ساعات الدنيا وهذا معنى قولهم: (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون)، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم ولذلك اشتبه عليكم أمر اللبث. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: (أوتوا العلم والايمان)، اليقين والالتزام بمقتضاه وأن العلم بمعنى اليقين بالله وبآياته والايمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الالهية، ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب (1) السماوية أو خصوص القرآن لا غيره وقول بعضهم: ان في الاية تقديما وتأخيرا والتقدير وقال الذين أوتوا العلم والايمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به. قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولاهم يستعتبون) الاستعتاب طلب العتبى، والعتبى ازالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم ولا يطلب منهم أن
يزيلوا العتاب عن أنفسهم. قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) الخ، اشارة
(1) ويمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالا على قولهم بكتاب الله ويكون نظير ما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)، الجاثية: 29 بناء على ما سيأتي من معناه (منه). (*)
[ 207 ]
إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لانها مطبوع عليها، ولذا عقبه بقوله: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ان أنتم الا مبطلون) أي جاؤن بالباطل وهذا القول منهم لانهم مصروفون عن الحق يرون كل حق باطلا، ووضع الموصول والصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول. قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون)، أي يجهلون بالله وآياته ومنها البعث وهم يصرون على جهلهم وارتيابهم. قوله تعالى: (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم: (ان أنتم الا مبطلون) وسائر تهكماتهم، ان وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه. وقول بعضهم: ان المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الايات البينات بتكذيبهم لها وايذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشئ وقد بدأت السورة بالوعد وختمت بالوعد والوعدان جميعا بالنصرة.
[ 208 ]
(سورة لقمان مكية، وهى أربع وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الم - 1. تلك آيات الكتاب
الحكيم - 2. هدى ورحمة للمحسنين - 3. الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم يوقنون - 4. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون - 5. ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين - 6. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم - 7. ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم - 8. خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم - 9. خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم - 10. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين - 11.
[ 209 ]
(بيان) غرض السورة كما يومى إليه فاتحتها وخاتمتها ويشير إليه سياق عامة آياتها الدعوة إلى التوحيد والايقان بالمعاد والاخذ بكليات شرائع الدين. ويلوح من صدر السورة أنها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصد الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوقة ملهية كما ورد فيه الاثر في سبب نزول قوله: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) الاية، وسيوافى حديثه. فنزلت السورة تبين أصول عقائد الدين وكليات شرائعه الحقة وقصت شيئا من خبر لقمان الحكيم ومواعظه تجاه أحاديثهم الملهية. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. ومن غرر الايات فيها قوله تعالى: (ذلك
بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) الاية. قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين - إلى قوله - يوقنون) تقدم تفسير مفردات هذه الايات في السور السابقة. وقد وصف الكتاب بالحكيم اشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شئ بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث وباطل القول، ووصفه أيضا بأنه هدى ورحمة للمحسنين تتميما لصفة حكمته فهو يهدى إلى الواقع الحق ويوصل إليه لا كاللهو الشاغل للانسان عما يهمه، وهو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة. ووصف المحسنين باقامة الصلاة وايتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الاعمال وبالايقان بالاخرة ويستلزم التوحيد والرسالة وعامة التقوى، كل ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغى إليه لمن يستمع لهو الحديث. قوله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) الخ، اللهو ما يشغلك عما يهمك، ولهو الحديث: الحديث الذى يلهى عن الحق بنفسه كالحكايات الخرافية والقصص الداعية إلى الفساد والفجور، أو بما يقارنه كالتغني بالشعر أو بالملاهى والمزامير والمعازف فكل ذلك يشمله لهو الحديث.
[ 210 ]
وقوله: (ليضل عن سبيل الله بغير علم) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية والعلمية وخاصة قصص الانبياء وأممهم الخالية فان لهو الحديث والاساطير المزوقة المختلقة تعارض أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة وتوهنها في أنظار الناس. ويؤيد ذلك قوله بعد: (ويتخذها هزوا) فان لهو الحديث بما أنه حديث كما سمعت يعارض أولا الحديث ويتخذه سخريا. فالمراد بسبيل الله القرآن بما فيه من القصص والمعارف وكأن مراد من كان
يشترى لهو الحديث أن يضل الناس بصرفهم عن القرآن وأن يتخذ القرآن هزوا بأنه حديث مثله وأساطير كأساطيره. وقوله: (بغير علم) متعلق بيضل وهو في الحقيقة وصف ضلال الضالين دون اضلال المضلين وان كانوا أيضا لا علم لهم ثم هددهم بقوله: (أولئك لهم عذاب مهين) أي مذل يوهنهم ويذلهم حذاء استكبارهم في الدنيا. قوله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) الخ، وصف لذاك الذى يشترى لهو الحديث ليضل الناس عن القرآن ويهزء به والوقر الحمل الثقيل والمراد بكون الوقر على أذنيه أن يشد عليهما ما يمنع من السمع وقيل: هو كناية عن الصمم. والمعنى: وإذا تتلى على هذا المشترى لهو الحديث آياتنا أي القرآن ولى وأعرض عنها وهو مستكبر كأن لم يسمعها قط كأنه أصم فبشره بعذاب أليم. وقد اعيد إلى من يشترى ضمير الافراد أولا كما في (يشترى) و (ليضل) و (يتخذها) باعتبار اللفظ وضمير الجمع، ثانيا باعتبار المعنى ثم ضمير الافراد باعتبار اللفظ كما في (عليه) وغيره كذا قيل، ومن الممكن أن يكون ضمير (لهم) في الاية السابقة راجعا إلى مجموع المضل والضالين المدلول عليهم بالسياق فتكون الضمائر الراجعة إلى (من) مفردة جميعا. قوله تعالى: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم - إلى قوله - العزيز الحكيم) رجوع بعد انذار ذاك المشترى وتهديده بالعذاب المهين ثم العذاب
[ 211 ]
الاليم إلى تبشير المحسنين وتطييب أنفسهم بجنة النعيم الخالدة الموعودة من قبله تعالى ووعده الحق. ولما كان غرض من اشترى لهو الحديث أن يلتبس الامر على من يضله بغير علم
فيحسب القرآن من الاساطير الباطلة كأساطيره ويهين به وكان لا يعتنى بما تتلى عليه من الايات مستكبرا وذلك استهانة بالله سبحانه أكد أولا ما وعده للمحسنين بقوله: (وعد الله حقا) ثم وصف ثانيا نفسه بالعزة المطلقة، فلا يطرأ عليه ذلة واهانة والحكمة المطلقة فلا يداخل كلامه باطل ولا هزل وخرافة. ثم وصفه ثالثا بأنه الذى يدبر أمر السماء والارض والنبات والحيوان والانسان لانه خالقها فله أن يعد هؤلاء بالجنة واولئك بالعذاب وهو قوله: (خلق السماوات بغير عمد ترونها) الخ. قوله تعالى: (خلق السماوات بغير عمد ترونها) الخ، تقدم في تفسير قوله تعالى: (الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها) الرعد: 2، أن قوله: (ترونها) يحتمل أن يكون قيدا توضيحيا، والمعنى أنكم ترونها ولا أعمدة لها، وأن يكون قيدا احترازيا والمعنى خلقها بغير أعمدة مرئية اشعارا بأن هناك أعمدة غير مرئية. وقوله: (وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم)، أي ألقى فيها جبالا شامخة لئلا تضطرب بكم وفيه اشعار بأن بين الجبال والزلازل رابطة مستقيمة. وقوله: (وبث فيها من كل دابة) أي نشر في الارض من كل حيوان يدب عليها. وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء وأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي وأنزلنا من جهة العلو ماء وهو المطر وأنبتنا فيها شيئا من كل زوج نباتى شريف فيه منافع وله فوائد، وفيه اشارة إلى تزوج النبات وقد تقدم الكلام فيه في نظيره. والالتفات فيها من الغيبة إلى التكلم مع الغير للاشارة إلى كمال العناية بأمره كما قيل. قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين)، لما أراهم خلقه وتدبيره تعالى للسماوات والارض وما عليها فأثبت به ربوبيته والوهيته تعالى كلفهم أن يروه شيئا من خلق آلهتهم ان كانوا آلهة وأربابا فان
[ 212 ]
لم يقدروا على اراءة شئ ثبت بذلك وحدانيته تعالى في الوهيته وربوبيته. وانما كلفهم باراءة شئ من خلق آلهتهم - وهم يعترفون أن الخلق لله وحده ولا يسندون إلى آلهتهم خلقا وانما ينسبون إليهم التدبير فقط، لانه نسب إلى الله خلقا هو بعينه تدبير من غير انفكاك، فلو كان لا لهتهم تدبير في العالم كان لهم خلق ما يدبرون أمره واذ ليس لهم خلق فليس لهم تدبير فلا اله الا الله ولا رب غيره. وقد سيقت الاية خطابا من النبي ص لان نوع هذا الخطاب (فأروني ماذا خلق الذين من دونه) لا يستقيم من غيره ص. (بحث روائي) في المجمع: نزل قوله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصى بن كلاب كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشترى أخبار الاعاجم ويحدث بها قريشا ويقول لهم: ان محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الاكاسرة فيستمعون حديثه ويتر كون استماع القرآن. عن الكلبى. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن البيهقى عن ابن عباس، ولا يبعد أن يكون ذلك سبب نزول تمام السورة كما تقدمت الاشارة إليه. وفى المعاني باسناده عن يحيى بن عبادة عن أبى عبد الله ع قلت: قوله عز وجل: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) قال: منه الغنا. أقول: وروى هذا المعنى في الكافي باسناده عن مهران عنه ع، وباسناده عن الوشا عن الرضا عنه عليهما السلام، وباسناده عن الحسن بن هارون عنه ع. وفى الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر ع قال: سمعته يقول: الغنا مما أوعد الله عليه النار وتلا هذه الاية: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين). وفيه باسناده عن أبى بصير قال: سألت أبا جعفر ع عن كسب المغنيات
[ 213 ]
فقال: التى يدخل عليها الرجال حرام والتى تدعى إلى الاعراس ليس به بأس وهو قول الله عز وجل: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله). وفى المجمع وروى أبو أمامة عن النبي ص قال: لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) الاية. اقول: ورواه في الدر المنثور عن جم غفير من أصحاب الجوامع عن أبى أمامة عنه ص. وفيه وروى عن أبى عبد الله ع أنه قال: هو الطعن في الحق والاستهزاء به وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به إذ قال: يا معاشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم الذى يخوفكم به صاحبكم ؟ ثم أرسل إلى زبد وتمر فقال: هذا هو الزقوم الذى يخوفكم به. قال: ومنه الغنا. وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى الدنيا عن على بن الحسين قال: ما قدست أمة فيها البربط. وفى تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر ع في قوله: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بنى عبد الدار بن قصى، وكان النضر ذا رواية لاحاديث الناس وأشعارهم، يقول الله عز وجل: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا) الاية. وفيه عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبى الحسن الرضا ع قال: قلت له: أخبرني عن قول الله تعالى: (والسماء ذات الحبك) قال: هي محبوكة إلى الارض
وشبك بين أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الارض والله يقول: (رفع السماوات بغير عمد ترونها) ؟ فقال: سبحان الله أليس يقول: (بغير عمد ترونها) ؟ فقلت: بلى. فقال: فثم عمد ولكن لا ترونها. * * * ولقد آتينا لقمامن الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فانما
[ 214 ]
يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غنى حميد - 12. واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم - 13. ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير - 14. وان جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون - 15. يا بنى انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله ان الله لطيف خبير - 16. يا بنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الامور - 17. ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور - 18. واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الاصوات لصوت الحمير - 19. (بيان) في الايات اشارة إلى ايتاء لقمان الحكمة ونبذة من حكمه ومواعظه لابنه ولم يذكر في القرآن الا في هذه السورة ويناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة
حكمة وموعظة لما قص من حديث من كان يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا.
[ 215 ]
قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) الخ، الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة وهى وسط الاعتدال بين الجهل والجربزة. وقوله: (أن اشكر لى) قيل: هو بتقدير القول أي وقلنا: أن اشكر لى. والظاهر أنه تفسير ايتائه الحكمة من غير تقدير القول، وذلك أن حقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذى ينبغى له بحيث يشير الى انعام المنعم، وايقاعه كما هو حقه يتوقف على معرفة المنعم ومعرفة نعمه بما هي نعمه وكيفية وضعها موضعه بحيث يحكى عن انعامه فايتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فايتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة. وفى قوله: (أن اشكر لله) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وذلك أن التكلم مع الغير من المتكلم اظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه وخدمه وقول أن اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر وهو ظاهر. وقوله: (ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غنى حميد) استغناء منه تعالى أن نفع الشكر انما يرجع إلى نفس الشاكر والكفر لا يتضرر به الا نفسه دونه سبحانه ومن يشكر فانما يوقع الشكر لنفع نفسه ولا ينتفع به الله سبحانه لغناه المطلق ومن كفر فانما يتضرر به نفسه ان الله غنى لا يؤثر فيه الشكر نفعا ولا ضرا حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر. وفى التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار وفى الكفر بالماضي الدال على المرة اشعار بأن الشكر انما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه. قوله تعالى: (واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم) عظمة كل عمل بعظمة أثره وعظمة المعصية بعظمة المعصى فان مؤاخذة
العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته وكبريائه فوق كل عظمة وكبرياء بأنه الله لا شريك له وأعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له. وقوله: (ان الشرك لظلم عظيم) حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر. قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه) إلى آخر الاية، اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان وليس من كلام لقمان وانما اطرد ههنا للدلالة على وجوب
[ 216 ]
شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته وأمره تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى وعبادته شكر. وقوله: (حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين) ذكر بعض ما تحملته أمه من المحنة والاذى في حمله وتربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما وخاصة الام. والوهن الضعف وهو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق والتقدير تهن وهنا على وهن، والفصال الفطم وترك الارضاع، ومعنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق العامين فيؤل إلى كون الارضاع عامين، وإذا ضم إلى قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) الاحقاف: 46، بقى لاقل الحمل ستة أشهر، وستكرر الاشارة إليه فيما سيأتي (1). وقوله: (أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير) تفسير لقوله: (وصينا) الخ، في أول الاية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، وقوله: (إلى المصير) انذار وتأكيد للامر بالشكر. والقول في الالتفات الواقع في الاية في قوله: (أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير) الخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات في قوله السابق: (أن اشكر لله).
قوله تعالى: (وان جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما) إلى آخر الاية. أي ان ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكا لى فلا تطعهما ولا تشرك بى، والمراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوما مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيؤل المعنى: لا تشرك بى ما ليس بشئ، هذا محصل ما ذكره في الكشاف وربما أيده قوله تعالى: (أتنبئونه بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض) يونس: 18. وقيل: (تشرك) بمعنى تكفر و (ما) بمعنى الذى، والمعنى: وان جاهداك أن تكفر بى كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما ويؤيده تكرار نفى السلطان على الشريك
(1) في بحث روائي في ذيل آية الا حقاف. (*)
[ 217 ]
في كلامه تعالى كقوله: (ما تعبدون من دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) يوسف: 40، إلى غير ذلك من الايات. وقوله: (ووصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى) الجملتان كالتلخيص والتوضيح لما تقدم في الايتين من الوصية بهما والنهى عن اطاعتهما ان جاهدا على الشرك بالله. يقول سبحانه: يجب على الانسان أن يصاحبهما في الامور الدنيوية غير الدين الذى هو سبيل الله صحابا معروفا ومعاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق واللين من غير جفاء وخشونة وتحمل المشاق التى تلحقه من جهتهما فليست الدنيا الا أياما معدودة متصرمة، وأما الدين فان كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما والا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله. ومن هنا يظهر أن في قوله: (واتبع سبيل من اناب إلى) ايجازا لطيفا فهو يفيد أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما والا فلا يطاعا ولتتبع سبيل غيرهما
ممن أناب إلى الله. وقوله: (ثم إلى مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون) أي هذا الذى ذكر، تكليفكم في الدنيا ثم ترجعون إلى يوم القيامة فاظهر لكم حقيقه أعمالكم التى عملتموها في الدنيا فأقضى بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر. وبما مر يظهر أن قوله: (في الدنيا) يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في الامور الدنيوية دون الدينية، وثانيا: تهوين أمر الصحبة وأنها ليست الا في أيام قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، وثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه بقوله: (ثم إلى مرجعكم) الخ. قوله تعالى: (يا بنى انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله) الخ، ذكروا أن الضمير في (انها) للخصلة من الخير والشر لدلالة السياق على ذلك وهو أيضا اسم كان و (مثقال حبة) خبره، والمراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات أو في الارض، والمراد بالاتيان بها احضارها للحساب والجزاء.
[ 218 ]
كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد ونفى الشريك وما في هذه الاية فصل ثان في المعاد وفيه حساب الاعمال، والمعنى: يا بنى ان تكن الخصلة التى عملت من خير أو شر أخف الاشياء وأدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات والارض يأت بها الله للحساب والجزاء لان الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الاشياء ويصل إلى كل خفى خبير يعلم كنه الموجودات. قوله تعالى: (يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الامور) الاية وما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الاعمال
والاخلاق الفاضلة. فمن الاعمال الصلاة التى هي عمود الدين ويتلوها الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن الاخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة. وقوله: (ان ذلك من عزم الامور) الاشارة إلى الصبر والاشارة البعيدة للتعظيم والترفيع وقول بعضهم: ان الاشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الامور في كلامه تعالى كقوله: (ولمن صبر وغفر ان ذلك من عزم الامور) الشورى: 43، وقوله: (ان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور) آل عمران: 186. والعزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على امضاء الامر وكون الصبر - وهو حبس النفس في الامر - من العزم انما هو من حيث ان العقد القلبى ما لم ينحل وينفصم ثبت الانسان على الامر الذى عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد والمحافظة عليه وهو من قدرة النفس وشهامتها. وقول بعضهم: ان المعنى أن ذلك من عزيمة الله وايجابه في الامور بعيد وكذا قول بعضهم: ان العزم هو الجزم وهو لغة هذيل. قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور) قال الراغب: الصعر ميل في العنق والتصعير امالته عن النظر كبرا قال: (ولا تصعر خدك للناس) وقال: المرح شدة الفرح والتوسع فيه انتهى.
[ 219 ]
فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا ولا تمش في الارض مشية من اشتد فرحه ان الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء - وهو التكبر بتخيل الفضيلة - ويكثر من الفخر. وقال بعضهم ان معنى: (لا تصعر خدك للناس) لا تلو عنقك لهم تذللا عند الحاجة وفيه أنه لا يلائمه ذيل الاية.
قوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان أنكر الاصوات لصوت الحمير) القصد في الشئ الاعتدال فيه والغض - على ما ذكره الراغب - النقصان من الطرف والصوت فغض الصوت النقص والقصر فيه. والمعنى: وخذ بالاعتدال في مشيك وبالنقص والقصر في صوتك ان أنكر الاصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول: ان من الكبائر عقوق الوالدين واليأس من روح الله والامن من مكر الله وقد روى: أكبر الكبائر الشرك بالله. وفى الفقيه في الحقوق المروية عن سيد العابدين ع: حق الله الاكبر عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئا فإذا فعلت ذلك باخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والاخرة. قال: وأما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطى أحد أحدا ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لاجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها فانك لا تطيق شكرها الا بعون الله وتوفيقه. وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فانك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة الا بالله. وفى الكافي باسناده عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله ع قال: جاء رجل
[ 220 ]
إلى النبي ص فقال: يا رسول الله من أبر ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال:
أمك. قال: ثم من ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال: أباك. وفى المناقب: مر الحسين بن على ع على عبد الرحمان بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الارض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز وما كلمته منذ ليالى صفين. فأتى به أبو سعيد الخدرى إلى الحسين ع فقال له الحسين ع: أتعلم أنى أحب أهل الارض إلى أهل السماء وتقاتلني وأبى يوم صفين ؟ والله ان أبى لخير منى فاستعذر وقال ان النبي ص قال لى: أطع أباك. فقال له الحسين ع: أما سمعت قول الله عز وجل: (وان جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما) وقال رسول الله ص: انما الطاعة بالمعروف، وقوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفى الفقيه في ألفاظه ص الموجزة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفى الكافي باسناده عن أبى بصير عن أبى جعفر ع قال: سمعته يقول: اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالبا، يقول أحدكم أذنب وأستغفر ان الله عز وجل يقول: (سنكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في امام مبين) وقال عز وجل: (انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله ان الله لطيف خبير). وفيه باسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله ع عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. الحديث. وفيه باسناده عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن الرضا ع أنه قال: الصلاة قربان كل تقى. وفى المجمع: (واصبر على ما أصابك) من المشقة والاذى في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. عن على ع.
وفيه في قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) أي ولا تمل وجهك من الناس بكل ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا به، وهذا المعنى قول ابن عباس وأبى عبد الله ع.
[ 221 ]
وفى الدر المنثور أخرج الطبراني وابن عدى وابن مردويه عن أبى أيوب الانصاري أن رسول الله ص سئل عن قول الله: (ولا تصعر خدك للناس) قال: إلى الشدق. وفى المجمع في قوله تعالى: (ان أنكر الاصوات لصوت الحمير) وروى عن أبى عبد الله ع قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا الا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن. أقول: وفى جميع هذه المعاني وخاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة. (كلام في قصة لقمان ونبذ من حكمه، في فصلين) 1 - لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى الا في سورة لقمان ولم يذكر من قصصه الا ما في قوله عز من قائل: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) وقد وردت في قصته وحكمه روايات كثيرة مختلفة ونحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار. ففى الكافي عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لى أبو الحسن موسى بن جعفر ع: يا هشام ان الله قال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال: الفهم والعقل. وفى المجمع روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ص يقول: حقا أقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه ومن عليه بالحكمة. كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت ان خيرنى ربى قبلت العافية ولم أقبل
البلاء وان هوعزم على فسمعا وطاعة فانى أعلم أنه ان فعل بى ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان ؟ قال: لان الحكم أشد المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان ان وفى فبالحرى أن ينجو، وان أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفى الاخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا وفى الاخرة ذليلا ومن تخير الدنيا على الاخرة تفته الدنيا ولا يصيب الاخرة.
[ 222 ]
فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فاعطى الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يوازر داود بحكمته فقال له داود: طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتدرون ما كان لقمان ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: كان حبشيا. 2 - وفى تفسير القمى باسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لقمان وحكمته التى ذكرها الله عز وجل، فقال: أما والله ما اوتى لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال. ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شئ قط مخافة الاثم ولم يغضب قط، ولم يمازح انسانا قط، ولم يفرح بشئ أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شئ قط وقد نكح من النساء وولد له من الاولاد الكثير وقدم أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم. ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان الا أصلح بينهما ولم يمض عنهما حتى تحابا، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يكثر
مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان يداوى قلبه بالفكر ويداوى نفسه بالعبر، وكان لا يظعن الا فيما يعنيه فبذلك اوتى الحكمة ومنح العصمة. وان الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس ؟ فقال لقمان: ان أمرنى الله بذلك فالسمع والطاعة لانه ان فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني وان هو خيرنى قبلت العافية. فقالت الملائكة: يا لقمان لم ؟ قال: لان الحكم بين الناس بأشد المنازل وأكثر
[ 223 ]
فتنا وبلاء يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه فيه بين أمرين ان أصاب فيه الحق فبالحرى أن يسلم وان أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا، ومن اختار الدنيا على الاخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا تدرك تلك. قال: فتعجب الملائكة من حكمته واستحسن الرحمان منطقه فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيها. قال: فلما أوتى الحكم بالخلافة ولم يقبلها أمر الله عز وجل الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز وجل الخلافة في الارض وابتلى بها غير مرة كل ذلك يهوى في الخطأ يقيله الله ويغفر له، وكان لقمان يكثر زيارة داود ع ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، وكان داود يقول له: طوبى لك
يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية وأعطى داود الخلافة وابتلى بالحكم والفتنة. ثم قال أبو عبد الله ع في قول الله عز وجل: (واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم) قال: فوعظ لقمان ابنه باثار (1) حتى تفطر وانشق. وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال: يا بنى انك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الاخرة فدار أنت إليها تسير أقرب اليك من دار أنت عنها متباعد. يا بنى جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك، وخذ من الدنيا بلاغا ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك، وصم صوما يقطع شهوتك ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة فان الصلاة أحب إلى الله من الصيام. يا بنى: ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الايمان واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله فان نجوت فبرحمة الله وان
(1) باثار اسم ابنه والتفطر والانشقاق كناية عن كمال التأثر. (*)
[ 224 ]
هلكت فبذنوبك. يا بنى: ان تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا ومن عنى بالادب اهتم به، ومن اهتم به تكلف علمه ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ومن اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فانك تخلف في سلفك وينتفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب، واياك والكسل عنه بالطلب لغيره فان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الاخرة وإذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الاخرة واجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيبا في طلب العلم فانك لن تجد له تضييعا أشد من تركه ولا تمارين فيه لجوجا ولا تجادلن فقيها ولا تعادين سلطانا، ولا تماشين ظلوما ولا تصادقنه ولا تواخين فاسقا ولا تصاحبن متهما واخزن علمك كما تخزن ورقك.
يا بنى: خف الله عز وجل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك وارج الله رجاء لو وافيت القيامة باثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك. فقال له ابنه: يا أبت كيف أطيق هذا وانما لى قلب واحد ؟ فقال له لقمان: يا بنى: لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف ونور للرجاء لو وزنا لما رجح أحدهما على الاخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز وجل ومن يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فان هذه الاخلاق يشهد بعضها لبعض فمن يؤمن بالله ايمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا ومن يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا ومن أطاع الله خافه، ومن خافه فقد أحبه، ومن أحبه فقد اتبع أمره ومن اتبع أمره استوجب جنته ومرضاته، ومن لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله. يا بنى: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين. وفى قرب الاسناد: هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه ع قيل للقمان: ما الذى أجمعت عليه من حكمتك ؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته ولا أضيع ما وليته. وفى البحار عن قصص الانبياء باسناده عن جابر عن أبى جعفر ع قال: كان
[ 225 ]
فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بنى: ان تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك وان كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك فانك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك وانما النوم بمنزلة الموت وانما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، وقال: قال لقمان لابنه: يا بنى لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها وابن آدم (1) لا يحب
مثله. لا تنشر (2) بزك الا عند باغيه، وكما ليس بين الكبش والذئب خلة كذلك ليس بين البار والفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم، ومن لا يملك لسانه يندم. وقال: يا بنى صاحب مائة ولا تعاد واحدا، يا بنى انما هو خلاقك وخلقك فخلاقك دينك وخلقك بينك وبين الناس فلا تبغضن إليهم وتعلم محاسن الاخلاق. يا بنى كن عبدا للاخيار ولا تكن ولدا للاشرار. يا بنى أد الامانة تسلم دنياك وآخرتك وكن أمينا فان الله لا يحب الخائنين. يا بنى لا تر الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر. وفى الكافي باسناده عن يحيى بن عقبة الازدي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان فيما وعظ به لقمان لابنه يا بنى ان الناس قد جمعوا قبلك لاولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وانما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فأوف عملك واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر اخربها ولا تعمرها فانك لم تؤمر بعمارتها. واعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدى الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما
(1) أي أن ابن آدم لا يحب أن يكافيه غيره في مزية من المزايا. (2) أي لا تظهر متاعك الا عند طالبه. (*)
[ 226 ]
أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك، وجد في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرض لمعروف
ربك، وجدد التوبة في قلبك، واكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك، ويقضى قضاؤك، ويحال بينك وبين ما تريد. وفى البحار عن القصص باسناده عن حماد عن الصادق عليه السلام قال: قال لقمان: يا بنى اياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، والزم نفسك التؤدة (1) في أمورك وصبر على مؤنات الاخوان نفسك، وحسن مع جميع الناس خلقك. يا بنى ان عدمك ما تصل به قرابتك وتتفضل به على اخوانك فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر فان من أحسن خلقه أحبه الاخيار وجانبه الفجار، واقنع بقسم الله ليصفو عيشك فان أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدى الناس فانما بلغ الانبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم. أقول: والاخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه ايثارا للاختصار. * * * ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير - 20. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير - 21. ومن يسلم وجهه إلى الله وهو
(1) التؤدة - بضم التاء كهمزة - السكون والرزانة. (*)
[ 227 ]
محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الامور - 22. ومن كفر فلا يحزنك كفره الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ان الله عليم بذات الصدور - 23. نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب
غليظ - 24. ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون - 25. لله ما في السماوات والارض ان الله هو الغنى الحميد - 26. ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ان الله عزيز حكيم - 27. ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير - 28. ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير - 29. ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير - 30. أ لم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته ان في ذلك لايات لكل صبار شكور - 31. وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا الا كل ختار كفور - 32. يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن
[ 228 ]
والده شيئا ان وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور - 33. ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت ان الله عليم خبير - 34. (بيان) رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية ونفى الشريك وأدلتها المنتهية إلى قوله: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين).
قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) رجوع إلى ما قبل قصة لقمان وهو الدليل على أن الخطاب للمشركين وان كان ذيل الاية يشعر بعموم الخطاب. وعليه فصدر الاية من تتمة كلام النبي ص ويتصل بقوله: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) ولا التفات في قوله: (أ لم تروا). وعلى تقدير كونه من كلامه تعالى ففى قوله: (ألم تروا) التفات من سياق الغيبة الذى في قوله: (بل الظالمون في ضلال مبين) إلى الخطاب، والالتفات في مثل هذه الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم وتأكد غيظه من جهل المخاطبين وتماديهم في غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة ولا ينجح فيهم اشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرئى منهم ومسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم وينتزعوا عن غفلتهم. وكيف كان فالمراد بتسخير السماوات والارض للانسان وهم يرون ذلك ما نشاهده من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة والانسان خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور والارادة فقد سخر الله الكون لاجله.
[ 229 ]
والتسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر ويريده كتسخير الكاتب القلم للكتابة وكما يسخر المولى عبده والمخدوم خادمه في أن يفعل باختياره وارادته ما يختاره ويريده المولى والمخدوم والاسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الانساني. ومما مر يظهر أن اللام في (لكم) للتعليل الغائي والمعنى لاجلكم والمسخر بالكسر هو الله تعالى دون الانسان، وربما احتمل كون اللام للملك والمسخر بالكسر هو الانسان بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الانسان بمرور الزمان في تسخير أجزاء الكون
واستخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله: (ألم تروا). وقوله: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) الاسباغ الاتمام والايساع أي أتم وأوسع عليكم نعمه، والنعم جمع نعمة وهو في الاصل بناء النوع وغلب عليه استعماله في ما يلائم الانسان فيستلذ منه، والمراد بالنعم الظاهرة والباطنة بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع والبصر وسائر الجوارح والصحة والعافية والطيبات من الرزق والنعم الغائبة عن الحس كالشعور والارادة والعقل. وبناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم و كالدين الذى به ينتظم أمور دنياهم وآخرتهم والباطنة منها كما تقدم وكالمقامات المعنوية التى تنال باخلاص العمل. وقوله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) رجوع الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان في السياق السابق، والمجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة، والمقابلة بين العلم والهدى والكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية، وبالهدى ما يفيضه الله بالوحى أو الالهام، وبالكتاب الكتاب السماوي المنتهى إليه تعالى بالوحى النبوى ولذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها. فمعنى قوله: يجادل في الله بغير كذا وكذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد. قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
[ 230 ]
آباءنا) الخ، ضمائر الجمع راجعة إلى (من) باعتبارالمعنى كما أن ضمير الافراد في الاية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ. وقوله: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) في التعبير بما أنزل الله من غير أن
يقال: اتبعوا الكتاب أو القرآن اشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم فيها لان نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل: وإذا دعوا إلى دين التوحيد الذى يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه، وبعبارة أخرى إذا ألقى إليهم القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وقوله: (أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير ؟ فالاستفهام للانكار ولو وصلية معطوفة على محذوف مثلها والتقدير أيتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان ولو دعاهم. ومحصل الكلام: أن الاتباع انما يحسن إذا كانوا على الحق وأما لو كانوا على الباطل وكان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء وعذاب السعير وهو كذلك فانه اتباع في عبادة غير الله ولا معبود غيره. قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الامور) استئناف ويحتمل أن يكون حالا من مفعول (يدعوهم) وفى معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم، والمعنى: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى كذا والحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا وأفلح والحال أن عاقبة الامور ترجع إلى الله فيجب أن يكون هو المعبود. واسلام الوجه إلى الله تسليمه له وهو اقبال الانسان بكليته عليه بالعبادة واعراضه عمن سواه. والاحسان الاتيان بالاعمال الصالحة عن ايقان بالاخرة كما فسره به في أول السورة (هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم يوقنون) والعروة الوثقى المستمسك الذى لا انفصام له. والمعنى: ومن وحد الله وعمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة في عاقبة أمره لانها إلى الله وهو الذى يعده بالنجاة والفلاح. ومن هنا يظهر أن قوله: (والى الله عاقبة الامور) في مقام التعليل لقوله: (فقد
[ 231 ]
استمسك بالعروة الوثقى) بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة والفلاح. قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره - إلى قوله - إلى عذاب غليظ) تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن وهم بالاخرة راجعون إليه تعالى فينبئهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم وتبعاتها وهى النار. وقوله: (يمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) كشف عن حقيقة حالهم ببيان آخر فان البيان السابق (الينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) ربما أوهم أنهم ما داموا متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا منه فانتقم منهم بالعذاب جئ بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من التدبير قط وانما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون مقهورون على كل حال وأمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم ولا غيرها. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) اشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا يشعرون، فانهم ان سئلوا عمن خلق السماوات والارض اعترفوا بأنه الله عز اسمه وإذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لان التدبير لا ينفك عن الخلق، وإذا كان مدبر الامر والمنعم الذى يبسط ويقبض ويرجى ويخاف هو فالمعبود هو هو وحده لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون. ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال: (قل الحمد لله) ثم أشار الى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى اعترافهم أن الله هو الخالق وما يستلزمه فقال: (بل أكثرهم لا يعلمون) نعم قليل منهم يعلمون ذلك ولكنهم لا يطاوعون الحق بل يجحدونه وقد أيقنوا به كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14.
قوله تعالى: (لله ما في السماوات والارض ان الله هو الغنى الحميد) لما كان اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه انما يثبت التوحد بالربوبية والالوهية إذا كان التدبير والتصرف إليه تعالى وكان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به في تمام الحجة واستحمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجهل القوم لغفلتهم.
[ 232 ]
ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا مطلقا وتقريره أنه تعالى مبدء كل خلق ومعطى كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه الاشياء فهو غنى على الاطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدء له معطيا لكماله هذا خلف، وإذا كان غنيا على الاطلاق كان له ما في السماوات والارض فهو المالك لكل شئ على الاطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير وتصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شئ من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه وإذا كان التدبير والتصرف له تعالى فهو رب العالمين والاله الذى يعبد ويشكر انعامه واحسانه. وهذا هو الذى يشير إليه قوله: (لله ما في السماوات والارض ان الله هو الغنى) فقوله: (لله ما في) الخ، حجة على وحدانيته وقوله: (ان الله هو الغنى) تعليل للملك. وأما قوله: (الحميد) أي المحمود في أفعاله فهو مبدء آخر للحجة وذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري وكل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء فيه فهو حميد على الاطلاق ولو كان شئ من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد والثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الاطلاق وبالنسبة إلى كل شئ وقد فرض أنه حميد على الاطلاق هذا خلف. قوله تعالى: (ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) الخ، (من شجرة) بيان للموصول والشجرة واحد الشجر
وتفيد في المقام - وهى في سياق (لو) - الاستغراق أي كل شجرة في الارض، والمراد بالبحر مطلق البحر، وقوله: (يمده من بعده سبعة أبحر) أي يعينه بالانضياف إليه سبعة أمثاله والظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد والكلمة هي اللفظ الدال على معنى، وقد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى، وقد قال: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82، وقد أطلق على المسيح عليه السلام الكلمة في قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم) النساء: 171. فالمعنى: ولو جعل أشجار الارض أقلاما وأخذ البحر وأضيف إليه سبعة أمثاله وجعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظا دالة عليها - بتلك
[ 233 ]
الاقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية. ومن هنا يظهر أن في الكلام ايجازا بالحذف وأن قوله: (ان الله عزيز حكيم) في مقام التعليل، والمعنى: لانه تعالى عزيز لا يعزه ولا يقهره شئ فهذه الكتابة لا ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره. والاية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره فسيقت هذه الاية للدلالة على سعة تدبيره وكثرة أوامره التكوينية في الخلق والتدبير إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا وكتبت به أشجار الارض المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره وكلماته. قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير) سوق للكلام إلى امكان الحشر وخاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى واختلاطهم بالارض من غير تميز بعضهم من بعض. فقال تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة) في الامكان والتأتى فانه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يعجزه كثرة ولا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد والجمع،
وذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء والعود من حيث السهولة والصعوبة بل لا يتصف فعله بالسهولة والصعوبة. ويشهد لما ذكر اضافة الخلق والبعث إلى ضمير الجمع المخاطب والمراد به الناس ثم تنظيره بالنفس الواحدة، والمعنى: ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم ولا بعثكم الا كخلق نفس واحدة وبعثها فأنتم على كثرتكم والنفس الواحدة سواء لانه لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم والبعث لجزاء الاعمال فانما يشكل من جهة الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها واختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها لانه سميع لاقوالكم بصير بأعمالكم وبعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة. وبما مر يندفع الاعتراض على الاية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير وبعثهم كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا: ان الله على كل شئ قدير أو قوى عزيز أو ما يشبه ذلك لا بمثل السميع البصير الذى لا ارتباط له بالخلق والبعث. وذلك أن الاشكال الذى تعرضت الاية لدفعه هو أن البعث لجزاء الاعمال وهى
[ 234 ]
على كثرتها واندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالاشكال متوجه إلى ما ذكره قبل ثلاث آيات بقوله: (فننبئهم بما عملوا) وقد أجيب بأنه كيف يخفى عليه شئ من الاقوال والاعمال وهو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول ولا فعل. وقد كان ذيل قوله السابق: (فننبئهم بما عملوا) بقوله: (ان الله عليم بذات الصدور) وهو مبنى على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة والسيئة كما يشير إليه قوله: (وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة: 284، وجواب عن هذا الاشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته فيجاب عنه أن الله عليم بذات الصدور ولو وجه إلى نفس الاعمال الخارجية من الاقوال والافعال فالجواب عنه بما في هذه الاية التى نحن فيها: (ان الله سميع بصير)، فالاشكال والجواب بوجه
نظير ما وقع في قوله تعالى: (قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) طه: 52، فافهم. وقد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى) الخ، استشهاد لما تقدم في الاية السابقة من علمه بالاعمال بأن التدبير الجارى في نظام الليل والنهار حيث يزيد هذا وينقض ذاك وبالعكس بحسب الفصول المختلفة وبقاع الارض المتفرقة في نظم ثابت جار على اختلافه، وكذا التدبير الجارى في الشمس والقمر على اختلاف طلوعهما وغروبهما واختلاف جريانهما ومسير هما بحسب الحس وكل منهما يجرى لاجل مسمى ولا اختلاف ولا تشوش في النظام الدقيق الذى لهما فهذا كله مما يمتنع من غير علم وخبرة من مدبرها. فالمراد بايلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول واشغاله بعض ساعات النهار من قبل وبايلاج النهار في الليل عكس ذلك، والمراد بجريان الشمس والقمر المسخرين إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما إلى بدء فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجارى وأمعن فيه لم يشك في أن مدبره انما يدبره عن علم لا يخالطه جهل وليس ذلك عن صدفة واتفاق.
[ 235 ]
وقوله: (وأن الله بما تعملون خبير) عطف على موضع (أن الله يولج) والتقدير ألم تر أن الله بما تعملون خبير وذلك لان من شاهد نظام الليل والنهار والشمس والقمر لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله ودقائقها، كذا قيل. وفيه أن استنتاج العلم بالاعمال من العلم بالنظام الجارى في الليل والنهار والشمس والقمر وان صح في نفسه فهو علم حدسى لا مصحح لتسميتها رؤية وهو ظاهر.
ولعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالاعمال أن الانسان لو أمعن في النظام الجارى في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الانساني موزعة من جهة إلى الاعمال الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع وبصر وشم وذوق ولمس والصادرة عن القوى الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى والادوات أو كلها ومن جهة إلى جاذبة ودافعة ومن جهة إلى سنى العمر من طفولية ورهاق وشباب وشيب إلى غير ذلك. ثم في ارتباط بعضها ببعض واستخدام بعضها لبعض واهتداء النفس إلى وضع كل في موضعه الذى يليق به وحركته بهذه القافلة من القوى والاعمال نحو غايتها من الكمال وسعادتها في المآل وتورطها في ورطات عالم المادة وموطن الزينة والفتنة فمن ناج أو هالك. فإذا أمعن في هذا النظام المحير للاحلام لم يرتب أنه تقديرقدره ربه ونظام نظمه صانعه العليم القدير ومشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما يعملون خبير، والله العالم. قوله تعالى: (ذلك بأن الله هوالحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير) لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شئ فيستند إليه في وجوده وتدبير أمره وأن إليه عود كل شئ من غير فرق بين الواحد والكثير وأنه ليس إلى من يدعون من دونه خلق ولا أمر، جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما تقدم: (ذلك بأن الله هوالحق وأن ما يدعون من دونه الباطل) الخ. توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته والباطل يقابل الحق فهو اللاثابت من جهة عدم ثبوته، وقوله: (أن الله هوالحق) بما فيه من ضمير الفصل وتعريف
[ 236 ]
الخبر باللام يفيد القصر أعنى حصر المبتدأ في الخبر.
فقوله: (بأن الله هو الحق) قصر له تعالى في الثبوت، أي هو ثابت لا يشوب ثبوته بطلان وبعبارة اخرى هو ثابت من جميع الجهات وبعبارة ثالثة هو موجود على كل تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط فوجوده ضروري وعدمه ممتنع وغيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير وهو تقدير وجود سببه وهو الوجود المقيد الذى يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته. وإذا كان حقية الشئ هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته وغيره انما يحق ويتحقق به. وإذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا: أن الاشياء بأجمعها تستند في وجودها إليه تعالى وأيضا تستند في النظام الجارى فيها عامة وفى النظامات الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها وكل فرد من أفرادها إليه تعالى. وثانيا: أن الكمالات الوجودية التى هي صفات الوجود كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والوحدة والخلق والملك والغنى والحمد والخبرة - مما عد في الايات السابقة أو لم يعد - صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه وعز قدسه لانها صفات وجودية والوجود قائم به تعالى فهى اما عين ذاته كالعلم والقدرة واما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق والرزق والرحمة. وثالثا: أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره وكل ما يحمل معنى الفقد والنقص مسلوب عنه تعالى وهذه هي الصفات السلبية كنفى الشريك ونفى التعدد ونفى الجسم والمكان والزمان والجهل والعجز والبطلان والزوال إلى غيرها. فان اطلاق وجوده وعدم تقيده بقيد ينفى عنه كل معنى عدمي أي اثبات الوجود مطلقا فان مرجع نفى النفى إلى الاثبات. ولعل قوله: (وأن الله هو العلى الكبير) يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها بناء على أن اسم (العلى) يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات السلبيه والكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.
وأن صدر الاية برهان على ذيلها وذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات الثبوتية والسلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال
[ 237 ]
فهو الله عز اسمه. وقوله: (وأن ما يدعون من دونه الباطل) يجرى فيه ما يقابل ما جرى في قوله: (ذلك بأن الله هو الحق) فالذي يدعونه من الالهة ليس لهم من الحقيقة شئ ولا إليهم من الخلق والتدبير شئ لان الشريك في الالوهية والربوبية باطلا لا حق فيه واذ كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق ولا تدبير مطلقا. والحق والعلى والكبير ثلاثة من الاسماء الحسنى وقد تحقق مما تقدم أن الحق في معنى الواجب الوجود وأن العلى من الصفات السلبية والكبير من الصفات الثبوتية قريب المعنى من قولنا: المستجمع لصفات الكمال. قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته) الخ، الباء في بنعمة الله) للسببية وذكر النعمة كالتوطئة لاخر الاية وفيه تلويح إلى وجوب شكره على نعمته لان شكر المنعم واجب. والمعنى: ألم تر أن الفلك تجرى وتسير في البحر بسبب نعمة الله وهى أسباب جريانها من الريح ورطوبة الماء وغير ذلك. واحتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية والمراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام وسائر أمتعة الحياة. وقد تمم الاية بقوله: (ان في ذلك لايات لكل صبار شكور) والصبار الشكور أي كثير الصبر عند الضراء وكثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل. قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) ؟ الخ، قال الراغب: الظلة سحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره، قال: (كأنه ظلة)
(عذاب يوم الظلة) انتهى. والمعنى: واذاغشيهم وأحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى الله ودعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي وفى ذلك دليل على أن فطرتهم على التوحيد. وقوله: (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) المقتصد سالك القصد أي الطريق المستقيم والمراد به التوحيد الذى دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك، وفى التعبير بمن التبعيضية
[ 238 ]
استقلال عدتهم أي فلما نجاالله سبحانه هؤلاء الداعين بالاخلاص إلى البر فقليل منهم المقتصدون. وقوله: (وما يجحد بآياتنا الا كل ختار كفور) الختار مبالغة من الختر وهو شدة الغدر وفى السياق دليل على الاستكثار والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) لما ساق الحجج والمواعظ الشافية الوافية جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى وينذرهم بيوم القيامة الذى لا يغنى فيه مغن الا الايمان والتقوى. قال الراغب: الجزاء الغنى والكفاية، وقال: يقال: غررت فلانا أصبت غرته ونلت منه ما أريد والغرة غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة، إلى أن قال: فالغرور كل ما يغر الانسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر انتهى. فمعنى الاية: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) وهو الله سبحانه (واخشوا يوما) وهو يوم القيامة (لا يجزى) لا يفنى (والد عن ولده ولا مولود هو جاز) مغن كاف (عن والده) شيئا (ان وعد الله) بالبعث (حق) ثابت لا يخلف (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) بزينتها الغارة (ولا يغرنكم بالله الغرور) أي جنس ما يغر الانسان من شؤن
الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان. قوله تعالى: (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت ان الله عليم خبير) الغيث المطر ومعنى جمل الاية ظاهر. وقد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه وهى العلم بالساعة وهو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه الا هو ويدل على القصر قوله: (ان الله عنده علم الساعة) وتنزيل الغيث وعلم ما في الارحام ويختصان به تعالى الا أن يعلمه غيره. وعد أمرين آخرين يجهل بهما الانسان وبذلك يجهل كل ما سيجري عليه من الحوادث وهو قوله: (ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا) وقوله: (ولا تدرى نفس بأى أرض تموت).
[ 239 ]
وكأن المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق وجل حتى مثل الساعة التى لا يتيسر علمها للخلق وأنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم وأنتم لا تعلمون فاياكم أن تشركوا به وتتمردوا عن أمره وتعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم. (بحث روائي) في كمال الدين باسناده إلى حماد بن أبى زياد قال: سألت سيدى موسى بن جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) فقال: النعمة الظاهرة الامام الظاهر، والباطنة الامام الغائب. أقول: هو من الجرى والاية أعم مدلولا. وفى تفسير القمى باسناده عن جابر قال: قال رجل عند أبى جعفر عليه السلام: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) قال: أما النعمة الظاهرة فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من معرفة الله عز وجل وتوحيده وأما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد
مودتنا. الحديث. أقول: وهو كسابقه. وفى المجمع في قوله تعالى: (وأسبغ عليكم) الاية، وفى رواية الضحاك عن ابن عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقال: يا ابن عباس أما ما ظهر فالاسلام وما سوى الله من خلقك وما أفاض عليك من الرزق وأما ما بطن فستر مساوى عملك ولم يفضحك به، يا ابن عباس ان الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهن للمؤمن ولم يكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، وجعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه، والثالث سترت مساوى عمله ولم أفضحه بشئ منه ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم. أقول: روى ما يقرب منه في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس، والحديث كسابقيه من الجرى. وفى التوحيد باسناده عن عمر بن أذينة عن أبى جعفر عليه السلام في حديث: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله خالقه فذلك قوله عز وجل: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله).
[ 240 ]
وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله) قال: السفن تجرى في البحر بقدرة الله. وفيه في قوله: (ان في ذلك لايات لكل صبار شكور) قال: الذى يصبر على الفقر والفاقة ويشكر الله عز وجل على جميع أحواله. وفى المجمع في الاية وفى الحديث: الايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر. أقول: وهو مأخوذ من الاية فقد مر أنه كناية عن المؤمن. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (الا كل ختار كفور) قال: الختار الخداع وفى قوله: (ان وعد الله حق) قال: ذلك القيامة.
وفى ارشاد المفيد من كلام أمير المؤمنين عليه السلام لرجل سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها ؟ وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى السرور، وحذرت ببلائها البلاء تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا. فيا أيها الذام للدنيا والمغتر بتغريرها متى غرتك ؟ أبمصارع آبائك في البلى أم بمصارع أمهاتك تحت الثرى ؟ كم عللت بكفيك ومرضت بيديك تبتغى لهم الشفاء واستوصفت لهم الاطباء، وتلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبك ولم تشفعهم بشفاعتك مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ولا تغنى عنك أحباؤك. وفى الخصال عن أبى أسامة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال: ألا أخبركم بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه ؟ قال: قلت: بلى. قال: (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت ان الله عليم خبير). أقول: هناك روايات كثيرة جدا عن النبي والائمة عليهم السلام تخبر عن مستقبل حالهم وعن زمان موتهم ومكانه وهى تقيد هذه الرواية وما في معناها من الروايات بالتعليم الالهى لكن بعض الروايات يأبى التقييد ولا يعبأ بأمرها.
[ 241 ]
وفى الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوراث من بنى مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، متى تقوم الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا ؟ وقد علمت بأى أرض ولدت فبأى أرض أموت ؟
فنزلت هذه الاية. أقول: الحديث لا يخلو من شئ لعدم انطباق الاية على فقرات السؤال. وفيه أخرج ابن مردويه عن على بن أبى طالب قال: لم يعم على نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم الا الخمس من سرائر الغيب هذه الاية في آخر لقمان إلى آخر السورة.
[ 242 ]
(سورة السجدة مكية، وهى ثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الم - 1. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - 2. أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون - 3. ألله الذى خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع أفلا تتذكرون - 4. يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون - 5. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم - 6. الذي أحسن كل شئ خلقه وبدء خلق الانسان من طين - 7. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين - 8. ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون - 9. وقالوا ءاذا ظللنا في الارض ءانا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون - 10. قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون - 11. ولو ترى إذ
[ 243 ]
المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انا موقنون - 12. ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها
ولكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين - 13. فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون - 14. (بيان) غرض السورة تقرير المبدء والمعاد واقامة الحجة عليهما ودفع ما يختلج القلوب في ذلك مع اشارة إلى النبوة والكتاب ثم بيان ما يتميز به الفريقان المؤمنون بآيات الله حقا والفاسقون الخارجون عن زى العبودية ووعد أولئك بما هو فوق تصور المتصورين من الثواب ووعيد هؤلاء بالانتقام الشديد بأليم العذاب المخلد وأنهم سيذوقون عذابا أدنى دون العذاب الاكبر، وتختتم السورة بتأكيد الوعيد وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانتظار كما هم منتظرون. وهى مكية الا ثلاث آيات نزلت - كما قيل - بالمدينة وهى قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) إلى تمام ثلاث آيات. والذى أوردناه من آياتها يتضمن الفصل الاول من فصلى غرض السورة الذى أشرنا إليه. قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)، أي هذا تنزيل الكتاب، والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول واضافته إلى الكتاب من اضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى: هذا هو الكتاب المنزل لا ريب فيه. وقوله: (من رب العالمين) فيه براعة استهلال لما في غرض السورة أن يتعاطى بيانه من الوحدانية والمعاد اللذين ينكرهما الوثنية لما مر مرارا أنهم لا يقولون برب
[ 244 ]
العالمين بل يثبتون لكل عالم الها ولمجموع الالهة الها هو الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه بل هوالحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من
نذير من قبلك) الخ، أم منقطعة، والمعنى: بل يقولون افترى القرآن على الله وليس من عنده فرده بقوله: (بل هو الحق من ربك لتنذر) الخ. وقوله: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) قيل: يعنى قريشا فانهم لم يأتهم نبى قبله صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف غيرهم من قبائل العرب فانهم أتاهم بعض الانبياء كخالد بن سنان العبسى وحنظلة على ما في الروايات. وقيل: المراد به أهل الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا كأنهم في غفلة عما لزمهم من حق نعم الله وما خلقهم له من العبادة وفيه أن معنى الفترة هو عدم انبعاث نبى له شريعة وكتاب وأما الفترة عن مطلق النبوة فلا نسلم تحققها وخلو جميع الزمان وهو قريب من ستة قرون من النبي مطلقا. وقوله: (لعلهم يهتدون) غاية رجائية لارسال الرسول والترجى قائم بالمقام أو بالمخاطب دون المتكلم كما تقدم في نظائره. قوله تعالى: (الله الذى خلق السماوات والارض - إلى قوله - أفلا تتذكرون) تقدم الكلام في تفسير قوله: (خلق السماوات والارض ثم استوى على العرش) في نظائره من الايات وتقدم أيضا أن الاستواء على العرش كناية عن مقام تدبير الموجودات بنظام عام اجمالي يحكم على الجميع ولذا أتبع العرش في أغلب ما وقع فيه من الموارد بما فيه معنى التدبير كقوله: (ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار) الاعراف: 54 وقوله: (ثم استوى على العرش يدبر الامر) يونس: 3، وقوله: (ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض): الحديد: 4، وقوله: (ذو العرش المجيد فعال لما يريد) البروج: 16. والوجه في ذكر الاستواء على العرش، بعد ذكر خلق السماوات والارض ان الكلام في اختصاص الربوبية والالوهية بالله وحده ومجرد استناد الخلقة إليه تعالى لا ينفع في ابطال ما يقول به الوثنية شيئا فانهم لا ينكرون استناد الخلقة إليه وحده وانما
يقولون باستناد التدبير وهو الربوبية للعالم إلى آلهتهم ثم اختصاص الالوهية وهى المعبودية بالهتهم ولله تعالى من الشأن أنه رب الارباب واله الالهة.
[ 245 ]
فكان من الواجب عند اقامة الحجة لابطال قولهم أن يذكر أمر الخلقة ثم يتعقب بأمر التدبير لمكان تلازمهما وعدم انفكاك أحدهما من الاخر حتى يكون موجد الاشياء وخالقها هو الذي يربها ويدبر أمرها فيكون ربا وحده والها وحده كما أنه موجد خالق وحده. ولذلك بعينه ذكر أمر التدبير بعد ذكر الخلقة في الاية التى نحن فيها إذ قيل: (خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) فالولاية والشفاعة كالاستواء على العرش من شؤن التدبير. وقوله: (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) الولى هو الذى يملك تدبير أمر الشئ ومن المعلوم أن أمورنا والشؤن التى تقوم به حياتنا قائمة بالوجود محكومة مدبرة للنظام العام الحاكم في الاشياء عامة وما يخص بنا من نظام خاص، والنظام أيا ما كان من لوازم خصوصيات خلق الاشياء والخلقة كيفما كانت مستندة إليه تعالى فهو تعالى ولينا القائم بأمرنا المدبر لشؤننا وأمورنا، كما هو ولى كل شئ كذلك وحده لا شريك له. والشفيع - على ما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب - هو الذى ينضم إلى سبب ناقص فيتمم سببيته وتأثيره، والشفاعة تتميم السبب الناقص في تأثيره وإذا طبقناها على الاسباب والمسببات الخارجية كانت أجزاء الاسباب المركبة وشرائطها بعضها شفيعا لبعض لتتميم حصة من الاثر منسوبة إليه كما أن كلا من السحاب والمطر والشمس والظل وغيرها شفيع للنبات. واذ كان موجد الاسباب وأجزائها والرابط بينها وبين المسببات هو الله سبحانه
فهو الشفيع بالحقيقة الذى يتمم نقصها ويقيم صلبها فالله سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره. وببيان آخر أدق قد تقدم في البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن أسماءه تعالى الحسنى وسائط بينه وبين خلقه في ايصال الفيض إليهم فهو تعالى يرزقهم مثلا بما أنه رازق جواد غنى رحيم ويشفى المريض بما أنه شاف معاف رؤف رحيم ويهلك الظالمين بما أنه شديد البطش ذو انتقام عزيز وهكذا.
[ 246 ]
فما من شئ من المخلوقات المركبة الوجود الا ويتوسط لوجوده عدة من الاسماء الحسنى بعضها فوق بعض وبعضها في عرض بعض وكل ما هو أخص منها يتوسط بين الشئ وبين الاعم منها كما أن الشافي يتوسط بين المريض وبين الرؤف الرحيم والرحيم يتوسط بينه وبين القدير وهكذا. والتوسط المذكور في الحقيقة تتميم لتأثير السبب فيه وان شئت فقل هو تقريب للشئ من السبب لفعلية تأثيره وينتج منه أنه تعالى شفيع ببعض أسمائه عند بعض فهو الشفيع ليس من دونه شفيع في الحقيقة فافهم. وقد تبين بما مر أن لا اشكال في اطلاق الشفيع عليه تعالى بمعنى كونه شفيعا بنفسه عند نفسه وحقيقته توسط صفة من صفاته الكريمة بين الشئ وصفة من صفاته كما يستعاذ من سخطه إلى رحمته ومن عدله إلى فضله، وأما كونه تعالى شفيعا بمعنى شفاعته لشئ عند غيره فهو مما لا يجوز البتة. والقوم لتقريبهم اشكال اطلاق الشفيع عليه تعالى على المعنى الثاني أي بمعنى كونه شفيعا عند غيره اختلفوا في تفسير الاية على أقوال: فقال بعضهم: ان دون في قوله: (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) بمعنى عند و (من دونه) حال من ضمير (لكم) والمعنى: ما لكم حال كونكم مجاوزين
دونه ومن عند ولى ولا شفيع أي لا ولى لكم ولا شفيع ففيه نفى الولى والشفيع لهم عند الله. وفيه أن دون وان صح كونه بمعنى عند لكن وجود (من) قرينة على أنه بمعنى غير، ولا معنى لاخذ المجاوزة ورجوع (ما لكم من دونه) إلى معنى (ما لكم عنده). وقال بعضهم: ان الشفيع في الاية بمعنى الناصر مجازا ودون بمعنى غير و (من دونه) حال من (ولى) والمعنى: ما لكم ولى ولا ناصر غيره، وفيه أنه تجوز من غير موجب. وقال بعضهم ان اطلاق الشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم: هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منهم شفيع لهم والمعنى: على هذا لو فرض وقدر أن الاله ولى شفيع ما لكم ولى ولا شفيع غير الله سبحانه.
[ 247 ]
وقال بعضهم: ان دون بمعنى عند والضمير في (من دونه) للعذاب، والمعنى: ليس لكم من دون عذابه ولى، أي قريب ينفعكم ويرد عذابه عنكم ولا شفيع يشفع لكم. وفيه أن ارجاع الضمير إلى العذاب تحكم من غير دليل، ويرد على جميع هذه الوجوه أنها تكلفات ناشئة من أخذ الشفيع غير المشفوع عنده وقد عرفت أن المعنى تحليلي والشفيع والمشفوع عنده واحد. وقوله: (أفلا تتذكرون) استفهام توبيخي يوبخهم على استمرارهم على الاعراض عن أدلة العقول حتى يتذكروا أن الملك والتدبير لله سبحانه وهو المعبود بالحق ليس لهم دونه ولى ولا شفيع كما يزعمون ذلك لالهتهم. قوله تعالى: (يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره
ألف سنة مما تعدون) تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه وهذا هو القرينة على أن المراد بالامر في الاية الشأن دون الامر المقابل للنهى. والتدبير وضع الشئ في دابر الشئ والاتيان بالامر بعد الامر فيرجع إلى اظهار وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء والارض وقد قال تعالى: (وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) الحجر: 21، وقال: (انا كل شئ خلقناه بقدر) القمر: 49. وقوله: (ثم يعرج إليه) بعد قوله: (يدبر الامر من السماء إلى الارض) لا يخلو من اشعار بأن (يدبر) مضمن معنى التنزيل والمعنى: يدبر الامر منزلا أو ينزله مدبرا - من السماء إلى الارض ولعله الامر الذى يشير إليه قوله: (فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) حم السجدة: 12. وفى قوله: (يعرج إليه) اشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذى تنتهى إليه أزمة الامور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحى العالم الجسماني فان الامر قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التى نزل منها، ولم يذكرهناك الا علو هو السماء، وسفل هو الارض ونزول وعروج فالنزول من السماء والعروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذى يصدر منه تدبير
[ 248 ]
الامر أو أن موطن تدبير الامر الارضى هو السماء والله المحيط بكل شئ ينزل التدبير الارضى من هذا الموطن، ولعل هذا هو الاقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله: (وأوحى في كل سماء أمرها). وقوله: (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) معناه على أي حال أنه في ظرف لو طبق على ما في الارض من زمان الحوادث ومقدار حركتها انطبق على ألف سنة مما نعده فان من المسلم أن الزمان الذى يقدره ما نعده من الليل والنهار والشهور
والسنين لا يتجاوز العالم الارضى. واذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب والحضور وهو مما لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الارض كان مقداره ألف سنة مما تعدون. وأما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول واللبث والعروج أو مقدار مجموع النزول والعروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول والعروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أن (في يوم) قيد لقوله: (يعرج إليه) فقط كما وقع في قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج: 4. ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة وهو مقدار يوم القيامة، وأما كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الالف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة وهو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة. ثم المراد بقوله: (مقداره ألف سنة) هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد التكثير كما في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) البقرة: 96، أي يعمر عمرا طويلا جدا وان كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق. والاية - كما ترى - تحتمل الاحتمالات جميعا ولكل منها وجه والاقرب من بينها إلى الذهن كون (في يوم) قيدا لقوله: (ثم يعرج إليه) وكون المراد بيوم عروج الامر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، والله أعلم. قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) تقدم تفسير مفردات الاية، ومناسبة الاسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة.
[ 249 ]
قوله تعالى: (الذى أحسن كل شئ خلقه) قال الراغب: الحسن عبارة عن كل
مبهج - بصيغة الفاعل - مرغوب فيه وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحس. انتهى. وهذا تعريف له من جهة خاصته وانقسامه بانقسام الادراكات الانسانية. وحقيقته ملاءمة أجزاء الشئ بعضها لبعض والمجموع للغرض والغاية الخارجة منه فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين والحاجب والانف والفم وغيرها، وحسن العدل ملاءمته للغرض من الاجتماع المدنى وهو نيل كل ذى حق حقه، وهكذا. والتدبر في خلقة الاشياء وكل منها في نفسه متلائم الاجزاء بعضها لبعض والمجموع من وجوده مجهز بما يلائم كماله وسعادته تجهيزا لا أتم ولا أكمل منه يعطى أن كلا منها حسن في نفسه حسنا لا أتم وأكمل منه بالنظر إلى نفسه. وأما ما نرى من المساءة والقبح في الاشياء فلاحد أمرين: اما لكون الشئ السيئ ذا عنوان عدمي يعود إليه المساءة لالوجوده في نفسه كالظلم والزنا فان الظلم ليس بسيئ قبيح بما أنه فعل من الافعال بل بما أنه مبطل لحق ثابت والزنا ليس بسيئ قبيح من جهة نفس العمل الخارجي الذى هو مشترك بينه وبين النكاح بل بما أن فيه مخالفة للنهى الشرعي أو للمصلحة الاجتماعية. أو بقياسه ال شئ آخر فيعرضه المساءة والقبح من طريق المقايسة كقياس الحنظل إلى البطيخ وقياس الشوك إلى الورد وقياس العقرب إلى الانسان فان المساءة انما تطرء هذه الاشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثم قياسها إلى طبعنا، ويرجع هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الاول بالحقيقة. وكيف كان فالشئ بما أنه موجود مخلوق لا يتصف بالمساءة ويدل عليه الاية (الذى أحسن كل شئ خلقه) إذا انضم إلى قوله: (الله خالق كل شئ) الزمر: 62 فينتجان أولا: أن الخلقة تلازم الحسن فكل مخلوق حسن من حيث هو مخلوق. وثانيا: أن كل سيئ وقبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيئ قبيح كالمعاصي
والسيئات من حيث هي معاص وسيئات والاشياء السيئة من جهة القياس. قوله تعالى: (وبدء خلق الانسان من طين) المراد بالانسان النوع فالمبدو خلقه
[ 250 ]
من طين هو النوع الذى ينتهى أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب وأم كآدم وزوجه عليهما السلام، والدليل على ذلك قوله بعده: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين والمقابلة بين بدء الخلق وبين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الانسان المخلوق من ماء مهين، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام أن يقال: ثم جعله سلالة من ماء مهين فافهمه. وقوله: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) السلالة كما في المجمع الصفوة التى تنسل أي تنزع من غيرها ويسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، والمهين من الهون وهو الضعف والحقارة وثم للتراخي الزمانى. والمعنى: ثم جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير. قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) التسوية التصوير وتتميم العمل، وفى قوله: (نفخ فيه من روحه) استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الذى يتنفس به ثم نفخه في قالب من سواه، واضافة الروح إليه تعالى اضافة تشريفية، والمعنى: ثم صور الانسان المبدو خلقه من الطين والمجعول نسله من سلالة من ماء مهين ونفخ فيه من روح شريف منسوب إليه تعالى. قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) امتنان بنعمة الادراك الحسى والفكرى فالسمع والبصر للمحسوسات والقلوب للفكريات أعم من الادراكات الجزئية الخيالية والكلية العقلية. وقوله: (قليلا ما تشكرون) أي تشكرون شكرا قليلا، والجملة اعتراضية في محل التوبيخ وقيل: الجملة حالية، والمعنى: جعل لكم الابصار والافئدة والحال أنكم
تشكرون قليلا، والجملة على أي حال مسوقة للبث والشكوى والتوبيخ. والالتفات في قوله: (وجعل لكم) الخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل أن الانعام الالهى الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصرون. قوله تعالى: (وقالواء إذا ضللنا في الارض ءانا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون) حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد. والضلال في الارض قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلت النعمة أي ضاعت، وقيل: هو بمعنى الغيبة، وكيف
[ 251 ]
كان فمرادهم به ءانا إذا متنا وانتشرت أجزاء أبداننا في الارض وصرنا بحيث لا تميز لاجزائنا من سائر أجزاء الارض ولا خبر عنا نقع في خلق جديد ونخلق ثانيا خلقناالاول ؟ والاستفهام للانكار، والخلق الجديد هو البعث. وقوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون) اضراب عن فحوى قولهم: (ءاذا ضللنا في الارض) كأنه قيل: انهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع الينا ولقائنا ولذا جئ في الجواب عن قولهم بما يدل على الرجوع. قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) توفى الشئ أخذه تاما كاملا كتوفى الحق وتوفى الدين من المديون. وقوله: (ملك الموت الذى وكل بكم) قيل: أي وكل باماتتكم وقبض أرواحكم والاية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك. وقد نسب التوفى في الاية إلى ملك الموت، وفى قوله: (الله يتوفى الانفس حين موتها) الزمر: 42 إليه تعالى، وفى قوله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا) الانعام: 61، وقوله: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) النحل: 28، إلى
الرسل والملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الاسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت وفوقهم ملك الموت الامر بذلك المجرى لامر الله والله من ورائهم محيط وهو السبب الاعلى ومسبب الاسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الانسان بالقلم فالقلم كاتب واليد كاتبة والانسان كاتب. وقوله: (ثم إلى ربكم ترجعون) هو الرجوع الذى عبر عنه في الاية السابقة باللقاء وموطنه البعث المترتب على التوفى والمتراخي عنه، كما يدل عليه العطف بثم الدالة على التراخي. والاية - على أي تقدير - جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الارض على نفى البعث ومن المعلوم أن اماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الاشكال فيبقى قوله: (ثم إلى ربكم ترجعون) دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة والكلام
[ 252 ]
الالهى أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة. لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة الموت ليس بطلانا لكم وضلالا منكم في الارض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الابدان وأرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعنى بلفظة (كم) محفوظون لا يضل منكم شئ في الارض وانما يضل الابدان وتتغير من حال إلى حال وقد كانت في معرض التغير من أول كينونتها. ثم انكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع الارواح إلى أجسادها. وبهذا يندفع حجتهم على نفى المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو قررت على أن تلاشى البدن يبطل شخصية الانسان فينعدم ولا معنى لاعادة المعدوم فان حقيقة الانسان هي نفسه التى يحكى عنها بقول (أنا) وهى غير البدن والبدن
تابع لها في شخصيته وهى لا تتلاشى بالموت ولا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التى ذكر الله سبحانه. وظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله: (قل يتوفاكم) الخ بقوله: (ء إذا ضللنا في الارض) الخ وأنه جواب حاسم للاشكال قاطع للشبهة، وقد أشكل الامر على بعض من فسر التوفى بمطلق الاماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفى فتكلف في توجيه اتصال الايتين بما لا يرتضيه العقل السليم. وثانيا: أن الاية من أوضح الايات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شئ من حالات البدن. قوله تعالى: (ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انا موقنون) نكس الرأس اطراقه وطأطأته، والمراد بالمجرمين بقرينة ذيل الاية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد ويقولون: (ء إذا ضللنا في الارض) الخ. وفى التعبير عن البعث بقوله: (عند ربهم) محاذاة لما تقدم من قوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون) أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم انكاره، وقولهم: (أبصرنا
[ 253 ]
وسمعنا) ومسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلى لهم أن النجاة في الايمان والعمل الصالح وقد حصل لهم الايمان اليقيني وبقى العمل الصالح ولذا يعترفون باليقين ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة. والمعنى: ولو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بانكار لقاء الله مطرقوا رؤسهم عند ربهم في موقف اللقاء من الخزى والذل والندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة وسمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا انا موقنون والمحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء ولو تراهم إذ أحاط بهم الخزى والذل فنكسوا رؤسهم واعترفوا بما ينكرونه اليوم وسألوا
العود إلى ههنا ولن يعودوا. قوله تعالى: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) إلى آخر الاية أي لو شئنا أن نعطى كل نفس أعم من المؤمنة والكافرة الهدى الذى يختص بها ويناسبها لاعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر وارادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق الاختيار والارادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه وارادة من دون أن ينجر إلى الالجاء والاضطرار فيبطل التكليف ويلغو الجزاء. وقوله: (ولكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) أي ولكن هناك قضاء سابق منى محتوم وهو املاء جهنم من الجنة والناس أجمعين وهو قوله لابليس لما امتنع من سجدة آدم وقال: (فبعزتك لاغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين): (فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) صلى الله عليه وآله وسلم: 85، فقضى أن يدخل متبعي ابليس العذاب المخلد. ولازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم وفسقهم بالخروج عن زى العبودية كما قال: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين) (والله لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة: 80، إلى غير ذلك من الايات. قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذاانا نسيناكم) إلى آخر الاية، تفريع على قوله: (ولكن حق القول منى) والنسيان ذهول صورة الشئ عن الذاكرة ويكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشئ وهو المراد في الاية. والمعنى: فإذا كان من القضاء اذاقة العذاب لمتبعي ابليس فذوقوا العذاب بسبب
[ 254 ]
عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه ولم تعملوا صالحا تثابون به فيه لانا لم نعتن بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة والنجاة، وقوله: (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) تأكيد وتوضيح لسابقه أي ان الذوق الذى أمرنا به ذوق عذاب الخلد
ونسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام الايات الثلاث. وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن أبى شيبة عن على قال: عزائم سجود القرآن الم تنزيل السجدة، وحم تنزيل السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك الذى خلق. وفى الخصال عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ان العزائم أربع: اقرأ باسم ربك الذى خلق، والنجم، وتنزيل السجدة، وحم السجدة. وفى الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا قد أسبل ازاره فقال له: ارفع ازارك، فقال: يا رسول الله انى أحنف تصطك ركبتاي. قال: ارفع ازارك كل خلق الله حسن. وفى الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: (الله يتوفى الانفس حين موتها) وعن قول الله عز وجل: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) وعن قول الله عز وجل: (الذين يتوفاهم الملائكة طيبين) (والذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) وعن قول الله عز وجل: (توفته رسلنا) وعن قوله عز وجل: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) وقد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الافاق ما لا يحصيه الا الله عز وجل، فكيف هذا ؟ فقال: ان الله تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الارواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الانس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، ويتوفاها الله تعالى من ملك الموت.