تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 15
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 15
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 1
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الخامس العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة المؤمنون مكية، وهي مائة وثماني عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم. قد افلح المؤمنون - 1. الذين هم في صلاتهم خاشعون - 2. والذين هم عن اللغو معرضون - 3. والذين هم للزكوة فاعلون - 4. والذين هم لفروجهم حافظون - 5. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - 6. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - 7. والذين هم لاماناتهم
وعهدهم راعون - 8. والذين هم على صلواتهم يحافظون - 9. أولئك هم الوارثون - 10. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون - 11 (بيان) في السورة دعوة إلى الايمان بالله واليوم الآخر وتمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية وما لاولئك من رذائل الاخلاق وسفاسف الاعمال، وتعقيب ذلك بالتبشير والانذار، وقد تضمن الانذار ذكر عذاب الآخرة وما غشي
[ 6 ]
. الامم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. والسورة مكية، وسياق آياتها يشهد بذلك. قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون " قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون - الشق، وقيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح الظفر وإدراك بغية وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغني والعز، والاخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع وكشفا عن وجه المطلوب. والايمان هو الاذعان التصديق بشئ بالالتزام بلوازمه، فالايمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته ورسله واليوم الاخر وبما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الايمان بالعمل الصالح كقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " النحل: 97، وقوله: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن ماب "
الرعد: 29، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا. وليس مجرد الاعتقاد بشئ ايمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره فإن الايمان علم بالشئ مع السكون والاطمئنان إليه ولا ينفك السكون إلى الشئ من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون والالتزام ككثير من المعتادين بالاعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد وقد قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14. والايمان وإن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة. قوله تعالى: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه والظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي - فيمن بعبث بلحيته
[ 7 ]
في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وقوله تعالى: " وخشعت الاصوات للرحمان " طه: 108. والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسربها الخشوع في الاية، كقول بعضهم: هو الخوف وسكون الجوارح، وقول آخرين: غض البصر خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا وشمالا أو إعظام المقام وجمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك. وهذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الايمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه وهو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر والذله إلى ساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والبهاء ولازمه أن يتاثر الانسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة والهوان
وينتزع قلبه عن كل ما يلهوه ويشغله عما يهمه ويواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا وشغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غنى لا يقدر بقدر ؟ والذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة وهوان ؟ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحارثة بن النعمان المروي في الكافي وغيره: إن لكل حق حقيقة ولكل صواب نورا. الحديث. (كلام في معنى تأثير الايمان) الدين - كما تقدم مرارا - السنة الاجتماعية التي يسير بها الانسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، والسنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على اساس الاعتقاد في حيقة الكون والانسان الذي هو جزء من أجزائه، ومن هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر. فمن يثبت للكون ربا يبتدئ منه وسيعود إليه وللانسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الاعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية والتنعم في الدار الاخرة الخالدة.
[ 8 ]
ومن يثبت له إلها إو آلهة تدبر الامر بالرضا والسخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الالهة وإرضائها للفوز بأمتعة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا. ومن لا يهتم بأمر الربوبية ولا يرى للانسان حياة خالدة كالماديين ومن يحذو حذوهم يبني سنة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت. فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون والانسان بما أنه جزء من
أجزائه، وليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون والانسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا وإن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر وإن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري والالتزام به، وهو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الانسان الاله تعالى ويراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا والاخرة معا. ومعلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالايمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه ورسله واليوم الاخر وما جاءت به رسله وهو علم عملي. والعلوم العملية تشتد وتضعف حسب قوة الدواعي وضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، وربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه وآثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحتة، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا: إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحتة. ومن هنا يظهر أن الايمان بالله إنما يؤثر أثره من الاعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانية كالخشية والخشوع والاخلاص ونحوها إذا لم يغلبه الدواعي الباطلة والتسويلات الشيطانية، وبعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " الحج: 61.
[ 9 ]
فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الاطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته والاعراض عن اللغو ونحوه. قوله تعالى: " والذين هم عن اللغو معرضون " اللغو من الفعل هو ما لا فائدة
فيه ويختلف اختلاف الامور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو با لنسبة إلى أمر وهو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر. فاللغو من الافعال في نظر الدين الاعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الاخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الاخرة كالاكل والشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله وعبادتة، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة ولا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو وبنظر أدق هو ما عدا الواجبات والمستحبات من الافعال. ولم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الانسان في معرض العثرة ومزلة الخيئة وقد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " النساء: 31. بل وصفهم بالاعراض عن اللغو دون مطلق تركه والاعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الانسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، ولازمه ترفع النفس عن الاعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الامور وجلائل المقاصد. ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والمجد والبهاء والمتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق ولا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس وجهلتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما. ومن هنا يظهر أن وصفهم بالاعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم وكرامة نفوسهم. قوله تعالى: " والذين هم للزكاة فاعلون " ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الانفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس ب بإزالة رذائل الاخلاق عنها ولعل
المراد بالزكاة المعنى المصدري وهو تطهير المال بالانفاق منه دون المقدار المخرج من المال
[ 10 ]
فإن السورة مكية وتشريع الزكاة المعهودة في الاسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال. وبهذا يستصح تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون " والمعنى: الذين هم فاعلون للانفاق المالي، وأما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، ولذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، ولذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الاخلاق الرذيلة فرارا من تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون ". وفي التعبير بقوله: " للزكاة فاعلون " دون أن يقول: للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل. ومن حق الايمان بالله أن يدعو إلى هذا الانفاق المالي فإن الانسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه ولا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والانفاق المالي على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية. قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون " إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج وهو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال والنساء، وحفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم وغير ذلك. وقوله: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " استثناء من حفظ الفروج، والازواج الحلائل من النساء، وما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الازواج الحلائل والجواري المملوكة.
وقوله: " فمن إبتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " تفريع على ما تقدم من الاستثناء والمستثنى منه أي إذا كان مقتضى الايمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الازواج وما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فاولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم. وقد تقدم كلام ما فيما يستقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " اسرى: 32 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.
[ 11 ]
قوله تعالى: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون " الامانة مصر في الاصل. وربما أريد به ما ائتمن عليه من مال ونحوه، وهو المراد في الاية، ولعل جمعه للدلالة على أقسام الامانات الدائرة بين الناس، وربما قيل بعموم الامانات لكل تكليف إلهى اؤتمن عليه الانسان وما اؤتمن عليه من أعضائه وجوارحه وقواه أن يستعملها فيما فيه رضى الله وما ائتمنه عليه الناس من الاموال وغيرها، ولا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ وإن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى وتعميمه. والعهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر واليمين، ويمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا وميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: " أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " البقرة 100، وقوله: " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار " الاحزاب: 15، ولعل ارادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لان جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بأيمان واحد. والرعاية الحفظ، وقد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا. انتهى. ولعل العكس أقرب إلى الاعتبار.
وبالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الامانات من أن تخان والعهد من أن يقض، ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون والاستقرار والاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده وقطع على ذلك استقر عليه ولم يتزلزل بخيانة أو نقض. قوله تعالى: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " جمع الصلاة وتعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العددفهم يحافظون على أن لا يفوتهم شئ من الصلوات المفروضة ويراقبونها دائما ومن حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك. ولذلك جمعت الصلاة ههنا وأفردت في قوله " في صلاتهم خاشعون " لان الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها. قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون "
[ 12 ]
الفردوس أعلى الجنان، وقد تقدم معناها وشئ من وصفها في ذيل قوله تعالى: " كانت لهم جنات الفردوس نزلا " الكهف: 107. وقوله: " الذين يرثون " الخ، بيان لقوله: " الوارثون " ووراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، وقد ورد في الروايات أن لكل أنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وستوافيك إن شاء الله في بحث روائي. (بحث روائي) في تفسير القمى وقوله: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال: غضك بصرك في صلاتك واقبالك عليها. أقول: وقد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، ونظيره ما
رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن على عليه السلام: أن لا تلتفت في صلاتك. وفي الكافي بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق. أقول: وروى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما في معناه ولفظه: أستعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع. وفي المجمع: في الآية روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وفيه روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الارض. أقول: ورواهما في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الكتب عنه صلى الله وآله وسلم. وفي معنى الخشوع روايات أخر كثيرة. وفي إرشاد المفيد في كلام لامير المؤمنين عليه السلام: كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.
[ 13 ]
وفي المجمع في قوله: " والذين هم عن اللغو معرضون " روي أن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي أقول: ما في روايتي المجمع من قبيل ذكر بعض المصاديق وما في رواية الارشاد من التعميم بالتحليل. وفي الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ع قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث ونكاح بلا ميراث ونكاح بملك يمين.
وفي الكافي بإسناده إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عزوجل يقول: " والذين هم لفروجهم حافظون " فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك. أقول: وفيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة. الروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا وازدواجا والامر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلى ذلك مبنى فقههم. والامر على ذلك في عرف القرآن وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان: نكاح على الزوجية وزنا وقد حرم الله الزنا وأكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية كسورتي الفرقان والاسراء وهما مكيتان وسورتي النور والممتحنة وهما مدنيتان. ثم سماه سفاحا وحرمه في سورتي النساء والمائدة ثم سماه فحشاء ومنع عنه وذمه في سور الاعراف والعنكبوت ويوسف وهي مكية وفي سور النحل والبقرة والنور وهي أو الاخيرتان مدنيتان. ثم سماه فاحشة ونهي عنها في سور الاعراف والانعام والاسراء والنمل والعنكبوت والشورى والنجم وهي مكية وفي سور النساء والنور والاحزاب والطلاق وهي مدنية. ونهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " ونظيره في سورة المعارج وكان من المعروف في أول البعثة من أمر الاسلام
[ 14 ]
أنه يحرم الخمر والزن (1). فلو لا لم يكن التمتع ازدواجا والمتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: " إلا على أزواجهم " لكان زنا ومن المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة
وكذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة ولازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لضرورة أقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: " فما إستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن " النساء: - 24 ولازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم - إلى قوله - العادون "، ناسخة الاباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا وبعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، وخاصة على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلله ثم حرمه مرة (2) بعد مرة فإن لازمه نسخ الايات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات ولم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ وهل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟. على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها وما فيه من التعليل آب عن النسخ وكيف يعقل أن يسمى الله سبحانه فعلا من الافعال فاحشة فحشاء وسبيل سوء ويخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ثم يجيز إتكابه ثم يمنع ثم يجيز. على إن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له (3). على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من معاريف الصحابة وهم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الاحكام فكيف إستجازوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفحشاء ؟ وكيف لم يستخبثوه ؟ وكيف رضوا بالعار والشنار وقد تمتع زبيرمن
(1) على ما رواه ابن هشام في السيرة وقد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى: " انما الخمر والميسر " الآية من سورة المائدة ج 6 ص 146 من الكتاب. (2) وقد أوردنا الروايات الدلالة على ذلك في البحث الروايى الموضوع في ذيل قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن " الآية النسأ: 24 ج 4 ص 308.
(3) وقد بين ذلك في علم الاصول بما لا مزيد عليه. (*)
[ 15 ]
أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير وأخاه عروة بن زبير وورثاه بعد قتله وهم جميعا من الصحابة. على أن الروايات الدالة على نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة متهافتة، وما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى ايام خلافته عن المتعة وما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات ويدفع حديث النسخ. وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة " النساء: 24. ومن لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح إقتران جملة " فما استمتعتم " الخ بقوله قبله متصلا به " محصنين غير مسافحين ". فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع وفي عرف القرآن نكاح وزوجية لا زنا وسفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد والارث والاحصان والنفقة والفراش والعدة وغير ذلك. ونكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم إختصاص المراة بالرجل ولحقوق الاولاد والعدة. وبذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية ولو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد والميراث والنفقة والاحصان وغير ذلك وذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها وموقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الاحكام كما تقدم. والاشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية والغرض من
المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء وسفحة فهي سفاح وليست بنكاح. فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع والا لم يجز نكاح العاقر واليائسة والصبي والصبية. على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد ومن الشاهد على ذلك عبد الله وعروة إبنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.
[ 16 ]
وكذا الاشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجال كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار وغيره. فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الاسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا. وثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل والمرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر. وللكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه عن إبن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني وبينكم كتاب الله وقرأت " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. أقول: وروى نظيره عن القاسم بن محمد، وقد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج وأن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية. وفي تفسير القمي: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " قال: من جاوز ذلك.
وفيه: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: على أوقاتها وحدودها. وفي الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: هي الفريضة قلت: " والذين هم على صلاتهم دائمون " قال: هي النافلة. وفي المجمع روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. أقول: وروى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث مفصل وتقدم نظيره في قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر " مريم: 39 في الجزء السابق من الكتاب.
[ 17 ]
(بحث حقوقي إجتماعي) لا ريب ان الذي يدعو الانسان ويبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري، تنبهه لحوائج الحياة وتوسله بوضعها والعمل بها إلى رفعها. وكلما كأنت الحاجة أبسط وإلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها اوجب والاهمال في دفعها إدهى وأضر فما الحاجة إلى أصل التغذي والحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام وأنواع الفواكه وهكذا. ومن الحوائج الاولية الانسانية حاجة كل من صنفية الذكور والاناث إلى الآخرين بالنكاح والمباشرة، ولا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع والايجاد بذلك بقاء النسل وقد جهز الانسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك. ولذلك نجد المجتمعات الانسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج وتكوين البيت، وعلى ذلك كانت منذأ قدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج.
ولا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن وليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الانسانية. وبالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل ولا تزال دائرة في المجتمعات البشرية ولا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت وتحمل كلفة الازدواج وحمل أثقاله بإنصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت وانقطاع النسل. ولذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعية الساذجة تستشنعها وتعدها فاحشة منكرة وتتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، والمجتمعات المتمدنة الحديثة وإن لم
[ 18 ]
تسد سبيله بالجملة ولم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت وازدياد النفوس وبقاء النسل، وتحتال إلى تقليله بلطائف الحيل وتروج سنة الازدواج وتدعوا إلى تكثير الاولاد بجعل الجوائز وترفيع الدرجات وغير ذلك من المشوقات. غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الانسانية في العالم وتحريض الدول عليها واحتيالها لتضعيف أمر الزنا وصرف الناس لا سيما الشبان والفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها وكبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها. وهذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، وأن الانسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، وأن من الواجب على
من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج. ولذلك شفع شارع الاسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للامر وشرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه واختلال الانساب والمواريث وانهدام البيوت وانقطاع النسل وعدم لحوق الاولاد وهي اختصاص المرأة بالرجل والعدة إذا افترقا ولحوق الاولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها وليس فيه على الرجل شئ من كلفه الازدواج الدائم ومشقته. ولعمر الحق إنها لمن مفاخر الاسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق وتعدد الزوجات كثير من قوانينه ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لان أزنى أحب إلي من أن اتمتع أو أمتع. * * * ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين - 12. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين - 13. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا
[ 19 ]
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين - 14. ثم إنكم بعد ذلك لميتون - 15. ثم إنكم يوم القيمة تبعثون - 16. ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين - 17. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون - 18. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون - 19. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين - 20. وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون - 21.
وعليها وعلى الفلك تحملون - 22. (بيان) لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الاوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم وخلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للانسان ولكل شئ الواجب أن يعبد وحده لا شريك له. قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " قال في المجمع: السلالة إسم لما يسل من الشئ كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. وظاهر السياق أن المراد بالانسان هو النوع فيشمل آدم ومن دونه ويكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، وتكون الآية وما بعدها في معنى قوله: " وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة مماء مهين " ألم السجدة: 8.
[ 20 ]
ويؤيده قوله بعد: " ثم جعلناه نطفة " إذ لو كان المراد بالانسان ابن آدم فحسب وكان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الخ. وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالانسان جنس بنى آدم، وكذا القول بأن المراد به آدم عليه السلام غير سديد. وأصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى ولقد قدرنا الانسان أولا من سلالة من أجزاء الارض المخلوطة بالماء. قوله تعالى: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " النطفة القليل من الماء وربما يطلق على مطلق الماء، والقرار مصدر أريد به المقر مبالغة والمراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، والمكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة والفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.
والمعنى ثم جعلنا الانسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك. قوله تعالى: " ثم خلقنا النطفة علقة - إلى قوله - فكسونا العظام لحما " تقدم بيان مفردات الآية في الآية 5 من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب وفي قوله: " فكسونا العظام لحما " استعارة بالكناية لطيفة. قوله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " الانشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشئ وتربيته كما أن النش ء والنشأة إحداثه وتربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ. وقد غير السياق من الخلق إلى الانشاء فقال: " ثم أنشأناه خلقا آخر " دون أن يقال: ثم خلقناه الخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه ولا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا وإن خالفت النطفة في أوصافها وخواصها من لون وطعم وغير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الاوصاف والخواص ما يجانسه وإن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة وهما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا وهو الانسان الذي له حياة وعلم وقدرة فإن ما له من جوهر الذات وهو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة والعلقة والمضغة والعظام المكسوة لحما شئ،
[ 21 ]
ولا سبق فيها شئ يناظر ما له من الخواص والاوصاف كالحياة والقدرة والعلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم. والضمير في " أنشأناه " - على ما يعطيه السياق - للانسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشئ وأحدث خلقا آخر أي بدل وهو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة وعلم وقدرة فقد كان مادة لها صفاتها وخواصها ثم برز وهو يغاير سابقته في الذات والصفات والخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، وليس بها إذ لا يشاركها في ذات ولا صفات، وإنما له نوع اتحاد معها وتعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.
وهذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: " وقالوا أئذا ضللنا في الارض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11، فالمتوفى والمأخوذ عند الموت هو الانسان، والمتلاشي الضال في الارض هو البدن وليس به. واختلف العطف في مفردات الآية بالفاء وثم وقد قيل في وجهه أن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: " ثم جعلناه نطفة " " ثم خلقنا النطفة علقة "، " ثم أنشانأه خلقا آخر "، وما لم يكن بتلك البينونة والبعد عطف بالفاء كقوله: " فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ". قوله تعالى: " فتبارك الله أحسن الخالقين " قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: وبرك البعير ألقى ركبه واعتبر منه معنى اللم. قال: وسمي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - والبركة ثبوت الخير الالهي في الشئ قال تعالى: " لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير. قال: ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة. انتهى. فالتبارك منه تعالى اختصاصه بالخير الكثير الذي يجود به ويفيضه على خلقه وقد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره وهو إيجاد
[ 22 ]
الاشياء وتركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها وتناسب ما وراءها ومن ذلك ينتشر الخير الكثير. ووصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به وهو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير وقياس الشئ من الشئ لا يختص به تعالى، وفي كلامه تعالى
من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " المائدة: 110 وقوله: " وتخلقون إفكا " العنكبوت: 17. قوله تعالى: " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " بيان لتمام التدبير الالهي وأن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الانسان في مسير التقدير، وأنه حق كما تقدم في قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء: 35. قوله تعالى: " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " وهذا تمام التدبير وهو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الانسان إذا حل بها لزمها ولا يزال قاطنا بها. قوله تعالى: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين "، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: " فوقكم " السماوات السبع وقد سماها طرائق - جمع طريقة - وهي السبيل المطروقة لانها ممر الامر النازل من عنده تعالى إلى الارض، قال تعالى: " يتنزل الامر بينهن " الطلاق: 12، وقال: " يدبر الامر من السماء إلى الارض يعرج إليه " الم السجدة: 5. والسبل التي تسلكها الاعمال في صعودها إلى الله والملائكة في هبوطهم وعروجهم كما قال: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فاطر: 10، وقال: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64. وبذلك يتضح اتصال ذيل الآية " وما كنا عن الخلق غافلين " بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا ولا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا وبينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول والصعود وينزل منها أمرنا اليكم وتصعد منها أعمالكم الينا. وبذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، وقول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة. على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.
[ 23 ]
قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون " المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بالماء
النازل منها ماء المطر. وفي قوله: " بقدر " دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الالهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر ولا ينقص، وفيه تلميح أيضا إلى قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21. والمعنى: وأنزلنا من جهة العلو ماء بقدر وهو ماء المطر فأسكناه في الارض وهو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال والسهول تتفجر عنه العيون والانهار وتكشف عنه الآبار، وإنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الارض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه. قوله تعالى: " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها وتربيتها، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " إلى شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " معطوف على " جنات " أي وأنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، والمراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طورسيناء، وقوله: " تنبت بالدهن " أي تثمر ثمرة فيها الدهن وهو الزيت فهي تنبت بالدهن، وقوله: " وصبغ للآكلين " أي وتنبت بصبغ للآكلين، والصبغ بالكسر فالسكون الادام الذي يؤتدم به، وإنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها " الخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لامر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، والمراد بسقيه تعالى مما في طونها أنه رزقهم من البانها، والمراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها وشعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، ومنها يأكلون. قوله تعالى: " وعليها وعلى الفلك تحملون " ضمير " عليها " للانعام والحمل على الانعام هو الحمل على الابل، وهو حمل في البر ويقابله الحمل في البحر وهو الحمل على الفلك،
فالآية في معنى قوله: " وحملناهم في البر والبحر " أسرى: 70، والفلك جمع فلكة وهي السفينة.
[ 24 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني نفخ الروح فيه. في الكافي بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين وما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله وما رزقه وكل شئ من حاله ؟ وعدد من ذلك اشياء، ويكتبان الميثاق بن عينيه. فإذا كمل الاجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج وقد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أفيجوز أن يدعو الله فيحول الانثى ذكرا أو الذكر أنثى ؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء. أقول: والرواية مروية عن أبي جعفر عليه السلام بطرق أخرى وألفا ظمتقا ربة. وفي تفسير القمي قوله عزوجل: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " قال شجرة الزيتون، وهو مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومثل أمير المؤمنين عليه السلام فالطور الجبل وسيناء الشجرة. وفي المجمع " تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادهنوا.
* * * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 23. فقال الملؤ الذين كفروا من قومه
[ 25 ]
ما هذا إلابشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين - 24. إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين - 25. قال رب انصرني بما كذبون - 26. فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون - 27. فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين - 28. وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين - 29. إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين - 30. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 31. فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 32. وقال الملؤ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون - 33. ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون - 34. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون - 35. هيهات هيهات لما توعدون - 36. إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين - 37. إن هو
[ 26 ]
إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين - 38. قال رب أنصرني بما كذبون - 39. قال عما قليل ليصبحن نادمين - 40. فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين - 41. ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين - 42. ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - 43. ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون - 44. ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين - 45. إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما علين - 46. فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون - 47. فكذبوهما فكانوا من المهلكين - 48. ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون - 49. وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآوينا هما إلى ربوة ذات قرار ومعين - 50. يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - 51. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - 52. فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون - 53. فذرهم في غمرتهم حتى حين - 54. (بيان) بعد ما عد نعمه العظام على الناس عقبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد
[ 27 ]
عبادته من طريق الرسالة وقص إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريم عليهما السلام، ولم يصرح من أسمائهم إلا باسم نوح وهو أول الناهضين لدعوة التوحيد وإسم موسى وعيسى عليهما السلام وهما في آخرهم، وأبهم أسماء الباقين غير أنه صرح باتصال الدعوة وتواتر الرسل، وأن الناس لم يستجيبوا إلا بالكفر بآيات الله
والكفران لنعمه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " قد تقدم في قصص نوح عليه السلام من سورة هود أنه أول أولى العزم من الرسل أصحاب الكتب والشرائع المبعوثين إلى عامة البشر والناهضين للتوحيد ونفي الشرك، فالمراد بقومه أمته وأهل عصره عامة. وقوله: " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " دعوة إلى عبادة الله ورفض عبادة الآلهة من دونه فإن الوثنيين إنما يعبدون غيره من الملائكة والجن والقديسين بدعوى ألوهيتهم أي كونهم معبودين من دونه. قال بعض المفسرين: إن معنى " اعبدوا الله " اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود: " ألا تعبدوا إلا الله " وترك التقييد به للايذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الاشراك فليست من العبادة في شئ رأسا. انتهى. وفيه غفلة أو ذهول عن أن الوثنيين لا يعبدون الله سبحان أصلا بناء على أن العبادة توجه من العابد إلى المعبود، والله سبحانه أجل من أن يحيط به توجه متوجه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرب إلى خاصة خلقه من الملائكة وغيره ليشفعوا عنده ويقربوا منه، والعبادة بإزاء التدبير وأمر التدبير مفوض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون والارباب من دونه. ومن هنا يظهر أنه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلا عبادته وحده لانهم لا يرتابون في أنه تعالى رب الارباب موجد الكل ولو صحت عبادته لم تجز إلا عبادته وحده ولم تصح عبادة غيره لكنهم لا يرون صحتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدم. فقوله عليه السلام لقومه الوثنيين: " اعبدوا الله " في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود " أن لا تعبدوا إلا الله "، وقوله: " ما لكم من إله غيره " في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لانه لا رب غيره يدبر أمركم حتى تعبدوه
[ 28 ]
رجاء لرحمته أو خوفا من سخطه، وقوله بالتفريع على ذلك: " أفلا تتقون " أي إذا لم يكن لكم رب يدبر أموركم دونه أفلا تتقون عذابه حيث لا تعبدونه وتكفرون به ؟ قوله تعالى: " قال الملا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم - إلى قوله - حتى حين " ملا القوم أشرافهم، ووصفهم بقوله: " الذين كفروا من قومه " وصف توضيحي لا احترازي إذ لم يؤمن به من ملا قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله: " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي " هود: 27. والسياق يدل على أن الملا كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامة الناس لصرف وجهوههم عنه وإغرائهم عليه وتحريضهم على إيذائه وإسكاته، وما حكاة تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفقوها واحتجوا بها على بطلان دعوته. الاول قولهم: " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " ومحصله أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي الالهي والاتصال بالغيب كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم إذ لا تنقصون منه في شئ من البشرية ولوازمها، ولم يتحقق فهو كاذب وكيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثم لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه ؟ فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم ويترأس فيكم ويؤيده أنه يدعوكم إلى اتباعه وطاعته وهذه الحجة تنحل في الحقيقة إلى حجتين مختلقتين. والثاني قولهم: " ولو شاء الله لانزل ملائكة " ومحصله أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية لاختار لذلك الملائكة الذين هم المقربون عنده والشفاء الروابط بيننا وبينه فأرسلهم الينا لابشرا ممن لا نسبة بينه وبينه. على أن في نزولهم واعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده وعدم جواز اتخازهم أربابا وآلهة معبودين آية بينة على
صحة الدعوة وصدقها. والتعبير أن إرسال الملائكة بإنزالهم إنما هو لكون إرسالهم يتحقق بالانزال والتعبير بلفظا الجمع دون الافراد لعله لكون المراد بهم الآلهة المتخذة منهم وهم كثيرون. والثالث قولهم: " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين " ومحصله أنه لو كانت دعوته حقة لا تفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الانسانية، وآباؤنا كانوا أفضل منا وأعقل ولم
[ 29 ]
يتفق لهم وفي أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلا بدعة وأحدوثة كاذبة. والرابع قولهم: " إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين "، الجنة إما مصدر أي به جنون أو مفردا لجن أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لانه يدعي ما لا يقبله العقل السليم ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا وانتظرو به إلى حين ما لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه. وهذه حجج مختلقة ألقاها ملا قومه إلى عامتهم أو ذكر كلامنها بعضهم وهي وإن كانت حججا جدلية مدخولة لكنهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه ويغرونهم عليه ويمدون في ضلالهم. قوله تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون " سؤال منه للنصر والباء في قوله: " بما كذبون " للبدلية والمعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة وعليه فالمعنى انصرني بالذي كذبوني فيه وهو العذاب فإنهم قالوا: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " هود: 32، ويؤيده قول نوح: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " نوح 26، وفصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال. قوله تعالى: " فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا " إلى آخر الآية. متفرع على سؤال النصر، ومعنى صنع الفلك بأعينه صنعة بمرئى منه وهو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى ومحافظته، ومعنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبي حالا بعد حال.
وقوله: " فإذا جاء أمرنا وفار التنور " المراد بالامر - كما قيل - حكمه الفصل بينه وبين قومه وقضاؤه فيهم بالغرق، والسياق يشهد على كون فوران التنور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم وهو أعني فوران الماء من التنور وهو محل النار من عجيب الامر في نفسه. وقوله: " فاسلك فيها من كل زوجين اثنين " القراءة الدائرة " من كل " بالتنوين والقطع عن الاضافة، والتقدير من كل نوع من الحيوان، والسلوك فيها الادخال في الفلك والظاهر أن " من " لابتداء الغاية والمعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر وأنثى من كل نوع من الحيوان. وقوله: " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم " معطوف على قوله: " زوجين "
[ 30 ]
وما قيل: إن عطف " أهلك " على " زوجين " يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: واسلك فيها من كل نوع أهلك فالاولى تقدير " اسلك " ثانيا قبل " أهلك " وعطفه على " فاسلك ". يدفعه أن " من كل " في موضع الحال من " زوجين " فهو متأخر عنه رتبة كما قدمنا تقديره فلا يعود ثانيا على المعطوف. والمراد بالاهل خاصته، والظاهر أنهم أهل بيته والمؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الاهل ولم يذكر ههنا إلا الاهل فقط. والمراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوح عليه السلام وهي وابنه الذي أبي ركوب السفينة وغرق حينما أوى إلى جبل في الحقيقة، وسبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق. قوله: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالذين ظلموا وتعليل النهي بقوله: " إنهم مغرقون " فكأنه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلا أن
تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع. قوله تعالى: " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل " إلى آخر الآيتين علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين وهذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما، وأن يسأله أن ينجيه من الطوفان وينزله على الارض إنزالا مباركا ذا خير كثير ثابت فإنه خير المنزلين. وفي أمره عليه السلام أن يحمده ويصفه بالجميل دليل على أنه من عباده المخلصين فإنه تعالى مزه عما يصفه غير هم كما قال: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصون " الصافات: 160. وقد اكتفى سبحانه في القصة بإخباره عن حكمه بغرقهم وأنهم مغرقون حتما ولم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنهم آل بهم الامر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، واعظاما للقدرة وتهويلا للسخطة وتحقيرا لهم واستهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصة الآتية: " وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " من وجوه. قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين " خطاب في آخر القصة للنبي
[ 31 ]
صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أن هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاء أي امتحانا اختبارا إليها. قوله تعالى: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " إلى آخر الآية الثانية. القرن اهل عصر واحد، وقوله: " أن اعبدوا الله " تفسير لارسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى: " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " حم السجدة: 30. قوله تعالى: " قال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا " هؤلاء أشرافهم المتوغلون في الدنيا المخلدون إلى الارض يغرون بقولهم هذا عامتهم على رسولهم. وقد وصفهم الله بصفات ثلاث وهي: الكفر بالله بعبادة غيره، والتكذيب بلقاء
الآخرة - أي بلقاء الحياة الاخرة بقرينة مقابلتها لقوله: " في الحياة الدنيا " -، ولكفرهم بالمبدأ والمعاد انقطعوا عما وراء الدنيا فانكبوا عليها ثم لما أترفوا في الحياة الدنيا وتمكنوا من زخارفها وزيناتها الملذه اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتبعوا الهوى ونسوا كل حق وحقيقة، ولذلك تفوهوا تارة بنفي التوحيد والرسالة وتارة بإنكار المعاد وتارة ردوا الدعوة بإضرارها دنياهم وحريتهم في اتباع هواهم. فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " يريدون به تكذيبه في دعوته ودعواه الرسالة على ما مر من تقرير حجتهم في قصة نوح السابقة. وفي استدلالهم على بشريته ومساواته سائر الناس بأكله وشربه مثل الناس وذلك من خاصة مطلق الحيوان دليل على أنهم ما كانوا يرون للانسان إلا كمال الحيوان ولا فضيلة إلا في الاكل والشرب ولا سعادة إلا في التمكن من التوسع والاسترسال من اللذائذ الحيوانية كما قال تعالى: " أولئك كالانعام " الاعراف: 179، وقال: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام " سورة محمد: 12. وتارة قالوا: " ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " وهو في معنى قولهم في القصة السابقة: " يريد أن يتفضل عليكم " يريدون به أن في اتباعه وإطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشرا مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم وبطلان سعادتكم في
[ 32 ]
الحياة إذ لا حياة إلا الحياة الدنيا ولا سعادة فيها إلا الحرية في التمتع من لذائذها، وفي طاعة من لا فضل له عليكم رقيتكم وزوال حريتكم وهو لخسران. وتارة قالوا: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " أي مبعوثون من قبوركم للحساب والجزاء " هيهات هيهات لما توعدون " وهيهات كلمة استبعاد وفي تكرارة مبالغة في الاستبعاد " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " أي يموت قوم منا في الدنيا ويحيا آخرون فيها لانزال كذلك " وما نحن بمبعوثين " للحياة
في دار أخرى وراء الدنيا. ويمكن أن يحمل قولهم: " نموت ونحيا " على التناسخ وهو خروج الروح بالموت من بدن وتعلقها ببدن آخر إنساني أو غير إنساني فإن التناسخ مذهب شائع عند الوثنيين وربما عبروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنه لا يلائم سياق الآيات كثير ملاءمة. وتارة قالوا: " إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين " يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته وقد أنكروا التوحيد والمعاد قبل ذلك. ومرادهم بقولهم: " نحن " نفسهم وعامتهم أشركوا أنفسهم عامتهم لئلا يتهمهم العامة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، ويمكن ان يكون المراد به أنفسهم خاصة دون العامة وإنما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه. وقد نشأت هذه الاقاويل من اجتماع الصفات التي وصفهم الله به في أول الآيات وهي إنكار التوحيد والنبوة والمعاد والاتراف في الحياة الدنيا. واعلم أن في قوله في صدر الآيات: " وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم " قدم قوله: " من قومه " على " الذين كفروا " بخلاف ما في القصة السابقة من قوله: " فقال الملا الذين كفروا من قومه " لانه لو وقع بعد " الذين كفروا " اختل به ترتيب الجمل المتوالية " كفروا " " وكذبوا " " واترفناهم " ولو وقع بعد الجميع طال الفصل. قوله تعالى: " قال رب انصرني " بما كذبون " تقدم تفسيرة في القصة السابقة. قوله تعالى: " قال عما قليل ليصبحن نادمين " استجابة لدعوة الرسول وصيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، وقوله: " عما قليل " عن
[ 33 ]
بمعنى بعد و " ما " لتأكيد القلة وضمير الجمع للقوم، والكلام مؤكد بلام القسم ونون التأكيد، والمعنى: أقسم لتأخذنهم الندامة بعد قليل من الزمان مشاهدة حلول العذاب.
قوله تعالى: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين "، الباء في " بالحق " للمصاحبة وهو متعلق بقوله " فأخذتهم " أي أخذتهم الصيحة أخذا مصاحبا للحق، أو للسببية، والحق وصف أقيم قام موصوفه المحذوف والتقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الامر الحق أو القضاء الحق كما قال: " فإذا جاء امر الله قضي بالحق "، المؤمن: 78. والغثاء بضم الغين وربما شددت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات والورق والعيدان البالية، وقوله: " فبعدا للقوم الظالمين " إبعاد ولعن لهم أو دعاء عليهم. والمعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماوية وهي العذاب فأهلكناهم وجعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعدا. ولم يصرح باسم هؤلاء القوم الذين أنشأهم بعد قوم نوح ثم أهلكهم ولا باسم رسولهم، وليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالح عليه السلام فقد ذكر الله سبحانه في قصتهم في مواضع من كلامه أنهم كانوا بعد قوم نوح وقد أهلكوا بالصيحة. قوله تعالى: " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " تقدم توضيح مضمون الآيتين كرارا. قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه "، إلى آخر الآية يقال: جاؤا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضا، ومنه التواتر وهو تتابع الشئ وترا وفرادى، وعن الاصمعي: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة انتهى. والكلام من تتمة قوله: " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا " و " ثم " للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، والقصة إجمال منتزع من قصص الرسل وأممهم بين أمة نوح والامة الناشئة بعدها وبين أمة موسى. يقول تعالى: ثم أنشأنا بعد تلك الامة الهالكة بالصيحة بعد أمة نوح قرونا وأمما آخرين وأرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلما جاء أمة رسولها المبعوث
[ 34 ]
منها إليها كذبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الامم بعضا أي بالعذاب وجعلناهم أحاديث أي صيرناهم قصصا وأخبارا بعد ما كانوا أعيانا ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون. والآيات تدل على أنه كان من سنة الله إنشاء قرن بعد قرن وهدايتهم إلى الحق بإرسال رسول بعد رسول وهي سنة الابتلاء والامتحان ومن سنة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثم من سنة الله ثانيا - وهي سنة المجازاة - تعذيب المكذبين واتباع بعضهم بعضا. وقوله: " وجعلناهم أحاديث " أبلغ كلمة تفصح عن القهر الالهي الذي يغشى أعداء الحق والمكذبين لدعوته حيث يمحو العين ويعفو الاثر ولا يبقى إلا الخبر. قوله تعالى: " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين " الآيات هي العصا واليد البيضاء وسائر الآيات التي أراها موسى فرعون وقومه، والسلطان المبين الحجة الواضحة، وتفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد. قوله تعالى: " إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين " قيل: إنما ذكر ملا فرعون واكتفى بهم عن ذكر قومه لانهم الاشراف المتبوعون وسائر القوم اتباع يتبعونهم. والمراد بكونهم عالين أنهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل واستعبدوهم فالعلو في الارض كناية عن التطاول على أهلها وقهرهم على الطاعة. قوله تعالى: " فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، وبكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما
كما فضلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى: " لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين " ثم ختم تعالى القصة بذكر هلاكهم فقال: " فكذبوهما فكانوا من المهلكين " ثم قال: " ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون " والمراد بهم بنو إسرائيل لان التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه. قوله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "
[ 35 ]
تقدم أن الآية هي ولادة عيسى عيه السلام لا لخارقة للعادة وإذ كانت أمرا قائما به وبامه معا عدا جميعا آية واحدة. والايواء من الاوي وأصله الرجوع ثم استعمل في رجوع الانسان إلى مسكنة ومقره، وآواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له والربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، والمعين الماء الجاري. والمعني وجعلنا عيسى بن مريم وأمه مريم آية دالة على ربوبيتنا وأسكناهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار وماء جار. قوله تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " خطاب لعامة الرسل بأكل الطيبات وكأن المراد بالاكل منها الارتزاق بها بالتصرف فيها سواء كان بأكل أو غيره وهو استعمال شائع. والسياق يشهد بأن في قوله: " كلوا من الطيبات " امتنانا منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه: " واعملوا صالحا " أمر بمقابلة المنة بصالح العمل وهو شكر للنعمة وفي تعليله بقوله: " إني بما تعملون عليم " تحذير لهم من مخالفة أمره وبعث إلى ملازمه التقوى. قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " تقدم تفسير نظيرة الآية في سورة الانبياء. قوله تعالى: " تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون " في المجمع
أن التقطع والتقطيع بمعنى واحد، والزبر بضمتين جمع زبور وهو الكتاب، والكلام متفرع على ما تقدمه، والمعنى أن الله أرسل إليهم رسله تترى والجميع أمة وواحدة لهم رب واحد دعاهم إلى تقواه لكنهم لم يأتمروا بأمره وقطعوا أمرهم بينهم قطعا وجعلوه كتبا اختص بكل كتاب حزب وكل حزب بما لديهم فرحون. وفي قراة ابن عامر " زبرا " بفتح الباء وهو جمع زبرة وهي الفرقة، والمعنى وتفرقوا في أمرهم جماعات وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون وهي أرجح. قوله تعالى: " فذرهم في غمرتهم حتى حين " قال في المفردات: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعل مثلا للجهالة التي يغمر صاحبها، انتهى. وفي الآية تهديد
[ 36 ]
بالعذاب، وقد تقدمت إشارة إلى أن من سنته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، وفي تنكير " حين " إشارة إلى إتيان العذاب لموعود بغتة. (بحث روائي) في نهج البلاغة: يا أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم ولم يعذكم من أن يبتليكم وقد قال جل من قائلي: " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ". وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فجعلناهم غثاء " الغثاء اليابس الهامد من نبات الارض. وفيه في قوله تعالى: " إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: الربوة الحيرة وذات قرار ومعين الكوفة. وفي المجمع: " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قيل: حيرة الكوفة وسوادها، والقرار مسجد الكوفة، والمعين الفرات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وروي في الدر المنثور عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
الربوة هي دمشق الشام، وروى أيضا عن ابن عساكر وغيره عن مرة البهزي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها الرملة، والروايات جميعا لا تخلو من الضعف. وفي المجمع: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " وقال: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ". أقول: ورواه في الدر المنثور عن أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أمة واحدة " قال: على مذهب واحد. وفيه في قوله: " كل حزب بما لديهم فرحون " قال: كل من اختار لنفسه دينا فهو فرح به.
[ 37 ]
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين - 55. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون - 56. إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون - 57. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون - 58. والذين هم بربهم لا يشركون - 59. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون - 60. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون - 61. ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون - 62. بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون - 63. حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون - 64. لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون - 65. قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون - 66. مستكبرين به سامرا تهجرون - 67. أفلم
يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين - 68. أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون - 69. أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون - 70. ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون - 71. أم تسئلهم خرجا فخراج ربك
[ 38 ]
خير وهو خير الرازقين - 72. وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم - 73. وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون - 74. ولو رمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون - 75. ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون - 76. حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون - 77. (بيان) الآيات متصلة بقوله السابق: " فذرهم في غمرتهم حتى حين " فإنه لما عقب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين وتحزبهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أو عدهم بعذاب مؤجل لا مناص لهم عنه ولا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاؤا فسيغشاهم العذاب ولا محالة. فنبههم في هذه الآيات أن توهمهم أن ما مدهم الله به من مال وبنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم وجهل بحقيقة الحال، ولو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفق الله المؤمنين له من الاعمال الصالحة وما يترتب عليها من جزيل الاجر وعظيم الثواب في الدنيا والآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.
فالعذاب مدركهم لا محالة والحجة تامة عليهم ولا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنونا مختل القول أو سؤاله منهم خرجا بل هم أهل عناد ولجاج لا يؤمنون بالحق حتى يأتيهم عذاب لا مرد له. قوله تعالى: " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات
[ 39 ]
بل لا يشعرون " " نمدهم " - بضم النون - من الامداد والمد والامداد بمعنى واحد وهو تتميم نقص الشئ وحفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: وأكثر ما يستعمل الامداد في المحبوب والمد في المكروه، فقوله: " نمدهم " من الامداد المستعمل في المكروه والمسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنهم هي المال والبنون سورع لهم فيها. والمعنى: أيظن هؤلاء أن ما نعطيهم في مدة المهلة من مال وبنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبنا لاعمالهم أو كرامتهم علينا ؟ لا، بل لا يشعرون أي إن الامر على خلاف ما يظنون وهم في جهل بحقيقة الامر وهو إن ذلك إملاء منا واستدراج وإنما نمدهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين " الاعراف: 183. قوله تعالى: " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " إلى آخر الآيات الخمس، يبين تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدم أن الذي يظن هؤلاء الكفار أن المال والبنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شئ بل استدراج واملاء وإنما الخيرات التي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله ورسله واليوم الآخر الصالحين في أعمالهم. فأفصح تعالى عن وصفهم فقال: " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون "، قال
الراغب: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المش فق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: " وهم من الساعة مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " " مشفقون منها ". انتهى. والآية تصفهم بأنهم اتخذوا الله سبحانه ربا يملكهم ويدبر أمرهم، ولازم ذلك أن يكون النجاة والهلاك دائرين مدار رضاه وسخطه يخشونه في أمر يحبونه وهو نجاتهم وسعادتهم فهم مشفقون من خشيته وهذا هو الذي يبعثهم إلى الايمان بآياته وعبادته، وقد ظهر بما مرمن المعنى أن الجمع في الآية بين الخشية والاشفاق ليس تكرارا مستدركا. ثم قال: " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " وهي كل ما يدل عليه تعالى بوجه
[ 40 ]
ومن ذلك رسله الحاملون لرسالته وما أيدوا به من كتاب وغيره وما جاؤا به من شريعة لان إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه ويحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه وائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي والرسالة. ثم قال: " والذين هم بربهم لا يشركون " والايمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإن الايمان بها إيمان بالشريعة التي شرعت عبادته تعالى والحجج التي دلت على توحده في ربوبيته وألوهيته. على أن جميع الرسل والانبياء عليهم السلام إنما جاؤا من قبله وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شؤون الربوبية، ولو كان له شريك لارسل رسولا، ومن لطيف كلام علي عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربك شريك لاتتك رسله. " ثم قال: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " الوجل الخوف، وقوله: " يؤتون ما آتوا " أي يعطون ما أعطوا من المال بالانفاق في سبيل الله وقيل: المراد بإيتاء ما آتو إتيانهم بكل عمل صالح، وقوله: " وقلوبهم وجلة " حال من فاعل " يؤتون ".
والمعنى والذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالاعمال الصالحة والحال أن قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم أي إن الباعث لهم على الانفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربهم على وجل منه. وفي الآية دلالة على إيمانهم باليوم الاخر وإتيانهم بصالح العمل وعند ذلك تعينت صفاتهم أنهم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له وبرسله وباليوم الآخر ويعملون الصالحات. ثم قال: " اولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " الظاهر أن اللام في " لها " بمعنى " إلى " و " لها " متعلق بسابقون، والمعنى اولئك الذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الاعمال وهم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لان ذلك لازم كون كل منهم مريدا للسبق إليها. فقد بين في الآيات أن الخيرات هي الاعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق الذي عند هؤلاء المؤمنين وهم يسارعون فيها وليست الخيرات ما عند اولئك الكفار
[ 41 ]
وهم يعدونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات. قال في التفسير الكبير: وفيه يعني قوله: " اولئك يسارعون في الخيرات " وجهان: أحدهما: أن المراد رغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبا درونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الاكرام كما قال: " فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة " " وآتيناه في الدنيا أجره وإنه في الآخرة لمن الصالحين " لانهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لان فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين. انتهى.
أقول: إن الذي نفي عن الكفار في الآية المتقدمة هو مسارعة الله للكفار في الخيرات والذي أثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة الممنين في الخيرات، والذي وجهه في هذا الوجه أن مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبين الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى وتبديلها منها، ووجهه بعضهم بأن تغيير الاسلوب للايماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وهو كما ترى. والظاهر أن هذا التبديل إنما هو في قوله في الآية المتقدمة: " نسارع لهم في الخيرات " والمراد بيان أنهم يحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم وهم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثم نفيت بالاستفهام الانكاري، واثبت ما يقابله على الاصل للمؤمنين. فمحصل هذا النفي والاثبات أن المال والبنين ليست خيرات يتسارعون إليها ولا هم مسارعون إلى الخيرات بل الاعمال الصالحة وآثارها الحسنة هي الخيرات والمؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات. قوله تعالى: " ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون " الذي يعطيه السياق أن في الآية ترغيبا وتحضيضا على ما ذكره من صفات المؤمنين ودفعا لما ربما ينصرف الناس بتوهمه عن التلبس بكرامتها من وجهين احدهما
[ 42 ]
أن التلبس بها أمر سهل في وسع النفوس وليس بذاك الصعب الشاق الذي يستوعره المترفون، والثاني أن الله لا يضيع عملهم الصالح ولا ينسى أجرهم الجزيل. فقوله: " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " نفي للتكليف الحرجي الخارج عن وسع النفوس أما في الاعتقاد فإنه تعالى نصب حججا ظاهرة وآيات باهرة تدل على ما يريد
الايمان به من حقائق المعارف وجهز الانسان بما من شأنه أن يدركها ويصدق بها وهو العقل ثم راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوة الادراك وضعفه فأراد من كل ما يناسب مقدار تحمله وطوقه فلم يرد من العامه ما يريده من الخاصة ولم يسأل الابرار عما سأل عنه المقربين ولا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين. وأما في العمل فإنما ندب الانسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفرديه والاجتماعية الدنيوية وسعادته في حياته الاخروية، ومن المعلوم أن خير كل نوع من الانواع ومنها الانسان إنما يكون فيما يتم به حياته وينتفع به في عيشته وهو مجهز بما يقوى على إتيانه وعمله، وما هذا شأنه لا يكون حرجيا خارجا عن الوسع والطاقة. فلا تكليف حرجيا في دين الله بمعنى الحكم الحرجي في تشريعه مبنيا على مصلحة حرجية، وبذلك امتن الله سبحانه على عباده، وطيب نفوسهم ورغبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين. والآية " ولا نكلف نفسا إلا وسها " تدل على ذلك وزيادة فإنها تدل على نفي التكليف المبني على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانية والتقرب بذبح الاولاد مثلا، ونفي التكليف الذي هو في نفسه غير حرجي لكن اتفق أن صار بعض مصاديقه حرجيا لخصوصية في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية وإن كان الامتنان والترغيب المذكوران يتما بنفي القسم الاول. والدليل عليه في الآية تعلق نفي التكليف بقوله: " نفساو هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، وعليه فأي نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلف إلا وسعها ولا يتعلق بها حكم حرجي سواء كان حرجيا من أصله أو صار حرجيا في خصوص المورد. وقد ظهر أن في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول ورفعا للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئا عليه. وقوله: " وعندنا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون " ترغيب لهم بتطييب
[ 43 ]
نفوسهم بأن عملهم لا يضيع وأجرهم لا يتخلف والمراد بنطق الكتاب إعرابه عما أثبت فيه إعرابا لا لبس فيه وذلك لان أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلا بما هو حق فهو مصون عن الزيادة والنقيصة والتحريف، والحساب مبني على ما أثبت فيه كما يشير إليه قوله: " ينطق " والجزاء مبني على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله: " وهم لا يظلمون " فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغير بوجه من وجوه التغير. قال الرازي في التفسير الكبير فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزه عليه لم يثقو بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. قلنا: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة. انتهى. أقول: والذي أجاب به مبني على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى وتجويز الارادة الجزافيه تعالى عن ذلك، والاشكال مطرد في سائر شؤون يوم القيامة التي أخبر الله سبحانه بها كالحشر والجمع وإشهاد الشهود ونشر الكتب والدواوين والصراط والميزان والحساب. والجواب عن ذلك كله: أنه تعالى مثل لنا ما يجري على الانسان يوم القيامة في صورة القضاء والحكم الفصل، ولا غنى للقضاء بما أنه قضاء عن الاستناد إلى الحجج والبينات كالكتب والشهود والامارات والجمع بين المتخاصمين ولا يتم دون ذلك البتة.
نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الانسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه. قوله تعالى: " بل قلوبهم في غمرة من هذاو لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، المناسب لسياق الآيات أن يكون " هذا " إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين ومسارعتهم في الخيرات، ويمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيده
[ 44 ]
قوله بعد: " قد كانت آياتي تتلي عليكم " والغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الذي غمرهم، وقوله: " ولهم أعمال من دون ذلك " الخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين وهو كناية عن أن لهم شاغلا يشغلهم عن هذه الخيرات والاعمال الصالحة وهو الاعمال الرديئة الخبيثة التي هم لها عاملون. والمعنى: بل الكفار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الذي وصفنا به المؤمنين ولهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم ومانعتهم. قوله تعالى: " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون " الجؤار - بضم الجيم - صوت الوحش كالظباء ونحوها عند الفزع كني به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة والتضرع، وقيل: المراد به ضجتهم وجزعهم والآيات التالية تؤيد المعنى الاول. وإنما جعل مترفيهم متعلق العذاب لان الكلام فيمن ذكره قبلا بقوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين " وهم الرؤساء المتنعمون منهم وغيرهم تابعون لهم. قوله تعالى: " لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون " العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ والتقريع ولقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة وأي رجاء وأمل لهم فيها فإن إخبار الوسائط أنهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه إخبار من إليه النصر نفسه. قوله تعالى: " قد كانت آياتي تتلى عليكم - إلى قوله - تهجرون " النكوص:
الرجوع القهقري، والسامر من السمر وهو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد والجمع، وقرئ " سمرا " - بضم السين وتشديد الميم - جمع سامر وهو أرجح، وقرئ أيضا " سمارا " - بالضم والتشديد - والهجر: الهذيان. والفصل في قوله: " قد كانت آياتي " الخ، لكونه في مقام التعليل، والمعنى: إنكم منا لا تنصرون لانه قد كانت آياتي تتلى وتقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها وترجعون إلى أعقابكم القهقري مستكبرين بنكوصكم تحدثون في أمره في الليل تهجرون وتهذون، وقيل: ضمير " به " عائد إلى البيت أو الحرم وهو كما ترى. قوله تعالى: " أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " شروع في قطع أعذارهم في الاعراض عن القرآن النازل لهدايتهم وعدم استجابتهم للدعوة الحقة التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 45 ]
فقوله: " أفلم يدبروا القول " الاستفهام فيه للانكار واللام في " القول " للعهد والمراد بلقرآن المتلو عليهم، والكلام متفرع على ما تقدمه من كونهم في غفلة منه وشغل يشغلهم عنه، والمعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبروا هذا القول المتلو عليهم حتى يعلموا أنه حق من عند الله فيؤمنوا به. وقوله: " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " " أم " فيه وفيما بعده منقطعة في معنى الاضراب، والمعنى: بل أجاءهم شئ لم يأت آباءهم الاولين فيكون بدعا ينكر ويحترز منه. وكون الشئ بدعا محدثا لا يعرفه السابقون وإن لم يستلزم كونه باطلا غير حق على نحو الكلية لكن الرسالة الالهية لما كانت لغرض الهداية لو صحت وجبت في حق الجميع فلو لم يأت الاولين كان ذلك حجة قاطعة على بطلانها. قوله تعالى: " أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون " المراد بمعرفة الرسول
معرفته بنسبه وحسبه وبالجملة بسجاياه الروحية وملكاته النفسية من اكتسابية وموروثة حتى يتبين به أنه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيد من عند الله وقد عرفوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوابق حاله قبل البعثة، وقد كان يتيما فاقد اللابوين لم يقرأ ولم يكتب ولم يأخذأد با من مؤدب وتربية من مرب ثم لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي ولا طمعا في ملك أو حرصا على مال أو ولعا بجاه، وهو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح والسعادة ويندب إلى حقائق معارف تبهر العقول ويدعو إلى شريعة تحير الالباب ويتلو كتابا. فهم قد عرفوا رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم بنعوته الخاصة المعجزة لغيره، ولو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذرا في إعراضهم عن دينه واستنكافهم عن الايمان به لان معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، ومن المعلوم أن إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه مما لا يجوزه العقل. قوله تعالى: " أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون " وهذا عذر آخر لهم تشبثوا به إذ قالوا: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " الحجر: 6 ذكره ورده بلازم قوله: " بل جاءهم بالحق ". فمدلول قوله: " بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون " إضراب عن جملة
[ 46 ]
محذوفة والتقدير إنهم كاذبون في قولهم. " به جنة " وإعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنما كرهوا الايمان به لانه جاء بالحق وأكثرهم للحق كارهون. ولازمه رد قولهم بحجة يلوح إليها هذا الاضراب، وهي أن قولهم: " به جنة " لو كان حقا كان كلامه مختل النظم غير مستقيم المعنى مدخولا فيه كما هو مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلا إلى حق، ولا يأتي إلا بحق، وأين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد ولا يشعر بما يقول. وإنما نسب الكراهة إلى أكثرهم لان فيهم مستضعفين لا يعبؤ بهم أرادوا
أو كرهوا. قوله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " لما ذكر أن أكثرهم للحق كارهون وإنما يكرهون الحق لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحق أي الدعوة الحقة أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون البتة. إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا وما يهوونه من الاعتقاد والعمل فعبدوا الاصنام واتخذوا الارباب ونفوا الرسالة والمعاد واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة والنظام الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق والحق فرق فأعطي كل منهم ما يشتهيه من جريان النظام وفيه فساد السماوات والارض ومن فيهن واختلال النظام وانتفاض القوانين الكلية الجارية في الكون فمن البين أن الهوى لا يقف على حد ولا يستقر على قرار. وتقرير آخر أدق وأوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم أن الانسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام وله في نوعيته غاية هي سعادته وقد خطله طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الانواع الموجودة، وقد جهزة الكون العام وخلقته الخاصة به من القوى والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته. فالطريق التي تنتهى بالانسان إلى سعادته أعنى الاعتقادات والاعمال الخاصة لمتوسطة بينه وبين سعادته وهي التي تسمى الدين وسنة الحياة متعينة حسب
[ 47 ]
إقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الانساني الذي نسميه الفطرة وتابعة لذلك. وهذا هو الذي يشير تعالى إليه بقوله: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " سورة الروم: 30.
فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الانسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الانساني وتدبره وتسوقه إلى غاياته وهو الذي قضي به الله سبحانه فكان حتما مقضيا. فلو اتبع الحق أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه وتبدل العلل والاسباب غيرها وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، وفي ذلك فساد السماوات والارض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها لان كينونتها وتدبير هامختلطان غير متمايزين، والخلق والامرمتصلان غير منفصلين. وهذا هو الذي يشير إليه قوله: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن. وقوله: " بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " لا ريب أن المراد بالذكر هو القرآن كما قال: " وهذا ذكر مبارك " الانبياء: 50، وقال: " وإنه لذكر لك ولقومك "، الزخرف: 44 إلى غير ذلك من الآيات، ولعل التعبير عنه بالذكر بعد قوله: " أم يقولون به جنة " نوع مقابله لقولهم: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " الحجر: 6. وكيف كان فقد سمي ذكر الانه يذكرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحق والعمل الصالح، والثاني أوفق لصدر الآية بما تقدم من معناه، وإنما أضيف إليهم لان الدين أعني الدعوءة الحقة ختلفة بالنسبة إلى الناس بالاجمال والتفصيل والذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع. والمعنى: لم يتبع الحق أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكرهم - أو يذكرون به - دينهم الذي يختص بهم ويتفرع عيه أنهم عن دينهم الخاص بهم معرضون.
وقال كثير منهم إن إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله: " وإنه لذكر
[ 48 ]
لك ولقومك وسوف تسألون " الزخرف: 44، والمعنى: بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم وشرفهم أنفسهم معرضون. وفيه أنه لا ريب في أن القرآن الكريم شرف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنزل عليه ولاهل بيته إذ نزل في بيتهم، وللعرب إذ نزل بلغتهم وللامة إذ نزل لهدايته غير أن الاضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الامة وهو الاوفق لصدر الآية بالمعنى الذي تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين "، قال في مجمع البيان: أصل الخراج والخرج واحد وهو الغلة التي يخرج على سبيل الوظيفة. انتهى. وهذا رابع الاعذار التي ذكرت في هذه الآيات وردت ووبخوا عليها وقد ذكره الله بقوله: " أم تسألهم خرجا " أي مالا يدفعونه اليك على سبيل الرسم والوظيفة ثم ذكر غني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " أي إن اله هو رازقك ولاحاجه لك إلى خرجهم، وقد تكرر الامر بإعلامهم ذلك في الآيات " قل لا أسألكم عليه أجرا " الانعام: 90 الشورى: 23. وقد تمت بما ذكر في الآية أربعة من الاعذار المردودة إليهم وهي مختلفة فأولها " أفلم يدبروا القول " راجع إلى القرآن والثاني " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " إلى الدين الذي إليه الدعوة، والثالث " أم يقولون به جنة " إلى نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرابع " أم تسألهم خرجا " إلى سيرته. قوله تعالى: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " النكب والنكوب العدول عن الطريق والميل عن الشئ. قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا
يختلف ولا يتخلف في حكمه وهو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، وهذه صفة الحق فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض والتدافع ولا يتخلف في مطلوبه الذي يهدي إليه فالحق صراط مستقيم و، إذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهدي إلى الحق كان لازمه هذا الذي ذكره أنه يهدي إلى صراط مستقيم.
[ 49 ]
ثم إن الذين كفروا لما كانوا كارهين للحق كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره. وإنما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة واقتصر عليه لان دين الحق مبني على أساس أن للانسان حياة خالدة لا تبطل بالموت وله فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحق والعمل الصالح وشقاوة يجب أن تجتنب، وهؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحق والصراط المستقيم. وبتقرير آخر: دين الحق مجموع تكاليف اعتقادية وعمية والتكليف لا يتم إلا بحساب وجزاء، وقد عين لذلك يوم القيامة، وإذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغى الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلا الحياة الدنيا المادية ولا يبقي من السعادة عندهم إلا نيل اللذائذ المادية وهو التمتع بالبطن فما دونه، ولازم ذلك أن يكون المتبع عندهم الهوى وأفق الحق أو خالفه. فمحصل الآيتين أنهم ليسوا بمؤمنين بك لانك تدعو إلى صراط مستقيم وهم لا هم لهم إلا العدول والميل عنه. قوله تعالى: " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " إلى قوله " وما يتضرعون " اللجاج التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، والعمه التردد في الامر من التحير، ذكرهما الراغب، وفي المجمع: الاستكانة الخضوع وهو استفعل من الكون، والمعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى.
وقوله: " ولو رحمناهم " بيان وتأييد لنكوبهم عن الصراط بأنالو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصروا على تمردهم عن الحق وتمادوا يترددون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضر كما لا ينفعهم تخويف بعذاب ونقمة فإنا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربهم وما يتضرعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم ولا يركبهم صراط الحق لا رحمة بكشف الضر ولا نقمة وتخويف بالاخذ بالعذاب. والمراد بالعذاب العذاب الخفيف الذي لا ينقطع به الانسان عن عامة الاسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أن الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار والانقطاع
[ 50 ]
عن الاسباب من غريزيات الانسان كما تكرر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثم لا يستكينوا ولا يتضرعوا ؟ وقوله في الآية الاولى: " ما بهم من ضر " وفي الثانية " ولقد أخذناهم بالعذاب " يدل على أن الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع ولما يرتفع حين نزول الآيات، ومن المحتمل أنه الجدب الذي إبتلي به أهل مكة وقد ورد ذكر منه في الروايات. قوله تعالى: " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون " أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة ولا عذاب حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد وهو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة - على ما يعطيه سياق الآيات وخاصة الآيات الآتية - فيفا جئوهم الابلاس واليأس من كل خير. وقد ختم هذا الفصل من الكلام أعنى قوله: " أفلم يدبروا القول " الخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قول: " أيحسبون انما نمدهم به من مال بنين " إلى آخر الآيات وهو ذكر عذاب الآخرة، وسيعود إليه ثانيا. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والذين هم من خشية ربهم مشفقون - إلى قوله -
يؤتون ما آتوا " قال: من العبادة الطاعة. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله ؟ قال: لا ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه. وفي المجمع في قوله: " وقلوبهم وجلة " قال أبو عبد الله عليه السلام: معناه خائفة أن لا يقبل منهم، وفي رواية أخرى: أتى وهوائف راج. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة
[ 51 ]
" حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل اليوم بدر. أقول: وروى مثله عن النسائي عن ابن عباس ولفظه قال: هم أهل بدر، وسياق الآيات لا نطبق على مضمون الروايتين. وفيه أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا لعلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ". أقول: والروايات في هذا المعنى مختلفة وما أوردناه أعدلها وهي تشير إلى جدب وقع بمكة وحواليها بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظاهر أكثرها أنه كان بعد الهجرة، ولا يوافق ذلك الاعتبار. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم " قال: الحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم والمتشابه ونظيره ما أورده في قوله: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم " قال: إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وكذا ما أورده في قوله: " عن الصراط لناكبون " قال: عن الامام لحادون. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " فقال " الاستكانة هي الخضوع، والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما. وفي المجمع وروي عن مقاتل بن حيان عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السسلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع الايدي من الاستكانة. قلت: وما الاستكانة ؟ قال: أما تقرأ هذه الآية: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " ؟ أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما. وفيه قال أبو عبد الله عليه السلام: الاستكانة الدعاء، والتضرع رفع اليدين في الصلاة. وفي الدر المنثور أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله:
[ 52 ]
" وما استكانوا لربهم وما يتضرعون " أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا لو خضعوا لله لاستجاب لهم. وفي المجمع في قوله تعالى: " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد " قال أبو جعفر عليه السلام هو في الرجعة. * * * وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون - 78. وهو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون - 79.
وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون - 80. بل قالوا مثل ما قال الاولون - 81. قالواء إذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون - 82. لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين - 83. قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون - 84. سيقولون لله قل أفلا تذكرون - 85. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم - 86. سيقولون لله قل أفلا تتقون - 87. قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون - 88. سيقولون لله قل فأني تسحرون - 89. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون - 90. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - 91. عالم الغيب
[ 53 ]
والشهادة فتعالى عما يشركون - 92. قل رب إما تريني ما يوعدون - 93. رب فلا تجعلني في القوم الظالمين - 94. وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون - 95. إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون - 96. وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين - 97. وأعوذ بك رب أن يحضرون - 98. (بيان) لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له ولا مخلص منه، ورد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، وبين أن السبب الوحيد لكفرهم الله واليوم الآخر وهو اتباع الهوى وكراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية وعلى رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للانكار إليها.
وعقب ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أو عدوا به، وأن يعوذ به من همزات الشيطان وأن يحضروه كما فعلوا بهم. قوله تعالى: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " إفتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع والبصر وهما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء وإبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الانواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات والجماد والعناصر. وبحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا ويتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره وشره ونافعه وضاره ويعطي معهما الحركة الارادية إلى ما يريده وعما يكرهه، ويستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال واللذة والعزة والغلبة والمحة مما لا خبر عنه فيما قبله. وإنما اقتصر من الحواس بالسمع والبصر - قيل - لان الاستدلال يتوقف عليهما ويتم بهما.
[ 54 ]
ثم ذكر سبحانه الفؤاد والمراد به المبدأ الذي يعقل من الانسان وهو نعمة بالانسان من بين سائر الحيوان ومرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة وأعلى منزلة وأوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الانسان يدرك بهما ما غاب وما حضر وما مضى وما غبر من أخبار الاشياء وآثارها وأوصافها بعلاج وغير علاج. ثم يرقي بفؤادة أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات والجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، ويغور متفكرا في العلوم النظرية والمعارف الحقيقية، وينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات والارض. ففي ذلك كله من عجيب التدبير الالهي بإنشاء السمع والابصار والافئدة ما لا
يسع الانسان أن يستوفي شكره. وقوله: " قليلا ما تشكرون " فيه بعض العتاب ومعناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: " قليلا " وصف للمفعول المطلق قائم مقامه. قوله تعالى: " وهو الذي ذرأكم في الارض واليه تحشرون " قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. وقال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. انتهى. فالمعني أنه لما جعلكم ذوي حس وعقل أظهر وجودكم في الارض متعلقين بها ثم يجمعكم ويرجعكم إلى لقائه. قوله تعالى: " وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون " معنى الآية ظاهر، وقوله: " وهو الذي يحيي ويميت " مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم وأظهر وجودكم في الارض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الاحياء والاماتة إذ العلم متوقف على الحياة والحشر متوقف على الموت. وقوله: " وله اختلاف الليل والنهار " مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان وورود الليل بعد النهار والنهار بعد الليل حتى ينقضي العمر ويحل الاجل المكتوب هذا لو أريد باختلاف الليل والنهار وورود الواحد منها بعد الواحد، ولو أريد به اختلافهما في الطول والقصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول
[ 55 ]
السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل والنهار وقصرهما وبذلك يتم أمر أرزاق الحيوان وتدبير معاشها كما قال: " وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين "، حم السجدة: 10. فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع والبصر
والفؤاد وهو الحس والعقل للانسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة وسكونا في الارض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، وهو يستتبع حياة وموتا، وذلك يستتبع عمرا متقضيا بإنقضاء الزمان ورزقا يرتزق به. فالآيات الثلاث تتضمن الاشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الانسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، والله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لان هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق والايجاد ولا ينحازعنه، وهو نظام الفعل والانفعال الجاري بين الاشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لامرهم وإليه يحشرون، وقوله: " أفلا تعقلون " توبيخ لهم وحث على التنبه فالايمان. قوله تعالى: " بل قالوا مثل ما قال الاولون " إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا وكذا. وفي تشبيه قولهم بقول الاولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق وأوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى وهو نفي المعاد، والاخلاص إلى الارض والانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخريهم وأوليهم. قوله تعالى: " قالوا ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " بيان لقوله: " قالوا " في الآية السابقة والكلام مبني على الاستبعاد. قوله تعالى: " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين " الاساطير الاباطيل والاحاديث الخرافية وهي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة وأعاجيب جمع أعجوبة وإطلاق الاساطير وهو جمع على البعث وهو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالاحياء والجمع والحشر والحساب والجنة والنار وغيرها، والاشاره بهذا إلى حديث البعث وقوله: من قبل، متعلق بقوله: " وعدنا " على ما يعطيه سياق الجملة.
[ 56 ]
والمعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن وآباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها ونظمها الاناسي الاولون في صورة إحياء الاموات وحساب الاعمال والجنة والنار والثواب والعقاب. والدليل على كونها أساطير أن الانبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوفوننا بقيام الساعة ولو كان حقا غير خرافي لوقع. ومن هنا يظهر أولا أن قولهم: " من قبل " لتمهيد الحجة على قولهم بعده " إن هذا إلا أساطير الاولين ". وثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: " ءإذا كنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " مبنية على الاستبعاد وهذه الآية متضمنة للانكار مبنيا على حجة واهية. قوله تعالى: " قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون " لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك والربوبية والسلطنة، ووجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث وهم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم ورب الارباب والآلهة المعبودون دونه من خلقه، ولذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة. فقوله: " قل لمن الارض ومن فيها " أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عن مالك الارض ومن فيها من أولى العقل من هو ؟ ومعلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل الشئ المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع وهو يقبل الصحة والفساد ويقع مورد اللبيع والشرى، وذلك لان الكلام مسوق لاثبات صحة جميع التصرفات التكوينية وملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري. قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تذكرون " إخبار عن جوابهم وهو أن
الارض ومن فيها مملوكة لله، ولا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، والعلة الموجدة للارض ومن فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى بإعتراف الوثنيين. وقوله: " قل أفلا تذكرون " أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم
[ 57 ]
تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، والمعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الارض ومن فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها بالاحياء بعد الاماتة. قوله تعالى: " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم " أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم من هو ؟ والمراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الامور ويصدر عنه كل تدبير، وتكرار لفظ الرب في قوله: " ورب العرش العظيم " للاشارة إلى أهمية أمره ورفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، وقد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الاعراف في الجزء الثامن من الكتاب. ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع وقولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار ومن رب الدار فقوله تعالى: " من رب السماوات السبع ؟ سؤال عن مالكها، ولذا حكي الجواب عنهم بقوله: " سيقولون لله " على المعني ولو أنه أجيب عنه فقيل: " الله " كما في القراءة الاخرى كان جوابا على اللفظ. وفيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشئ هو مالكه المدبر لامره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، ولو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين " قل لمن الارض ومن فيها - إلى قوله -
سيقولون لله " إذ كان معنى السؤال: من رب الارض ومن فيها، ومن المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الارض ومن فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه وهذا بخلاف السؤال عن مالك الارض ومن فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لانهم كانوا يرون الايجاد لله والملك لازم الايجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به. ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الاشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها " قل من رب السماوات السبع - إلى قوله - سيقولون لله " فإن جل الوثنيين من الصابئين وغيرهم يرون للسماوات وما فيها من الشمس والقمر وغيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات
[ 58 ]
أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: " سيقولون لله " إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به. والذي يحسم أصل الاشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آرائهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين والبرهمائيين والبوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع وأقسام كأمر السماء والارض وأنواع الحيوان والنبات والبر والبحر وغير ذلك ويثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله ويعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله. وأما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية والقاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية قواعد مضبوطة وربما كانوا يرون للمعمورة من الارض وسكانها آلهة دون الله لها أصنام وربما رأوا نفس الاصنام المصنوعة آلهة، وأما السماوات والسماويات وكذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه والله ربها كما يلوح
إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: " يا هامان إبن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى " المؤمن: 37، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى - وهو الله تعالى - إله السماء وبالجملة السماوات وما فيهن ومن فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات. وأما الصابئون ومن يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات وما فيهن من النجوم والكواكب آلهة وأربابا من دون الله وهم الملائكة والجن وهم يرون الملائكة والجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، وحينما يعدونهم، ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم وهو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الامور ومنه ينزل القضاء وبه تستمد الاسباب الطبيعية، وهو بما فيه من الملائكة وغيرهم مربوب لله سبحانه وإن كان من فيه آلهة للعالم الحسي وأربابا لمن فيه والله رب الارباب. إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.
[ 59 ]
وإن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يري للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة والجن دون السماوات المادية، ويؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الاحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم وآلهتهم، ومن المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شئ دونه. وهذا العالم العلوي هو عندهم عالم الارباب والآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.
فمعنى الآية - والله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الامور وأقضيتها ورب العرش العظيم الذي منه يصدر الاحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم ؟ فإنهم وما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله وهو الذي ملكهم ما ملكوه. قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تتقون " حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع والعرش العظيم لله سبحانه. والمعني: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الامر والعرش العظيم منه يصدر الامر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث وتعدونه من أساطير الاولين وتسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به ؟ فإن له تعالى أن يصدر الامر ببعث الاموات وإنشاء النشأة الآخرة للانسان وينزل الامر به من السماء. وملطيف تعبير الآية التعبير بقوله: " لله " فإن الحجة تتم الملك وإن لم يعترفوا بالربوبية. قوله تعالى: " قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة والحكم، ويفيد مبالغة في معناه والفرق بين الملك بالفتح والكسر وبين المالك أن المالك هو الذي يملك المال والملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك وله التصرف بالحكم في المال ومالكه. وقد فسر تعالى ملكوته بقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
[ 60 ]
فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، فملكوت كل شئ هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن وبعبارة اخرى وجوده عن إيجاده تعالى. فكون ملكوت كل شئ بيده كناية إستعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق
عليه الشئ به تعالى كما قال: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62، فملكه تعالى محيط بكل شئ ونفوذ أمره ومضي حكمه ثابت على كل شئ. ولما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك ونفوذ المأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الاسباب والعلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: " بيده ملكوت كل شئ " بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " وهو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشئ شئ من الملك في عرض ملكه ولو بالمنع والاخلال والاعتراض فله الملك وله الحكم. وقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " من الجوار، وهو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا وهو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار واشتق منه الافعال يقال: إستجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء. وهذا جاري جميع أفعاله تعالى فما من شئ يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا وهو يحفظه على ما يريد وبمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنما هو بإذن منه ومشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه وتحديدا لفعل منه بفعل آخر، وما من سبب من الاسباب يفعل فعلا إلا وله تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لانه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه. فالمراد بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " أنه يمنع السوء عمن قصد به ولا يمنعه شئ إذا أراد شيئا بسوء عما أراد. ومعنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شئ بما له من الخواص والآثار وهو يحمي من استجار به ولا يحمي عنه شئ إذا أراد شيئا بسوء ؟ إن كنتم تعلمون. قوله تعالى: " سيقولون لله قل فأني تسحرون " قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشئ للانسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.
[ 61 ]
والمعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة ويعيد الاموات للحساب والجزاء بأمر يأمره وهو قوله: " كن ". وأعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، والمالك المتصرف هو الرب. قوله تعالى: " بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون " إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، والمعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث وهم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسا ن الرسل بالحق وإنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم ونفيهم للبعث. قوله تعالى: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " الخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم وبعض الجن وبعض القديسين من البشر أولاد الله سبحانه وتبعهم النصاري في قولهم المسيح ابن الله، وهذا النوع من الولادة والبنوة مبني على إشتمال الابن على شئ من حقيقة اللاهوت وجوهره وإنفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله. وأما البنوة الادعائية بالتبني وهو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شئ من حقيقة الاب كقول اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، وليس الولد بهذا المعنى مرادا لان الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، ولا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية وإن كان التسمي والتسمية بها ممنوعا. فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شئ بنحو التبعض والاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شئ من حقيقة الموجد لا تسمية شئ موجودا بنا وولدا لغرض من الاغراض كما
ذكره بعضهم. والولد - كما عرفت - اخص مصداقا عندهم من الاله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " ترق من نفي الاخص إلى نفي الاعم ولفظة " من " في الجملتين زائدة للتأكيد.
[ 62 ]
وقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها وربوبيتها، ومعنى ربوبية الآله في شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الامر، ومن البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمر أن متباينان. ولازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الانساني عن الانظمة الجارية في أنواع الحيوان والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والارض والسماء وغيرها وكل منها عن كل منها، وفيه فساد السماوات والارض وما فيهن، ووحدة النظام الكوني والتئام أجزائه وإتصال التدبير الجاري فيه يكذبه. وهذا هو المراد بقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير. وقوله: " ولعلا بعضهم على بعض " محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة اخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر والتدبيرين الجاريين في الماء والنار، ومنها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم وتدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الارضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب
من الكواكب التي في السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الانواع المادية. فبعض التدبير وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو أنقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص. ولازم ذلك أن يكون الاله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الاله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه وأخص منه وأخس واستعلاء الاله على الاله محال. لا لان الاستعلاء المذكور يستلزم كون الاله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته
[ 63 ]
محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا والمحدودية تفضي إلى التركيب، وكل ذلك من لوازم الامكان المنافي لوجوب وجود الاله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، وهي مربوبة لله سبحانه وأرباب لما دونها والله سبحانه رب الارباب وإله الآلهة وهو الواجب الوجود بالذات وحده. بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بلن استقلال المستعلى عليه في تدبيره وتأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير والحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الاسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الامر هذا خلف. هذا ما يعطيه التدبر في الآية، وللمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها وتنافي كونها واجبة الوجود
فيلزم الخلف، والقوم لا يقولون في شئ من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، وقد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوده مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها ولا إيهام، وفرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، والدليل إقناعي لا قطعي. ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: " لذهب كل إله بما خلق " حيث نسب الخلقة إليها وقد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الايجاد وذلك لان بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل والتدبير مختلطان وقد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات: 96، وقوله: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " الزخرف: 12. فالقوم يرون أن كلا من الالهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، وأما إعطاء الوجود للاشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد ولا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل والايجاد من المتكلمين. وقد ختم الآية بالتنزيه بقوله: " سبحان الله عما يصفون ".
[ 64 ]
قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " صفة لاسم الجلالة في قوله: " سبحان الله عما يصفون " وتأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة - على ما يعليه السياق - فيكون في معنى قوله: " قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون " يونس: 18. ويرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو " آل عمران: 18 إحتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.
وقيل إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لان المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصورة. انتهى. و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الاله الواجب الوجود بالذات، واوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع. وقوله: " فتعالى عما يشركون " تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء. قوله تعالى: " قل رب إما تريني ما توعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله وإنكار البعث والاستهزاء بالرسل وأقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب. فقوله: " قل رب إما تريني ما يوعدون " أمر بالدعاء والاستغاثة، وتكرار " رب " لتأكيد التضرع وما في قوله: " إما تريني " زائدة وهي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط وأصله: أن ترني. وفي قوله: " ما يوعدون " دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الايعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي. وما في قوله: " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له. قوله تعالى: " وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون " تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 65 ]
بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، ولعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر وقد أراه الله ذلك وأراه المؤمنين وشفي به غليل صدورهم. قوله تعالى: " إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون " أي إدفع السيئة
التي تتوجه اليك منهم بالحسنة واختر للدفع من الحسنات أحسنها، وهو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساؤا إليك بالايذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الاحسان ثم ببعض الاحسان في الجملة ولو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم. وقوله: " نحن أعلم بما يصفون " نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يسوءنه ما يلقاه ولا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون. قوله تعالى: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "، قال في مجمع البيان: الهمزة شدة الدفع، ومنه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق بإعتماد شديد ودفع، وهمزة الشيطان دفعه بالاغواء إلى المعاصي انتهى. وفي تفسير القمي عنه عليه السلام: أنه ما يقع في قلبك من وسوسه الشياطين. وفي الآيتين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين ومن أن يحضروه، وفيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك والتكذيب من همزات الشياطين وإحاطتهم بهم بالحضور. * * * حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون - 99. لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنهاكلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون - 100. فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - 101. فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون - 102. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
[ 66 ]
أنفسهم في جهنم خالدون - 103. تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون - 104. ألم تكن آياتي تتلي عليكم فكنتم بها تكذبون - 105. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين - 106. ربنا أخرجنا
منها فإن عدنا فإنا ظالمون - 107. قال اخسؤا فيها ولا تكلمون - 108. إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الراحمين - 109. فأتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون - 110. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون - 111. قال كم لبثتم في الارض عدد سنين - 112. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسئل العادين - 113. قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون - 114. أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون - 115. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم - 116. ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون - 117. وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين - 118. (بيان) الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة وهو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الابد، وتذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم
[ 67 ]
وصرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثم تختم السورة بأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة " رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " وقد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة. قوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب رجعون " " حتى " متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه وشركهم به، والآيات المتخللة إعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به ويصفونه بما هو منزه منه وهم مغترون بما نمدهم به من مال وبنين حتى إذا جاء أحدهم الموت. وقوله: " قال رب ارجعون " الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض
روحه و " رب " استغاثة معترضة بحذف حرف النداء والمعنى قال - وهو يستغيث بربه - ارجعون. وقيل: إن الخطاب للرب تعالى والجمع للتعظيم كقول إمرأة فرعون له على ما حكاه الله: " قرة عين لي ولك لا تقتلوه ". وقيل: هو من جمع الفعل ويفيد تعدد الخطاب، والمعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوي بين الدخول فحومل أي قف قف نبك. وفي الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، وأشد منه جمع الفعل بالمعني الذي ذكر. قوله تعالى: " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها " " لعل " للترجي وهو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: " فأرجعنا نعمل صالحا " السجدة: 12، وربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا " الانعام: 27. وقوله: " أعمل صالحا فيما تركت " أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر والاحسان وكل ما فيه رضي الله سبحانه. وقيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت والعمل الصالح أعم من العبادات المالية وغيرها من صلاة وصوم وحج ونحوها، وهو حسن غير أن الاول هو الاظهر.
[ 68 ]
وقوله: " كلا إنها كلمة هو قائلها " أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكمة " إرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت " كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة
هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته. قوله تعالى: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: " بينهما برزخ لا يبغيان " الرحمان: 20، والمراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم وسمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الانسان ويقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الانسان ليمر عليه وهذا معنى قول بعضهم: إن في " وراء " معنى الاحاطة، قال تعالى: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " الكهف: 79. والمراد بهذا البرزخ عالم القبر وهو عالم المثال الذي يعيش فيه الانسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق وتدل عليه آيات أخر وتكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا من طرق أهل السنة، وقد تقدم البحث عنه في الجزء الاول من الكتاب. وقيل: المراد بالآية أن بينهم وبين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة ومعلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم وأيآس لهم من الرجوع إليها من أصله. وفيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا وبين يوم يبعثون لا بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، ولو كان المراد أن الموت حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا لغى التقييد بقوله: " إلى يوم يبعثون " لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا ولا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد وإن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة. على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإيآسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من " كلا " بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: " إلى يوم يبعثون " فافهمه. قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " المراد به
[ 69 ]
النفخة الثانية التي تحيا فيها الاموات دون النفخة الاولى التي تموت فيها الاحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الانساب والتساؤل وثقل الميزان وخفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية. وقوله: " فلا أنساب بينهم " نفي لآثار الانساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الانساب واعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الانسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، والمجتمع المنزلي يستعقب التعارف والتعاطف وأقسام التعاون والتعاضد وسائر الاسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية ويوم القيامة ظرف جزاء الاعمال وسقوط الاسباب التي منها الاعمال فلا موطن فيه للاسباب الدنيوية التي منها الانساب بلوازمها وخواصها وآثارها. وقوله: " ولا يتساءلون " ذكر لاظهر آثار الانساب، وهو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للاعانة والاستعانة في الحوائج لجلب المنافع ودفع المضار. ولا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " الصافات: 27، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها وتساؤل أهل النار بعد دخولها وهذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب والقضاء. قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون " إى آخر الآيتين. الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون وهو العمل الذي يوزن يومئذ، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان وثقله وخفته في تفسير سورة الاعراف. قوله تعالى: " تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " قال في المجمع: اللفح والنفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا وأعظم من النفح، وهو ضرب من السموم للوجه والنفح ضرب الريح الوجه، والكلوح تقلص الشفتين عن الاسنان حتى تبدو الاسنان. انتهى. والمعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم وتنكشف عن أسنانهم
كالرؤس المشوية. قوله تعالى: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ أي يقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.
[ 70 ]
قوله تعالى: " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " الشقوة والشقاوة والشقاء خلاف السعادة، وعادة الشئ ما يختص به من الخير، وشقاوته فقد ذلك وإن شئت فقل: ما يختص به من الشر. وقوله: " غلبت علينا شقوتنا " أي قهرنا واستولت علينا شقوتنا، وفي إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، والدليل عليه قولهم بعد: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " إذ هو وعد منهم بالحسنات ولو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن الوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج. وقد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة والشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل وكانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم وسيآت أعمالهم لانهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة والشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم وارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم وسيئات أعمالهم. وبالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة ولحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ. ثم عقبوا قولهم: " غلبت علينا شقوتنا " بقولهم: " وكنا قوما ضالين " تأكيدا لاعترافهم، وإنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب والرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه
وظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب وهم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل والتوبة والاعتراف بالذنب من الاعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ وينكرون أشياء مع ظهور الحق ومعاينته لاستقرار ملكة الكذب والانكار في نفوسهم، قال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا يحلفون له كما يحلفون لكم " المجادلة: 18. وقال: " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " المؤمن: 74. قوله تعالى: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه،
[ 71 ]
ومرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب وعمل صالحا. قوله تعالى: " قالوا اخسئوا فيها ولا تكلمون " قال الراغب: خسات الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر وذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، المراد زجرهم بالتباعد وقطع الكلام. قوله تعالى: " إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين " هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا وكان إيمانهم توبة ورجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، وكان سؤالهم شمول الرحمة - وهي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، وقد توسلوا إليه بإسمه خير الراحمين. فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وإنما الفرق بينهما من حيث الموقف. قوله تعالى: " فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ضمائر الخطاب للكفار
وضمائر الغيبة للمؤمنين، والسياق يشهد أن المراد من " ذكرى " قول المؤمنين: " ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا " الخ، وهو معنى قول الكفار في النار. وقوله: " حتى أنسوكم ذكري " أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين والضحك منهم ذكري، ففي نسبة الانساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشؤون إلا أن يتخذوهم سخريا. قوله تعالى: " إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " المراد باليوم يوم الجزاء، ومتعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للايجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لاجله، وقوله: " أنهم هم الفائزون " مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم. وهذه الآيات الاربع " قال اخسئوا - إلى قوله - هم الفائزون " إيآس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب وسؤال الرجوع إلى الدنيا ومحصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول وهو الاعتراف والسؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل وهي الدنيا، وقد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى
[ 72 ]
الفوز وكنتم تسخرون وتضحكون منهم حتى تركتموه وبدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم وهو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل وبقيتم صفر الاكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم وهو يوم الجزاء دون العمل. قوله تعالى: " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين " مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الارض وقد ذكر في مواضع من كلامه والمراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " الروم: 55، وقوله: " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الاحقاف: 35 وغيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن
المراد به المكث في الدنيا، واحتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا والبرزخ. قوله تعالى: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسال العادين " ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا وقد استقلوا اللبث في الارض حينما قايسوه بالبقاء إلابدي الذي يلوح لهم يوم القيامة ويعاينونه. ويؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، وفي موضع آخر بعشية أو ضحاها. وقوله: " فاسأل العادين " أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه وفسر بالملائكة العادين للايام وليس ببعيد. قوله تعالى: " قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " القائل هو الله سبحانه، وفي الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور وفيه توطئة لما يلحق به من قوله: " لو أنكم كنتم تعلمون " بما فيه من التمني. والمعنى: قال الله: الامر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث ولم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، والتمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام. وجعل بعضهم " لو " في الآية شرطية والجملة شرطا محذوف الجزاء وتكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم وهو بعيد عن السياق كما هو ظاهر وأبعد منه جعل " لو " وصلية مع أن " لو " الوصلية لا تجئ بغير وأو العطف. قوله تعالى: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا - إلى قوله - رب العرش الكريم -
[ 73 ]
بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب والجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.
فقوله: " أفحسبتم " الخ، معناه فإذا كان الامر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب والجزاء فهل تظنون إنما خلقناكم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقكم وأنكم إلينا لا ترجعون ؟ وقوله: " فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " إشارة إلى برهان يثبت البعث ويدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالاوصاف الاربعة: أنه ملك وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الكريم. فله أن يحكم بما شاء من بدء وعود وحياة وموت ورزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، وما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله - أي لا معبود - إلا هو، والاله معبود لربوبيتة فإذا لا إله غيره فهو رب العرش الكريم - عرش العالم - الذي هو مجتمع أزمة الامور ومنه يصدر الاحكام والاوامر الجارية فيه. فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم ويوجد منه كل شئ ولا يحكم إلا بحق ولا يفعل إلا حقا فللاشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا لكانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع. والدليل على اتصافه بالاوصاف الاربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره. قوله تعالى: " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون "، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى ودعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى
وإنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، ويمكن أن يكون المراد بالدعاء الاثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.
[ 74 ]
وقوله: " لا برهان له به " قيد توضيحي لا له آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الاله الآخر مطلقا. وقوله: " فإنما حسابه عند ربه " كلمة تهديد وفيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - وهو النار كما صرحت به الآيات السابقة - فإنه يصيبه لا محالة، ومرجعه إلى نفي الشفعاء والايآس من أسباب النجاة وتممه بقوله: " إنه لا يفلح الكافرون ". قوله تعالى: " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " خاتمة السورة وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا وأن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: " إنه كان فريق من عبادي يقولون " الخ، الآيتان 109 و 111 من السورة. وبذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: " قد أفلح المؤمنون " وقد تقدم الكلام في معنى الآية. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ". أقول: وروي هذا المعني بطرق أخر غيرها عنه عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه. وفي تفسير القمي: قوله عزوجل: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " قال: البرزخ هو أمر بين أمرين وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة، وهو قول الصادق
عليه السلام: والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ وأما إذا صار الامر إلينا فنحن أولى بكم. أقول: وروي الذيل في الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد عنه عليه السلام. وفيه قال على بن الحسين عليه السلام: إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
[ 75 ]
وفي الكافي بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كابدانهم. وفيه بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله عليه السلام: إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا. وفيه بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الارواح في صفة الاجساد في شجرة في الجنة تتعارف وتتسأل فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى. أقول: أخبار البرزخ وتفاصيل ما يجري على المؤمنين وغيرهم فيه كثيرة متواترة، وقد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم. في مجمع البيان وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي. أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، وقد رواها في الدر المنثور عن عدة
من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: أن الانساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري، وعن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وعن ابن عساكر عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري. وفي المناقب في حديث طاووس عن زين العابدين عليه السلام: خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا أما سمعت قول الله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون " والله لا ينفعك غدا إلا تقديمة تقدمها من عمل صالح.
[ 76 ]
أقول: سياق الآية كالابي عن التخصيص ولعل من آثار نسبه صلى الله عليه وآله وسلم أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة. وفي تفسير القمي وقوله عزوجل: " تلفح وجوههم النار قال: تلهب عليهم فتحرقهم وهم فيها كالحون " أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " ربنا غلبت علينا شقوتنا " قال: بأعمالهم شقوا. وفي العلل بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام: يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب. قال: وما ذلك لله أنت ؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا إبن أخ خلقنا للبقاء وكيف تفني جنة لا تبيد ونار لا تخمد ؟ ولكن إنما نتحول من دار إلى دار. وفي تفسير القمي قوله تعالى: " قال كم لبثتم - إلى قوله - فاسأل العادين " قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الايام، ويكتبون ساعاتنا وأعمالنا التي
اكتسبنا فيها. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال لاهل الجنة كم لبثتم في الارض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين. ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الارض عدد سنين ؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين. أقول: وفي انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق وبما يشهد به الآيات النظائر خفاء، وقد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.
[ 77 ]
(سورة النور مدنية، وهي أربع وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون - 1. الزأنية والزأني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين - 2. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين - 3. - والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون - 4. - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم - 5. والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين - 6. والخامسة أن لعنة الله عليه
إن كان من الكاذبين - 7. ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين - 8. - والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين - 9. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم - 10.
[ 78 ]
(بيان) غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " فهي تذكرة نبذة من الاحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من المعارف الالهية تناسبها ويتذكر بها المؤمنون. وهي سورة مدنية بلا خلاف وسياق آياتها يشهد بذلك ومن غرر الآيات فيها آية النور. قوله تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لاجله ولذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل: " فرضناها "، وتارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية المجموع للبعض فقيل أنزلنا فيها آيات بينات " وهي مما وضعه القرآن وسمي به طائفة خاصة من آياته وتكرر استعمالها في كلامه تعالى، وكأنه مأخوذ من سور البلد وهو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لاحاطتها بما فيها من الايات أو بالغرض الذي سيقت له. وقال الراغب: الفرض قطع الشئ الصلب والتأثير فيه كفرض الحديد وفرض الزند والقوس. قال: والفرض كالايجاب لكن الايجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي أوجبنا العمل بها عليك. قال: وكل موضع ورد " فرض الله عليه " ففي الايجاب الذي أدخله الله
فيه، وما ورد " فرض الله له " فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ". انتهى. فقوله: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي هذه سورة أنزلناها وأوجبنا العمل بما فيها من الاحكام فالعمل بالحكم الايجابي هو الاتيان به وبالحكم التحريمي الانتهاء عنه. وقوله: " وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " المراد بها - بشهادة السياق - آية النور وما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الايمان والكفر والتوحيد والشرك المذكر لهذه المعارف الالهية. قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية، الزنا
[ 79 ]
المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، والجلد هو الضرب بالسوط والرأفة التحنن والتعطف وقيل: هي رحمة في توجع، والطائفة في الاصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: وربما تطلق على الاثنين وعلى الواحد. وقوله: " الزانية والزاني " الخ، أي المرأة والرجل اللذان تحقق منهما الزنا فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، وهو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور: منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم ومنها أن يكونا غير حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد. قيل: وقدمت الزانية في الذكر على الزاني لان الزنا منهن أشنع ولكون الشهوة فيهن أقوى وأكثر والخطاب في الامر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي والامام ومن ينوب منا به. وقوله: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " الخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه وربما أدى إلى تركه، ولذا قيده بقوله:
" في دين الله " أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله وشريعته. وقيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " يوسف: 76 أي في حكمه أي لا تأخذكم هما رأفة في إنفاذ حكم الله وإقامة حده. وقوله: " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي إن كنتم كذا وكذا فلا تأخذكم بهما رأفة ولا تساهلوا في أمرهما وفيه تأكيد للنهي. وقوله: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي وليحضر ولينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة. قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ظاهر الآية وخاصة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي وإن كان صدرها واردا في صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب وهو شائع. والمحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق ائمة أهل البيت عليهم السلام أن
[ 80 ]
الزاني إذا اشتهر منه الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية والمشركة، والزانية إذا اشتهر منها الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك. فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ ولا تأويل، وتقييدها بإقامة الحد وتبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من والسياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الامر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني والزانية المجلودان، وكذا إطلاق الزاني والزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا وتبين منه ذلك، بعيد من دأب القرآن وأدبه. وللمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة وأقوال شتى: منها: أن الكلام مسوق للاخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه
وذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة ويجانسه في الفساد والزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء ومن هو أفسد منها وهي المشركة، والزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها وهو الزاني ومن هو أفسد منه وهو المشرك فالحكم وارد مورد الاعم الاغلب كما قيل في قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " الآية 26 من السورة. ومنها: أن المراد بالآية التقبيح، والمعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلا زانية أو من هي دونها وهي المشركة واللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا زان أو من هو دونه وهو المشرك، والمراد بالنكاح العقد، وقوله: " وحرم ذلك على المؤمنين " معطوف على أول الآية، والمراد وحرم الزنا على المؤمنين. وفيه وفي سابقه مخالفتهما لسياق الآية وخاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت الاشارة إليه. ومنها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ". وفيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم والخصوص والعام الوارد بعد الخاص لا ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك
[ 81 ]
يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه " البقرة: 221، بدعوي أن الآية وإن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن والمؤمنة والمشرك والمشركة، وقد إدعى بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم فلعل الآية
التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، ونزلت آية التحريم بعدها وفي الآية أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها. قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الخ الرمي معروف ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الانسان كالزنا والسرقة وهو القذف، والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة لعفيفة، والمراد بالاتيان بأربعة شهداء وهم شهود الزنا إقامة الشهادة لاثبات ما قذف به، وقد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، وحكم بفسقهم وعدم قبول شهادتهم أبدا. والمعنى: والذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم وهم فاسقون لا تقبلوا شهادتهم على شئ أبدا. والآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر والانثى والحر والعبد، وبذلك تفسرها روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة وهي قوله: " واولئك هم الفاسقون " لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - على ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبدا، ولازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا. والمعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم يغفر ذنبهم ويرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق والحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا. وذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة فحسب فلو تاب القاذف
[ 82 ]
وأصلح بعد أقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا. والظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الاصولية المعنونة بأن الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الاخيرة والحق في المسألة أن الاستثنا في نفسه صالح للامرين جميعا وتعين أحدهما منوطبما تقتضيه قرائن الكلام، والذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق الاستثناء بالجملة الاخيرة غير أن إفأدتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة أيضا بمعناه كالاخيرة على ما تقدم. قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم - إلى قوله - من الكاذبين " أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم يؤدوها إلا أنفسهم، وقوله: " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله " أي شهادة أحدهم يعني القاذف وهو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف. ومعنى الآيتين: والذين يقذفون أزواجهم ولم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا - ومن طبع الامر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فأت الغرض بتفرقهما - فالشهادة التي: يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة: " أشهد الله على صدقي فيما أقذفه به " أربع مرات وخامستها أن يشهد ويقول: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين. قوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد " إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع والمراد بالعذاب حد الزنا، والمعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بازاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، وشهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من الصادقين، وهذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان.
قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم " جواب لو لا محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله ورحمته وتوبته
[ 83 ]
وحكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات والافعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام ياتكم بالجهالة. والله أعلم. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وسورة النور أنزلت بعد سورة النور أنزلت بعد النساء، وتصديق ذلك أن الله عزوجل أنزل عليه في سورة النساء " واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " والسبيل الذي قال الله عزوجل " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم آمنتم بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ". وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وليشهد عذابهما " يقول: ضربهما " طائفة من المؤمنين " يجمع لهما الناس إذا جلدوا. وفي التهذيب بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم السلام في قول الله عزوجل: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قال: في إقامة الحدود، وفي قوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال: الطائفة واحد. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وأنزل بالمدينة " الزاني لا ينكح إلا ثانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا ألزانية مؤمنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الايمان كخلع القميص. وفيه بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل:
[ 84 ]
" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " قال: هن نساء مشهورات ورجال مشهورون الزنا شهروا به وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا أو متهم بالزنا لم ينبغ لاحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة. أقول وروأه أيضا بإسناده عن أبي الصباح عنه عليه السلام مثله، وبإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام ولفظه: هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهورين بالزنا فنهي الله عن اولئك الرجال والنساء، والناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرفوا توبته. وفيه بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن انسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والحاكم وصححة وإبن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه وأبو داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال: كانت إمرأة يقال: لها أم مهزول، وكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجها فأنزل الله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ". أقول: وروي ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد. وفيه أخرج إبن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم، والمدينة غالية السعر شديدة الجهد، وفي السوق زوان
متعالنات من أهل الكتاب، وأما الانصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي ونسيكة بنت أمية لرجل من الانصار في بغايا من ولائد الانصار قد رفعت كل إمرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثره خيرا. فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض اطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الانصار يكتسبن لانفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن ؟ فإذا وجدنا عنهن
[ 85 ]
غني تركناهن فأنزل الله: " الزاني لا ينكح " الآية " فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن ". أقول: والروايتان إنما تذكران سبب نزول قوله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " دون قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ". وفي المجمع في قوله تعالى: " إلا الذين تابوا " اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - إلى أن قال - والآخر أن الاستثناء يرجع إلى الامرين فإذا تاب قبلت شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس - إلى أن قال - وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا ونكل زياد فحد عمر الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، وكان أبو بكرة أخا زياد لامه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف أبو بكرة أن لا
يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات. وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين. وقال: هذا من حقوق الناس. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم - إلى قوله - إن كان من الصادقين " - فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الانصار وقال: يا رسول الله أن إمرأتي زنى بها شريك بن السمحاء وهي منه حامل فأعرض عنه رسول الله ص فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات. فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى بالناس العصر، وقال لعويمر: أئتني بأهلك فقد أنزل الله عز وجل فيكما قرآنا جاء إليها وقال لها: رسول الله يدعوك وكانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعويمر: تقدم إلى المنبر والتعنا فقال: كيف
[ 86 ]
أصنع ؟ فقال: تقدم وقل: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم وقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعدها فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات فقال له في الخامسة عليك لعنة الله أن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، وإلا أقمت عليك حد الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى المنبر وقالت: أشهد بالله إن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعيديها فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزوجها: إذهب فلا تحل لك أبدا. قال: يا رسول الله فما لي الذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، وإن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. الحديث. وفي المجمع في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر الانصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم ؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج إمرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة له فاجتري رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا عرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإن الله يأبي إلا ذلك، فقال: صدق الله ورسوله. فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع إمرأته فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني جئت أهلي
[ 87 ]
عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بإذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إني لا راى الكراهة في وجهك والله يعلم إني لصادق، وإني لارجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضربه. قال: واجتمعت الانصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد ايجلد هلال ويبطل
شهادته ؟ فنزل الوحي وامسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل فأنزل الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " الآيات. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلوا إليها فجاءت فلا عن بينهما فلما إنقضى اللعان فرق بينهما وقضي أن الولد لها ولا يدعي لاب ولا يرمي ولدها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس. * * * إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم - 11. لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين - 12. لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون - 13. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم - 14. إذ تلقونه
[ 88 ]
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - 15. ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم - 16. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين - 17. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم - 18. إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 19. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤف رحيم - 20. يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن
يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم - 21. ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم - 22. إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم - 23. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون - 24. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين - 25. الخبيثات
[ 89 ]
للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم - 26. (بيان) الآيات تشير إلى حديث الافك، وقد روي أهل السنة أن المقذوفة في قصة الافك هي أم المؤمنين عائشة، وروت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من الحديثين لا يخلو عن شئ على ما سيجئ في البحث الروائي الآتي. فالاحرى أن نبحث عن متن الآيات في عزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الافك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما زوجه وإما أم ولده وربما لوح إليه قوله تعالى: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " وكذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم وأفاضوا فيه وسائر ما يومي إليه من الآيات. والمستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفحشاء، وكان الرامون
عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، وكان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات ودافع عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " الخ، الافك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا والاصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل - والفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، والقول المصروف عن الصدق إلى الكذب، وقد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني. وذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، وقيل: إنها عشرة إلى أربعين. والخطاب في الآية وما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الايمان أعم من المؤمن بحقيقة الايمان والمنافق ومن في قلبه مرض، وأما قول بعضهم: إن المخاطب
[ 90 ]
بالخطابات الاربعة الاول أو الثاني والثالث والرابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمقذوفة والمقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الاول وهي نيف وعشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب. وأسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الاربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة. والمعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب - واللام في الافك لعهد - جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، وفي ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفضحوه بين الناس. وهذا هو فائدة الخبر في قوله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " لا تسلية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تسليته وتسلية من ساءه هذا الافك كما كره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه. وقوله: " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم وإثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ والفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم وينهضوا لا صلاح ما فسد من أعضائهم وخاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم ويذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم ويتفطنوا لما يهمهم. والدليل على ما ذكرنا قوله بعد: " لكل أمرئ منهم ما اكتسب من الاثم " فإن الاثم هو الاثر السيئ الذي يبقي للانسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الافك الجائين به يعرفون بإثمه ويتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما ارادوا أن يفضحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالافك كما أن أهل الافك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة وقد عرفت فساده. وقوله: " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " فسروا كبره بمعنى معظمه
[ 91 ]
والضمير للافك، والمعنى: والذي تولى معظم الافك وأصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم. قوله تعالى: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه ولم يظنوا بمن رمي به خيرا. وقوله: " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم " من وضع الظاهر موضع المضمر،
والاصل " ظننتم بأنفسكم " والوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الايمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء والمنكر في القول والفعل فعلي المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، وأن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالايمان ولوازمه وآثاره. فالمعنى: ولولا إذ سمعتم الافك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض والمرمي به من أنفسكم وعلى المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا ولا يصفه بما لا علم له به. وقوله: " قالوا هذا إفك مبين " أي قال المؤمنون والمؤمنات وهم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لان الخبر الذي لا علم لمخبره به والدعوي التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، والدليل عليه قوله في الآية التالية: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون ". قوله تعالى: " لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " أي لو كانوا صادقين فيما يقولون ويرمون لا قاموا عليه الشهادة وهي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لان الدعوي غير بينة كذب وفك. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه. وقوله: " ولو لا فضل الله " الخ، عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثانية على المؤمنين، وفي تقييد الفضل الرحمة بقوله: " في الدنيا والآخرة " دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا والآخرة.
[ 92 ]
والمعنى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لوصل إليكم بسبب
ما خضتم فيه من الافك عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " الخ، الظرف متعلق بقوله: " أفضتم " وتلقي الانسان القول أخذه القول الذي ألقه إليه غيره، وتقييد التلقي بألالسنة للدلالة على أنه كان مجرد إنتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت وتدبر فيه. وعلى هذا فقوله: " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " من قبيل عطف التفسير، وتقييده أيضا بقوله: " بأفواهكم " للاشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت وتبين قلبي ولم يكن له موطن إلا الافواه لا يتعداها. والمعنى: أفضتم وخضتم فيه إذ تأخذونه وتنقلونه لسانا عن لسان وتتلفظون بما لا علم لكم به. قوله: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " أي تظنون التلقي بألسنتكم والقول بأفواهكم من غير علم سهلا وهو عند الله عظيم لانه بهتان وافتراء، على أن الامر مرتبط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم ويفسد أمر الدعوة الدينية. قوله تعالى: " ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " عطف بعد عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، وقوله: " سبحانك " اعتراض بالتنزيه لله سبحانه وهو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه. والبهتان الافتراء سمي به لانه يبهت الانسان المفتري عليه وكونه بهتانا عظيما لانه افتراء في عرض وخاصة إذ كان متعلقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم ودعوي من غير بينة كما تقدم في قوله: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، ومعنى الآيتين ظاهر.
[ 93 ]
قوله تعالى: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الافك ومتصله بما تقدمها وموردها الرمي بالزنا بغير بينه كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الافك لكونه فاحشة وشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة. فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا والقذف وغير ذلك، وحب شيوعها ومنها القذف في المؤمنين مستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا والآخرة. وعلى هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في " الفاحشة " للعهد والمراد بها القذف وكان حب الشيوع كناية عن قصه الشيوع بالافاضة والتلقي بالالسن والنقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه. على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد ولا موجب لتقييده بقصد الشيوع ولا نكتة تستدعي ذلك. وقوله: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " تأكيد وإعظام لما فيه من سخط الله وغضبه وإن جهله الناس. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته " تكرارا للامتنان ومعناه ظاهر. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " تقدم تفسير الآية في الآية 208 من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل والرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من
تأييد لكون الافك متعلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس إلا لكرامته على الله سبحانه. وقد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا وهو قوله: " ما زكى منكم من أحد أبدا " وهذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير والسعادة هو الله سبحانه، والتعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: " بيدك الخير " آل عمران: 26، وقال: " ما أصابك من حسنة فمن الله " النساء: 79. وقوله: " ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " إضراب عما تسمه فهو تعالى يزكى من يشاء فالامر إلى مشيته، ولا يشاء إلا تزكية من استعد لها وسأله بلسان استعداده
[ 94 ]
ذلك، واليه يشير قوله: " والله سميع عليم " أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من إستعد لها. قوله تعالى: " ولا يأتل اولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله " الخ، الايتلاء التقصير والترك والحلف، وكل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، والمعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم والسعة يعني الاغنياء في إيتاء اولى القرابة والمساكين والمهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - وليعفوا عنهم وليصفحوا - ثم حرضهم بقوله: " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ". وفي الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات واتصالها بها - دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الافك فنهاه الله عن ذلك وحثه على إدامة الايتاء كما سيجئ. قوله تعالى: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة و لهم عذاب عظيم " أخذ الصفات الثلاث الاحصان والغفلة والايمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من لاحصان بمعنى العفة والغفلة والايمان سبب تام في كون
الرمي ظلما والرامي ظالما والمرمية مظلومة فإذا جتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم، والآية عامة وإن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الافك خاصا. قوله تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: " ولهم عذاب عظيم ". والمراد بقوله: " بما كانوا يعملون " كما يقتضيه إطلاقه مطلق الاعمال السيئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الاعضاء على السيئآت والمعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الاقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها شهدت عليه الالسنة، وما كان منها من قبيل الافعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرهما شهدت عليه بقيه الاعضاء، وإذ كان معظم المعاصي من الافعال للايدي والا رجل اختصتا بالذكر. وبالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى: "
[ 95 ]
شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " حم السجدة: 20، وقوله: " إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا " أسرى: 36، وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يس: 65، وسيأتي الكلام على شهادة الاعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " المراد بالدين الجزاء كما في قوله: " مالك يوم الدين " الحمد: 4، وتوفية الشئ بذله تاما كاملا، والمعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا ويعلمون أن الله هو الحق المبين.
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها ووقوعها في سياق ما تقدمها، وأما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة وهو سنة الحياة، وهو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للانسان، ويكون أكثر مناسبة لقوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ". والآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين. وإلى مثله يشير قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22. قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الخ ذيل الآية " اولئك مبرؤن مما يقولون " دليل على أن المراد بالخبيثات والخبيثين والطيبات والطيبين نساء ورجال متلبسون بالخباثة والطيب فالآية من تمام آيات الافك متصلة بها مشاركة لها في سياقها وهي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة. فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرئين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
[ 96 ]
السابقة هو المعني الذي يقتضيه تلبسهم بالايمان والاحصان فالمؤمنون والمؤمنات مع الاحصان طيبون وطيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، وهم بحكم الايمان والاحصان مصونون مبرؤن شرعا من الرمي بغير بينة محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: " وآمنوا بيغفر لكم من ذنوبكم " الاحقاف: 31 ولهم رزق كريم، وهو الحياة الطيبة في الدنيا والاجر الحسن في الآخرة كما قال: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون " النحل: 97. والمراد بالخبث في الخبيثين والخبثات وهم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر وقد خصت خبيثاتهم بخبيثهم وخبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضي المجانسة والمسانخة وليسوا بمبرئين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكما بالتلبس -. فظهر بما تقدم: أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين والمؤمنات بالطيب ولا ينافي ذلك إختصاص سبب نزولها وانطباقها عليه. وثانيا إنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة. وثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة والرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، والكفار على خلاف ذلك. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وبن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله ععليه وآله وسلم من غزوته تلك وقفل.
[ 97 ]
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار (1) قد إنقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي
فاحتملوا هودجي فرحلوه علي بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة (2) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلى فبينانا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج (3) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي - والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير إسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك. وكان الذي تولى الافك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشئ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ص اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني
(1) ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض. (2) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق. (3) أدلج القوم: سارو الليل كله أو في آخره. (*)
[ 98 ]
ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (1) هي متبرزنا وكنا لا نخرج إ لا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من
بيوتنا وأمرنا أمر العرب الاول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذي بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا (2) من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها (3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت: إي هنتاه (4) أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآلله وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم ؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ - قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجئت لابوي فقلت لامي: يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت يا بنية هو عليك فو الله لقلما كانت أمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك ؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
(1) المناصع: المواضع ينخلي فيها لبول أو حاجة. (2) أي رفعنا ثيابنا. (3) المرط - بالكسر - كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.
(4) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه. (*)
[ 99 ]
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الاوس ضربت عنقه وإن من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الاوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول صلى الله عليه وآله وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبو اي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع وأبو اي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكى فاستأذنت علي إمرأة من الانصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها وقد لبث شهر الا يوحي إليه في شأني بشئ، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضي رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم مقالته قلص (1) دمعي حتى ما أحس منه قطرة،
فقلت لابي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لامي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) قلص: اجتمع وانقبض. (*)
[ 100 ]
فقلت وأنا جارية حديثة لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى إستقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرأتي ولكن والله ماكنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوشات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربي والمساكين
- إلى قوله - رحيم " قال أبو بكر: والله إني احب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الافك.
[ 101 ]
أقول: والرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا وعن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر الانصاري وأم رومان أم عائشة وغيرهم وفيها بعض الاختلاف. وفيها أن الذين جاؤا بالافك عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وكان بدريا من السابقين الاولين من المهاجرين، وحسان بن ثابت، وحمنة أخت زينب زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم بعد ما نزلت آيات الافك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين وإنما حده حدين لانه من قذف زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عليه حدان. وفي الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه: أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الافك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام شتكائها وبعدها حتي نزلت الآيات، ويدل عليه قولها له حين نزلت الآيات وبشرها به: بحمد الله لا بحمدك، وفي بعض الروايات أنها قالت لابيها وقد أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الرواية الاخرى عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شئ وفي الباب إمرأة جالسة قالت له عائشة: أما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، ومن المعلوم
أن هذا النوع من الخطاب المبني على الاهانة والازراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي في ريب من أمرها. كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: " فكان في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما قالوا ". وبالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، وهذا مما يجل عنه مقامه صلى الله عليه وآله وسلم كيف ؟ وهو سبحانه يقول: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " فيوبخ المؤمنين والمؤمنات على إساءتهم الظن وعدم ردهم ما سمعوه من الافك فمن لوازم الايمان حسن الظن بالمؤمنين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق من يتصف بذلك ويتحرز من سوء الظن الذي من الاثم وله مقام النبوة والعصمة الالهية. على أنه تعالى ينص في كلامه على إتصافه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إذ يقول: " ومنهم الذين
[ 102 ]
يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " التوبة: 61. على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الانبياء عن لوث الزنا والفحشاء وإلا لغت الدعوة وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعالا ظاهرا فحسب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك. وثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الافك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به اصحاب الافك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر وقد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما وهو جلد القاذف وتبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حد اصحاب الافك هذه المدة الطويلة وانتظاره الوحى في أمرها حتى يشيع بين الناس وتتلقاه الالسن وتسير به الركبان ويتسع الخرق على الراتق ؟
وما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا. فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا وطهارة ذيلها في نفس الامر وهذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، ولعل صبره صلى الله عليه وآله وسلم هذه المدة الطويلة إنما كان لاجله. قلت: لا دلالة في شئ من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، وإنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الانبياء من لوثة الفحشاء. أما الآيات العشر الاول التي فيها شائبة الاختصاص فاظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: " لو لا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " وقد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، ومن الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة. وأما الآيات الست الاخيرة فقوله: " الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين
[ 103 ]
من غير قيام بينمن المؤمنين والمؤمنات، ومن لواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية. والحق أن لا مناص عن هذا الاشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الافك وإنما نزلت بعده، وإنما كان سبب توقفه صلى الله عليه وآله وسلم خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الافك الحكم السماوي. ومن أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القاذف في المسجد وقول سعد بن معاذ ما قال ومجادلة سعد بن عبادة إياه واختلاف الاوس والخزرج بمحضر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ وابن
عبادة: فقال هذا: يا للاوس وقال هذا: يا للخزرج فاضطربو بالنعال والحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك وحكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يعذره منه بالقتل ولقال هو وسائر لناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم ويدك مبسوطة. وثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الافك هم عبد الله بن أبي ومسطحا وحسانا وحمنة ثم تذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم حد عبد الله بن أبي حدين وكلا من مسطح وحسان وحمنة حدا وأحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعليه حدان، وهذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم. نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الامة أن هذا الوصف يوجب حدين. ولا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: " الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " هو ثبوت حدين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " الآية فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة. حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن على بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله صلى الله وآله وسلم حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي
[ 104 ]
يحزنك عليه ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وأمره بقتله. فذهب على عليه السلام ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب على عليه السلام باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان
واتبعه وولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه (1) صعد في نخلة وصعد على عليه السلام في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء. فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الامر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت ؟ قال: لا بل تثبت. قال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت. وفيه في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل القبطي وقد علم أنها كذبت عليه أولم يعلم ؟ وقد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت على عليه السلام فقال: بل كان والله علم، ولو كان عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما انصرف على عليه السلام حتى يقتله، ولكن إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لترجع عن ذنبها فما رجعت ولا شتد عليها قتل رجل مسلم. أقول: وهناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، وجريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأرسله معها ليخدمها. وهذه الروايات لا تخلو من نظر: أما أولا: فلان ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات ولا سيما قوله: " إن
(1) أرهقه: أدركه. (*)
[ 105 ]
الذين جاؤابالافك " الآية وقوله: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " الآية، وقوله: " تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم "
الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم ومكثوا على ذلك زمانا وهم لا يراعون حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكرامته من الله، وأين مضمون هذه الروايات من ذلك. أللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة. وأما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة وظهور براءتها إجراء الحد ولم يجر، ولا مناص عن هذا الاشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الافك بزمان. والذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا - كما عرفت - أن آيات الافك نزلت قبل آية حد القذف، ولم يشرع بنزول آيات الافك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة وتحريم القذف. ولو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الافك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا بها وإنتظار الوحي، ولا نجا منه قاذف منهم، ولو كان مشروعا مع نزول آيات الافك لاشير فيها إليه، ولا أقل باتصال الآيات بآية القذف، والعارف أساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: " إن الذين جاؤا بالافك " الآيات منقطعة عما قبلها. ولو كان على من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدان لاشير إلى ذلك في خلال آيات الافك بما فيها من التشديد واللعن والتهديد بالعذاب على القاذفين. ويتأكد الاشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الافك فإن لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل: " إن الذين يحبون - إلى قوله - والآخرة ". أقول: ورواه القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه عليه السلام
[ 106 ]
والصدوق في الامالي بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه عليه السلام، والمفيد في الاختصاص عنه عليه السلام مرسلا. وفيه بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها. وفي المجمع قيل: إن قوله: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة " الآية، نزلت في أبي بكر ومسطح بن أثاثة وكان ابن خالة أبي بكر، وكان من المهاجرين ومن جملة البدريين وكان فقيرا، وكان أبو بكر يجري عليه ويقوم بنفقته فلما خاض في الافك قطعها وحلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما كان، وقال: والله إني لا حب أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها عنه أبدا. عن ابن عباس وعائشة وابن زيد. وفيه وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشئ من الافك ولا يواسوهم. عن ابن عباس وغيره. أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ع في قوله تعالى: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى " وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا " يقول: يعفو بعضكم عن بعض، ويصفح بعضكم بعضا فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عزوجل: " ألا تحبون لان يغفر الله لكم والله غفور رحيم ". في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: ونزل بالمدينة " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن
الله غفور رحيم ". فبراة الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمي بالايمان، قال الله عزوجل: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " وجعله من أولياء إبليس قال: " إلا
[ 107 ]
إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " وجعله ملعونا فقال: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ". وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطي كتابه بيمينه، قال الله عزوجل: " فأما من أوتى كتابه بيمينه فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ". وفي المجمع في قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الآية، قيل في معناه أقوال - إلى أن قال - الثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء - عن أبي مسلم والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. قالا: هي مثل قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنها هم الله عن ذلك وكره ذلك لهم. وفي الخصال عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد. وفي الاحتجاج عن الحسن بن على عليه السلام: في حديث له مع معاوية وأصحابه وقد نالوا من علي عليه السلام: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " هم والله يا معاوية أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك " والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " إلى آخر الآية، هم على بن أبي طالب وأصحابه وشيعته.
* * * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون - 27. فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم
[ 108 ]
إرجعوا فأرجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم - 28. ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون - 29. قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون - 30. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا آية لمؤمنون لعلكم تفلحون - 31. وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم - 32. وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت إيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا
[ 109 ]
عرض الحيوة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم - 33. ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين - 34. (بيان) أحكام وشرائع متناسبة ومناسبة لما تقدم. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " الخ، الانس بالشئ واليه الالفة وسكون القلب إليه، الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله والتنحنح ونحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع. ومنه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس والتحفظ على كرامة الايمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، وأعطاه الامن من نفسه. ويؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الاخوة والالفة والتعاون العام على اظهار الجميل والستر على القبيح واليه الاشارة بقوله: " ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون " إي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته وإحياؤه من سنة الاخوة وتألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية. وقيل: إن قوله: " لعلكم تذكرون " تعليل لمحذوف والتقدير قيل لكم كذا لعلكم تتذكرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، ولا بأس به. وقيل: إن في قوله: " حتى تستأنسوا وتسلموا " تقديما وتأخيرا والاصل
حتى تسلموا وتستأنسوا. وهو كما ترى.
[ 110 ]
قوله تعالى: " فإن لم تجدو فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ". الخ، أي أن علمتم بعدم وجود أحد فيها - وهو الذي يملك الاذن - فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم من قبل من يملك الاذن، وليس المراد به أن يتطلع على البيت وينظر فيه فإن لم ير فيه أحدا كف عن الدخول فإن السياق يشهد على أن المنع في الحقيقة عن النظر والاطلاع على عورات الناس. وهذه الآية تبين حكم دخول بيت الغير وليس فيه من يملك الاذن، والآية السابقة تبين حكم الدخول وفيه من يملك الاذن ولا يمنع، وأما دخوله وفيه من يملك الاذن ويمنع ولا يأذن فيه فيبين حكمه قوله تعالى: " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ". قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم " الخ، ظاهر السياق كون قوله: " فيها متاع لكم " صفة بعد صفة لقوله: " بيوتا " لا جملة مستأنفة معللة لقوله: " ليس عليكم جناح "، والظاهر أن المتاع بمعنى الاستمتاع. ففيه تجويز الدخول في بيوت معدة الانواع الاستمتاع وهي غير مسكونة بالطبع كالخانات والحمامات والارحية ونحوها فإن كونها موضوعة للاستمتاع إذن عام في دخولها. وربما قيل: إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي وهو الاثاث والاشياء الموضوعة للبيع والشرى كما في بيوت التجارة والحوانيت فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما ولا يخلو من بعد لقصور اللفظ. قوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى
لهم إن الله خبير بما يصنعون " الغض إطباق الجفن على الجفن، والابصار جمع بصر وهو العضو الناظر، ومن هنا يظهر أن " من " في " من أبصارهم " لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض كما قال بكل قائل، والمعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم. فقوله: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " لما كان " يغضوا " مترتبا على
[ 111 ]
قوله: " قل " ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الامر والمعنى مرهم يغضوا من أبصارهم والتقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، والآية أمر بغض الابصار وإن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الاجنبي والاجنبية لمكان الاطلاق. وقوله: " ويحفظوا فروجهم " أي ومرهم يحفظوا فروجهم، والفرجة والفرج الشق بين الشيئين، وكنى به عن السوأة، وعلى ذلك جرى استعمال القرآن الملئ أدبا وخلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب. والمقابلة بين قوله: " يغضوا من أبصارهم " و " يحفظوا " فروجهم يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا واللواطة كما قيل، وقد ورد في الرواية عن الصادق ع أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر. وعلى هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما ويكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج والامر بسترها. ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم وحثهم على المراقبة في جنبه بقوله: " ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ". قوله تعالى: " وقل للمؤمنات يغضضن " الخ، الكلام في قوله: " وقل للمؤمنات
يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " نظير ما مر في قوله: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ويجب عليهن ستر العورة عن الاجنبي والاجنبية. وأما قوله: " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " فالابداء الاظهار، والمراد بزينتهن مواضع الزينة لان نفس ما يتزين به كالقرط والسوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة أبداء مواضعها من البدن. وقد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، وقد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان والقدمان كما سيجئ إن شاء الله.
[ 112 ]
وقوله: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " الخمر بضمتين جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وينسدل على صدرها، والجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون وهو معروف والمراد بالجيوب الصدور، والمعنى وليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها. وقوله: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن - إلى قوله - أو بني أخواتهن " البعولة هم أزواجهن، والطوائف السبع الآخر محارمهن من جهة النسب والسبب، وأجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم وأبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الابناء. وقوله: " أو نسائهن " في الاضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء وقد وردت به الروايات عن ائمة أهل البيت عليهم السلام. وقوله: " أو ما ملكت أيمانهن " إطلاقه يشمل العبيد والاماء، وقد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، وهذا من موارد استعمال " ما " في أولى العقل. وقوله: " أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال " الاربة هي الحاجة، والمراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، " من الرجال " بيان للتابعين، والمراد بهم كما
تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال ولا شهوة لهم. وقوله: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " أي جماعة الاطفال - واللام للاستغراق - الذين لم يقووا ولم يظهروا - من الظهور بمعنى الغلبة - على أمور يسوء التصريح بها من النساء، وهو - كما قيل - كناية عن البلوغ. وقوله: " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال والعقد والقرط والسوار. وقوله: " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أو امره والانتهاء عن نواهيه وبالجملة اتباع سبيله. قوله تعالى: " وانكحوا الايامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم " الانكاح
[ 113 ]
التزويج، والايامي جمع أيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة وهو الذكر الذي لا أنثى معه والانثى التى لا ذكر معها وقد يقال في المرأة أيمة، والمراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الاعمال. وقوله: " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " وعد جميل بالغنى وسعة الرزق وقد أكده بقوله: " والله واسع عليم " والرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشية من الله سبحانه، وسيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: " فو رب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " الذاريات: 23 كلام في معنى سعة الرزق. قوله تعالى: " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله " الاستعفاف والتعفف قريبا المعنى، والمراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر والنفقة، ومعنى الآية الامر بالتعفف لمن لا يقدر على النكاح والتحرز عن الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله.
قوله تعالى: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " الخ المراد بالكتاب المكاتبة، وابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على ايتائه المولى ما لا على أن يعتقه، وفي الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيرا وهو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك. وقوله: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى: " وفي الرقاب " التوبة: 60 أو إسقاطشئ من مال المكاتبة. وفي هذه الآية والآيات السابقة مباحث فقهية جمة ينبغى أن يراجع فيها كتب الفقه. قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " الفتيات الاماء والولائد، والبغاء الزنا وهو مفاعلة من البغى، والتحصن التعفف والازدواج وابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، والمعنى ظاهر.
[ 114 ]
وإنما اشترط النهي عن الاكراه بإرادة التحصن لان الاكراه لا يتحقق فيمن لا يريد التحصن، ثم وعدهن المغفرة على تقدير الاكراه بقوله: " ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " ومعناه ظاهر. قوله تعالى: " ولقد أنزلنا اليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " المثل الصفة، ومن الممكن أن يكون قوله: " ولقد أنزلنا " الخ، حالا من فاعل قوله: " توبوا " في الآية السابقة أو استينافا ووالمعنى وأقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبين لكم من معارف الدين ما تفلحون به، وصفة من السابقين أخيارهم وأشرارهم يتميز بها لكم ما ينبغى أن تأخذوا به مما ينبغى لكم أن تجتنبوا، وموعظة لمتقين منكم.
(بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " قال: الاستيناس وقع النعل والتسليم. أقول: ورواه الصدوق في معاني الاخبار عن محمد بن الحسن مرفوعا عن عبد الرحمن عنه عليه السلام. وفي المجمع عن أبي أيوب الانصاري قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس ؟ قال يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت. وعن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مدري (1) يحك رأسه: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الاستيذان من النظر. وروي أن رجلا قال للنبي ص: أستأذن على أمي ؟ فقال: نعم. قال:
(1) المشط. (*)
[ 115 ]
إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال: أن تراها عريانة ؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها. وروي أن رجلا استأذ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحنح فقال صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلمية وقولى له: قل: السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: إدخل. أقول: وروي في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الاولى عن أبي أيوب، والثانية عن سهل بن سعد والرابعة عن عمرو بن عد الثقفي. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن ويسلم - فقد عصى الله ولا إذن له.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم "، قال: معناه وإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. وفيه في قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم " قال الصادق عليه السلام: هي الحمامات والخانات والارحية تدخلها بغير إذن. وفي الكافي بإسناده عن أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله عليه اللسلام في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، وأن يعرض عما نهي الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وهو من الايمان. فقال تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم " فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه، وقال: " وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن " من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليه. وقال: كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فهو من النظر.
[ 116 ]
أقول: وروي القمي في تفسيره ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه عليه السلام، وروي مثله عن أبي العالية وابن زيد. وفي الكافي بإسناده عن سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: استقبل شاب من الانصار إمرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه ببني فلان، وجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذ الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خبرنه. قال: فأتاه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ما هذا ؟ فأخبره فهبط جبرئيل
بهذه الآية " قل لمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ". أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن على بن أبي طالب مثله، وظاهر الحديث أن المراد بالامر بالغض في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الاجنبية كما أن ظاهر بعض الروايات السابقة أنه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصة. وفيه بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ؟ قال: الوجه والكفان والقدمان. أقول: ورواه في الخصال عن بعض أصحابنا عنه عليه السلام ولفظه: الوجه و الكفين والقدمين. وفي قرب الاسناد للحميري عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له ؟ قال: الوجه والكف وموضع السوار. وفي الكافي بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس بالنظر إلى رؤس أهل تهامة له والاعراب وأهل السواد والعلوج لانهم إذا نهوا لا ينتهون (1).
(1) رعاية التذكير لاعتبار الاهل والقوم في مرجع ضمير، وكان ظاهر أن يقال: لاهن إذا نهين لا ينتهين. (*)
[ 117 ]
قال: والمجنونة والمغلوبة على عقلها، ولا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك. أقول: كأنه عليه السلام يريد بقوله: ما لم يتعمد ذلك، الريبة. وفي الخصال وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين عليه السلام: يا على أول نظرة لك
والثانية عليك لا لك. أقول: وروي مثله في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الاولى وليست لك الآخرة وفي جوامع الجامع عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ؟ فقال: أفعميا وان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ أقول: ورواه في الدر المنثور عن أبي داود والترمذي والنسائي و البيهقي عنها. وفي الفقيه وروي حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدى اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك لازواجهن وفي المجمع في قوله تعالى: " أو ما ملكت إيمانهن " وقيل معناه العبيد والاماء وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن غير أولى الاربة من الرجال. قال: الاحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء. وفيه بإسناده عن محمد بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عزوجل إن الله يقول " إن يكونو فقراء يغنهم الله من فضله ". أقول: وفي المعاني سابقة روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت عليه السلام من أرادها فليراجع كتب الحديث. وفي الفقيه روي العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز
[ 118 ]
وجل: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفه. أقول: وفي معناه روايات اخر. وفي الكافي بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في قوله
عزوجل: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال: تضع عنه من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه، ولا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت: كم ؟ فقال: وضع أبو جعفر عليه السلام عن مملوك الفا من ستة آلاف. أقول: وروي في مجمع البيان وكذا في الدر المنثور عن علي عليه السلام ربع المال، والمستفاد من ظواهر الاخبار عدم تعين مقدار معين ذي نسبة. وقد تقدمت في ذيل قوله: " وفي الرقاب " التوبة: 60 الجزء التاسع من الكتاب رواية العياشي أن المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة. وفي التفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " قال كانت العرب وقريش يشترون الاماء ويضعون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون: اذهبن وازنين واكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم " أي لا يؤاخذهن الله تعالى بذلك إذا إكرهن عليه. وفي المجمع في قوله تعالى: " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا " قيل: إن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا، فلما نزل تحريم الزنا أتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكون إليه فنزلت الآية. أقول: أما أنه كان له من الجواري من يكرههن على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدر المنثور كما روي هذه الرواية، وأما كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعفة أن الزنا لم يحرم في المدينة بل في مكة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريات الاسلام منذ ظهرت الدعوة الحقة وقد تقدم في تفسير سورة الانعام أن حرمة الفواحش ومنها الزنا من الاحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة.
[ 119 ]
* * * الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في جاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة
مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم - 35. في بيوت أذن له أن ترفع ويذكر فيها إسمه يسبح له ايها بالغدو والاصال - 36. رجال لا لهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار - 37. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب - 38. والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب - 39. أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور - 40. ألم ترأن الله يسبح له من في السموات والارض والطير صافات كل قد علم صلوته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون - 41. الله
[ 120 ]
ملك السموات والارض وإلى الله المصير - 42. ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار - 43. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار - 44. والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير - 45. لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 46.
(بيان) تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الايمان والكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه ويسلك بهم إلى أحسن الجزاء والفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم وأبصارهم الغطاء، والكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض ولم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور. وقد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات والارض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شئ بشئ يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه والظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات والارض بإشراقه عليها كما أن الانوار الحسية تظهر الاجسام
[ 121 ]
الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الاشياء بالنور الالهي عين وجودها وظهور الاجسام الكثيفة بالانوار الحسية غير أصل وجودها. ونورا خاصا يستنيربه المؤمنون ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة وهو نور المعرفة الذي سيستنيربه قلوبهم وأبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب والابصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، ومثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلالا الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، والمصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم وعبادته تجارة ولا بيع. فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، وحرمه على الكافرين وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه وأعرض
عن عرض الحياة الدنيا بنورمن عنده، والله يفعل ما يشاء له الملك واليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق والبرد من سحاب واحد، ويقلب الليل والنهار، ويجعل من الحيوان من يمشي على بطنه ومن يمشي على رجلين ومن يمشي على أربع وقد خلق الكل من ماء. والآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الاحكام والشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " والبيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي. على أن الآيات قرآن وقد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " النساء: 174. قوله تعالى: " الله نور السماوات والارض " إلى آخر الآية. المشكاة على ما ذكره الراغب وغيره: كوة غير نافذة وهي ما يتخذ في جدار البيت من الكون لوضع بعض الاثاث كالمصباح وغيره عليه وهو غير الفانوس. والدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، وهو معدود في السماء، والايقاد: الاشعال، والزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.
[ 122 ]
وقوله: " الله نور السماوات والارض " النور معروف وهو الذي يظهر به الاجسام الكثيفة لابصارنا فالاشياء ظاهرة به وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات البصر. هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شئ من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهربه محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس. ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.
وإذ كان وجود الشئ هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الاشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الاشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الاتم للنور فهناك وجود ونور يتصف به الاشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الاشياء. فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والارض، وهذا هو المراد بقوله: " الله نور السماوات والارض " حيث أضيف النور إلى السماوات والارض ثم حمل على إسم الجلالة، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات والارض، وعمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها وهو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك وتقدس. ومن ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشئ من الاشياء إذ ظهور كل شئ لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهارة تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " إذ لا معنى للتسبيح والعلم به وبالصلاة مع الجهل بمن يصلون له ويسبحونه فهو نظير قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، وسيوافيك البحث عنه إن شاء الله. فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: " الله نور السماوات والارض " نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شئ وهو مساو لوجود كل شئ وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامة.
[ 123 ]
وقوله: " مثل نوره " يصف تعالى نوره، وإضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - وظاهره الاضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، وليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل
شئ وهو الوجود الذي يستفيضه منه الاشياء وتتصف به، والدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: " يهدي الله لنوره من يشاء " إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شئ دون شئ بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الايمان على ما يفيده الكلام. وقد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: " يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره " الصف: 8، وقوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122 وقوله: " يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28، وقوله: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " الزمر: 22، وهذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم وهو نور الايمان والمعرفة. وليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده. على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: " لهم أجرهم ونورهم " الحديد: 19 وقوله: " يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " التحريم: 8، والقرآن ليس وصفا لهم وإن لو حظ بإعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه. وقوله: " كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة " المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح " الخ " لا مجرد المشكاة وإلا فسد المعنى، وهذا كثير في تمثيلات القرآن. وقوله: " الزجاجة كأنها كوكب دري " تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة إزدياد لمعان نور المصباح وشروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير إضطراب بتموج الاهوية وضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلالؤ نورها وثبات شروقها.
[ 124 ]
وقوله: " يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار ويفئ الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفوا الدهن المأخوذ منها فلا تجود الاضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها. والدليل على هذا المعنى قوله: " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن وكمال استعداده للاشتعال وأن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية ولا غربية. وأما قول بعضهم: إن المراد بقوله: " لا شرقية ولا غربية " أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، وكذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة ولا من شجر غربها بل من الشجر الشام الواقع بين الشرق والغرب وزيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق. وقوله: " نور على نور " خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، والمعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع. والمراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه وهذا التعبير شائع في الكلام. وهذا معنلا يخلو من جودة وإن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف
ودقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالاصالة والحقيقة ونسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة والمجاز، ويتغاير النور بتغاير النسبتين ويتعدد بتعددهما وإن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح والزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح وهو قائم به ومستمد منه.
[ 125 ]
وهذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الايمان والمعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه. فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين والمثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف وهو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة والمشكاة تجمعه وتعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة والجودة. فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت، وإعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله وجودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار، وإعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها. وقوله: " يهدي الله لنوره من يشاء " استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الايمان والمعرفة وحرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: " من يشاء " القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " الخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم. والمعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الايمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، وليس المعنى أن الله يهدي بعض الافراد إلى نوره دون بعض بميته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا
إستعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة والسيرة، وذلك مما يختص به أهل الايمان دون أهل الكفر فافهمه. والدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: " ولله ملك السماوات والارض " إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله. وقوله: " ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم " إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنما اختير المثل لكونه أهل الطرق لتبيين الحقائق والدقائق ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:
[ 126 ]
" وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43. قوله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه " الاذن في الشئ هو إعلام إرتفاع المانع عن فعله، والمراد بالرفع رفع القدر والمنزلة وهو التعظيم، وإذ كانت العظمة والعلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، وبمقدار ما ينتسب إليه فالاذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه. وبذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر إسمه فيها، والسياق يدل على الاستمرار أو التهيؤله فيعود المعني إلى مثل قولنا: " أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك ". وقوله: " في بيوت " متعلق بقوله في الآية السابقة: " كمشكاة " أو قوله: " يهدي الله " الخ، والمال واحد، ومن المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، وقد قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج: 40. قوله تعالى: " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، والغدو جمع غداة وهو الصبح والآصال جمع أصيل وهو العصر، والالهاء صرف الانسان عما يعنيه ويهمه، والتجارة على ما
قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلب للربح. قال: وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. والبيع على ما قال: إعطاء المثمن وأخذ الثمن، وقلب الشئ على ما ذكره صرف الشئ من وجه إلى وجه، والتقليب مبالغة فيه والتقلب قبوله فتقلب القلوب والابصار تحول منها من وجه من الادراك إلى وجه آخر. وقوله: " يسبح له فيها بالغدو والآصال " صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: " ويذكر فيها اسمه "، وكون التسبيح بالغدو والآصال كناية عن استمرار هم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما. والاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لانه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور والنور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره وإنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه وتنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم
[ 127 ]
يبق معه غيره وتمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء والحمد وبالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، وقد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى. وببيان آخر حمده تعالى وهو ثناؤه بصفة الكمال مساوق لحصول نور المعرفة وتسبيحه وهو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، والآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة وهو التسبيح، فافهم ذلك. وقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع والشراء والبيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة والاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة
مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما ولا في وقت من الاوقات، وبعبارة اخري لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة ولا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم. وقيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، ولذلك نفي البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة ولذلك كررت لفظة " لا " لتذكير النفي وتأكيده، وهو وجه حسن. وقوله عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الاقام هو الاقامة بحذف التاء تخفيفا. والمراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الاتيان بجميع الاعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، وإقامة الصلاة ممثلة لاتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، وإيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق وذلك لكون كل منها ركنا في بابه. والمقابلة بين ذكر الله وبين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهما - وخاصة الصلاة -
[ 128 ]
من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان والغفلة وهو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة والزكاة ذكر عملي. فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: " عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " أنهم لا يشتغلون بشئ عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم وذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة والزكاة، وعند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة والبيع وبين ذكر الله وإقام الصلاة الخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر ولا موقت عن الذكر المستمر والموقت، فافهم ذلك.
وقوله: " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " هذا هو يوم القيامة، والمراد بالقلوب والابصار ما يعم قلوب المؤمنين والكافرين وابصارهم لكون القلوب والابصار جمعا محلى اللام وهو يفيد العموم. وأما تقلب القلوب والابصار فالآيات الواصفة لشان يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الامر وانكشاف الغطاء كما قال تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، وقال: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات. فتنصرف القلوب والابصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله ساترة للحق والحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة والرؤية وهو الرؤية بنور الايمان والمعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه وهو نور الايمان والمعرفة فينظر إلى كرامة الله، ويعمي الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: " واشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69 وقال: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " الحديد: 12، وقال: " ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى " الاسراء: 72، وقال: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23 وقال: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذا لصفة أعني تقلب القلوب والابصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر وذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدا يته تعالى إلى
[ 129 ]
نوره وهو نور الايمان والمعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة ويبصر به. وثانيا: أن المراد بالقلوب والابصار النفوس وبصائرها. وثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: " تتقلب فيه القلوب والابصار " لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب والابصار، وإنما يخافون هذا
التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد وفي الحقيقة يخافون أنفسهم. قوله تعالى: " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب " الظاهر أن لام " ليجزيهم " للغاية، والذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة والاجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، ومرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكى أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن. ويؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالاغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالاحسن. وقوله: " ويزيدهم من فضله الفضل " العطاء، وهذا نص في إنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، وأوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم. وقد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاؤن قال تعالى: " اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين " الزمر: 34، وقال: " أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤن خالدين " الفرقان: 16، وقال: " لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين " النحل: 31.
[ 130 ]
فهذا المزيد الذي هووراء جزاء الاعمال أمر أعلى وأعظم من أن تتعلق به مشية الانسان أو يوصل إليه سعيه، وهذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين ويبشرهم به فأجد التدبر فيه. وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " استئناف مآله تعليل الجملتين
السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: " يهدي الله لنوره من يشاء " على ما مربيانه. ومحصله أنهم عملوا صالحا وكان لهم من الاجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: " وتوفى كل نفس ما عملت " النحل: 111، وما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى وأرفع من أن تتعلق به مشيتهم وهذه أيضا موهبة ورزق بغير حساب، والرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء. غير أنه تعالى وعدهم الرزق وأقسم على إنجازه في قوله: " فو رب السماء والارض إنه لحق " الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لاصله وهو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم وأما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية، وللكلام تتمه ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل. قوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء " إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوى من الارض ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان. لما ذكرسبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والارض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الاول. فقوله: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وإذكار وغيرهما من
[ 131 ]
عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الانسان ماء ولا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش وغير ذلك. وإنما قيل: يحسبه الظلمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لان المطلوب بيان سيره إليه ولا يسير إليه إلا الظلمآن يدفعه إليه ما به من ظماء، ولذلك رتب عليه قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظلمآن ماء فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به، ولا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. والتعبير بقوله: " جاءه " دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها للايماء إلى أن هناك من يريد مجيئه وينتظره انتظارا وهو الله سبحانه، ولذلك أردفه بقوله: " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحو فطرتهم وجبلتهم وهو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته وجبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، ولا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنامنهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها ويجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، وتوفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الاعمال وإيصال ما يستحقه صاحب الاعمال. ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنه يعرض عنه ولا يصغى إلى مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه ويقبل نحوه، وتشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الاعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى شرب الماء. فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم والاعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم وحسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم، والاعمال المقربة إليهم وفيها
سعادتهم فأكبوا على تلك الاعمال السرابية استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم ولا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم والله سريع الحساب.
[ 132 ]
وقوله: " والله سريع الحساب " إنما هو لا حاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء. واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الانسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بماوراءها. فهؤلاء يرون المؤثر الذيده سعادة حياتهم غيره تعالى ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الاعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عند هاشيئا وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب. قوله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " تشبيه ثان لاعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقره: 257، وقوله: " كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقوله: " أو كظلمات في بحر لجي " معطوف على " سراب " في الآية السابقة، والبحر الجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي. وقوله " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " صفة البحر جئ بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفتة أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
[ 133 ]
كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم. وقوله: " ظلمات بعضها فوق بعض " تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، وقد أكد ذلك بقوله: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " فإن أقرب ما يشاهده الانسان منه هو نفسه وهو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لانه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظلمة بالغة. فهؤلاء وهم سائرون إلى الله وصائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون ولا نور هناك يستضئ به فيهتدي إلى ساحل النجاة. وقوله: " ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور " نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا ؟ وجاعل النور هو الله الذي هو نور كل شئ، فإذا لم يجعل لشئ نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات " إلى آخر الآية لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات والارض وأنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده والذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في
هذه الآية والآيات الاربع التالية لها. فكونه تعالى نور السماوات والارض يدل عليه أن ما في السماوات والارض موجود بوجود ليس من عنده ولا من عند شئ مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات. فوجود كل شئ مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشئ ويدل على منوره بما أشرق عليه من النور وأن هناك نورا يستنير به كل شئ فكل شئ مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، والفاقة التي لزمته، والنقص الذي لا ينفك عنه، وهذا هو تسبيح ما في السماوات والارض له سبحانه، ولازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه وسلب أي إله ورب يدبر الامر دونه تعالى.
[ 134 ]
وإلى ذلك يشير قوله: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " وبه يحتج تعالى على كونه نور السماوات والارض لان النور هو ما يظهر به الشئ المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، وهو تعالى يظهر ويوجد بإظهاره وإيجاده الاشياء ثم يدل على ظهوره ووجوده. وتزيد الآية بالاشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصهمن في السماوات والارض والطير صافات وهم العقلاء وبعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ". ولعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ من في السماوات والارض من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور وأبدعه. ويظهر من بعضهم أن المراد بقوله: " من في السماوات " الخ، جميع الاشياء وإنما
عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤن أولى العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة ووضوح تلك الاشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال. وفيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: " كل قد علم صلاته وتسبيحه ". ومنها: تصدير الكلام بقوله: " ألم تر " وفيه دلالة على ظهور تسبيحهم ووضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: " ألم تر أن الله خلق السماوات والارض " إبراهيم: 19، والخطاب فيه عام لكل ذي عقل وإن كان خاصا بحسب الفظ. ومن الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أراه الله تسبيح من في السماوات والارض والطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات والارض وليس ببدع منه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الاخبار المعتبرة. ومنها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات والارض والطير، وقد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: " وأن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الاسراء: 44، وستجئ تتمة الكلام فيه في تفسيرة سورة حم السجدة إن شاء الله.
[ 135 ]
وقول بعضهم: إن الضمير في قوله: " قد علم " راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق وخاصة لقوله بعده: " والله عليم بما يفعلون " ونظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه وتنزيهه. ومنها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الاشياء تشير إلى صفات كماله تعالى وهو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان ويؤيده قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " ولعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد ونفي الشركاء وذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما
يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشئ للاله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه. وأما قوله: " كل قد علم صلاته وتسبيحه " فصلاته دعاؤه والدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء والتحميد. ومنها: أن الآية تنسب التسبيح والعلم به إلى من في السماوات والارض فيعم المؤمن والكافر، ويظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الاشياء والمؤمن والكافر فيه سواء، وإلى ذلك تشير آيات كآية الذر: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الاعراف: 172، وقوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، إلى غير ذلك، ونور خاص وهو الذي تذكرة الآيات ويختص بأوليائه من المؤمنين. فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام وخاص وقد قال تعالى: " ورحمتي وسعت كل شئ " الاعراف: 156، وقوله: " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته " الجاثية: 30 وقد جمع بينهما في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا " الحديد: 28، وما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.
[ 136 ]
وقوله: " والله عليم بما يفعلون " ومن فعلهم تسبيحهم له سبحانه، وهذا التسبيح وإن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية. وفي ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين وشكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء حسنا، وإيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن
من مراتب علمه تعالى كتب الاعمال والكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم. قوله تعالى: " ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير " سياق الآية وقد وقعت بين قوله: " ألم تر أن الله سبح له " الخ، وهو احتجاج على شمول نوره العام لكل شئ، وبين قوله: " ألم تر أن الله يزجي: الخ، وما يتعقبه وهو إحتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الامرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شئ وكونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فقوله: " ولله ملك السماوات والارض " يخص الملك ويقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شئ وإذ كان لا مليك إلا هو واليه مرجع كل شئ ومصيره فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن هنا يظهر أن المراد - والله أعلم - بقوله: " وإلى الله المصير " مرجعيته تعالى في الامور دون المعاد نظير قوله: " ألا إلى الله تصير الامور " الشورى: 53. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله " إلى آخر الآية. الازجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الارض.
[ 137 ]
وقوله: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه
عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار " السماء جهة العلو، وقوله: " من جبال فيها " بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: " من برد " بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء. والكلام معطوف على قوله: " يزجي "، والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالابصار. والآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الامر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، وإذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. قوله تعالى: " يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار " بيان آخر الرجوع الامر إلى مشيته تعالى فقط. وتقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " بيان آخر لرجوع الامر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشى فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان، ومنهم من يمشي على رجلين كالاناسي والطيور ومنهم من يمشي، على أربع كالبهائم والسباع، واقتصر سبحانه على هذه الانواع الثلاثة - وفيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار. وقوله: " يخلق الله ما يشاء " تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الامر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه
[ 138 ]
على جميع خلقه كالنور العام والرحمة العامة، وله أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص والرحمة الخاصة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لقوله: " يخلق الله ما يشاء " فإن إطلاق القدرة على كل شئ يستوجب أن لا يتوقف شئ من الاشياء في كينونته على أمر وراء مشيته وإلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الامر وهذا خلف. وهذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي. (بحث فلسفي) إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى وإن كثيرا منها - وخاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالانسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية وإذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا عله تامة أحدها. نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شئ غيره وكذا الصادر الاول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، وأما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمعدات. هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الاجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى. وههنا نظر آخر أدق وهو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شئ وبين علله الممكنة وشروطه ومعداته يقضي بنوع من الاتحاد والاتصال بينها فالواحد من الاجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبطبه متصل الهوية بغيرها. فالانسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل وشروط كثيرة والواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه
النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل والشرائط غير الواجب
[ 139 ]
تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الانسان ابن فلان وفلانة المتولد في زمان كذا ومكان كذا المتقدم عليه كذا وكذا المقارن لوجوده كذا وكذا من الممكنات. فهذه هو حقيقة زيد مثلا ومن الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شئ غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، ولا حاجة له إلى غير مشيته، وقدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة ولا مقيدة، وهو قوله تعالى: " يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير ". قوله تعالى: " لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " يريد آية النور وما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى والصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب والضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد: 7، وقد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد. وتذييل الآية بقوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " هو الموجب لعدم تقييد قوله: " لقد أنزلنا آيات مبينات " بلفظة اليكم بخلاف قوله قبل آيات: " لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ". إذ لو قيل: لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات والله يهدي. تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم وأن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم وفيهم المنافق والذين في قلوبهم مرض والله العالم. (بحث روائي) في التوحيد بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " الله نور السماوات والارض " فقال: هاد لاهل السماوات وهاد
لاهل الارض. وفي رواية برقي: هدى من في السماوات وهدى من في الارض. أقول: إذ كان المراد بالهداية الهداية الخاصة وهي الهداية إلى السعادة الدينية
[ 140 ]
كان من التفسير بمرتبة من المعنى، وإن كان المراد بها الهداية العامة وهي إيصال كل شئ إلى كماله انطبق على ما تقدم. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني إمرأة أن أدخلها على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " ما عني بهذا ؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الامثال للشجر إنما ضرب الامثال لبني آدم. وفي تفسير القمي بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام في هذه الآية " الله نور السماوات والارض " قال: بدء بنور نفسه " مثل نوره " مثل هداه في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " والمصباح جوف المؤمن والقنديل قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه. " يوقد من شجرة مباركة " قال: الشجرة المؤمن " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، ولا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإذا غربت غربت عليها " يكاد زيتها يضئ " يكاد النور الذي في قلبه يضئ وإن لم يتكلم. " نور على نور " فريضة على فريضة، وسنة على سنة " يهدي الله لنوره من يشاء " يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء " ويضرب الله الامثال للناس " فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه
نور، وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر عليه السلام: إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: " فلا تضربوا لله الامثال ". أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، وقد اكتفى عليه السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: " يكاد زيتها يضئ " وقوله: " نور على نور ". وأما قوله: " سبحان الله ليس لله مثل " فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور
[ 141 ]
الذي وإسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات والارض، وأما الضمير في قوله: " مثل نوره " فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح. وفي التوحيد وقد روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قوله الله عزوجل: " الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي والائمة ص من دلالات الله وآياته التي يهتدي بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الاسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: الرواية من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق وهو من أفضل المصاديق وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرون من أهل بيته عليهم السلام وإلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الانبياء عليه السلام والاوصياء والاولياء. نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لاخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " الخ. وقد وردت عدة من الاخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام وهي من التطبيق دون التفسير، ومن الدليل على
ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وفيها: أن المشكاة قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمصباح النور الذي فيه العلم، والزجاجة على أو قلبه، والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية إبراهيم عليه السلام ما كان يهوديا ولا نصرانيا، وقوله: " يكاد زيتها يضئ " الخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة وإن لم ينزل عليهم ملك. وما رواه في التوحيد بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر عليه السلام وفيه أن المشكاة نور العلم في صدر النبي صلى اللله عليه وآله وسلم، والزجاجة صدر على " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل " نور على نور " إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر الامام من آل محمد. وما في الكافي بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق عليه السلام وفيه أن المشكاة فاطمة عليهما السلام، والمصباح الحسن عليه السلام، والزجاجة الحسين عليه السلام
[ 142 ]
والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام، لا شرقية ولا غربية ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ونور على نور إمام بعد إمام ويهدي الله نوره من يشاء يهدي الله للائمة عليهم السلام من يشاء. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردوية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال قلب إبراهيم لا يهودي ولا نصراني. أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق، وقد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض ائمة أهل البيت عليهم السلام كما تقدم. وفيه أخرج ابن مردويه عن انس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " في بيوت أذن الله أن ترفع " فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال: بيوت الانبياء فقام إليه ابو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت
منها لبيت على وفاطمة ؟ قال: نعم من افاضلها. أقول ورواه في المجمع عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، وروي هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام ولفظه: قال: هي بيوت الانبياء وبيت على عليه السلام منها. وهو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم. وفي نهج البلاغة من كلام له عليه السلام عند تلاوته " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " وإن للذكر لاهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر وينتهون عنه كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما أطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون. وفي المجمع في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجرا ممن لم يتجر.
[ 143 ]
أقول: أي لم يتجر واشتغل بذكر الله كما في روايات أخر. وفي الدر المنثور عن ابن مردويه وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة لا بيع عن ذكر الله " قال: هم الذين يضربون في الارض يبتغون من فضل الله. أقول: كأن الرواية غير تامة وتمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وفي المجمع في قوله تعالى: " والله سريع الحساب " وسئل امير المؤمنين عليه السلام:
كيف يحاسبهم في حالة واحدة ؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة. وفي روضة الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزوجل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكى لا يضر شيئا يصيبه، والذي ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله عزوجل يصيب بها من يشاء من عباده. وفي تفسيره القمي في قوله تعالى: " فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " قال: على رجلين الناس، وعلى بطنه الحيات، وعلى أربع البهائم، وقال أبو عبد الله عليه اللسلام: ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك * * * يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - 47. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون - 48. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين - 49. أفي قلوبهم مرض أم أرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون - 50.
[ 144 ]
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون - 51. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون - 52. وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون - 53. قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين - 54. وعد الله الذين آمنوا
منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون - 55. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون - 56. لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير - 57. (بيان) تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنها لا تفارق طاعة الله تعالى، ووجوب الرجوع إلى حكمه وقضائه وأن الاعراض عنه آيه النفاق، وتختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين وإيعاد للكافرين.
[ 145 ]
قوله تعالى: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " الخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الايمان والطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالايمان بالله هو العقد على توحيده وما شرع من الدين، والايمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره ونهيه نهيه وحكمه حكمه من غير أن يكون له من الامر شئ، وطاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، وطاعة الرسول الايتمار والنإتهاء عند أمره ونهيه وقبول ما حكم به وقضى عليه. فالايمان بالله وطاعته موردهما نفس الدين والتشرع به، والايمان بالرسول وطاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به وما حكم به وقضى عليه في المنازعات والانقياد له في ذلك كله. فبين الايمانين والطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد وضيقه، ويشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: " آمنا بالله وبالرسول " فاشير إلى تعدد الايمان والطاعة ولم يقل: آمنا بالله والرسول بحذف الباء، الايمانان مع ذلك متلازمان
لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " النساء: 150. وفقوله: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " أي عقدنا القلوب على دين الله وتشرعنا به وعلى أن الرسول لا يخبر إلا بالحق. ولا يحكم إلا بالحق قوله: " ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: " آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " عن مقتضي قولهم من بعد ما قالوا ذلك. وقوله: " وما أولئك بالمؤمنين " أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، والمشار إليه بإسم الاشارة لقائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لان الكلام مسوق لذم الجميع. قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منازعة وقعت بينه وبين غيره فأبي الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك نزلت الآيات.
[ 146 ]
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء: 105. للحكم نسبة إليه بالمباشرة ونسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته وبنصبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم والقضاء. وبذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، وبالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضي عليه بالمباشرة وأن الظاهر أن ضمير " ليحكم " للرسول، وإنما أفرد الفاعل ولم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى. والآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا
معينا منهم والاعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق. قوله تعالى: " وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين " الاذعان الانقياد، وظاهر السياق وخاصة قوله: " يأتوا إليه " أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوي أنه حق لا ينفك عنه، والمعنى وإن يكون الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لا لهم، ولازم ذلك أنهم يتبعون الهوى ولا يريدون اتباع الحق. قوله تعالى: " أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " إلى آخر الآية. الحيف الجور. وظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الايمان كما في قوله تعالى: " فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " الاحزاب: 32، وقوله: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الاحزاب: 60، وغير ذلك من الآيات. وأما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: " وما اولئك بالمؤمنين " فإنه حكم بنفاقهم، ولا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الاضراب عنه بقوله: " بل اولئك هم الظالمون ". و قوله: " أم أرتابوا " ظاهر إطلاق الارتياب وهو الشك أن يكون المراد هو
[ 147 ]
شكهم في دينهم بعد الايمان دون الشك في صلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم أو عدله ونحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة. وقوله: " أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " أي أم يعرضون عن ذلك لانهم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله لكون الشريعة الالهية التي يتبعها حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبنية على الجور وإماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لا يراعي الحق في قضائه. وقوله: " بل اولئك هم الظالمون أضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة وذلك أن سبب أعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو إرتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، وأما الخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله فلا موجب له فالله برئ من الحيف ورسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله ورسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون. والظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الايمان مع الاقرار به قولا كما قال آنفا: " وما اولئك بالمؤمنين " أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، ولو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الاضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لانها من مطلق الظلم ويدل عليه أيضا الآية التالية. وقد بأن بما تقدم أن الترديد في أسباب الاعراض على تقدير عدم النفاق بين الامور الثلاثة حاصر والاقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم أما لضعف إيمانهم وإما لزواله بالارتياب وإما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه وميله عن الحق إلى الباطل ولا يحتمل ذلك في حكم الله ورسوله. وقد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد والاضراب ولعل فيما ذكرناه كفاية، ومن أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات. قوله تعالى: " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " إلى آخر الآية سياق قوله: " إنما كان قول المؤمنين " وقد أخذ فيه " كان " ووصف الايمان في " المؤمنين " يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة
[ 148 ]
الايمان فإن مقتضى الايمان بالله ورسوله وعقد القلب على اتباع ما حكم به الله ورسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله ورسوله دون الرد.
وعلى هذا فالمراد بقوله: " إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، ويدل عليه تصدير الجملة بلفظة " إذا " ولو كان المراد به دعوة الله ورسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله ورسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان. وبذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل " دعوا " المحذوف هو الله ورسوله، والمعنى: إذا دعاهم الله ورسوله. نعم مرجع الدعوة بأخرة إلى دعوة الله ورسوله. وكيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله ورسوله في قولهم: سمعنا وأطعنا وهو سمع وطاعة للدعوة الالهية سواء فرض الداعي هو أحد المتناز عين للاخر أو فرض الداعي هو الله ورسوله أو كان المراد هو السمع والطاعة لحكم الله ورسوله وإن كان بعيدا. وانحصار قول المؤمنين عند الدعوة في " سمعنا وأطعنا " يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الايمان، كما يفيده قوله: " بل اولئك هم الظالمون " على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للاضراب في ذيل الآية السابقة. وقد ختمت الآية بقوله: " وأولئك هم المفلحون " وفيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح. قوله تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " ورود الآية في سياق الآيات السابقة وانضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله ورسوله بالسمع والطاعة بقيد الايمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله ورسوله وهو مؤمن لانه مطيع لله ولرسوله وهو مؤمن حقا في باطنه خشية الله وفي
[ 149 ]
ظاهره تقواه ومن يطع الله ورسوله فيما قضى عليه ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون، والفوز هو الفلاح. وتشمل الآية الداعي إلى حكم الله ورسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع والطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي والمدعو جميعا. قوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة " إلى آخر الآية، الجهد الطاقة، والتقدير في قوله: " أقسموا بالله جهد أيمانهم " أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم والمراد أقسموا باغلظ أيمانهم. والظاهر أن المراد بقوله: " ليخرجن " الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: " ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة ولكن كره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " التوبه: 47. وقوله: " قل لا تقسموا " نهي عن الاقسام، وقوله: " طاعة معروفة " خبر لمبتدأ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج والجملة في مقام التعليل للنهي عن الاقسام ولذا جئ بالفصل، وقوله: " والله خبير بما تعملون " من تمام التعليل. ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - وهو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - وإن تكونوا تقسمون لاجل أن ترضوا الله ورسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره اغلاظكم في الايمان. وقيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم وأموالهم لو حكم الرسول بذلك، وقوله: " طاعة معروفة " مبتدا لخبر محذوف، والتقدير طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ الايمان لئن أمرتهم وحكمت عليهم في
منازعاتهم بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لان طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله والله خبيربما تعملون. وفيه أن هذا المعنى وإن كان يؤكد إتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى لسابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله ورسوله ليحكم بينهم لانهم إذ كانوا
[ 150 ]
تولوا وأعرضوا عن حكم الله ورسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن وهو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، وحينئذ كان حمل " ليخرجن " على هذا المعنى لا دليل يدل عليه. قوله تعالى: " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين وأمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم ويأمرهم به في أمر دينهم ودنياهم، وتصدير الكلام بقوله: " قل " إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، وقد أكده بقوله: " وأطيعوا الرسول " دون أن يقول: وأطيعوني لان طاعة الرسول بما هوطاعة الرسول طاعة المرسل، وبذلك تتم الحجة. ولذلك عقب الكلام: أولا بقوله: " فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " أي فإن تتولوا وتعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من لتكليف ولا يمسكم منه شئ وعليكم ما حملتم من التكليف ولا يمسه منه شئ فإن الطاعة جميعا لله سبحانه. وثانيا بقوله: " وإن تطيعوه تهتدوا " أي وإن كان لكل منكم ومنه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لان ما يجئ به اليكم وما يأمركم به من الله وبأمره،
والطاعة لله وفيه الهداية. وثالثا بقوله: " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ، وإذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله وفي طاعة من أرسله وهو الله سبحانه إهتداؤكم. قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " إلى آخر الآية.
[ 151 ]
ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة وهي مدينة ولم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها وخاصة ذيلها. فالآية - على هذا - وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الارض ويمكن لهم دينهم ويبدلهم من بعد خوفهم آمنا لا يخافون كيد منافق ولا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا. فقوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " من فيه تبعيضية لا بيانية والخطاب لعامة المسلمين وفيهم المنافق والمؤمن وفي المؤمنين منهم من يعمل الصالحات ومن لا يعمل الصالحات، والوعد خاص بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات محضا. وقوله: " ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الالهية ما ورد في آدم وداود وسليمان عليه السلام، قال تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30، وقال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " ص: 26، وقال: " وورث سليمان داود " النمل: 16، فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه وأوليائه ولا يخلو من بعد كما سيأتي. وإن كان المراد به إيراث الارض وتسليط قوم عليها بعد قوم كما قال: " إن
الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " الاعراف: 128، وقال: " أن الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105، فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الانبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين والفاسقين منهم ونجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " إبراهيم: 14، فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا وعاشوا فيه حتى طال عليهم الامد فقست قلوبهم. وأما قول من قال: إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون وجنوده فأورثهم أرض مصر والشام ومكنهم فيها كما قال تعالى فيهم:
[ 152 ]
" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض وجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض " القصص: 6. ففيه أن المجتمع الاسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده لم يصف من الكفر ولنفاق والفسق ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح. ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم - وهم بنو إسرائيل - كيفما كان لم يجتج إلى إشخاص المجتمع الاسرائيلي للتشبيه به وفي زمن نزول الآية وقبل ذلك أمم أشد قوة وأكثر جمعا منهم كالروم والفارس وكلدة وغيرهم وقد قال تعالى في عاد الاولى وثمود: " إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " الاعراف: 69، وقال: " إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " الاعراف: 74، وقد خاطب بذلك
الكفار من هذه الامة فقال: " وهو الذي جعلكم خلائف الارض " الانعام: - 165، وقال: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره " فاطر: 39. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدي حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله: " وليمكنن لهم دينهم " إلى آخر الوعد ؟ قلت: نعم ولكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لان يشبه به وأن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم. وقوله: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " تمكين الشئ إقراره في مكان وهو كناية عن ثبات الشئ من غير زوال واضطراب وتزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع ولا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به واستهانة بأمره، ومأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف وتخاصم وقد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213. والمراد بدينهم الذي إرتضى لهم دين الاسلام، وأضاف الدين إليهم تشريفا لهم ولكونه من مقتضى فطرتهم.
[ 153 ]
وقوله: " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " هو كقوله: " وليمكنن لهم " عطف على قوله: " ليستخلفنهم " وأصل المعنى: وليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله: " من بعد خوفهم " والتقدير وليبدلن خوفهم: أو كون " أمنا " بمعنى: آمين. والمراد بالخوف على أي حال، ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الاسلام من الكفار والمنافقين. وقوله: " يعبدونني لا يشركون بي شيئا " الاوفق بالسياق أن يكون حالا من
ضمير " وليبدلنهم " أي وليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا. والالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم، و تأكيد " يعبدونني " بقوله: " لا يشركون بي شيئا " ووقوع النكرة - شيئا - في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الاطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي، وبالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا أمنا يعبد فيه إلا الله ولا يتخذ فيه رب غيره. وقوله: " ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " ظاهر السياق كون " ذلك " إشارة إلى الموعود و الانسب على ذلك كون " كفر " من الكفران مقابل الشكر، والمعنى: ومن كفر ولم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد الكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة أولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق وهو الخروج عن زي العبودية. وقد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية. فقيل: انها واردة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أنجز الله عده لهم بإستخلافهم في الارض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بما أعز الاسلام بعد رحلة النبي في أيام الخلفاء الراشدين، والمراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الاربعة بعد النبي صلى اللله عليه وآله وسلم أو الثلاثة الاول منهم، ونسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم وهم الاربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم: قتل بنو فلان وإنما قتل بعضهم. وقيل: هي عامة لامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد باستخلافهم وتمكين دينهم وتبديل
[ 154 ]
خوفهم أمنا إيراثهم الارض كما أورثها الله الامم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على اختلاف التقرير - وتمكين الاسلام وإنهزام اعداء الدين وقد أنجز الله وعده بما نصر الاسلام والمسلمين بعد الرحلة ففتحوا الامصار وسخروا الاقطار.
وعلى القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أو ان تحققه ولم يكن مرجوا ذلك يومئذ. وقيل: إنها في المهدي الموعود عليه السلام الذي تواترت الاخبار على أنه سيظهر فيملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وإن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته عليهم السلام. والذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الامي لا لجميعها ولا لاشخاص خاصة منهم وهم الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات فالآية في ذلك، ولا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي وأئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ولا على أن المراد بالذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات جميع الامة وإنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه. والمراد باستخلافهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الارض كما ورثها الذين من قبلهم من الامم الماضين أولى القوة والشوكة، وهذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم، وأما إرادة الخلافة الالهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام وهي السلطنة الالهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ " الذين من قبلهم " وقد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى ولم يقصد ولا في واحد منها الانبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن، نعم ذكرهم الله بلفظ " رسل من قبلك " أو " رسل من قبلي " أو نحو هما بالاضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقة بحيث لا
[ 155 ]
يزلزله اختلافهم في أصوله، ولا مساهلتهم في إجراء أحكامه، والعمل بفروعه وخلوص المجتمع من وصمه النفاق فيه. والمراد من تبديل خوفهم أمنا إنبساط الامن والسلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم. وقول بعضهم: إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار والمشركين القاصدين إطفاء نور الله وإبطال الدعوة. تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعي. على أن الآية في مقام الامتنان وأي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج وقد أحاط بمجتمعهم الفساد وعمته البلية لا أمن لهم في نفس ولا عرض ولا مال، الحرية فيه للقدرة الحاكمة والسبق فيه للفئة الباغية. والمراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ وهو عموم إخلاص العبادة وإنهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى. والمتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر والنفاق والفسق يرث الارض لا يحكم في عقائد أفراده عامة ولا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين وظلم الظالمين وتحكم المتحكمين. وهذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة والقداسة لم يتحقق ولم ينعقد منذ بعث لنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وإن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدى عليه السلام على ما ورد من صفته في الاخبار المتوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة أهل البيت عليه السلام لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له عليه السلام وحده. فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وليس المهدي عليه السلام أحد المخاطبين حين النزول ولا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم ؟
قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية والاجتماعية أعني الخطاب متوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم والخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالاول لا يتعدي إلى غير أشخاصهم ولا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك
[ 156 ]
يسري إلى غيرهم، والثاني يتعدي إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف ويسري إليه ما تضمنه من الحكم، وخطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم. ومن هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين والكفار، ومنه الخطابات الذامة لاهل الكتاب وخاصة اليهود بما فعله أسلافهم وللمشركين بما صنعه آباؤهم. ومن هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم " الاسراء: 7، فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، ونظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا " الكهف: 98، وكذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة وانطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: " ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة " الاعراف: 187، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم ولما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة. فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي عليه السلام وإن سومح في تفسير مفرداتها وجملها وكان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات استخلاف الامة بنوع من التغليب نحوه، وبتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالامة المسلمة وعدهم الاسلام دينا لهم وإن تفرقوا فيه ثلاثا وسبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا
ويستبيح بعضهم دماء بعض وأعراضهم وأموالهم، وبتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله ولا يشركون به شيئا عزة الامة وشوكتها في الدنيا وانبساطها على معظم المعمورة وظواهر ما يأتون به من صلاة وصوم وحج وإن ارتحل الامن من بينهم أنفسهم وودعهم الحق والحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الامة، والمراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة والشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة ولا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الاسلامية. وأما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثه الاول أو خصوص على
[ 157 ]
عليه السلام فلا سبيل إليه البتة. قوله تعالى: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون " مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها. فقوله: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، وتخصيص الصلاة والزكاة بالذكر كونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى وإلى الخلق، وقوله: " وأطيعوا الرسول " إنفاذ لولايته صلى الله عليه وآله وسلم في القضاء والحكومة. وقوله: " لعلكم ترحمون " تعليل للامر بما في المأمور به من المصلحة، والمعنى - على ما يعطيه السياق أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الالهية فينجزلكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين وعموم الصلاح والاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير. قوله تعالى: " لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير " من تمام الآيات السابقة، وفيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الارض
وتمكين الدين وتبديل الخوف أمنا. يخاطب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد الوعد - بخطاب مؤكد - أن لا يظن أن الكفار معجزون لله في الارض فيمنعونه بما عندهم من القوة والشوكة من أن ينجز وعده، وهذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أكرم به أمته وأن أعداءه سينهزمون ويغلبون ولذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات. ولكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين وأهله عطف عليه قوله: " ومأواهم النار " الخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا ومسكنهم النار في الآخرة وبئس المصير. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " ويقولون آمنا بالله " الآيات قيل: نزلت الآيات في
[ 158 ]
رجل من المنافقين كان بينه بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف. وحكي البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض أشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردهبا لعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحكم بن أبي العاص ان حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام أو قريب منه. أقول وفي تفسير روح المعاني عن الضحاك أن النزاع كان بين علي والمغيرة بن وائل وذكر قريبا من القصة. وفي المجمع في قوله تعالى: " إنما كان قول المؤمنين " الآية: وروي عن أبي جعفر أن المعني بالآية أمير المؤمنين عليه السلام. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما
حملتم " الآية، أخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا ويمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم ونبغضهم ؟ فقال النبي ص: عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. أقول: وفي معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الاسلام بما فيه من روح إحياء الحق وإماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم وإباحة السكوت وتحمل الضيم والاضطهاد قبال الطغاة والفجرة لمن يجد إلى إصلاح الامر سبيلا، وقد اتضح بالابحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم واتباعهم لاهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا وأخبث أثرا من إثارة الفتن وإقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق والعدل. وفي المجمع في قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم " الآية: واختلف في الآية والمروي عن أهل البيت عليهم السلام أنها في المهدي من آل محمد. قال: وروى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين عليه السلام: أنه قرأ الآية وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا وهو مهدي هذه الامة،
[ 159 ]
وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملا الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وبذلك وردت الاخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك. وقال في المجمع بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام انتهى. وقد عرفت أن المراد به عام
والرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال عليه السلام: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم " الآية قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد. أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة وقد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه. وفيه أخرج ابن المنذر والطبراني في الاوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الانصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " الآية. أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول وأما أن المراد بالذين آمنوا من هم ؟ وأن الله متى أنجزأ وينجز هذا الوعد ؟ فلا تعرض له به. ونظيرته روايته الاخرى: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " الآية قال: بشر هذه الامة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الارض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب. فإن تبشير الامة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الامة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.
[ 160 ]
وفي نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لا نطلاقه لقتال أهل الفارس حين تجمعوا للحرب قال عليه السلام: إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزة وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث
طلع ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. والله تعالى منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم في الاسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الارض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم اليك مما بين يديك، وكان قد آن للاعاجم أن ينظروا اليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة. أقول: وقد استدل به في روح المعاني على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الاسلام وارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين وهو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الالهي لم يتم أمر إنجازه بعد وأنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: والله منجز وعده، وأن الدين لم يمكن بعد ولا الخوف بدل أمنا وكيف لا ؟ وهم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل وخوف من مهاجمة الاعداء من خارج. و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثا قال: كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو اليوم الكفر بعد الايمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول ؟ قال: بهذه الآية " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " إلى آخر الآية.
[ 161 ]
أقول: ليت شعري أين ذهب منافقوا عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وشواهد الكتاب العزيز والتاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة ومعظمهم بها أصدقوا الاسلام يوم رحلته صلى الله عليه وآله وسلم أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر وتقليبهم الامور ؟. * * * يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم - 58. وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم - 59. والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم - 60. ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت
[ 162 ]
أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون - 61. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا
كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأدنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم - 62. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم - 63. ألا إن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم - 64. (بيان) بقية الاحكام المذكورة في السورة وتختتم السورة بآخر الآيات وفيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرع ما يشرع بعلمه وسيظهر وسينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.
[ 163 ]
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها وهو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الاجنبي. والظهيرة وقت الظهر، والعورة السوأة سميت بها لما يلحق الانسان من انكشافها من العار وكأن المراد بها في الآية ما ينبغي ستره. فقوله: " يا أيها الذين آمنوا " الخ، تعقيب لقوله سابقا: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا " الخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الاذن وهو كالاستثناء من عمومه في العبيد والاطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم. وقوله: " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، وظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الاماء وإن كان اللفظ لا يأبى عن العموم
بعناية التغليب، وبه وردت الرواية كما سيجئ. وقوله: " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " يعني المميزين من الاطفال قبل البلوغ، والدليل على تقيدهم بالتمييز قوله: " بعد ثلاث عورات لكم ". وقوله: " ثلاث مرات " أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة - أي وقت الظهر - ومن بعد صلاة العشاء "، وقد أشار إلى وجه الحكم بقوله: " ثلاث عورات لكم " أي الاوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم. وقوله: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان ولا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الاوقات، وقد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: " طوافون عليكم بعضكم على بعض " أي هم كثير الطواف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث. ثم قال: " كذلك يبين الله لكم الآيات " أي أحكام دينه التي هي آيات دالة عليه " والله عليم " يعلم أحوالكم وما تستدعيه من الحكم " حكيم " يراعي مصالحكم في أحكامه. قوله تعالى: " وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا " الخ، بيان أن حكم
[ 164 ]
الاستيذان ثلاث مرات في الاطفال مغيى بالبلوغ فإذا بلغ الاطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم وهم البالغون من الرجال والنساء الاحرار " كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ". قوله تعالى: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا " إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة وهي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: " اللاتي لا يرجون نكاحا " وصف توضيحي، وقيل: هي التي يئست
من الحيض، والوصف إحترازي. وفي المجمع: التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله الظهور ومنه البرج البناء العالي لظهوره. والآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، والمعني: والكبائر المسنة من النساء فلا بأس ععليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرجات بزينة. وقوله: " وأن يستعففن خير لهن " كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، وقوله: " والله سميع عليم " تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الاحكام. قوله تعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - أو صديقكم " ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف وإفساد. فقوله: " ليس على الاعمى حرج - إلى قوله - ولا على أنفسكم " في عطف " على أنفسكم " على ما تقدمه دلالة على أن عد المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحيانا وإلا فلا فرق بين الاعمى والاعرج والمريض وغيرهم في ذلك. وقوله: " من بيوتكم أو بيوت آبائكم " الخ، في عد " بيوتكم " مع بيوت الاقرباء وغيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم
[ 165 ]
أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم وبيوت أقربائهم وما ملكوا مفاتحه وبيوت أصدقائهم. على أن " بيوتكم " يشمل بيت الابن والزوج كما وردت به الرواية، وقوله: " أو ما ملكتم مفاتحه " المفاتح جمع مفتح وهو المخزن، والمعنى: أو البيت الذي ملكتم
أي تسلطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيما على بيت أو وكيلا أو سلم إليه مفتاحه. وقوله: " أو صديقكم " معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، والتقدير أو بيت صديقكم. قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " الاشتات جمع شت وهو مصدر بمعنى التفرق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، والمعنى: لا إثم عليكم إن تأكلوا مجتمعين وبعضكم مع بعض أو متفرقين، والآية عامة وإن كان نزولها لسبب خاص كما روي. وللمفسرين في هذا الفصل من الآية وفي الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها والغور في البحث عنها أولى، وما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما. قوله تعالى: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة " الخ، لما تقدم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: " فإذا دخلتم بيوتا ". فقوله: " فسلموا على أنفسكم " المراد فسلموا على من كان فيها من أهلها وقد بدل من قوله: " على أنفسكم " للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان وقد خلقهم الله من ذكر وأنثى على أنهم مؤمنون والايمان يجمعهم ويوحدهم أقوى من الرحم وأي شئ آخر. وليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: " فسلموا على أنفسكم " أن يسلم الداخل على أهل البيت ويرد السلام عليه. وقوله: " تحية من عند الله مباركة طيبة " أي حال كون السلام تحية من عند الله شرعها الله وأنزل حكمها ليحيي بها المسلمون وهو مبارك ذو خير كثير باق وطيب
[ 166 ]
يلائم النفس فإن حقيقة هذه التحية بسط الامن والسلامة على المسلم عليه وهو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان. ثم ختم سبحانه الآية بقوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات " وقد مر تفسيره " لعلكم تعقلون " أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل. قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه " ذكر قوله " الذين آمنوا بالله ورسوله " بيانا للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتصافهم بحقيقة المعنى أي إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله بحقيقة الايمان وأيقنوا بتوحده تعالى واطمأنت نفوسهم وتعلقت قلوبهم برسوله. ولذلك عقبه بقوله: " وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه " والامر الجامع هو الذي يجمع الناس للتدبر في أطرافه والتشاور والعزم عليه كالحرب ونحوها. والمعنى: وإذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الامور العامة لم يذهبوا ولم ينصرفوا من عند الرسول حتى يستأذنوه للذهاب. ولذلك أيضا عقبه بقوله: " إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله " وهو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة وعدم الانفكاك. وقوله: " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم " تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء ولا يأذن لمن لم يشأ. وقوله: " واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم " أمر له بالاستغفار لهم تطييبا لنفوسهم ورحمة بهم. قوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " إلى آخر
الآية دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الامور كدعوتهم إلى الايمان والعمل الصالح، ودعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، ودعوتهم إلى الصلاة جامعة، وأمرهم بشئ في أمر دنياهم أو أخراهم فكل ذلك دعاء ودعوة منه ص. ويشهد بهذا المعنى قوله ذيلا: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا " وما
[ 167 ]
يتلوه من تهديد مخالفي أمره ص كما لا يخفى. وهو أنسب لسياق الآية السابقة فإنها تمدح الذين يلبون دعوته ويحضرون عنده ولا يفارقونه حتى يستأذنوه وهذه تذم وتهدد الذين يدعوهم فيتسللون عنه لو إذا غير مهتمين بدعائه ولا معتنين. ومن هنا يعلم عدم استقامة ما قيل: إن المراد بدعاء النبي ص خطابه فيجب أن فخم ولا يساوى بينه وبين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمد ويا ابن عبد الله، بل: يا رسول الله. وكذا ما قيل: إن المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرض لدعائه عليهم بإسخاطه فإن الله تعالى لا يرد دعاءه هذا، وذلك لان ذيل الآية لا يساعد على شئ من الوجهين. وقوله: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا " التسلل: الخروج من البين برفق واحتيال من سل السيف من غمده، واللواذ: الملاوذة وهو أن يلوذ الانسان ويلتجئ إلى غيره فيستتربه، والمعنى: أن الله يعلم منكم الذين يخرجون من بين الناس والحال أنهم يلوذون بغيرهم ويستترون به فينصرفون فلا يهتمون بدعاء الرسول ولا يعتنون به. قوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " ظاهر سياق الآية بما تقدم من المعنى أن ضمير " عن أمره " للنبي ص وهو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبي ص ودعوته من أن تصيبهم فتنة وهي البلية أو يصيبهم عذاب أليم.
وقيل: ضمير " عن أمره " راجع إلى الله سبحانه، والآية وإن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله: " لا تجعلوا دعاء الرسول " الخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، وهو أمر، وأول الوجهين أوجه. قوله تعالى: " ألا إن لله ما في السماوات والارض قد يعلم ما أنتم عليه " اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها: " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات " فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها. فقوله: " ألا إن لله ما في السماوات والارض " بيان لعموم الملك وأن كل شئ
[ 168 ]
مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، والناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله وما يحتاج إليه فالذي يشرعه لهم من الدين مما يحتاجون إليه في حياتهم كما أن ما يرزقهم من المعيشة مما يحتاجون إليه في بقائهم. فقوله: " قد يعلم ما أنتم عليه " - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتبة على الحجة أي ملكه لكم ولكل شئ يستلزم علمه بحالكم وبما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرعه لكم ويفرضه عليكم. وقوله: " ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم " معطوف على قوله: " ما أنتم عليه " أي ويعلم يوما يرجعون إليه وهو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا والله بكل شي عليم. وفي هذا الذيل حث على الطاعة والانقياد لما شرعه وفرضه من الاحكام والعمل به من جهة أنه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أن في الصدر حثا على القبول من جهة أن الله إنما شرعها لعلمه بحاجتهم إليها وأنها التي ترفع بها حاجتهم. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم " الآية، أخرج
سعيد منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الاذن، وإني لآمر جاريتي هذه - لجارية قصيرة قائمه على رأسه - أن يستأذن علي. وفي تفسير القمي في الآية قال: إن الله تبارك وتعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الاوقات على أحد لا أب ولا أخت ولا أم ولا خادم إلا بإذن، والاوقات بعد طلوع الفجر ونصف النهار وبعد العشاء الآخرة. ثم أطلق بعد هذه الثلاثة الاوقات فقال: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " يعني بعد هذا الثلاثة الاوقات " طوافون عليكم بعضكم على بعض ". وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله ع في قول الله عزوجل:
[ 169 ]
" ملكت أيمانكم " قال: هي خاصة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات ؟ قال: لا ولكن يدخلن ويخرجن " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " قال: من أنفسكم، قال عليكم (1) استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات. أقول: وروى فيه روايات أخرى غيرها في كون المراد بالذين ملكت أيمانكم الذكور دون الاناث عن أبي جعفر أبي عبد الله ع. وفي المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم وأماءكم أن يستأذنوا عليك أذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عباس وقيل: أراد العبيد خاصة عن ابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله ع. أقول: وبهذه الاخبار وبظهور الآية يضعف ما رواه الحاكم عن علي ع في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله
العشاء وإنما يعتم بحلاب الابل. أقول: وروى مثله عن عبد الرحمان بن عوف ولفظه: إن رسول الله ص قال: لا يغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم قال الله: " ومن بعد صلاة العشاء " وإنما العتمة عتمة الابل. وفي الكافي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله ع أنه قرأ " أن يضعن من ثيابهن " قال: الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مسنة. أقول وفي معناه أخبارأخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي ص لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج لان الاعمى لا يبصر طيب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والاعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مواكلتهم.
(1) عليهم ظ. (*)
[ 170 ]
وفيه أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: خرج الحارث غازيا مع رسول الله ص وخلف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهودا فنزلت. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ". أقول: وفي معنى هذه الروايات روايات أخر. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله ع في قول الله عزو جل: " أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم " قال: هؤلاء الذين سمى الله عزوجل في هذه
الآية يأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم وكذلك تطعم المرأة من منزل وجها بغير إذنه فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا. وفيه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ع قال: قال رسول الله ص لرجل: أنت ومالك لابيك، ثم قال أبو جعفر ع: وما أحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بدله منه إن الله لا يحب الفساد. وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الاب قال: يأكل منه فأما الام فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها. وفيه بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله ع قال: للمرأة أن تأكل وأن تصدق وللصديق أن يأكل من منزل أخيه ويتصدق. وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله ع في قول الله عزوجل: " أو ما ملكتم مفاتحه " قال الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه. وفي المجمع في قوله تعالى: " أن تأكلوا من بيوتكم " وقيل: معناه من بيوت أو لادكم ويدل عليه قوله ع: أنت ومالك لابيك. وقوله ع: إن أطيب ما يأكل المن كسبه وإن ولده من كسبه.
[ 171 ]
أقول: وفي هذه المعاني روايات كثيرة أخرى. وفي المعاني بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر ع عن قول الله عز وجل: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم. أقول: " وقد تقدمت الاشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين - إلى قوله - حتى
يستأذنوه " فإنها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله ص لامر من الامور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنها هم الله عزوجل عن ذلك. وفيه في قوله تعالى: " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، قال: نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله ص أن يقيم عند أهله فأنزل الله عزوجل هذه الآية " فأذن لمن شئت منهم " فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله ص: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والارض فكان يسمى غسيل الملائكة وفيه في قوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " قال: لا تدعوا رسول الله ص كما يدعو بعضكم بعضا، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ع في قوله عزوجل: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا "، يقول: لا تقولوا: يا محمد ولا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبي الله ويا رسول الله. أقول وروي مثله عن ابن عباس، وقد تقدم أن ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.
[ 172 ]
(سورة الفرقان مكية، وهي سبع وسبعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - 1. الذي له ملك السموات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا - 2. واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا - 3. (بيان)
غرض السورة بيان أن دعوة النبي ص دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى وكتاب نازل من عنده وفيها عناية بالغة بدفع ما أوردة الكفار على كون النبي ص رسولا من جانب الله وكون كتابه نازلا من عنده ورجوع إليه كرة بعد كرة. وقد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد ونفي الشريك وذكر بعض أوصاف يوم القيامة وذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، والكلام فيها جار على سياق الانذار والتخويف دون التبشير. والسورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات وهي قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - غفورا رحيما ".
[ 173 ]
ولعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا والخمر كانا معروفين بالتحريم في الاسلام من أول ظهور الدعوة الاسلامية. ومن العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها " تبارك الذي - إلى قوله - نشورا ". قوله تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشئ كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الارض واستقر عليها، ومنه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير وفي صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، وهو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة. والفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل ويؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات: والفرقان أبلغ من الفرق لانه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وتقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، وهو اسم لا مصدر
فيما قيل، والفرق يستعمل فيه وفي غيره. انتهى. والعالمون جمع عالم ومعناه الخلق قال في الصحاح: العالم الخلق والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق انتهى. و اللفظة وإن كانت شامة لجميع الخلق من الجماد والنبات والحيوان والانسان والجن والملك لكن سياق الآية - وقد جعل فيها الانذار - غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق وهم الثقلان: الانس والجن فيما نعلم. وبذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته ص لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالانذار ونظير الآية قوله تعالى: " واصطفاك على نساء العالمين " آل عمران: 42 وقوله: " وفضلناهم على العالمين " الجاثية: 16. والنذير بمعنى المنذر على ما قيل، والانذار قريب المعنى من التخويف.
[ 174 ]
فقوله تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده " أي ثبت وتحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد ص، وثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق والباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى. والجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى وكون النبي ص رسولا منه نذير اللعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق والباطل وتوصيف النبي ص بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلفه النبي ص وأعانه على ذلك قوم آخرون، ومن طعنهم في النبي ص بأنه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق وسائر ما تفوهوا به وما يدفع به مطاعنهم.
فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق والباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق والباطل وإنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، وأن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين ويدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق ولو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه وانحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته وأن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده. ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة، على الانبياء وبعبده عامة الانبياء ع، ولا يخفى بعده من ظاهر اللفظ. وقوله تعالى: " ليكون للعالمين نذيرا " اللام للتعليل وتدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذر الجميع العالمين من الانس والجن، والجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، ولا يخلو الاتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون. والاكتفاء بذكر الانذار دون التبشير لان الكلام في السورة مسوق سوق الانذار والتخويف. قوله تعالى: " الذي له ملك السموات والارض " إلى آخر الآية. الملك بكسر
[ 175 ]
الميم وفتحها قيام شئ بشئ بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالامر والنهي وأنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته وما في أيديهم، ويطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم. فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب الملك - بفتح الميم وكسر اللام - هو المتصرف بالامر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، ولهذا
يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الاشياء - إلى أن قال - فالملك بالضم - ضبط الشئ المتصرف فيه بالحكم، والملك - بالكسر - كالجنس للملك فكل ملك - بالضم - ملك بالكسر - وليس كل ملك - بالكسر - ملكا - بالضم - انتهى. وربما يحض الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، والملك بالضم بغيره. فقوله تعالى: " الذي له ملك السماوات والارض " واللام للاختصاص - يفيد أن السماوات والارض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة جهاتها ولا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم وأن الحكم فيها وإدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الاطلاق. وبذلك يظهر ترتب قوله: " ولم يتخذ ولدا " على ما تقدمه فإن الملك على الاطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لاحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره ولا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه والله سبحانه يملك كل شئ ويقوى على ما أراد، وإما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده والله سبحانه يملك كل شئ سرمدا ولا يعتريه فناء وزوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة وفيه رد على المشركين والنصارى. وكذا قوله تعالى بعده: " ولم يكن له شريك في الملك " فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الامور كلها وملكه تعالى عام لجميع الاشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، وفيه رد على المشركين.
[ 176 ]
وقوله تعالى: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " بيان لرجوع تدبير عامة الامور إليه تعالى وحده بالخلق والتقدير فهو رب العالمين لا رب سواه. بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الاسباب المتقدمة على الشئ والمقارنة له
استلزم ذلك ارتباط وجودات الاشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شئ وآثار وجوده حسب ما تقدره العلل والعوامل المتقدمة عليه والمقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل والعوامل المتقدمة والمقارنة وإذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للامر غيره فلا رب يملك الاشياء ويدبر أمرها غيره. فكونه تعالى له ملك السماوات والارض حاكما متصرفا فيها على الاطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، وقيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، وقيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك والتدبير فهو الرب عز شأنه. وملكه تعالى للسماوات والارض وإن استلزم استناد الخلق والتقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع وربوبيته للكل لا ينافي ملك الهتهم وربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع الوهيته رب لمربوبيته والله سبحانه ملك الملوك ورب الارباب وإله الآلهة. فلذلك لم يكف قوله: " الذي له ملك السماوات والارض " لاثبات اختصاص اللربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الاتيان بقوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا ". فكان قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات والارض يغنيه عن اتخاذ الولد والشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الاشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له ولما فوضه إليه وهذا هو الذي كانت تراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه والتقدير يلازمه وإذا اجتمع الزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شئ فليس مع ملكه ملك ولا مع ربوبيتة ربوبية. فقد تحصل أن قوله: " الذي له ملك السماوات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن
[ 177 ]
له شريك في الملك " مسوق لتوحيد الربوبية ونفي الولد والشريك من طريق إثبات الملك المطلق، وأن قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " تقرير وبيان لمعنى عموم الملك وأنه ملك متقوم بالخلق والتقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم وتدبير من غير أن يفوض شيئا من الامر إلى أحد من الخلق. وفي الآية والتي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى. قوله تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " الخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شئ ومقدره وأن له ملك السماوات والارض وهكذا كان يجب أن يكون الاله المعبود، أشار إلى ضلاله المشركين حيث عبدوا اصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم ولا مالكة شيئا لانفسهم ولا لغيرهم. وضمير " واتخذوا " للمشركين على ما يفيده السياق وإن لم يسبق لهم ذكر ومثل هذا التعبير يفيد التحقير والاستهانة. وقوله: " من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، وتوصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: " لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " إشارة إلى أن ليس لها من الالوهية ألا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشئ كما قال تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23.. ووضع النكرة في قوله: " لا يخلقون شيئا " في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه وهو خالق كل شئ وتعلقوا بأصنام لا يخلقون ولا شيئا من الاشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لاوهامهم، ونظير الكلام جار في قوله: " ضرا ولا نفعا " وقوله: " موتا ولا حياه ولا نشورا ". وقوله: " ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا " نفي للملك عنهم وهو ضروري
في الاله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر ويجلبوا إليهم النفع وإذ كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا حتى لانفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا وضلالا.
[ 178 ]
وبذلك يظهر أن في وقوع " لانفسهم " في السياق زيادة تقريع والكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لانفسهم ضرا حتى يدفعوه ولا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم ؟ وقد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله: " ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاؤا ولا حياة حتى يسلبوها عمن شاؤا أو يفيضوها على من شاؤا ولا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، وملك هذه الامور من لوازم الالوهية. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله ع عن القرآن والفرقان هما شيئان أو شئ واحد فقال: القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به. وفي الاختصاص للمفيد،: في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله ص قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا ؟ قال: نعم، قال: وأي كتاب هو، قال: الفرقان: قال ولم سماه ربك فرقانا ؟ قال: لانه متفرق الآيات والسور أنزل في غير الالواح وغيره من الصحف والتوراة والانجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الالواح والاوراق. قال: صدقت يا محمد. أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين. * * * وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤا ظلما وزورا - 4. وقالوا أساطير الاولين
اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا - 5. قل أنزله الذي يعلم
[ 179 ]
السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما - 6. وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا - 7. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا - 8. أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا - 9. تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا - 10. بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا - 11. إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا - 12. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا - 13. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا - 14. قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا - 15. لهم فيها ما يشاؤن خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا - 16. ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل - 17. قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا - 18. فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم
[ 180 ]
منكم نذقه عذابا كبيرا - 19. وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض
فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا - 20. (بيان) تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي ص وتجيب عنه. قوله تعالى: " قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون " الخ في التعبير بمثل قوله: " وقال الذين كفروا " من غير أن يقال: وقالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين. والمشار إليه بقولهم: " إن هذا " القرآن الكريم، وإنما اكتفوا بالاشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشئ من أوصافه إزراء به وحطا لقدره. والافك هو الكلام المصروف عن وجهه، ومرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي ص ونسبه إلى الله سبحانه. والسياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب وقد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حو يطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرؤن التوراة أسلموا وكان النبي ص يتعهدهم فقيل ما قيل. وقوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " قال في مجمع البيان: إن جاء وأتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما وكذبا، وقيل: إن ظلما منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد جاؤا بظلم، وقيل: حال والتقدير فقد جاؤا ظالمين وهو سخيف.
[ 181 ]
وفيه أيضا: ومتى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم ؟ قلنا: لما تقدم التحدي وعجزهم عن الاتيان بمثله اكتفى ههنا بالتنبيه على ذلك. انتهى والظاهر أن
الجواب عن قولهم: " إن هذا إلا إفك افتراه " - الخ، وقولهم: " أساطير الاولين اكتتبها " الخ، جميعا هو قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر " الخ، على ما سنبين والجملة أعني قوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " رد مطلق لقولهم وهو في معنى المنع مع السند وسنده الآيات المشتملة على التحدي. وبالجملة معنى الآية: وقال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد ص وقد نسبه إلى الله - افترى به على الله وأعانه على هذا الكلام قوم آخرون وهم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما وكذبا. قوله تعالى: " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " الاساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب ويغلب استعماله في الاخبار الخرافية والاكتتاب هو الكتابة ونسبته إليه ص مع كونه اميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الامير كتبت إلى فلان كذا وكذا وإنما كتبه كاتبه بأمره، والدليل على ذلك قوله بعد: " فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للاملاء، وقيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب. والاملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه ويعيه أو إلى الكاتب ليكتبه والمراد به في الآية هو المعنى الاول على ما يعطيه سياق " اكتتبها فهي تملي عليه " إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعه والاملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرا عليه وقتا بعد وقت وهو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه وحفظه. والبكرة والاصيل الغداة والعشي، وهو كناية عن الوقت بعد الوقت، وقيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم وآخر النهار بعد دخولهم في منازلهم وهو كناية عن أنها تملى عليه خفية. والآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه
وأعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الاولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت
[ 182 ]
بقراءة شئ بعد شئ عليه، وهو يقرؤها على الناس وينسبها إلى الله سبحانه. فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا، وربما قيل: إن قوله: " اكتتبها فهي تملى عليه " إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، وهو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الاولين، والسياق لا يساعد عليه. قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والارض إنه كان غفورا رحيما " أمر للنبي ص برد قولهم وتكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى وأنه أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت. وتوصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الامور وبواطنها في السماوات والارض للايذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، وفيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى وأنه من الاساطير وهو مما يعلمه تعالى. وقوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم وتأخير عقوبتهم على جناياتهم وتكذيبهم للحق وجراتهم على الله سبحانه. والمعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى ولا من الاساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرار خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم ولا تحيط بها أحلامكم، ورميكم إياه بالافك والاساطير وتكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم وأخر عقوبة جنايتكم لانه متصف بالمغفرة والرحمة وذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية. وفيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى ومن الاساطير بدعوى أنه منزل من عند
الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها. على أن التعليل بقوله: " إنه كان غفورا رحيما " إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الامهال والتأخير وإنما المناسب للامهال و التأخير من الاسماء هو مثل الحليم والعليم والحكيم دون الغفور الرحيم.
[ 183 ]
والاوفق لمقام المخاصمة والدفاع بإبانة الحق والتعليل بالمغفرة والرحمة أن يكون قوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليلا لانزال الكتاب وقد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهذه هي النبوة، ويكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات والارض للايماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة والرحمة الاهيتين لحالهم وهو طلبهم بفطرتهم وجبلتهم للسعادة والعاقبة الحسنى التى ليست حقيقتها إلا السعادة الانسانية بشمول المغفرة والرحمة وإن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا وزينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، وبطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الاولين. وتقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات والارض وهو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة وطلبا وانتزاعا للعاقبة الحسنى وحقيقتها فوز الدنيا والآخرة، وكان سبحانه غفورا رحيما ومقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم وبلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة. وهذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله ولا من قبيل الاساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم وتستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة والرحمة وإن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله ولو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة ولم يدع إلى محض الحق ولاختلفت
بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم ونفعكم وهو الذي يجلب اليكم المغفرة والرحمة، وتارة إلى ما هو شر لكم وضار وهو الذي يثير عليكم السخط الالهي ويستوجب لكم العقوبة. قوله تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه " الخ. وتعبيرهم عنه ص بقولهم: " هذا الرسول " مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء.
[ 184 ]
وقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، ومتلوث بقذاراتها، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شئ من ذلك. ومن هنا يظهر معنى قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الاسواق لا كتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، وليست إلا من شؤن الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: " لو شاء الله لانزل ملائكة " المؤمنون: 24 أو ما في معناه. ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم: " لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام
ويمشي في الاسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية، فإن تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك. وكذا قولهم: " أو يلقى إليه كنز " تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الاسواق في اكتساب ما يعيش به، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة. وكذا قولهم: " أو تكون له جنة يأكل منها " تنزل عما قبله في الاقتراح، والمعنى: وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه. قوله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله.
[ 185 ]
وقولهم: " إن تتبعون " الخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم وإغواء عن طريق الحق، ومرادهم بالرجل المسحور النبي ص يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب. قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " الامثال الاشباه وربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن " سورة محمد: 15، والمحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق فلا يصلح للرسالة لان الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق
له بالمادة ولا أقل من عدم احتياجه إلى الاسباب العادية في تحصيل المعاش، وكقولهم: إنه رجل مسحور. وقوله: " فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " أي تفرع على هذه الامثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ولا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، ومن سمى كتاب الله بالاساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه ؟ قوله تعالى: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا " الاشارة في قوله: " من ذلك " إلى ما اقترحوه من قولهم: " أو يكون له جنة يأكل منها " أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة. والقصور جمع قصر وهو البيت المشيد العالي، وتنكير " قصورا " للدلالة على التعظيم والتفخيم. والآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي ص واقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا وكذا بل عدل إلى قوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك " الخ.
[ 186 ]
وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ولا يصلحون لان يخاطبوا لانهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي ص لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، ولم يدع أن له قدره غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الاسراء، " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا
رسولا " أسرى: 93. فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه، وانما ذكر لنبيه ص أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار، ويجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه. وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، وقد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " الانعام: 9، وقوله: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95، وقوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، وقد تقدم تقرير حجة كل من الايات في ضمن تفسيرها. ومن هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات والقصور له ص جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة ورد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت وكيت وهم يريدون تعجيزك وتبكيتك وإن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار " الخ " وهي لا محالة في الدنيا وإلا لم ينقطع به الخصام. وبذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة وقصورها وأفسد منه قول آخرين ان المراد جعل جنات تجري من تحتها الانهار في الدنيا وجعل القصور في الآخرة، وربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: " ان شاء جعل " وهو
[ 187 ]
صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا، وفي القصور بقوله: " يجعل " وهو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، والاختلاف في التعبير تفنن فيه وتجديد لصورة الكلام والله العالم. قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا "، اضراب عن طعنهم فيه ص واعتراضهم عليه بأكل الطعام والمشي في الاسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك وردوا نبوتك لانك تأكل الطعام وتمشي في الاسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الاصلي في إنكارهم نبوتك وطعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة وأنكروا المعاد، ومن المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة ولا معنى للدين والشريعة لو لا المحاسبة والمجازاة. فالاشارة إلى السبب الاصلي بعد ذكر الاعتراض والاقتراح والجواب ههنا نظير ما وقع في سورة الاسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الاصلي في قوله: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ". وذكر جمع من المفسرين أن قوله: " بل كذبوا بالساعة " حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد والكتاب والرسالة في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " وقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك " الخ، وقوله: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل " الخ. ثم تشعبوا في نكتة الاضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، وقال بعضهم: إن إنكاره أعظم، وقال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك. والحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول ص والجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " الخ، وما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض
حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول والمجيبة عنه، وهو ظاهر. وقوله تعالى: " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " وضع الموصول والصلة مكان
[ 188 ]
الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم وغيرهم فيه سواء، وعلى أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة. ووضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص وأصرح فهو المناسب لمقام التهديد، والسعير النار المشتعلة الملتهبة. قوله تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " في المفردات: الغيظ أشد غضب - إلى أن قال - و التغيظ هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال:، سمعوا لها تغيظا وزفيرا " إنتهى، وفيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، إنتهى. والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالاسد يزأر إذا رأى فريسته. قوله تعالى: " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " " مكانا " منصوب بتقدير في، والثبور الويل والهلاك. والتقرين التصفيد بالاغلال والسلاسل وقيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين وهو بعيد من اللفظ. والمعنى وإذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار وهم مصفدون بالاغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف وهو قولهم: واثبوراه. قوله تعالى: " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " الاستغاثة بالويل والثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة وإذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل ولا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا ولذا قال تعالى:
" لا تدعوا اليوم " الخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم. فهو في معنى قوله تعالى: " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم " الطور: 16، وقوله حكاية عنهم: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " إبراهيم: 21. وقيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة. وهو بعيد. قوله تعالى: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله -
[ 189 ]
مسؤلا " الاشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه ص أن يسألهم أيهما أرحج السعير أم جنة الخلد ؟ والسؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل وهو دائر في المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان فيكلف ان يختار أحدهما فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، وان اختار الباطل افتضح. وقوله: " أم جنة الخلد " اضافة الجنة إلى الخلد وهو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: " خالدين " للدلالة على ان أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم. وقوله: " وعد المتقون " تقديره وعدها المتقون لان وعد يتعدى لمفعولين والمتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل. وقوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا " أي جزاء لتقواهم ومنقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: " إن المتقين في جنات وعيون إلى أن قال - وما هم منها بمخرجين " الحجر: 48: وهو من الاقضية التي قضاها يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له، ويتعين به جزاء المتقين ومصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر.
وقوله: " لهم فيها ما يشاؤن خالدين " أي انهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، ولا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه ويشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ: 54، ولا يحبون ولا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا وهو الذي يحبه الله لهم وهو ما يستحقونه من الخير والسعادة مما يستكملون به ولا يستضرون به لا هم ولا غيرهم فافهم ذلك. وبهذا البيان يظهر أن لهم اطلاق المشية يعطون ما شاؤا وأرادوا غير أنهم لا يشاؤن الا ما فيه رضى ربهم، ويندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم اطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي والقبائح والشنائع واللغو، وأن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، وأن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، وأن يريدوا مقامات الانبياء والمخلصين من الاولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.
[ 190 ]
كيف ؟ وقد قال تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله ومرضيون لا يريدون الا ما يرتضيه فلا يريدون معصية ولا قبيحا ولا شنيعا ولا لغوا ولا كذابا، ولا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، ولا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، ولا يشاؤن ولا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لان الذي خصهم بها هو ربهم وقد رضوا بما فعل وأحبوا ما أحبه. وقوله تعالى: " كان على ربك وعدا مسؤلا " أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، وانما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، وأخبر عن ذلك بمثل قوله: " وأن للمتقين لحسن مآب جنات
عدن - إلى أن - قال هذا ما توعدون ليوم الحساب " ص: 53. ووجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسؤلا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم واستعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائهم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: " ربنا وأدخلهم جنات عدن " - الخ المؤمن: 8 أو جميع هذه الاسئلة. وذكر الطبرسي " ره " في الآية أن قوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا حال من ضمير الجنة المقدر في " وعد المتقون "، وأن قوله: " لهم فيها ما يشاؤن " حال من " المتقون " وهو أقرب إلى الذهن من قول غيره أن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر. قوله تعالى: " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " إلى آخر الآية ضمائر الجمع الاربعة عائدة إلى الكفار، والمراد بما يعبدون الملائكة والمعبودون من البشر والاصنام ان كان " ما " أعم من غير اولي العقل، والا فالاصنام فقط. والمشار إليهم المعنيون بقوله: " عبادي هؤلاء " الكفار ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " الخ، جواب المعبودين عن قوله: " ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء " الخ، وقد بدؤا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.
[ 191 ]
وقوله: " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " أي ما صح وما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء وهم الذين عبدونا واتخذونا أولياء من دونك، وقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " البور جمع بائر وهو الهالك وقيل: الفاسد. لما نفى المعبودون المسؤولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الاضلال إلى أنفسهم
أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم وهو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين وقد متعتهم وآباؤهم من أمتعة الحياة الدنيا ونعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا وابتلاء فتمتعوا منها واشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك. فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا وانهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع وانصراف هممهم إلى الاشتغال بالاسباب وهو السبب لنسيانهم الذكر والعدول عن التوحيد إلى الشرك. فتبين بذلك أن قوله: " وكانوا قوما بورا " من تمام الجواب وأما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله واستفاد منه أن السبب الاصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، وليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، وإنما نسب إلى أنفسهم أدبا. ففيه أولا: إنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لا يراد الاستدراك بقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر " لكونه فضلا لا حاجة إليه. وثانيا: أن نسبة البوار والشقاء إلى ذوات الاشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم والتربية، والحس والتجربة يؤيدان ذلك، وهو يناقض القول بالاختيار والجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلان الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى وينفيه عن غيره ويناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الاشياء وماهياتها. وثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الاجبار فإن القضاء إنما تعلق
[ 192 ]
بالفعل بحدوده وهو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه
يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار. ورابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله وإنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا وبمثله صرحوا في نسبة المعاصي والاعمال القبيحة الشنيعة والفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الادب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، وبعبارة اخرى ظرافة الفعل، وإذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه ولا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق وكذبا وفرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح وإحياء باطل ؟ وأي ظرافة ولطف في الكذب والفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله ؟ والله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب والفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، وإذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه ؟ قوله تعالى: " فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا ولا نصرا " إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، وأما كلام المعبودين فقد تم في قوله: " وكانوا قوما بورا ". والمعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء وينصرونهم، وإذ كذبوكم ونفوا عن أنفسهم الالوهيه والولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، ولا تستطيعون نصرا لانفسكم بسببهم. والترديد بين الصرف والنصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم وهو الصرف. وعدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب وهو النصر.
وقرأ غير عاصم من طريق حفص " يستطيعون " بالياء المثناة من تحت وهي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، والمعني: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم
[ 193 ]
آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم ويتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا ولا نصرا. وقوله: " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " المراد بالظلم مطلق الظلم والمعصية وإن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: " ومن يظلم منكم " الخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، ولو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: " ونذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لانهم كلهم ظالمون ظلم الشرك ". والنكتة فيه الاشارة إلى أن الحكم الالهي نافذ جار لا مانع منه ولا معقب له كأنه قيل: وإن كذبكم المعبودون وما استطاعوا صرفا ولا نصرا فالحكم العام الالهي " من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " على نفوذه وجريانه لا مانع منه ولا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة. قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " إلى آخر الآية. أجاب تعالى عن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " الخ، أولا بقوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " الخ، مع ما يلحقه من قوله: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وهذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين وقد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق ولم يخلق لهم جنة يأكلون منها ولا ألقي إليهم كنز ولا أنزل معهم ملك، وهذا الرسول إنما هو كأحدهم ولم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره.
فالآية في معنى قوله: " قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلى " الاحقاف: 9، قريبة المعنى من قوله: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي " الكهف: 110. فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وتوجيهه إلى عامة
[ 194 ]
الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم قد حكى الله عنهم ذلك قال: " قالوا أبشر يهدوننا " التغابن: 6، وقال: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقال: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " المؤمنون: 33. قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل " الخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال وأما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وقوله قبل ذلك: " قل أنزل الذي يعلم السر " الخ، على ما تقدم من التقرير. ومن عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التى أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، وأما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: " انظر كيف ضربوا لك الامثال " هذا وهو خطأ. وقوله تعالى: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية ورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الالهية كإنزال ملك عليهم أو القاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: والسبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الايمان والمتبعون للاهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله
وسلوك سبيله. وبما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند المصائب. وثانيا: أن قوله: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " من وضع الحكم العام موضع الخاص، والمطلوب الاشارة إلى جعل الرسل - وحالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس. وقوله تعالى: " وكان ربك بصيرا " أي عالما بالصواب في الامور فيضع كل أمر
[ 195 ]
في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الانساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه ولازمه بسط نظام الامتحان بينهم ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم. وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، والنكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: " تبارك الذي إن شاء " الخ. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس إن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري والاسود بن المطلب وزمعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية ابن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا اليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تطلب ملكا ملكناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مابي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب اموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني اليكم رسولا، وأنزل على كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
[ 196 ]
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل. ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. فأنزل الله في قولهم ذلك " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام - إلى قوله - وجعلنا بعضكم لبعض فتنة. أتصبرون وكان ربك بصيرا " أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كذب على متعمدا فليتبو أمقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال: أما سمعتم الله يقول: " إذا رأتهم من مكان بعيد " فهل تراهم إلا بعينين ؟ أقول: ورواه أيضا عن رجل من الصحابة، وفي حجة الخبر خفاء. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يحيي بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول
الله: " وإذا القوا منها مكانا ضيقا مقرنين " قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. * * * وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا - 21. يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا - 22. وقد منا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - 23. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا - 24. ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا - 25. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا - 26. ويوم يعض الظالم على
[ 197 ]
يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا - 27. يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا - 28. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا - 29. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا - 30. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا - 31. (بيان) تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول وسائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته ويجد من نفسه ما يجده.
وهذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الانبياء الماضين كما حكاه الله: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقد مر تقريبه مرارا. وهذا مع ما تقدم من إعتراض بقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " الخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين ومحصل تقريره أن الرسالة التى يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية واتصالا غيبيا لا حظفيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، وإن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا ؟ فلولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وقد أجاب الله سبحانه عن الشق الاول بما تقدم تقريره، وعن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، والجواب في معنى قوله: " ما
[ 198 ]
ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 وسيجئ تقريره وفي الآيات إشارة إلى ما بعد الموت ويوم القيامة. قوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " قال في مجمع البيان: الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والامل، واللقاء المصير إلى الشئ من غير حائل، والعتو الخروج إلى أفحش الظلم. انتهى. المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقي في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الالهية كما قال تعالى: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ". فالمراد بعدم رجائهم اللقاء انكارهم للمعاد وتكذيبهم بالساعة ولم يعبر عنه بتكذيب الساعة ونحوه كما عبر في الآيات السابقة المكان ذكرهم مشاهدة الملائكة
ورؤية الرب تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا وطلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء وزعمهم استحالة ذلك فقد الزموا بما هو مستحيل على زعمهم. فقولهم: " لو لا أنزل الينا الملائكة أو نرى ربنا " إعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: " لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين " الحجر: 7، وتقرير الحجة كما تقدمت الاشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - وهي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله ونحن بشر امثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة ولا نرى ربنا ؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. ويؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة ورؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك. على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا وفيه تصديقه. وفي التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم والله سبحانه رب الارباب
[ 199 ]
فكأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك ترى أن الله ربك وقد نحن اليك فخصك بالمشافهة والتكليم، وأنه ربنا، فليحن الينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك. على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الاصنام وهم الملائكة وروحانيات الكواكب ونحوهم إلى عبادة الاصنام والتماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة والتقرب بالقرابين. وقوله تعالى: " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " أي أقسم لقد طلبوا الكبر لانفسهم بغير حق وطغوا طغيانا عظيما.
قوله تعالى: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " في المفردات: الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: " وقالوا هذه أنعام وحرث حجر " " ويقولون حجرا محجورا " كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا أن ذلك ينفعهم. انتهى. وعن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الاشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر وعن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة. فقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " يوم - على ما قيل - ظرف لقوله: " لا بشرى " وقوله: " يومئذ " تأكيد له، والمراد بقوله: " لا بشرى " نفي للجنس، والمراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك والمجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، وقد تقدم ذكرهم والمعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين وهم منهم. وقوله: " ويقولون حجرا محجورا " فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة وهم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، وقيل: ضمير الجميع للملائكة، والمعنى: ويقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجن أو حراما محرما
[ 200 ]
عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شئ فلا معاذ لكم هذا، والمعنى: الاول أقرب إلى السياق. والآية في موضع الجواب عن قولهم: " لولا أنزل إلينا الملائكة " وقد أعرضت
عن جواب قولهم: " أو نرى ربنا " فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم والمادية تعالى عن ذلك، وأما الرؤية بعين اليقين وهي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك وعلى تقديره ما كانوا يقصدونه. وأما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة ورؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الاخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الاخبار عن أصل رؤيتهم للاشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجرى على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار وذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الاخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب وهم يحسبون أنهم يعجزون الله ورسوله بالحجة. وأما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: " يوم يرون الملائكة " فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت وما بعده كقوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " الآية، الانعام: 93، وقوله: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات. أن المراد به الموت وهو المسمي في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة ويشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، والمتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه وهو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة وقوله لهم: حجرا محجورا، وقد رآهم قبل ذلك وعذب بأيديهم أمدا بعيدا وهو ظاهر.
[ 201 ]
فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، وإحباط أعمالهم فيه، وحال أهل الجنة التى فيه. قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال الراغب في المفردات: العمل كل فعل كون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لان الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم البقر العوامل. انتهى. وقال: الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. والنثر التفريق. والمعنى: وأقبلنا إلكل عمل عملوه - والعمل هو الذي يعيش به الانسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، والكلام مبنى على التمثيل مثل به استيلاء القهر الالهي جميع أعمالهم التى عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخر بالدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والاثاث فأفنى منه كل عين وأثر. ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الاعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الاحباط بعد الموت ظهور الحبطلهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع. قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون "، والمستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي
الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - والجنة لا نوم فيه. و كلمتا " خير " و " أحسن " منسلخان عن معنى التفضى كما في قوله تعالى: " وهو أهون عليه " الروم: 27، وقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 كذا قيل، وليس يبعد أن يقال: إن " أفعل " أو ما هو في معناه كخير بناء على ما
[ 202 ]
رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل والعناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك والاجرام واستحسنوا ذلك ولازمه النار في الآخرة فقد اثبتوا لها خيرية وحسنا فقوبلوا بأن الجنة وما فيها خير وأحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار وأن يختاروا الايمان على الكفر على أي حال، وقيل: إن التفضيل مبني على التهكم. قوله تعالى: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، والمعنى واذكر يوم كذا وكذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا وهذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: " الملك يومئذ الحق للرحمان "، وقيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها. و " تشقق " أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم والتشقق التفتح، والغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر. والباء في قوله: " تشقق السماء بالغمام " أما للملابسة والمعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، وإما بمعني عن والمعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه. وكيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها ونزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها " الحاقة: 17. وليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم
السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الارضي موطن الانسان. وقيل: المراد أن السماء يشقها الغمام وهو الذي يذكره في قوله: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور " البقرة: 210، وقد مر كلام في تفسير الآية. والتعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح وما يماثله للتهويل، وكذا التنوين في قوله: " تنزيلا " للدلالة على التفخيم. قوله تعالى: " الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا " أي
[ 203 ]
الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمان وذلك لبطلان الاسباب وزوال ما بينها وبين مسبباتها من الروابط المتنوعة، وقد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك والحكم لله والامر إليه وحده، وأن لا إستقلال في شئ من الاسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة ورجوع كل شي إليه تعالى. وقوله: " وكان يوما على الكافرين عسيرا " الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الاسباب وإخلادهم إلى الحياة الارضية البائدة الداثرة وانقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة وعن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم ولا ملاذ لهم ولا معاذ. فعلى هذا يكون الملك مبتدأ والحق خبره عرف لافادة الحصر، ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ، وفائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الامر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، وإنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الاشياء فيه وثبوته لها في غيره. وقال بعضهم: الملك بمعنى المالكية ويومئذ متعلق به والحق خبر الملك، وقيل:
يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، وقيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، وقيل: يومئذ هو الخبر للملك والحق صفة للمبتدأ، وهذه أقوال ردية لا جدوي لها. قوله تعالى: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا " قال الراغب في المفردات: العض ازم بالاسنان، قال تعالى: " عضوا عليكم الانامل " و " ويوم يعض الظالم " وذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك. انتهى. ولذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: " يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ". والظاهر أن المراد بالظالم جنسه وهو كل من لم يهتد بهدي الرسول، وكذا المراد بالرسول جنسه وإن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الامة والرسول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: واذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.
[ 204 ]
قوله تعالى: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا " تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، وفلان كناية عن العلم المذكر وفلانة عن العلم المؤنث، قال الراغب: فلان وفلانة كنايتان عن الانسان، والفلان والفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات. انتهى. والمعنى: يا ويلتي - يا هلاكي - ليتني لم اتخذ فلانا - وهو من اتخذه صديقا يشاوره ويسمع منه ويقلده - خليلا. وذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، وكأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للانسان غير أن السياق لا يساعد عليه. ومن لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: " ياليتني اتخذت " الخ وفي هذه الآية: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ " الخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء والاستغاثة
فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء وذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شئ قط إلا الهلاك والفناء، ولذلك نادى الويل. قوله تعالى: " لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا " تعليل للتمني السابق، والمراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية وينطبق بحسب المورد على القرآن. وقوله: " وكان الشيطان للانسان خذولا " من كلامه تعالى ويمكن أن يكون تتمة الكلام الظالم ذكره تأسفا وتحسرا. والخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصرنصرته، وخذلانه أنه يعد الانسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالاسباب ونسي ربه فلما تقطعت الاسباب ظهور القهر الالهي يوم الموت جزئيا ويوم القيامة كليا خذله وسلمه إلى الشقاء، قال تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك " الحشر: 16، وقال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: " ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل " إبراهيم: 22. وفي هذه الآيات الثلاث اشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الاهواء وأولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.
[ 205 ]
قوله تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ذكر القرآن، وعبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته وإرغاما لاولئك القادحين في رسالته وكتابه والهجر بالفتح فالسكون الترك. وظاهر السياق أن قوله: " وقال الرسول " الخ معطوف على " يعض الظالم " والقول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث والشكوى، وعلى هذا
فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع، والمراد بالقوم عامة العرب بل عامة الامة باعتبار كفرتهم وعصاتهم. وأما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " وكون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق، وعليه فلفظة قال على ظاهر معناها والمراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه. ونظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان وهو ظاهر. قوله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا " أي كما جعلنا جؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبى عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الانبياء وأممهم فلا يسوءنك ما تلقى من عداوتهم ولا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى: جعل العدومن المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة. وقوله: " وكفى بربك هاديا ونصيرا "، معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم وعداوتهم ولا تخافنهم على اهتداء الناس ونفوذ دينك فيهم وبينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية واستعد له وإن كفر هؤلاء وعتوا فليس اهتداء الناس منوطا بإهتدائهم وكفى به نصيرا ينصرك وينصر دينك الذي بعثك به وإن هجره هؤلاء ولم ينصروك ولا دينك فالجملة مسوقة لاظهار الاستغناء عنهم. فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذيله للاستغناء عن المجرمين من
[ 206 ]
قومه، وفي قوله: " وكفى بربك " حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير
الخطاب ولم يقل: وكفى بالله تأييد له. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن كتاب الجنة والنار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره وقيل: " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " وذلك قوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " فيقولون حراما عليكم الجنة محرما (1). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق والفاريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن على بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شئ فجعل الله أعمالهم كذلك. فيه أخرج سمويه في فوائدة عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جئ بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار. قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شئ من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم. وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا قال: أما والله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.
(1) محرمة ظ. (*)
[ 207 ]
أقول: وهذا المعنى مروي فيه وفي غيره عنه وعن أبيه عليه السلام بغير واحد من الطرق. وفي الكافي أيضا بإسناده عن عبد الاعلى وبإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث وضع المؤمن في قبره. ثم يفسحان يعنى الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ". أقول: والرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، وتشير بقوله: ويقال له: نم " الخ " إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه. وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله وعليه واله وسلم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء. فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله عليه السلام إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: إطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم من طعامه. فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة ؟ - وكان خليله - فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبي أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضي عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل من الاسارى يومئذ غيره. أقول: وقد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: " يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا "، أن السبيل هو علي عليه السلام وهو من بطن القرآن أو من
قبيل الجري وليس من التفسير في شئ.
[ 208 ]
* * * وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا - 32. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا - 33. الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا - 34. ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هرون وزيرا - 35. فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا - 36. وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما - 37. وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا - 38. وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا - 39. ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا - 40. (بيان) نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن وهو أنه لم ينزل جملة واحدة والجواب عنه. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " المراد بهم مشركون العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك إفتراه " الخ.
[ 209 ]
وقوله: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " قد تقدم أن الانزال والتنزيل إنما يفترقان في أن الانزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن
التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لادائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعه غير مفرق كما أنزل التوراة والانجيل والزبور. لكن ينبغى أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في الواح والقرآن إنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الامين كما يتلقي السامع الكلام من المتكلم، والدفعة في إيتاء كتاب مكتوب وتلقيه تستلزم المعية بين أو له وآخره لكنه إذا كان بقراءة وسماع لم يناف التدريج بين أجزائه وأبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارئ و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا. وهؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وهو تلقي الآيات بالفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة بعد سورة وآية بعد آية ويتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحده وليتلقه هو مرة واحدة ولو دامت القراءة ولتلقي مدة من الزمان، وهذا المعني أوفق بالتنزيل الدال على التدريج. وأما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة وكذا الانجيل والزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك. على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة. وكيف كان فقولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة إعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس وقد بعث رسولا
[ 210 ]
يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله وفروعه مجموعة فرائضه وسننه وكان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض. وليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وحوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشئ من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله ويدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه وليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، وليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل. هذا تقرير إعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض والجواب. قوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " الثبات ضد الزوال، والاثبات والتثبيت بمعنى واحد والفرق بينهما بالدفعة والتدريج، والفؤاد القلب والمراد به كما مر غير مرة الامر المدرك من الانسان وهو نفسه، والترتيل - كما قالوا - الترسيل والاتيان بالشئ عقيب الشئ، والتفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول. وظاهر السياق أن قوله: " كذلك " متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: " لنثبت " ويعطف عليه قوله: " ورتلناه " والتقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، وقول بعضهم: إن " كذلك " من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا. فقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة وبيان ذلك أن تعليم علم من العلوم وخاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله وأبوابه إنما يفيد حصولا ما
لصور مسائله عند المتعلم وكونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، وأما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها وتترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة والاشراف على العمل وحضور وقته. ففرق بين بين أن يلقى الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء
[ 211 ]
فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل. ومن هنا يظهر أن القاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد إستقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للاذعان إذا أحست بالحاجة. ثم إن المعارف التى تتضمنها الدعوة الاسلاميه الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الانسانية مبنية على الاخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الالهية التى تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد انتهي بالتركيب إليها ثم إلى الاخلاق والاحكام العملية. فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقي هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين. وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وهذا هو المراد بقوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك " والله أعلم.
نعم يبقى عليه شئ وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمداد للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة. وقد أجاب تعالى عنه بقوله: " ورتلناه ترتيلا " فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا نقطع آثار الابعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها أثر بعض مترتبة مرتلة.
[ 212 ]
على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والاديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقد يسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الانبياء وما بثوه من معارف المبدء والمعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك. وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسائلهم تدريجا، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شئ وحينا بعد حين. وإلى هذا يشير قوله تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساؤا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الاحسن يرده
إلى مستواه ويقومه. فتبين بما تقدم أن قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك - إلى قوله - وأحسن تفسيرا " جواب عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي. وثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المثل والوصف الباطل، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه. ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " فهو كالمتمم للجواب على ما سيجئ بيانه. تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما
[ 213 ]
أو ردوه من القدح في القرآن هذا، والمفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جوابا عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " وقوله: " ورتلناه ترتيلا " خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ارتباط بما تقدمه. وجعلوا قوله: " ولا يأتونك بمثل " الخ، كالبيان لقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " وأيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله بين الحق فيه وجاء بأحسن التفسير وقيل غير ذلك وجعلوا قوله: " الذين يحشرون " الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية. والتأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الاوليين وما سيأتي من معنى الآية
الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، ويظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي. وذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم وإقتراحهم بقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد وأن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، وقد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لانها أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤن فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا. ومنها: أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، وأما القرآن فبينة صحته وآية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي. ولا ريب أن مدار الاعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الاحوال، ومن ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.
[ 214 ]
ومنها: أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة والمنافاة، وفيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وفيه ما هو إنكار لبعض ما كان، وفيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، وفيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالاخبار عن فتح مكة ودخول المسجد الحرام، والاخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا. وهذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الاول: فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع النزول
جملة واحدة، وقد كان معه من يكتبه ويحفظه. على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان ويحفظ الذكر النازل عليه كما قال: " سنقرئك فلا تنسى " الاعلى: 6، وقال: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9، وقال: " إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة: 42، وقدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء. وأما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا أن اشتمل عليها الكلام كان بليغا وإلا فلا، كذلك الكلام الجملي وإن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله وأجزائه أحوال لها اقتضاءات أن طابقها كان بليغا وإلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة. وأما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق وإنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين المنسوخ و الناسخ بالاشارة إلى أن الحكم الاول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك. ومن الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التى سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال ولو سألوا عن شئ منها أرجعوا إلى سابق البيان، وكذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشئ من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر. على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم والمصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.
[ 215 ]
فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شئ من هذه الوجوه البتة. قوله تعالى: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين
في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروه واصفين له بسوء المكانة وضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكي من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، وإنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد ليهم بطريق التكنية. فقوله: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم " كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفوا، والكناية أبلغ من التصريح. فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا وأضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، ولفظتا " شر " و " أضل " منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم ونحوه. وقد كني عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم وهو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأوا هم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا " الخ، أسرى: 98. ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان وأليم العذاب وأيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الانسان على وجهه وهو لا يشعر بما في قدامه، وهذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم مثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، ولا يبتلى بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا. وقد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، وذكر في مجمع البيان أنهم قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين: أنهم شر خلق الله فقال الله تعالى:
[ 216 ]
" أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " وذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: " أصحاب
الجنة يومئذ خير ستقرا وأحسن مقيلا " وقد عرفت ما يلوح من السياق. وقد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: وهو على ظاهره وهو الانتقال مكبوبا، وقيل: هو السحب. وقيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا وهو خلاف المشي على الاستقامة وفيه أن الاولى حينئذ التعبير بالحشر على الرؤوس لا على الوجوه، وقد قال تعالى في موضع آخر وهو كتوصيف ما يجري بهذا الحشر: " يوم يسحبون في النار على وجوههم " القمر: 48. وقيل: المراد به فرط الذلة الهوان والخزي مجازا. وفيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة. وقيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب ؟ وفيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه ولا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: " إلى جهنم ". وقيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، والمراد أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها. وأورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وتعلق القلوب بها، ولعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم وعليهم. وفيه أن مقتضي آيات تجسم الاعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا والتوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا " استشهاد على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به وبكتابه برسالة موسى وإيتائه الكتاب وإشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون وإهلاكهم، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا " قال
[ 217 ]
في مجمع البيان: التدمير الاهلاك الامر عجيب، ومنه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه. انتهى. والمراد بالآيات آيات الآفاق والانفس الدالة على التوحيد التى كذبوا بها، وذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى ع ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الامر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكي بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم. نتهى. وهو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى عليه السلام. ووجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بتنظير الامر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب وأرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا. ولهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم وتدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون وجنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الاشارة إلى إيتاء الكتاب والرسالة موسى وتدمير القوم بالتكذيب. وقيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: " وكفى بربك هاديا ونصيرا " وهو بعيد. قوله تعالى: " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما " الظاهر أن قوله: " قوم نوح " منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: " أغرقناهم ".
والمراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب لجميع لا تفاقهم على كلمة الحق. على أن هؤلاء الامم كانوا أقواما وثنيين وهم ينكرون النبوة ويكذبون الرسالة من رأس. وقوله: " وجعلناهم للناس آية " أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، والباقي ظاهر.
[ 218 ]
قوله تعالى: " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا " قال في مجمع البيان: الرس البئر التى لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، وقيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك. وقوله: " وعادا " الخ معطوف على " قوم نوح " والتقدير: ودمرنا أو وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس " الخ ". وقوله: " وقرونا بين ذلك كثيرا " القرن أهل عصر واحد وربما يطلق على نفس العصر والاشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الاقوام أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، والمعنى ودمرنا أو وأهلكنا عادا وهم قوم هود، وثمود وهم قوم صالح، وأصحاب الرس، وقرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم وهم قوم نوح فمن بعدهم. قوله تعالى: " وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا " كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: " ضربنا له الامثال " فإن ضرب الامثال في معنى التذكير والموعظة والانذار، والتتبير التفتيت، ومعنى الآية. قوله تعالى: " ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا " هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل وقد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة.
قوله: " أفلم يكونوا يرونها " استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام. وقوله: " بل كانوا لا يرجون نشورا " أي لا يخافون معادا أو كانوا آئسين من المعاد، وهذا كقوله تعالى فيما تقدم: " بل كذبوا بالساعة " والمراد به أن المنشأ الاصيل لتكذيبهم بالكتاب والرسالة وعدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية وعدم إعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة ولا تقع في قلوبهم حكمة ولا موعظة.
[ 219 ]
(بحث روائي) في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين عليهما السلام حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشن آب وكان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: أبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها أشتق العجم أسماء شهور هم. وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التى عند الصنوبرة، وحرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم ومن شرب منه قتلوه ويقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التى خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند إرتفاع دخانها سطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون والشيطان يكلمهم من الشجرة.
وهذا دأبهم في القري حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التى كان يسكنها ملكهم واسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا وعيدوا إثنى عشر يوما، وجاؤا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة وكلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الاعياد من سائر الشجر. ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عباده الله وترك الشرك برهه فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلمار أوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها وشدوا رأسها فلم
[ 220 ]
يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبي عبد الله عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته إمرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عزوجل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: وأين هو ؟ قال: هن الرس. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي وابن عساكر عن جعفر بن محمد بن على أن إمرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله ؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، وهن صواحب الرس، وكل نهر وبئر رس. قال: يقطع لهن جلباب من نار، ودرع من نار، ونطاق من نار، وتاج من
نار وخفان من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علموا هذا نساءكم. أقول: وروى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام ما في معناه. وفي تفسير القمي بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " وكلا تبرنا تتبيرا " يعني " كسرنا تكسيرا " قال: هي لفظة بالنبطية. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأما القرية التى أمطرت مطر السوء فهى سدو قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين. * * * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا - 41. إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها
[ 221 ]
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا - 42. أرأيت من اتخذ إله هواه أفأنت تكون عليه وكيلا - 43. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا - 44. ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا - 45. ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا - 46. وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا - 47. وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا - 48. لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا - 49. ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا - 50. ولو شئنا لبعثنا في كل قرية
نذيرا - 51. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا - 52. وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرأت وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا - 53. وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا - 54. ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا - 55. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا - 56. قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا - 57. وتوكل على الحي
[ 222 ]
الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا - 58. الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا - 59. وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا - 60. تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا - 61. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا - 62. (بيان) تذكر الآيات بعض صفات أولئك الكفار القادحين في الكتاب والرسالة والمنكرين للتوحيد والمعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم واقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم الهوى وعبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم واستكبارهم عن السجود لله سبحانه. قوله تعالى: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا " ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم، والهزؤ الاستهزاء والسخرية فالمصدر بمعنى
المفعول، والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوا به. وقوله: " أهذا الذي بعث الله رسولا " بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك. قوله تعالى: " إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها " الخ " إن " مخففة من الثقيلة والاضلال كأنه مضمن معنى الصرف ولذا عدي بعن، وجواب لو لا محذوف
[ 223 ]
يدل عليه ما تقدمه، والمعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها. وقوله: " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا " توعد وتهديد منه تعالى لهم وتنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين بالضلال والغي. قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا " الهوي ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، والمراد باتخاذ الهوى إلها طاعته واتباعه من دون الله وقد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني " يس: 61. وقوله: " أفأنت تكون عليه وكيلا " استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله: " إنك لا تهدي من أحببت " القصص: 56، وقوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " الفاطر: 22، والآية كالاجمال للتفصيل الذي في قوله: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " الجاثية: 23. ويظهر مما تقدم من المعنى إن قوله: " اتخذ إلهه هواه " على نظمه الطبيعي أي
إن " اتخذ " فعل متعد إلى مفعولين و " إلهه " مفعوله الاول و " هواه " مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق وذلك أن الكلام حول شرك المشركين وعدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام، وإعراضهم عن طاعة الحق التى هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك، وهؤلاء يسلمون أن لهم إلها مطاعا وقد أصابوا في ذلك، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعا بدلا من أن يتخذوا الحق مطاعا فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم. ومن هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن " هواه " مفعول أول لقوله " اتخذ " و " إلهه " مفعول ثان مقدم، وإنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور
[ 224 ]
عليه أمر التعجيب في قوله: " أرأيت من اتخذ " الخ، كما قاله بعضهم، أو إنما قدم للحصر على ما قاله آخرون، ولهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله. قوله تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا " أم منقطعة، والحسبان بمعنى الظن وضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. والترديد بين السمع والعقل من جهة أن وسيلة الانسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه أن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد السمع أو عقل فالآية في معنى قوله: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير "، الملك: 10. والمعنى: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو إهتداءهم فتبالغ في دعوتهم. وقوله: " إن هم إلا كالانعام " بيان للجملة السابقة فإنه في معنى: أن أكثرهم
لا يسمعون ولا يعقلون فتنبه أنهم ليسوا إلا كالانعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى. وقوله: " بل هم أضل سبيلا " أي من الانعام وذلك أن الانعام لا تقتحم على ما يضرها وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم، وأيضا الانعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا. واستدل بعضهم بالآية على أن الانعام لا علم لها بربها. وفيه أن الآية لا تنفي عنها ولا عن الكفار أصل العلم بالله وإنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الانسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى، وتشبههم في ذلك بالانعام التى لم تجهز بهذا النوع من الادراك. وأما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.
[ 225 ]
قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا " هاتان الآيتان وما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظ ير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الاربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد وإنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله وأما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع ولا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله. فهى تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه وبينات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه وهو على صراط مستقيم، وذلك كمد الظل وجعل الشمس، دليلا عليه تنسخه، وكجعل الليل لباسا والنوم سباتا والنهار نشورا، وكجعل الرياح بشرا وإنزال المطر وإحياء الارض الميتة وإرواء الانعام والاناسي به. ثم ما مثل المؤمن والكافر في اهتداء هذا وضلال ذاك - وهم جميعا عباد الله
يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل المائين العذب الفرات والملح الاجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخا وحجرا محجورا، وكالماء خلق الله سبحانه منه بشرا ثم جعله نسبا وصهرا فاختلف بذلك المواليد وكان ربك قديرا. هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات وخصوصيات نظمها، وبه يظهر وجه إتصالها بما تقدمها، وأما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم فالسياق لا يساعد عليه وسنزيد لك أيضاحا. فقوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا " تنظير - كما تقدمت الاشارة إليه - لشمول الجهل والضلال للناس ورفعه تعالى ذلك بالرسالة والدعوة الحقة كما يشاء ولازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئا فشيئا من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الافق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل، وهو في جميع أحواله متحرك ولو شاء الله لجعله ساكنا. وقوله: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " والدليل هي الشمس من حيث دلالتها
[ 226 ]
بنورها على أن هناك ظلا وبانبساطه شيئا فشيئا على تمدد الظل شيئا فشيئا ولولاها لم يتنبه لوجود الظل فإن السبب العام لتمييز الانسان بعض المعاني من بعض تحول الاحوال المختلفة عليه من فقدان ووجدان فإذا فقد شيئا كان يجده تنبه لوجود وإذا وجد ما كان يفقده تنبه لعدمه، وأما الامر الثابت الذي لا تتحول عليه الحال فليس إلى تصوره بالتنبه سبيل. وقوله: " ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا " أي أزلنا الظل بإشراق الشمس وارتفاعها شيئا فشيئا حتى ينسخ بالكلية، وفي التعبير عن الازالة والنسخ بالقبض،
وكونه إليه، وتوصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الالهية وأنها لا يشق عليها فعل، وأن فقدان الاشياء بعد وجودها ليس بالانعدام والبطلان بل بالرجوع إليه تعالى. وما تقدم من تفسير مد الظل بتمديد الفئ بعد زوال الشمس وإن كان معنى لم يذكره المفسرون لكن السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره مما ذكره المفسرون كقول بعضهم: إن المراد بالظل الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقول بعض: ما بين غروب الشمس وطلوعها، وقول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، وقول بعض - وهو أسخف الاقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء وجعلها كالقبة ثم دحا الارض من تحتها فألقت ظلها عليها. وفي الآية أعني قوله: " ألم تر إلى ربك " الخ، التفات من سياق التكلم بالغير في الآيات السابقة إلى الغيبة، والنكتة فيه أن المراد بالآية وما يتلوها من الآيات بيان أن أمر الهداية إلى الله سبحانه وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الامر شئ وهو تعالى لا يريد هدايتهم وأن الرسالة والدعوة الحقة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال ونسخها متنسخ منه من شعب السنة العامة الالهية في بسط الرحمة على خلقه نظير إطلاع الشمس على الارض ونسخ الظل الممدود فيها بها، ومن المعلوم أن الخطاب المتضمن لهذه الحقيقة مما ينبغي أن يختص به صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، وأما الكفار المتخذون إلههم هواهم وهم لا يسمعون ولا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.
[ 227 ]
وفي قوله: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا " رجوع إلى السياق السابق، وفي ذلك مع ذلك من إظهار العظمة والدلالة على الكبرياء ما لا يخفي. والكلام في قوله الآتي: " وهو الذي جعلكم الليل " الخ، وقوله: " وهو
الذي أرسل الرياح "، وقوله: " وهو الذي مرج البحرين "، وقوله: " وهو الذي خلق من الماء بشرا " كالكلام في قوله: " ألم تر إلى ربك " والكلام في قوله: " وأنزلنا من السماء ماء " الخ، وقوله: " ولقد صرفناه بينهم "، وقوله: " ولو شئنا لبعثنا "، كالكلام في قوله: " ثم جعلنا الشمس ". قوله تعالى: " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " كون الليل لباسا إنما هو ستره الانسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه. وقوله: " والنوم سباتا " أي قطعا للعمل، وقوله: " وجعل النهار نشورا " أي جعل فيه الانتشار وطلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين. وحال ستره تعالى الناس بلباس الليل وقطعهم به عن العمل والحركة ثم نشرهم للعمل والسعي بإظهار النهار وبسط النور كحال مد الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا وقبض الظل بها إليه. قوله تعالى: " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا " البشر بالضم فالسكون مخفف بشر بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي هو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهي المطر. وقوله: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " أي من جهة العلو وهي جو الارض ماء طهورا أي بالغا في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يزيل الاوساخ ويذهب بالارجاس والاحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -. قوله تعالى: " لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا "، البلدة معروفة قيل: وأريد بها المكان كما في قوله: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " الاعراف: 58، ولذا اتصف بالميت وهو مذكر والمكان الميت ما لا نبات فيه وإحياؤه إنباته، والاناسي جمع إنسان، ومعنى الآية ظاهر.
[ 228 ]
وحال شمول الموت الارض والحاجة إلى الشرب والري للانعام والاناسي ثم إنزاله تعالى من السماء ماء طهورا ليحيي به بلدة ميتا ويسقيه أنعاما وأناسى كثيرا من خلقه كحال مد الظل ثم الدلالة عليه بالشمس ونسخه بها كما تقدم. قوله تعالى: " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " ظاهر إتصال الآية بما قبلها أن ضمير " صرفناه " للماء وتصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة وعن غيرهم إليهم أخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا ولا ينقطع عن قوم دائما فيهلكوا بل يدور بينهم حتى ينال كل نصيبه بحسب المصلحة، وقيل: المراد التصريف التحويل من مكان إلى مكان. وقوله: " ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " تعليل للتصريف أي وأقسم لقد صرفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكروا فيشكروا فأبى وامتنع أكثر الناس إلا كفران النعمة. قوله تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا " أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية نذيرا ينذرهم ورسولا يبلغهم رسالاتنا لبعثنا ولكن بعثناك إلى القرى كلها نذيرا ورسولا لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسرت الآية ولا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، وهذا المعنى لما وجهنا به اتصال الآيات أنسب. أو أن المراد أنا قادرون على أن نبعث في كل قرية رسولا وإنما اخترناك لمصلحة في اختيارك. قوله تعالى: " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا " متفرع على معنى الآية السابقة، وضمير " به " للقرآن بشهادة سياق الآيات، والمجاهدة والجهاد بذل الجهد والطاقة في مدافعة العدو وإذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم وبيان حقائقه لهم وإتمام حججه عليهم. فمحصل مضمون الآية أنه إذا كان مثل الرسالة الالهية في رفع حجاب الجهل
والغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحق لهم وإتمام الحجة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظل الممدود ونسخه بأمر الله، ومثل النهار بالنسبة إلى الليل وسبته، ومثل المطر بالنسبة إلى الارض الميتة والانعام والاناسي الظامئة، وقد بعثناك لتكون
[ 229 ]
نذيرا لاهل القرى فلا تطع الكافرين لان طاعتهم تبطل هذا الناموس العام المضروب للهداية. وابذل مبلغ جهدك ووسعك في تبليغ رسالتك وإتمام حجتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقة وجاهدهم به مجاهدة كبيرة. قوله تعالى: " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا " المرج الخلط ومنه أمر مريج أي مختلط، والعذب من الماء ما طاب طعمه، والفرات منه ما كثر عذوبته، والملح هو الماء المتغير طعمه. والاجاج شديد الملوحة، والبرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين، وحجرا محجورا أي حراما محرما أن يختلط أحد الماءين بالآخر. وقوله: " وجعل بينهما " الخ قرينة على أن المراد بمرج لبحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الاجزاء بعضها ببعض. والكلام معطوف على ما عطف عليه قوله: " وهو الذي أرسل الرياح " الخ، وفيه تنظير لامر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين وهما مع ذلك غير متمازجين كما تقدمت الاشارة إليه في أول الآيات التسع. قوله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا " الصهر على ما نقل عن الخليل الختن وأهل بيت المرأة فالنسب هو التحرم من جهة الرجل والصهر هو التحرم من جهة المرأة - كما قيل - ويؤيده المقابلة بين النسب والصهر.
وقد قيل: إن كلا من النسب والصهر بتقدير مضاف والتقدير فجعله ذا نسب وصهر، والضمير للبشر، والمراد بالماء النطفة، وربما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الذي خلق الله منه الاشياء الحية كما قال: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " الانبياء: 30. والمعنى: وهو الذي خلق من النطفة - وهي ماء واحد - بشرا فقسمه قسمين ذا نسب وذا صهر يعني الرجل والمرأة وهذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة والتفرق في عين الاتحاد وهكذا يحفظ
[ 230 ]
اختلاف النفوس والآراء بالايمان والكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقة. وقوله: " وكان ربك قديرا " في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدم في قوله: " ألم تر إلى ربك ". قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا " معطوف على قوله: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا ". والظهير بمعنى المظاهر على ما قيل والمظاهرة المعاونة. والمعنى: ويعبدون - هؤلاء الكفار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة ولا يضرهم بإيصال الشر على تقدير ترك العبادة وكان الكافر معاونا للشيطان على ربه. وكون هؤلاء المعبودين وهم الاصنام ظاهرا لا ينفعون ولا يضرون لا ينافي كون عبادتهم مضرة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شئ نفي الضرر عن عبادتهم المضرة المؤدية للانسان إلى شقاء لازم وعذاب دائم. قوله تعالى: " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " أي لم نجعل لك في رسالتك
إلا التبشير والانذار وليس لك وراء ذلك من الامر شئ فلا عليك إن كانوا معاندين لربهم مظاهرين لعدوه عليه فليسوا بمعجزين لله وما يمكرون إلا بأنفسهم، هذا هو الذي يعطيه السياق. وعليه فقوله: " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " هذا الفصل من الكلام نظير قوله: " أفأنت تكون عليه وكيلا " في الفصل السابق. ومنه يظهر أن أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال والمراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد. قوله تعالى: " قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " ضمير " عليه " للقرآن بما أن تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى: " إن هذه
[ 231 ]
تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " المزمل: 19، الدهر: 29، وقال: " قل ما أسألكم عليه أجرا وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين " ص: 87. وقوله: " إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " استثناء منقطع في معنى المتصل فإنه في معنى إلا أن يتخذ إلى ربه سبيلا من شاء ذلك على حد قوله تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء: 89، أي إلا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به. ففيه وضع الفاعل وهو من اتخذ السبيل موضع فعله وهو اتخاذ السبيل شكرا له ففي الكلام عد اتخاذهم سبيلا إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجرا لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر مالي أو جاهي منهم، وأنه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة واتباعهم للحق شيئا آخر من مال أو جاه أو أي أجر مفروض فليطيبوا نفسا ولا يتهموه في نصيحته.
وقد علق اتخاذ السبيل على مشيتهم للدلالة على حريتهم الكاملة عن قبله صلى الله عليه وآله وسلم فلا إكراه ولا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربه وراء التبشير والانذار وليس عليهم بوكيل بل الامر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء. فقوله: " قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ " الخ بعد ما سجل لنبيه ص أن ليس له إلا الرسالة بالتبشير والانذار يأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا أن يستجيبوا له ويتخذوا إلى ربهم سبيلا من غير غرض زائد من الاجر أياما كان، وأن لهم الخيرة في أمرهم من غير أي إجبار وإكراه فهم والدعوة إن شاؤا فليؤمنوا وإن شاؤا فليكفروا. هذا ما يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر ولا تحميل عليهم إكراه أو انتقام منهم بنكال، وأما ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه وليتوكل عليه كما أشار إليه في الآية التالية: " وتوكل على الحي الذي لا يموت ". وذكر جمهور المفسرين أن الاستثناء منقطع، والمعنى لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي بالانفاق القائم مقام الاجر كالصدقة والانفاق في سبيل الله فليفعل، وهو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة ولا من جهة السياق.
[ 232 ]
وقال بعضهم: إنه متصل والكلام بحذف مضاف والتقدير إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالايمان والطاعة حسبما أدعو اليهما. وفيه أخذ استجابتهم له أجرا لنفسه وقطعا لشائبة الطمع بالكلية وتطييبا لانفسهم، ويرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدمناه ويمتاز منه بتقدير مضاف والتقدير خلاف الاصل. وقال آخرون: إنه متصل بتقدير مضاف والتقدير لا أسألكم عليه من أجر إلا أجر من شاء " الخ " أي إلا الاجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله. وفيه أن مقتضى هذا المعنى أن يقال: الا من اتخذ إلى ربه سبيلا فلا حاجة إلى تعليق الاتخاذ
بالمشية والاجر إنما يترتب على العمل دون مشيته. قوله تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا " لما سجل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ليس له من أمرهم شئ إلا الرسالة وأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا الاستجابة لها وأنهم علخيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا وإن شاؤا كفروا تمم ذلك بأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ تعالى وكيلا في أمرهم فهو تعالى عليهم وعلى كل شئ وكيل وبذنوب عباده خبير. فقوله: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " أي اتخذه وكيلا في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء ويفعل بهم ما يريد فإنه الوكيل عليهم وعلى كل شئ وقد عدل عن تعليق التوكل بالله إلى تعليقه بالحي الذي لا يموت ليفيد التعليل فإن الحي الذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعين لان يكون وكيلا. وقوله: " وسبح بحمده " أي نزهه عن العجز والجهل وكل ما لا يليق بساحة قدسه مقارنا ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم واستدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك ولا عن جهل بذنوبهم وإن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته وباستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه وبحمده. وقوله: " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " مسوق للدلالة على توحيده في فعله وصفته فهو الوكيل المتصرف في أمور عباده وحده وهو خبير بذنوبهم وحاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه. ومن هنا يظهر أن الآية التالية: " الذي خلق السماوات والارض " متممة لقوله:
[ 233 ]
" وتوكل على الحي الذي لا يموت " الخ، لا شتمالها على توحيده في ملكه وتصرفه كما يشتمل قوله: " وكفى به " الخ على علمه وخبرته وبالحياة والملك والعلم معايتم معنى الوكالة وسنشير إليه.
قوله تعالى: " الذي خلق السماوات والارض وفي ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا " ظاهر السياق أن الموصول صفة لقوله في الآية السابقة: " الحي الذي لا يموت " وبهذه الآية يتم البيان في قوله: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " فإن الوكالة كما تتوقف على حياة الوكيل تتوقف على العلم، وقد ذكره في قوله: " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " وتتوقف على السلطنة على الحكم والتصرف وهو الذي تتضمنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات والارض والاستواء على العرش. وقد تقدم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، وأما قوله: " الرحمن فاسأل به خبيرا " فالذي يعطيه السياق ويهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير هو الرحمن، وقوله: " فاسأل " متفرعا عليه والفاء للتفريع، والباء في قوله: " به " للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. وقوله: " خبيرا " حال من الضمير. والمعنى: هو الرحمن - الذي استوى على عرش الملك والذي برحمته وإفاضته يقوم الخلق والامر ومنه يبتدي كل شئ واليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنه خبير. فقوله: " فاسأل به خبيرا " كناية عن أن الذي أخبر به حقيقة الامر التي لا معدل عنها وهذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني أجبك إن كذا وكذا ومن هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت. ولهم في قوله: " الرحمن فاسأل به خبيرا " أقوال أخرى كثيرة: فقيل: إن الرحمن مرفوع على القطع للمدح، وقيل: مبتدأ خبره قوله: " فاسأل به "، وقيل: خبر مبتدؤه " الذي " في صدر الآية، وقيل: بدل من الضمير المستكن في " استوى ". وقيل في " فاسأل به " إنه خبر للرحمن كما تقدم والفاء فصيحة، وقيل: جملة
[ 234 ]
مستقلة متفرعة على ما قبلها والفاء للتفريع ثم الباء في " به " للصلة أو بمعنى عن والضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدم من الخلق والاستواء. وقيل: " خبيرا " حال عن الضمير وهو راجع إليه تعالى، والمعنى فاسأل الله حال كونه خبيرا وقيل مفعول فاسأل والباء بمعنى عن والمعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق والاستواء خبيرا، والمراد بالخبير هو الله سبحانه، وقيل جبريل وقيل: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة ووقف على صفاته وأفعاله تعالى وكيفية الخلق والايجاد، وقيل: كل من كان له وقوف على هذه الحقائق. وهذه الوجوه المتشتتة جلها أو كلها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة ولا موجب للتكلم عليها والغور فيها. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا " هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول ودعوته الحقة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه ونفورهم منه وللآية اتصال خاص بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها وقد وصف في الآية السابقة بما وصف ولعل اللام فيه للعهد. فقوله: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن " الضمير للكفار، والقائل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله بعد: " أنسجد لما تأمرنا " ولم يذكر اسمه ليتوجه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده. وقوله: " قالوا وما الرحمن " سؤال منهم عن هويته ومائيته مبالغة منهم في التجاهل به استكبارا منهم على الله ولو لا ذلك لقالوا: ومن الرحمن، وهذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى رب العالمين: " وما رب العالمين " الشعراء: 23، وقول إبراهيم لقومه: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " الانبياء: 52، ومراد السائل في مثل هذا السؤال أنه لا معرفة له من المسؤل عنه بشئ أزيد من اسمه كقول هود
لقومه: " أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " الاعراف: 71. وقوله حكاية عنهم: " أنسجد لما تأمرنا " في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، والتعبير عن طلبه عنهم السجدة بالامر لا يخلو من تهكم واستهزاء.
[ 235 ]
وقوله: " وزادهم نفورا " معطوف على جواب إذا والمعنى: وإذا قيل لهم اسجدوا استكبروا وزادهم ذلك نفورا ففاعل (زادهم) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام. وقول بعضهم: إن الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة ما لا يؤثر في دلالة اللفظ ما لم يتعرض له لفظا. ولا تعرض في الآية لهذه القصة أصلا. قوله تعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " الظاهر أن المراد بالبروج منازل الشمس والقمر من السماء أو الكواكب التي عليها كما تقدم في قوله: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظر ين وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17، وإنما خصت بالذكر في الآية للاشارة إلى الحفظ والرجم المذكورين. والمراد بالسراج الشمس بدليل قوله: " وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا " نوح: 16. وقد قرروا الآية أنها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي والارضي على وحدة المدبر فيجب التوجه بالعبادات إليه وصرف الوجه عن غيره. والتدبر في اتصال الآيتين بما قبلهما وسياق الآيات لا يساعد عليه لان مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمان إذا أمروا بالسجود له واستهزائهم بالرسول لار نسبة كافية بينه وبين الاحتجاج على توحيد الربوبية حتى يعقب به، وإنما المناسب
لهذا المعنى إظهار العزة والغنى وأنهم غير معجزين لله بفعالهم هذا ولا خارجون عن ملكه وسلطانه. والذي يعطيه التدبر أن قوله: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " الخ، مسوق سوق التعزز والاستغناء، وأنهم غير معجزين باستكبارهم على الله واستهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه والصعود إلى سماء جواره والمعارف الالهية مضيئة مع ذلك لاهله وعباده بما نورها الله سبحانه بنور هدايته وهو نور الرسالة.
[ 236 ]
وعلى هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة وجعل الشمس المضيئة والقمر المنير فيها لاضاءة العالم المحسوس، وأشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الانساني بنور الهداية من الرسالة ليتبصر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات ودفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بماهيا لدفعهم من بروج محفوظة راجمة. هذا ما يعطيه السياق وعلى هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات والتي قبلها كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها. قوله تعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " الخلفة هي الشئ يسد مسد شئ آخر وبالعكس وكأنه بناء نوع أريد به معنى الوصف فكون الليل والنهار خلفة أن كلا منهما يخلف الآخر، وتقييد الخلفة بقوله: " لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " للدلالة على نيابة كل منهما عن الآخر في التذكر والشكر. والمقابلة بين التذكر والشكر يعطي أن المراد بالتذكر الرجوع إلى ما يعرفه
الانسان بفطرته من الحجج الدالة على توحيد ربه وما يليق به تعالى من الصفات و الاسماء وغايته الايمان بالله، وبالشكور القول أو الفعل الذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، وينطبق على عبادته وما يلحق بها من صالح العمل. وعلى هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل والنهار بحيث يخلف كل صاحبه فمن فاته الايمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاخرى منه، ومن لم يوفق لعبادة أو لاي عمل صالح في شئ منهما أتى به في الآخر. هذا ما تفيده الآية ولها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة: " وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " ففيه إشارة إلى أن الله سبحانه وإن دفع أولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنه لم يمنع عباده عن التقرب إليه والاستضاءة بنوره فجعل نهارا ذا شمس طالعة وليلا ذا قمر منير وهما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.
[ 237 ]
وفسر بعضهم التذكر بصلاة الفريضة والشكور بالنافلة والآية تقبل الانطباق على ذلك وإن لم يتعين حملها عليه. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " فقال: الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وفي المجمع في قوله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء " الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة عليا فهو ابن عمه وزوج ابنته
فكان نسبا وصهرا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردوديه عن ابن عباس في قوله: " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل بن هشام. أقول: والروايتان بالجري والتطبيق أشبه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " فالبروج الكواكب والبروج التي للربيع والصيف الحمل والثور والجوزاء والسرطان والاسد والسنبلة، وبروج الخريف والشتاء: الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت - وهي اثنا عشر برجا. وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: كلمفاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك وتعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " يعني أن يقضي الرجل ما فاتبا لليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل
[ 238 ]
* * * وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما - 63. والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما - 64. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم أن عذابها كان غراما - 65. إنها ساعت مستقرا ومقاما - 66. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما - 67. والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما - 68. يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا - 69. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما - 70. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا - 71.
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما - 72. والذين إذا ذكروا بايآت ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا - 73. والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما - 74. أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما - 75. خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما - 76.
[ 239 ]
قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما - 77. (بيان) تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفار السيئة ويجمعها أنهم يدعون ربهم ويصدقون رسوله والكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفار لذلك وإعراضهم عنه إلى اتباع الهوى، ولذلك تختتم الآيات بقوله: " قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " وبه تختتم السورة. قوله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه وإهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين وسماهم عبادا وأضافهم إلى نفسه متسميا باسم الرحمن الذي كان يحيد عنه الكفار وينفرون. وقد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم: أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: " الذين يمشون على الارض هونا " والهون على ما ذكره الراغب التذلل، والاشبه حينئذ أن يكون المشي على الارض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس ومعاشرتهم فهم في أنفسهم متذللون لربهم ومتواضعون للناس لما أنهم عباد الله غير مستكبرين على الله ولا مستعلين على غيرهم بغير حق، وأما التذلل لاعداء الله إبتغاء ما عندهم من العزة الوهمية فحاشاهم وإن كان الهون بمعنى الرفق واللين فالمراد أنهم يمشون من غير تكبر وتبختر.
وثانيهما: ما اشتمل عليه قوله: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " أي إذا خاطبهم الجاهلون خطابا ناشئا عن جهلهم مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول وقالوا لهم قولا سلاما خاليا عن اللغو والاثم، قال تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تاثيما إلا قيلا سلاما سلاما " الواقعة: 26، ويرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.
[ 240 ]
وهذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس وأما صفة ليلهم فهي التي تصفها الآية التالية. قوله تعالى: " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و " لربهم " متعلق بقوله: " سجدا " والسجدو القيام جمعا ساجد وقائم، والمراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الارض والقيام على السوق، ومن مصاديقه الصلاة. والمعنى: وهم الذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربهم وقائمين يتراوحون سجودا وقياما، ويمكن أن يراد به التهجد بنوافل الليل. قوله تعالى: " والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " الغرام ما ينوب الانسان من شدة أو مصيبة فيلزمه لا يفارقه والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إنها ساءت مستقرا ومقاما " الضمير لجهنم والمستقر والمقام إسما مكان من الاستقرار والاقامة، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "، الانفاق بذل المال وصرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، والاسراف الخروج عن الحد ولا يكون إلا في جانب الزيادة، وهو في الانفاق التعدي عما ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، والقتر بالفتح فالسكون التقليل في الانفاق وهو بإزاء الاسراف على ما ذكره الراغب، والقتر والاقتار والتقتير بمعنى.
والقوام بالفتح الواسط العدل، وبالكسر ما يقوم به الشئ وقوله: " بين ذلك " متعلق بالقوام، والمعنى: وكان إنفاقهم وسطا عدلا بين ما ذكر من الاسراف والقتر فقوله: " وكان بين ذلك قواما " تنصيص على ما يستفاد من قوله: " إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا "، فصدر الآية ينفي طرفي الافراط والتفريط في الانفاق، وذيلها يثبت الوسط. قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إلى آخر الآية هذا هو الشرك وأصول الوثنية لا تجيز دعاءه تعالى وعبادته أصلا لا وحده ولا مع آلهتهم وإنما توجب دعاء آلهتهم وعبادتهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده.
[ 241 ]
فالمراد بدعائهم مع الله إلها آخر إما التلويح إلى أنه تعالى إله مدعو بالفطرة على كل حال فدعاء غيره دعاء لاله آخر معه وإن لم يذكر الله. أو أنه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده وبعبارة أخرى تعديه إلى غيره. أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنهم كانوا يرون أن دعاء آلهتهم إنما ينفعهم في البر وأما البحر فإنه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان ونحوه ودعاء غيره معه في مورد وهو البر، وأحسن الوجوه أوسطها. و قوله: " ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق " أي لا يقتلون النفس الانسانية التي حرم الله قتلها في حال من الاحوال إلا حال تلبس القتل بالحق كقتلها قصاصا وحدا. وقوله تعالى: " ولا يزنون " أي لا يطؤون الفرج الحرام وقد كان شائعا بين العرب في الجاهلية، وكان الاسلام معروفا بتحريم الزنا والخمر من أول ما ظهرت دعوته.
وقوله: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " الاشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره وهو الشرك وقتل النفس المحترمة بغير حق والزنا، والاثام الاثم وهو وبال الخطيئة وهو الجزاء بالعذاب الذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية. قوله تعالى: " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا " بيان للقاء الاثام، وقوله: " ويخلد فيه مهانا " أي يخلد في العذاب وقد وقعت عليه الاهانة. والخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، وأما الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة والزنا وهما من الكبائر وقد صرح القرآن بذلك فيهما وكذا في أكل الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربما استفيد من ظاهر قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
[ 242 ]
أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعم من المنقطع والمؤبد أو يحمل قوله: " ومن يفعل ذلك " على فعل جميع الثلاثة لان الآيات في الحقيقة تنزه المؤمنين عما كان الكفار مبتلين به وهو الجميع دون البعض. قوله تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " استثناء من لقى الاثام والخلود فيه، وقد أخذ في المستثنى التوبة والايمان وإتيان العمل الصالح، أما التوبة وهي الرجوع عن المعصية وأقل مراتبها الندم فلو لم يتحقق لم ينتزع العبد عن المعصية ولم يزل مقيما عليها، وأما إتيان العمل الصالح فهو مما تستقر به التوبة وبه تكون نصوحا. وأما أخذ الايمان فيدل على أن الاستثناء إنما هو من الشرك فتختص الآية بمن أشرك وقتل وزنا أو بمن أشرك سواء أتى معه بشئ من القتل المذكور والزنا أو لم يأت، وأما من أتى بشئ من القتل والزنا من غير شرك فالمتكفل لبيان حكم توبته الآية التالية.
وقوله: " فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " تفريع على التوبة والايمان والعمل الصالح يصف ما يترتب على ذلك من جميل الاثر وهو أن الله يبدل سيئاتهم حسنات. وقد قيل في معنى ذلك أن الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لو احق طاعاتهم فيبدل الكفر إيمانا والقتل بغير حق جهادا وقتلا بالحق والزنا عفة وإحصانا. وقيل: المراد بالسيئات والحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدل ملكة السيئة ملكة الحسنة. وقيل: المراد بهما العقاب والثواب عليهما لا نفسهما فيبدل عقاب القتل والزنا مثلا ثواب القتل بالحق والاحصان. وأنت خبير بأن هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدل عليه. والذي يفيد ظاهر قوله: " يبدل الله سيئاتهم حسنات " وقد ذيله بقوله: " وكان الله غفورا رحيما " أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة، وليست السيئة هي متن
[ 243 ]
الفعل الصادر من فاعله وهو حركات خاصة مشتركة بين السيئة والحسنة كعمل المواقعة مثلا المشترك بين الزنا والنكاح، والاكل المشترك بين أكل المال غصبا وبإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لامر الله ومخالفته له مثلا من حيث إنه يتأثر به الانسان ويحفظ عليه دون الفعل الذي هو مجموع حركات متصرمة متقضية فانية وكذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه. وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب أعني السيئات لازمة للانسان حتى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر. ولو لا شوب من الشقوة والمساءة فالذات لم يصدر عنها عمل سئ إذ الذات السعيدة الطاهرة من كل وجه لا يصدر عنها سيئة قذرة فالاعمال السيئة إنما تلحق ذاتا
شقية خبيثة بذاتها أو ذاتا فيها شوب من شقاء خباثة. ولازم ذلك إذا تطهرت بالتوبة وطابت بالايمان والعمل الصالح فتبدلت ذاتا سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله ورحمة وكان الله غفورا رحيما. وإلى مثل هذا يمكن أن تكون الاشارة بقوله: " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ". قوله تعالى: " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا " المتاب مصدر ميمي للتوبة، وسياق الآية يعطي أنها مسوقة لرفع استغراب تبدل السيئات حسنات بتعظيم أمر التوبة وأنها رجوع خاص إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدل السيئات حسنات وهو الله يفعل ما يشاء. وفي الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم فارقته، والآية السابقة كما تقدمت الاشارة إليه - كانت خفية الدلالة إلى حال المعاصي إذا تجردت من الشرك. قوله تعالى: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال في مجمع البيان: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. انتهى. فيشمل الكذب وكل
[ 244 ]
لهو باطل كالغناء والفحش والخناء بوجه، وقال أيضا: يقال: تكرم فلا عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه منه انتهى. فقوله: " والذين لا يشهدون الزور " إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق والتقدير لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان المراد اللهو الباطل كالغناء ونحوه كان مفعولا به والمعنى لا يحضرون مجالس الباطل، وذيل الآية يناسب ثاني المعنيين. وقوله: " وإذا مروا باللغو مروا كراما " اللغو ما لا يعتد به من الافعال
والاقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائي ويعم - كما قيل - جميع المعاصي، والمراد بالمرور باللغو المرور بأهل اللغو وهم مشتغلون به. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو وهم يلغون مروا معرضين عنهم منزهين أنفسهم عن الدخول فيهم والاختلاط بهم ومجالستهم. قوله تعالى: " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " الخرور على الارض السقوط عليها وكأنها في الآية كناية لزوم الشئ والانكباب عليه. والمعنى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحى لم يسقطوا عليه وهم صم لا يسمعون وعميان لا يبصرون بل تفكروا فيها وتعقلوها فأخذ وا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها واتعظوا بموعظتها وكانوا على بصيرة من أمر هم وبينه من ربهم. قوله تعالى: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " قال الراغب في المفردات: قرت عينه تقر سرت قال، تعالى: " كى تقر عينها " وقيل لمن يسر به قرة عين قال: " قرة عين لي ولك " وقوله تعالى: " هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " قيل: أصله من القرأي البرد فقرت عينه قيل: معناه بردت فصحت، وقيل: بل لان للسرور دمعة باردة قارة ولحزن دمعة حارة ولذلك يقال فيمن يدعي عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار والمعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره انتهى.
[ 245 ]
ومرادهم بكون أزواجهم وذرياتهم قرة أعين لهم أن يسروهم بطاعة الله والتجنب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك ولا إربة وهم أهل حق لا يتبعون الهوى. وقوله: " واجعلنا للمتقين إماما " أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتبعنا غيرنا من المتقين كما قال تعالى: " فاستبقوا الخيرات " البقرة: 148، وقال:
" سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة " الحديد: 21، وقال: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة: 11. وكأن المراد أن يكونوا صفا واحدا متقدما على غيرهم من المتقين ولذا جئ بالامام بلفظ الافراد. وقال بعضهم: إن الامام مما يطلق على الواحد والجمع، وقيل: إن إمام جمع آم بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، والمعنى: اجعلنا قاصدين للمتقين متقيدين بهم، وفي قراءة أهل البيت " واجعل لنا من المتقين إماما ". قوله تعالى: " اولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما " الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، وهي كناية عن الدرجة العالية في الجنة، والمراد بالصبر الصبر على طاعة الله وعن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفك ذلك عن الصبر عند النوائب والشدائد. والمعنى: اولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنة يلقون فيها أي يتلقاهم الملائكة بالتحية وهو ما يقدم للانسان مما يسره وبالسلام وهو كل ما ليس فيه ما يخافه ويحذره، وفي تنكير التحية والسلام دلالة على التفخيم والتعظيم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " قال في المفردات: ما عبأت به أي لم أبال به، وأصله من العب ء أي الثقل كأنه قال: ما أرى له وزنا وقدرا، قال تعالى: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم " وقيل: من عبأت الطيب كأنه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم. انتهى. قيل: " دعاؤكم من إضافة المصدر إلى المفعول وفاعله ضمير راجع إلى " ربي "
[ 246 ]
وعلى هذا فقوله: " فقد كذبتم " من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسببه، وقوله: " فسوف يكون لزاما " أي سوف يكون تكذيبكم ملازما لكم أشد الملازمة
فتجزون بشقاء لازم وعذاب دائم. والمعنى: قل لا قدر ولا منزلة لكم عند ربي فوجودكم وعدمكم عنده سواء لانكم كذبتم فلا خير يرجي فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازما لكم أشد الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم. وهذا معنى حسن. وقيل: " دعاؤكم " من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد به عبادتهم لله سبحانه والمعنى: ما يبالي بكم ربي أو ما يبقيكم ربي لو لا عبادتكم له. وفيه أن هذا المعنى لا يلائم تفرع قوله: " فقد كذبتم " عليه وكان عليه من حق الكلام أن يقال: وقد كذبتم ! على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدل على تحقق الفعل منه وتلبسه به وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم. والآية خاتمة السورة وتنعطف إلى غرض السورة ومحصل القول فيه وهو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول وعلى القرآن النازل عليه وتكذيبهما. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " الذين يمشون على الارض هونا " قال أبو عبد الله عليه السلام: هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " إن عذابها كان غراما " قال: الدائم. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن عذابها كان غراما " يقول: ملازما لا ينفك. وقوله عزوجل: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الاسراف الانفاق في المعصية في غير حق " ولم يقتروا " لم يبخلوا
[ 247 ]
في حق الله عزوجل " وكان بين ذلك قواما " القوام العدل والانفاق فيما أمر الله به.
وفي الكافي: أحمد بن محمد بن علي عن محمد بن سنان عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله عزوجل: " وكان بين ذلك قواما " قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره على قدر عياله ومؤنتهم التي هي صلاح له ولهم لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. وفي المجمع روي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه السلام عن ذلك فقال: من أعطى في غير حق فقد أسرف، ومن منع من حق فقد قتر. أقول: والاخبار في هذه المعاني كثيرة جدا. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الذنب أكبر ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ". أقول: لعل المراد الانطباق دون سبب النزول. وفيه أخرج عبد بن حميد عن علي بن الحسين " يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال: في الآخرة، وقال الحسن: في الدنيا. وفيه أخرج أحمد وهناد ومسلم والترمذي وابن جرير والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو مقر ليس ينكر وهو مشفق من الكبار أن تجئ فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة. أقول: هو من أخبارت بديل السيئات حسنات يوم القيامة وهي كثيرة مستفيضة
من طرق أهل السنة والشيعة مروية عن النبي والباقر والصادق والرضا عليه وعليهم الصلاة والسلام.
[ 248 ]
وفي روضة الواعظين قال ص: ما جلس قوم يذكرون الله إلا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدل الله سيئاتكم حسنات وغفر لكم جميعا. وفي الكافي بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزوجل: " لا يشهدون الزور " قال: الغناء. أقول: وفي المجمع أنه مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام ورواه القمي مسندا ومرسلا. وفي العيون بإسناده إلى محمد بن أبي عباد وكان مشتهرا بالسماع ويشرب النبيذ قال: سألت الرضا علليه السلام عن السماع فقال: لاهل الحجاز رأى فيه وهو في حيز الباطل واللهو أما سمعت الله عزوجل يقول: " وأذا مروا باللغو مروا كراما ". وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " قال: مستبصرين ليسوا بشكاك. وفي جوامع الجامع عن الصادق عليه السلام في قوله: " واجعلنا للمتقين إماما " قال: إيانا عني. أقول: وهناك عدة روايات في هذا المعنى وأخرى تتضمن قراءتهم عليهم السلام: " واجعلنا من المتقين إماما ". وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر في قوله: " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " قال: على الفقر في الدنيا. وفي المجمع روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لابي
جعفر عليه السلام: كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء ؟ قال: كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية. أقول: وفي انطباق الآية على ما في الرواية إبهام. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزوجل: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم " يقول: ما يفعل ربي بكم فقد كذبتم فسوف يكون الزاما.
[ 249 ]
(سورة الشعراء مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. طسم - 1. تلك آيات الكتاب المبين - 2. لك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين - 3. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين - 4. وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنها معرضين - 5. فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤ ما كانوا به يستهزؤن - 6. أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم - 7. إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 8. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 9. (بيان) غرض السورة تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال ما كذبه قومه وكذبوا بكتابه النازل عليه من ربه - على ما يلوح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - وقد رموه تارة بأنه مجنون وأخرى بأنه شاعر، وفيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من الانبياء وهم موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ع وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلى به نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحزن بتكذيب أكثر قومه
وليعتبر المكذبون.
[ 250 ]
والسورة من عتائق السورة المكية وأوائلها نزولا واشتملت على قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين ". وربما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة ووقوع قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " في سورة الحجر وقياس مضمونيهما كل مع الاخرى أن هذه السورة أقدم نزولا من سورة الحجر وظاهر سياق آيات السورة أنها جميعا مكية واستثنى بعضهم الآيات الخمس التي في آخرها، وبعض آخر قوله: " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " وسيجئ الكلام فيهما. قوله تعالى: " طسم تلك آيات الكتاب المبين " الاشارة بتلك إلى آيات الكتاب مما سينزل بنزول السورة ومنزل قبل، وتخصيصها بالاشارة البعيدة للدلالة على علو قدرها ورفعة مكانتها، والمبين من أبان بمعنى ظهر وانجلى. والمعنى: تلك الآيات العالية قدرا الرفيعة مكانا آيات الكتاب الظاهر الجلي كونه من عند الله سبحانه بما فيه من سمة الاعجاز وإن كذب به هؤلاء المشركون المعاندون ورموه تارة بأنه من إلقاء شياطين الجن وأخرى بأنه من الشعر. قوله تعالى: " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، وقوله: " ألا يكونوا مؤمنين " تعليل للبخوع، والمعنى: يرجي منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك. والكلام مسوق سوق الانكار والغرض منه تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " تعلق المشية محذوف لدلالة الجزاء عليه، وقولة " فظلت " الخ، ظل فعل ناقص
اسمه " أعناقهم " وخبره " خاضعين " ونسب الخضوع إلى أعناقهم وهو وصفهم أنفسهم لان الخضوع أول ما يظهر في عنق الانسان حيث يطأطئ رأسه تخضعافهو من المجاز العقلي. والمعنى: إن نشأ أن ننزل عليهم آية تخضعهم وتلجئهم إلى القبول وتضطرهم إلى الايمان ننزل عليهم آية كذلك فظلوا خاضعين لها خضوعا بينا بانحناء أعناقهم. وقيل: المراد بالاعناق الجماعات وقيل: الرؤساء والمقدمون منهم، وقيل:
[ 251 ]
هو على تقدير مضاف والتقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين ها. وهو أسخف الوجوه. قوله تعالى: " وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين " بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله وتمكن الاعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن ودعوا إليه دفعه بالاعراض. فالغرض بيان استمرارهم على الاعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر ويقبلون إلى قديمه وفي ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم وأخراهم. وقد تقدم في تفسير أول سورة الانبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع. قوله تعالى: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن " تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، وقوله: " فسيأتيهم " الخ تفريع على التفريع والانباء جمع نبأ وهو الخبر الخطير، والمعنى لما استمر منهم الاعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم وثبت عليهم أنهم كذبوا، وإذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، وتلك الانباء العقوبات العاجلة والآجلة التي ستحيق بهم. قوله تعالى: " أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم " الاستفهام للانكار التوبيخي والجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام والتقدير أصروا واستمروا
على الاعراض وكذبوا بالآيات ولم ينظروا إلى هذه الازواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الارض. فالرؤية في قوله: " أو لم يروا " مضمنة معنى النظر ولذا عديت بإلى، والظاهر أن المراد بالزوج الكريم. وهو الحسن على ما قيل: النوع من النبات وقد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، وقيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان وخاصة الانسان بدليل قوله: " والله أنبتكم من الارض نباتا ". قوله تعالى: " إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين " الاشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث أن فيه إيجادا لكل زوج منه وتتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر وسوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما
[ 252 ]
وفيه هداية كل إلى سعادته الاخيرة ومن كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الانسان ولا يهديه إلى سعادته ولا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه وآخرته. هذا ما تدل عليه آية النبات. وقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الاعراض وبطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74. وتعليل الكفر والفسوق برسوخ الملكات الرذيله واستحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصي. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لانه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه السبق الدلالة على أن ملكة الاعراض راسخة لم تزل
في نفوسهم. وعن سيبويه أن " كان " في قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " صلة زائدة والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين. وفيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق. قوله تعالى: " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين الآياته المستهزئين بها ويجازيهم بالعقوبات العاجلة والآجلة، ولكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم ويغفر للمؤمنين به ويمهل الكافرين. (بحث عقلي متعلق بالعلم) قال في روح المعاني في قوله تعالى: " وما كان أكثرهم مؤمنين " قيل: أي وما كان في علم الله تعالى ذلك، واعترض - بناء على أنه يفهم من السياق العليم بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لان العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.
[ 253 ]
ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الازل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الازلي التابع الماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الازل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق ويوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلم الازلي ووقوعه تابع له. انتهى. وهذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة وخاصة الامام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبرو نفي الاختيار ومحصلها أن الحوادث ومنها أفعال الانسان معلومة لله سبحانه في الازل فهي ضرورية الوقوع وإلا كان علمه جهلا - تعالى عن ذلك -
فالانسان مجبر عليها غير مختار. واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس وأجيب بما ذكره من أن علمه في الازل تابع الماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم. والحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء ومبنى مغالطة بينة. ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الازل ووجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود وأني للماهية هذه الاصالة والتقدم ؟ وثانيا: أن مبنى الحجة وكذا الاعتراض والجواب على كون علمه تعالى بالاشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم وقد أقيم البرهان في محله على بطلانه وأن الاشياء معلومة له تعالى علما حضوريا وعلمه علمان: علم حضوري بالاشياء قبل الايجاد وهو عين الذات وعلم حضوري بها بعد الايجاد وهو عين وجود الاشياء. وتفصيل الكلام في محله. وثالثا: أن العلم الازلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده ومشخصته وخصوصياته الوجودية، ومن خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية إختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده. وإذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة
[ 254 ]
للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله واختياره وإلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه ويقيم مقامها صفة الضرورة والاجبار. فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن
الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق والفعل المقيد بالاختيار. ومن هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الازلي به فإن تعلق العلم الازلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا وإن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك. على أنه لو كان معنى قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " امتناع إيمانهم التعلق العلم الازلي بعدمه لا تخذوه حجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدوه عذرا لانفسهم في استنكافهم عن الايمان كما اعترف به بعض المجبرة. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " حدثني أبي ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تخضع رقابهم يعني بنى أمية - وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الامر. أقول: وهذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي والصدوق في كمال الدين والمفيد في الارشاد والشيخ في الغيبة، والظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه. * * * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين - 10. قوم