تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 11
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 11
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 11
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الحادي العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد - 100. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تثبيب - 101. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد - 102. إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود - 103. وما نؤخره إلا لاجل معدود - 104. يوم يأت لا تكلم نفس
إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد - 105. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق - 106. خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد - 107. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ - 108. (بيان) فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلي يلخص سنة الله في عباده وما يستتبعه الشرك في الامم الظالمة من الهلاك في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار. قوله تعالى: " ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد " الاشارة إلى ما تقدم من القصص، ومن تبعيضيه أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن والبلاد أو أهلهم نقصه عليك.
[ 6 ]
وقوله: " منها قائم وحصيد " الحصد قطع الزرع، شبهها بالزرع يكون قائما ويكون حصيدا، والمعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول قصتهم في القرآن كما قال: " ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون " العنكبوت: 35 وقال: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون " الصافات: 138، ومنها ما انمحت آثاره وانطمست أعلامه كقرى قوم نوح وعاد. وإن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الامم والاجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتة كامه نوح وصالح، ومنهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط ولم يكن لوط منهم. قوله تعالى: " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في
إنزال العذاب عليهم وإهلاكهم إثر شركهم وفسوقهم ولكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا وخرجوا عن زي العبودية، وكلما كان عمل وعقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل وإما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة. فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم ولذا عقبه بقوله: " فما أغنت عنهم آلهتهم " الخ. لان محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم فالمفرع عليه هو الذي يدل عليه قوله: " وما ظلمناهم " الخ، والمعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير وتدفع عنهم الشر، ولم تغنهم شيئا لما جاء أمر ربك وحكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك. وقوله: " وما زادوهم غير تتبيب " التتبيب التدمير والاهلاك من التب وأصله القطع لان عبادتهم الاصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم ولما أحسوا بالعذاب والبؤس فالتجاوا إلى الاصنام ودعوها لكشفه ودعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم وتغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك. ونسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز وهو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها، وهو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو. قوله تعالى: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
[ 7 ]
الاشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى، وذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنه أليم شديد، وهذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الافراد وهو نوع من فن التشبيه شائع وقوله: " إن أخذه أليم شديد " بيان لوجه الشبه وهو الالم والشدة. والمعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الامم الظالمة: قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون أخذا أليما شديدا، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمه إذا أخذها
فليعتبر بذلك المعتبرون. قوله تعالى: " إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة " إلى آخر الاية، الاشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا. وأنبأ إن أخذه كذلك يكون، وفي ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة، وعلامة تدل على أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، وإن أخذه سيكون أليما شديدا فيوجب اعتباره بذلك وتحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى. وقوله: " ذلك يوم مجموع له الناس " أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالاشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة، " ولذلك أتى بلفظ المذكر " كما قيل، ويمكن أن يكون تذكير الاشارة ليطابق المبتدء الخبر. ووصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال. سيجمع أو يجمع له الناس إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه ولا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الاخبار عنه بخبر. فمشخص هذا اليوم أن الناس مجموعون لاجله - واللام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد ولا يتخلف عنه متخلف: وللناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، ويمتزج فيه الاول مع الآخر والآخر مع الاول ويختلط فيه الكل بالبعض والبعض بالكل، وهو حساب أعمالهم من جهة الايمان والكفر والطاعة والمعصية، وبالجملة من حيث السعادة والشقاوة. فان من الواضح أن العمل الواحد من انسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، ويرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من
[ 8 ]
الاحوال القلبية، وكذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير والتأثر، وكذلك أعمال الاولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين وأعمال اللاحقين بالنسبة
إلى أعمال السابقين، وفي المتقدمين أئمة الهدى والضلال المسؤولون عن أعمال المتأخرين، وفي المتأخرين الاتباع والاذناب المسؤولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " الاعراف: 6، وقال: " ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12. ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل. وهذا الشأن على هذا النعت لا يتم الا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ. ومن هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم وجزاءهم فيها بشئ من الثواب والعقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ وتذكره بالتفصيل الاخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة والجزاء المقضي به هناك من الجنة والنار الخالدتين فان الذي يستقبل الانسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، وما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهئ للقاء والحكم، وليس ما هناك حسابا تاما ولا حكما فصلا ولا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله. " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " المؤمن: 46، وقوله: " يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " المؤمن: 72، فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها وهو أشد العذاب، وتعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار وهو الاشتعال. وقوله تعالى: " بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون " آل عمران: 170 فالآية صريحة في عالم القبر ولم تذكر حسابا ولا جنة الخلد وإنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا. وقوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " المؤمنون: 100
تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب ولهو والحياة الاخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال: " وما هذه الحياة الدنيا
[ 9 ]
إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت: 64. وبالجملة الدنيا دار عمل والبرزخ دار تيهؤ للحساب والجزاء، والآخرة دار حساب وجزاء، قال تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا " التحريم: 8 فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور وهيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم وإذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو واللعب. وقوله: " وذلك يوم مشهود " كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة. " ذلك يوم مجموع له الناس " إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس وإطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس والملائكة والجن، والآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن والشياطين وحضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر. قوله تعالى: " وما نؤخره إلا لاجل معدود " أي أن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله والله يحكم لا معقب لحكمه ولاراد لقضائه، ولا يؤخر اليوم إلا لاجل يعده فإذا تم العدد وحل الاجل حق القول ووقع اليوم. قوله تعالى: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " فاعل " يأت " ضمير راجع إلى الاجل السابق الذكر أي يوم يأتي الاجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال تعالى: " من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت " العنكبوت: 5. وذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة والجزاء، ولازمه إرجاع الضمير إلى القيامة والجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، وهو تكلف لا حاجه إليه. وذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى في الوقت الذي يجئ فيه
ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الانفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لانه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي. وهو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي يجئ فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجئ فيه ذلك اليوم المعين، والتفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصا ومعينا والآخر عاما ومرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية
[ 10 ]
الشئ لنفسه ومظروفية الزمان - وهو ظرف بذاته - لزمان آخر، وهو محال لا ينقلب ممكنا بتغيير اللفظ. وما ذكره من التفرقة بين اليومين بالاطلاق والتحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فان اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف وذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا وتحديدا وسعة وضيقا، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من الحوادث وتلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الاضحى في شهر ذي الحجة ويوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى: " ويوم تقوم الساعة " الجاثية: 27 فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم. وقوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه، وحذف أحد التائين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي. والباء في قوله: " بإذنه " للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن " النبأ: 38 والمعنى لا تتكلم نفس بشئ من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما أختاره وأراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن. وقد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له،
وليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس ولا يحدث أي حادث من الحوادث دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة. وقد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الاوصاف الخاصة به يعمه وغيره كقوله تعالى: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " المؤمن: 16 وقوله: " يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم " المؤمن: 33 وقوله: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الآيات، ومن المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شئ دائما، وليس لشئ منه عاصم دائما، ولا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما، وله الخلق والامر دائما. لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا
[ 11 ]
عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله حكاية عن المجرمين: " ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12، وقوله: " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم - إلى أن قال - هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس: 30 أن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد ويزيل الستر والحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهورا تاما وينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة وعند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أو ريب، ولا يهجس قلوبهم هاجس، ويعاينون أن الله هو الحق المبين، ويشاهدون أن القوة لله جميعا، وأن الملك والعصمة والامر والقهر له وحده لا شريك له. وتسقط الاسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا، وينقطع البين وتزول روابط التأثير التي بين الاشياء وعند ذلك تنتثر كواكب الاسباب وتنطمس نجوم
كانت تهتدي به الاوهام في ظلماتها، ولا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، ولا لذي سلطان وقوة ما يتعزز معه، ولا لشئ ملجأ وملاذ يلجأ إليه ويلوذ به ويعتصم بعصمته، ولا ستر يستر شيئا عن شئ ويحجبه دونه، والامر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو (1). وهذا معنى قوله: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " وقوله: " ما لكم من الله من عاصم " وقوله " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " إلى غير ذلك من الآيات وهي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهوا ولعبا أن هذه الاسباب تملك معنى التأثير، وتتلبس بأوصاف الملك والسلطنة والقوة والعصمة والعزة والكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا، وأنها هي المعطية والمانعة والنافعة والضارة لا بغية في سواها ولا خير فيما عداها. ومن هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " وقد تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " النبأ: 38، وقوله: " هذا يوم لا ينطقون "
(1) وفي هذه الاوصاف آيات كثيرة جدا لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.
[ 12 ]
المرسلات: 35. وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9 ويقول: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة: 284 فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الاحوال والاعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية. فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، والتكلم الذي
نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به. والتكلم من الاسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة وهو متقوم بخروج ما في الاذهان عن إحاطة الانسان، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية ويعاينها كما يهتدي - مثلا البصر إلى الاضواء والالوان واللمس إلى الحرارة والبرودة والخشونة والملاسة - لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاما، وكذا لو كان النوع الانساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة. كل ذلك لان النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو وراء الحس والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شئ من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقة ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك. وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله: " يوم تبلى السرائر "، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: " لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " إلى ان قال: " يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام " الرحمن: 41.
[ 13 ]
فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى: " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أنظر كيف كذبوا
على إنفسهم " الانعام: 24، وقوله تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون " المجادلة: 18. قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الانسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لانه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية، وربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من اجزاء الفكرة والباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم والنطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير. وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا، وعاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية والا فمن المحال أن يوقف الانسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة، وصحيفته منشورة، والاشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة، والاسباب ومنها الكذب ساقطة هالكة، وقد أنقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة، وينجو بذلك. وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 فعدم استطاعتهم للسجود ليس الا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه. فإن قلت لو كان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " وما في معناها من الآيات ؟ وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم. قلت: لا ريب أن الانسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله
[ 14 ]
نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله وتركه وهما بالقياس إليه سواء، فإذا أقترف الفعل مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لاخبر عن الاختيار بعد ذلك، والآثار الضرورية التي تترتب على الفعل ومنها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق. والنشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الانساني وليس هناك إلا الانسان وعمله الذي أتى به وقد لزمه لزوما ضروريا، وما يرتبط به العمل من الصحائف والاشهاد وربه الذي إليه يرجع الامر وبيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطرارا، كما قال تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " طه: 108 وقد كانوا في ي الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، وإذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره وكاشفا عن أمر خبيئ في نفسه فقد ختم على فمه ولا سبيل له إلى التكلم بما يريد وكيفما يريد، قال تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يس: 65، وقال: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36 فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار ولتحققه امكان وجود وعدم وأما العمل السئ المفروغ منه والجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجري للعذر فيه، قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7 أي أن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، ولا يتغير ذلك بعذر ولا تعلل، وإنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه ويشاؤه. وبالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه ومطابقا لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، ولو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم وعملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه ويستنطق سمعه وبصره وجلده ويده ورجله ويحضر العمل الذي عمله ويستشهد الاشهاد
والله على كل شئ شهيد. فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختيار يا عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هو من
[ 15 ]
لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للانسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله ومشيئته، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الانسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الاشياء فيه ورجوع الغيب شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الالهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة. وذكر بعضهم أن معنى قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لان الناس ملجؤن هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح وأما غير القبيح فهو مأذون فيه. وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح، والالجاء الذي منشأه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لان الحسن والقبح إنما يعنون بهما الافعال الاختيارية. على أن الله تعالى يقول: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " ومن المعلوم أن الاتيان بالاعذار ليس من الفعل القبيح في شئ. وقال آخرون أن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه.
وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى: " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن " طه: 109 وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله: " يملك نفس لنفس شيئا ". وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات النافية له. توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته لافراد الناس من غير استثناء كقوله: " لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " الرحمن: 39،
[ 16 ]
وقوله: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " النحل: 111. وصنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله: " هذا يوم لا ينطقون " المرسلات: 35، وقوله: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 101. والصنف الاول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن " النبأ: 38 والصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجؤن في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون ويريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف. وبذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقا انتهى. وقد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله: " هذا يوم لا ينطقون " وقوله: " اليوم نختم على أفواههم " الآية.
وذلك أنه - أولا - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا، وليس كذلك. و - ثانيا - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به. وقد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر وهو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، وقد ورد ذلك في بعض الروايات. وهذا الجواب وان كان بظاهره متميزا من الوجه السابق الا أنه لا يستغنى عن مسألة الاذن فهو في الحقيقة راجع إليه. وقد يجاب بأن المراد بعدم التكلم والنطق أنهم لا ينطقون بحجة، وإنما يتكلمون بالاقرار بذنوبهم، ولو بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، وهذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام ولا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشئ ولا نطقت بشئ
[ 17 ]
فسمى من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لانه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء. وفيه: أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله: " هذا يوم لا ينطقون " وأما مثل قوله: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " فلا يرجع إلى معنى محصل. وقد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر والدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز ان يمنعوا النطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر منه. وفيه أن الاشارة إلى يوم القيامة بطوله، وعلى قولهم يكون مثلا معنى قوله: " هذا يوم لا ينطقون " هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، ويرد نظير
الاشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الاشكال باختلاف المواقف فان مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني وهذا الوجه الرابع واحد، وإنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الامكنة وهذا الوجه يرفعه باختلاف الازمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى وعدم اشتماله عليه. وقد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: ان الاستثناء في قوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه " منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها الا بإذنه تعالى، ومحصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدره من الانسان، والجائز الواقع ما يكون باذنه تعالى. وفيه: أن تكلم الانسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى وإذنه فكلما تكلم الانسان أو فعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبه من إذن الله تعالى ويعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الاسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا منها هو إذنه تعالى، ويصير الاستثناء متصلا ويرجع إلى ما قدمناه من الوجه أو لا أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، والجائز ما كان مستندا إلى السبب الالهي فقط وهو إذنه وإرادته، والظرف ظرف الاضطرار والالجاء لكنهم يرون
[ 18 ]
أن سبب الالجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجؤن عند مشاهدة الاهوال إلى الاعتراف والاقرار وقول الصدق واتباع الحق، وقد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل وبروز الحقائق عند ذلك. قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " السعادة والشقاوة متقابلان فسعادة كل شئ أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذ به فهي في الانسان - وهو مركب من روح وبدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية فيتنعم به ويلتذ،
وشقاوته أن يفقد ذلك ويحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم والملكة، والفرق بين السعادة والخير أن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص والخير أعم. وظاهر قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين. وهو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن وكافر ومستضعف كالاطفال والمجانين وكل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل والاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم وهو أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، وانه ينتهي إلى جنه أو نار. والمستضعفون وان كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة ومن استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى ولا يدوم عليهم الحال بالابهام والانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الاشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى: " وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " التوبه: 106 ولازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء والاشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي. فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر: " وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير " الشورى: 8 حيث إن الجملة " فريق في الجنة وفريق في السعير " بمعونة السياق تفيد الحصر وإن كانت وحدها بمعزل من الدلالة. والذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء وإما سعيد متلبس بالسعادة. وأما إن هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما ؟ وأنهما هل هما ذاتيان
[ 19 ]
لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب وعمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما ؟ فلا نظر في الآية إلى شئ من ذلك
غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الايمان والعمل الصالح، والندب إلى اختيار الطاعة وترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى: " ثم السبيل يسره " عبس: 20. وبذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة والشقاوة للانسان من حكمه تعالى في الآية بذلك، قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بإنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الامر امتنع كونه بخلافه. والا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا، وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا. قال: وروي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى: " فمنهم شقي وسعيد " قلت: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل ؟ على شئ قد فرغ منه أم على شئ لم يفرع منه فقال: على شئ قد فرغ منه يا عمر وجفت به الاقلام وجرت به الاقدار ولكن كل ميسر لما خلق له. قال: وقالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات. وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا. انتهى. وهو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته وأثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم وهو الآن كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضئ بعد كم ساعة - وهو حكم حق - لا يوجب إضاءة الهواء ليلا. وحكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم. فقوله: " فمنهم شقي وسعيد " وهو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم
القيامة وآخرون سعداء يوم القيامة إن كان حكما بشقاوتهم وسعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا وكذا يوم القيامة ومن المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في
[ 20 ]
ظرفه وإلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا وعلمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا هذا الآن، ولا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا دائما. وهو ظاهر. وليت شعري ما لذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما وفي الجنة قبل يوم القيامة وفي النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها وفي غيرها كالشقاوة والسعادة على حد سواء. وأما ما أورده من الرواية وفيها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ولكن كل ميسر لما خلق له " فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا وسيجئ توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. وأما قوله أخيرا: " لا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا يريد أن تعلق القضاء بالعمل - ومن المحال أن يتخلف متعلقه عما قضي عليه - توجب صيرورته ضروري الثبوت، ويكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل والترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه، ولا تأثير للعمل في حصول شقاوة إو سعادة، وإنما بين الفاعل وفعله، وبين الفعل والاثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك وذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الامرين ولا تأثير حقيقي لاحدهما في الآخر. وهذه مغالطة اخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب ونسبة الامكان فان للعمل
عله تامة يجب بها وجوده، وهي إرادة الانسان، وسلامة أدوات العمل منه، ووجود مادة قابلة للعمل، والزمان، والمكان، وعدم الموانع والعوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت وتمت وكملت كان ثبوت العمل ضروريا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، وله إلى كل واحد من أجزاء علته التامة ومن جملتها إرادة الانسان نسبة هي نسبة الامكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الارادة فقط بل يمكن وإنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العله.
[ 21 ]
فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلة التامة، ونسبة الامكان إلى إرادة الانسان، ولا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة التامة نسبته الامكانية إلى اراده الانسان، ولا تقلبها عن الامكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الانسان بالامكان دائما كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الانسان وبقية أجزاء العلة التامة بالوجوب دائما، وطرفا الفعل والترك متساويان بالنسبة إلى الانسان أبدا كما أن أحد الطرفين من الفعل والترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبدا. ينتج أن الفعل اختياري للانسان في عين أنه لا يخلو في وجوده عن علة تامة موجبة له، والقضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل وهو سلسلة العلل المترتبة بحسب نظام الوجود وكون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الالهي لا ينافي كونه اختياريا للانسان نسبته إليه نسبة الامكان. فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الانسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الالهي يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الانسان لا ممكنه. وبتقرير آخر واضح تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لانه الذي تعلق به العلم الحق لا وجوب تحقق
الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، وكذا علمه تعالى بأن الانسان سيعمل باختياره وإرادته عملا أو انه سيشقى لعمل اختياري كذا يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الانسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن وسواء كان هناك انسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الانسان وعمله، ونظيره علمه بأن انسانا كذا سيشقى بكفره اختياريا يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا. فاتضح أن علمه تعالى بعمل الانسان لا يستوجب بطلان الاختيار وثبوت الاجبار وإن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه له الحكم لا معقب لحكمه. قوله تعالى: " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق " قال في المجمع: الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخر نهاقه انتهى. وقال في الكشاف: الزفير إخراج
[ 22 ]
النفس والشهيق رده انتهى. وقال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه. وقال: الشهيق طول الزفير وهو رده والزفير مده، قال تعالى: " لهم فيها زفير وشهيق " " سمعوا لها تغيظا وزفيرا " وقال تعالى: " سمعوا لها شهيقا " وأصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى. والمعاني - كما ترى - متقاربة وكان في الكلام استعارة، والمراد أنهم يردون أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء والانين من شده حر النار وعظم الكربة والمصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه. وكان الظاهر من سياق قوله: " فمنهم شقي وسعيد " أن يقال بعده: فأما الذي شقي ففي النار له فيها زفير وشهيق " الخ " لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " مبني على الكثرة والجماعة، ومقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا والذين سعدوا، وأنما
عبر بقوله، شقي وسعيد لما قيل قبله: " لا تكلم نفس " فاختير المفرد المنكر ليفيد النفي بذلك الاستغراق والعموم فلما حصل الغرض بقوله: " لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد " عاد السياق السابق المبني على الكثرة والجماعة فقيل: " فأما الذين شقوا " بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث. قوله تعالى: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ". بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " بيان لمكث أهل الجنة فيها وتأييد لاستقرارهم في مأواهم. قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشئ من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للاثافي (1): خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلودا، قال تعالى: " لعلكم تخلدون " والخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الانسان على
(1) الاثافي، جمع الاثفية بضم الهمزة وهي الحجر الذي توضع عليه القدر وهما أثفيتان. (*)
[ 23 ]
حالته فلا يستحيل ما دام الانسان حيا استحالة سائر أجزائه، وأصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم استعير للمبقي دائما. والخلود في الجنة بقاء الاشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى: " اولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " " اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ". وقوله تعالى: " يطوف عليهم ولدان مخلدون " قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، وقيل: مقرطون بخلدة، والخلدة ضرب من القرطة، وإخلاد الشئ جعله مبقى
والحكم عليه بكونه مبقى، وعلى هذا قوله سبحانه: " ولكنه أخلد إلى الارض " أي ركن إليها ظانا إنه يخلد فيها. انتهى. وقوله: " ما دامت السماوات والارض " نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود والمعنى دائمين فيها دوام السماوات والارض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات والارض لا تدوم دوام الابد وهي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى فناء وزوال. ومن الآيات الناصة على الاول قوله تعالى: " ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى " الاحقاف: 3، وقوله: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " الانبياء: 104، وقوله: " والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67، وقوله: " إذا رجت الارض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا " الواقعة: 6. ومنها في النص على الثاني قوله تعالى: " جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا " التغابن: 9، وقوله: " وأعدلهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا " الاحزاب: 65. وعلى هذا يشكل الامر في الآيتين من جهتين: أحدهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات والارض وهما غير مؤبدتين لما مر من الآيات.
[ 24 ]
وثانيتهما تحديد الامر الخالد الذي تبتدئ من يوم القيامة وهو كون الفريقين في الجنة والنار واستقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة وهو السماوات والارض، وهذا الاشكال الثاني أصعب من الاول لانه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنة والنار معا بخلاف الاول.
والذي يحسم الاشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا وسماوات وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار " إبراهيم: 48، وقال حاكيا عن أهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوء من الجنة حيث نشاء " الزمر: 74، وقال يعد المؤمنين ويصفهم: " أولئك لهم عقبى الدار " الرعد: 22. فللآخرة سماوات وأرض كما أن فيها جنة ونارا ولهما أهلا، وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده، وقال: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " النحل: 96 فحكم بأنها باقية غير فانية. وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والارض إنما هو من جهة أن السماوات والارض مطلقا ومن حيث إنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية، وإنما تفنى هذه السماوات والارض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود، وأما السماوات التي تظل الجنة مثلا والارض التي تقلها وقد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، وبذلك يندفع الاشكالان جميعا. وقد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال: " والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه: " يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات " وقوله سبحانه: " وأورثنا الارض نتبوء من الجنة حيث نشاء " ولانه لابد لارض الآخرة مما تقلهم وتظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى إو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء " انتهى. وإن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لانه إثبات للسماء والارض من جهة الاضافة وأن الجنة والنار لابد أن يتصور لهما فوق وتحت فيكون الجنة والنار أصلا وسماؤهما وأرضهما تبعين لهما في الوجود، ولازمة تحديد بقاء سمائهما وأرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.
[ 25 ]
على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة والنار أرض وسماء وأما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الاشكال في السماوات على حاله. وبما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: وفيه نظر لانه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى. ومراده أن الآية تشبه دوام الجنة والنار بأهلهما بدوام السماوات والارض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة وأرضها ولا يعرف أكثر الخلق وجودها ودوامها كان ذلك من تشبيه الاجلى بالاخفى وهو غير جائز في الكلام البليغ. وجوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة والنار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات وأرض لهما وكذا أبدية الجميع من كلامه فإي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالاخرى في كلامه، وإن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الاخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج. ويندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات والارض هذه الاجرام المعهودة عندنا فالاولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصا. وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة والعرف، وأما في مقاصدها وتشخيص المصاديق التي تجرى عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه وإرجاع المتشابه إلى المحكم وعرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ويصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى ويكشفه التدبر البالغ من معانيها،
وقد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. وقد وردت في الروايات وفي كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه، وليكن الذي أوردناه أولها.
[ 26 ]
الوجه الثاني: أن المراد سماوات الجن ة والنار وأرضهما أي ما يظلهما وما يقلهما فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء وما استقرت عليه قدمك فهو أرض، وبعبارة أخرى المراد بهما ما هو فوقهما وما تحتهما. وهذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا، وقد عرفت الاشكال فيه على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم. الوجه الثالث: أن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والارض في الدنيا قدر مدة بقائها، ولعل المراد أن قوله " ما دامت السماوات والارض " موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزئ الهازئ به أي مثل تكليم من يستهزئ ويهزء به. وفيه: أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، ولو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ. الوجه الرابع: أن المراد به التبعيد وأفادة الابدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات والارض بعينها فأن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في أفادة التأييد من غير إن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الالفاظ كقولهم: الامر كذا وكذا ما اختلف الليل والنهار، وما ذر شارق، وما طلع نجم، وما هبت نسيم، وما دامت السماوات وقد استراحوا إليها وإلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الاشياء دائمة باقية لا تبيد إبدا ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد.
وفيه: أنهم إنما استعملوها في التأبيد وأكثروا منه ظنا منهم أن هذه الامور دائمة مؤبدة، وأما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية ويعد الايمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت. كيف لا ؟ وقد قال تعالى: " ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى " الاحقاف: 3 وكيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة والنار خالدتان أبدا ما دامت السماوات والارض. الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمده بقاء السماوات والارض التي
[ 27 ]
يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، وهذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا وكذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " النبأ: 23 أي أحقابا ثم يزادون على ذلك. وفيه: أنه على الظاهر مبني على استفاده بعض المدة من قوله: " ما دامت السماوات والارض " والبعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله: " إلا ما شاء ربك " ودلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا. الوجه السادس: أن المراد بالنار والجنة نار البرزخ وجنتها وهما خالدتان ما دامت السماوات والارض، وإذا انتهت مدة بقاء السماوات والارض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر. وفيه: أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة وتوصيفها بما له من الاوصاف، ومن المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، وأنه يوم مشهود، وأنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا أتصل بأخص إوصافه وأوضحها وهو الجزاء بالجنة والنار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة والنار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.
على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى: " وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " المؤمن: 46. الوجه السابع: إن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان وبالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء. وولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الاعمال. فالاشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار وربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية والتوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره والمجرم يتوب عن إجرامه، والسعداء يدخلون الجنة بسعادتهم وربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان وأخلدوا إلى الارض واتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافرا والصالح يعود طالحا.
[ 28 ]
وفيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الاوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب وتطير العقول باستماعها والتفكر فيها لتنذر به أولوا الاستكبار والجحود من الكفار ويرتدع به أهل المعاصي والذنوب. فيستبعد أن يذكر فيها إنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار وأهل المعاصي في نار منذ كفروا وأجرموا إلى يوم القيامة وأهل الايمان والعمل الصالح في جنة منذ آمنوا وعملوا صالحا فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولا - من جهة إن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه، و - ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للانذار والتبشير، وهؤلاء الكفار والمجرمون أهل الاستكبار والطغيان لا يعبؤن بمثل هذه الحقائق المستورة عن
حواسهم، ولا يرون لها قيمة ولا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة والرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية وهو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن. وههنا وجوه أخر يمكن أن يستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " طوينا ذكرها ههنا إيثارا للاختصار ولانها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الاشكال فنكتف بذلك. وقوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار، ونظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و " ما " في قوله: " ما شاء ربك " مصدرية والتقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم ولكن يضعفه قوله بعد: " أن ربك فعال لما يريد " فإن " ما " ههنا موصولة، والمراد بقوله: " ما شاء " وقوله: " ما يريد " واحد. وإما موصولة والاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق، والمعنى هم خالدون في جميع الازمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين، والمعنى هم جميعا خالدون فيها إلا من شاء الله أن يخرج منها ويدخل في الجنة فيكون تصديقا لما في الاخبار أن المذنبين والعصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها ويدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن
[ 29 ]
خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم وصحة الاستثناء. ويبقى الكلام في إيقاع " ما " في قوله " ما شاء " على من يعقل، ولا ضير فيه وإن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " النساء: 3. والكلام في الآية التالية: " وأما الذين سعدوا " الخ، نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله: " عطاء غير مجذوذ "
ولازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع، والمعنى أن أهل الجنة فيها أبدا إلا أن يخرجهم الله منها لكن العطية دائمية وهم غير خارجين والله غير شاء ذلك أبدا. فيكون الاستثناء مسوقا لاثبات قدرة الله المطلقة وأن قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة، وسلطنته لا تنفد، وملكه لا يزول ولا يبطل، وإن الزمان بيده، وقدرته وإحاطته باقية على ما كانت عليه قبل، فله تعالى أن يخرجهم من الجنة وإن وعد لهم البقاء فيها دائما لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، والله لا يخلف الميعاد. والكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة لوحده السياق بالمقابلة والمحاذاة وإن اختتمت الآية بقوله: " إن ربك فعال لما يريد " وفيه من الاشارة إلى التحقق ما لا يخفى. فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبدا إلا أن يشاء الله سبحانه ذلك لانه على كل شئ قدير، ولا يوجب فعل من الافعال: إعطاء أو منع، سلب قدرته على خلافه أو خروج الامر من يده لان قدرته مطلقة غير مقيده بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى: " ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم: 27، وقال: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت " الرعد: 39: إلى غير ذلك من الآيات. ولا منافاة بين هذا الوجه وبين ما ورد في الاخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشية الله كما لا يخفى.
[ 30 ]
هذا وجه في الاستثناء وهنا وجوه أخر أنهى الجميع في مجمع البيان إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أولها. وثانيهما: أنه استثناء في الزيادة من العذاب لاهل النار والزيادة من النعيم لاهل
الجنة والتقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلا الالفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالالفان زيادة على الالف بغير شك لان الكثير لا يستثنى من القليل، وعلى هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال: ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد. وفيه: أنه مبني على عدم إفادة قوله: " ما دامت السماوات والارض " الدوام والابدية وقد عرفت خلافه. وثالثها: أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لانهم ليسوا في جنة ولا نار، ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة لانه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا ولم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار والجنة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة. فإن قيل: كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها ؟ فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الاخبار به قبل الدخول فيها. وفيه: أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أن هذا الوجه بظاهره مبني على إفادة قوله: " فمنهم شقي وسعيد " الشقاوة والسعادة الجبريتين من غير اكتساب واختيار وقد عرفت ما فيه. ورابعها: أن الاستثناء الاول متصل بقوله: " لهم فيها زفير وشهيق " وتقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء بالخلود وفي أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال: لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم، وإنما دل عليه قوله: " عطاء غير مجذوذ ".
[ 31 ]
وفيه: أنه قطع لاتصال السياق ووحدته من غير دليل، وفيه أخذ " إلا " الاولى بمعنى سوى و " إلا " الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق " إلا "
الاولى بقوله: " لهم فيها زفير وشهيق "، ولا أن قوله: " عطاء غير مجذوذ " يدل على ما ذكره، فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها. ثم أية فائدة في استثناء بعض أنوا النعيم واظهار ذلك للسامعين والمقام مقام التطميع والتبشير والظرف ظرف الدعوة والترغيب. فهذا من أسخف الوجوه. وخامسها: أن " إلا " بمعنى الواو وإلا كان الكلام متناقضا والمعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والارض وما شاء ربك من الزيادة على ذلك. وفيه: أن كون " إلا " بمعنى الواو لم يثبت، وإنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه. على أن الوجه مبني على عدم إفاده التقدير والتحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام. وقد عرفت ما فيه. وسادسها: أن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد وهم الذين ضموا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم. وأما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لان من ينقل من النار إلى الجنة ويخلد فيها لا بد في الاخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من حاله فكأنه قال: إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار. قالوا: والذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم، وإنما أجري علهيم كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أدخلوا في النار وعوقبوا فيها فهم أهل شقاء، وإذا أدخلوا في الجنة وأثبتوا فيها فهم أهل سعادة، ونسبوا هذا القول إلى ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري من الصحابة وجماعة من التابعين. وفيه: أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " ومن المعلوم أن
[ 32 ]
قوله: " فأما الذين شقوا " الخ وقوله: " وأما الذين سعدوا " مبدوين بأما التفصيلية مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله: " فمنهم شقي وسعيد " ولازم ذلك كون المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة، والمراد بالذين سعدوا جميع أصحاب الجنة لا خصوص من أخرج من النار وأدخل الجنة. اللهم إلا أن يقال المراد بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " أيضا وصف طائفة خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا والذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم. والمعنى أن بعض أهل الجمع شقي وسعيد معا وهم الذين أدخلوا النار واستقروا فيها خالدين ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها ويدخلهم الجنة ويسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات والارض إلا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة. لكن ينتقل ما قدمناه من الاشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله: " فمنهم شقي وسعيد " فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة خاصة منهم بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " أولا ثم تفصيل حالهم بتفريقهم - وهم جماعة واحدة بعينهم - وإيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات والارض ثم استثنائين ليس المراد بهما إلا واحد وأي فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى وتعقيدا في النظم ؟. ويمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله: " فمنهم شقي وسعيد " تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي والسعيد، والمراد بقوله: " الذين شقوا " جميع أهل النار، وبقوله: " الذين سعدوا " جميع أصحاب الجنة، ويكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من النار ويدخلهم الجنة، وحينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الاشكال.
وسابعها: أن التعليق بالمشية إنما هو على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لان الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لانه لا يشاء أن يخرجهم منها. وهذا الوجه يشارك الوجه الاول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق
[ 33 ]
لنقض الخلود غير أن الوجه الاول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الالهية، وهذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من الاسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه ولن يشاء أصلا. وهذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله: ولن يشاء أصلا. لا دليل عليه هب أن قوله في أهل الجنة: " عطاء غير مجذوذ " يشعر أو يدل على ذلك لكن قوله: " إن ربك فعال لما يريد " لا يشعر به ولا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر. وثامنها: أن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة، وكذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " " وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا " فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة ولا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان، وهو الذي يستثنيه تعالى بقوله: " إلا ما شاء ربك " ونقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري. وفيه: أن الظاهر من قوله: " ففي النار خالدين فيها ما دامت السماوات والارض " وكذا في قوله: " ففي الجنة خالدين " الخ أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أو الجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية. على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هو يوم القيامة، ولا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة والتفاوت الزماني الحاصل من ذلك.
وتاسعها: أن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات والارض في الدنيا، وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله: " إلا ما شاء ربك " استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم. وفيه: أن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ " إلا " بمعنى سوى مع اختلاف
[ 34 ]
ما في التقرير، وقد عرفت ما يرد عليه. وعاشرها: أن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الذين شقوا، والتقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء ربك، والظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة " وأما الذين سعدوا - إلى قوله - إلا ما شاء ربك " بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، والمعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، ونسب الوجه إلى أبي مجاز. وفيه: أن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثنائين فالثاني من الاستثنائين لا بد أن يوجه بوجه آخر، وهو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين. على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا وإنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة " الخ من غير أن يدخلوا في زمرة الاشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، وبالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنة من أول.
وقوله: " إن ربك فعال لما يريد " تعليل للاستثناء، وتأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم. قوله تعالى: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " قرئ سعدوا بالبناء للمجهول وبالبناء للمعلوم والثاني أوفق باللغة لان مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الاول وهو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون شقوا في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلوا عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة والخير من الله سبحانه والشر الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " النور: 21. والجذ: هو القطع وعطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله: " إلا ما شاء ربك " من أحسن الشواهد
[ 35 ]
على أن مراده باستثناء المشية إثبات بقاء إطلاق قدرته وأنه مالك الامر لا يخرج زمامه من يده قط. ويجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الابحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان من الوجوه مبنيا على كون المستثنى في قوله: " إلا ما شاء ربك " من دخل النار أولا ثم خرج منها إلى الجنة ثانيا، وذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنة الآخرة وهي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبدا، وهو كالضروري من الكتاب والسنة، وقد تكاثرت الآيات والروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، وإن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح. قال في مجمع البيان في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة وعدم جواز خروجهم منها: لاجماع الامة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، وأنه لا يخرج منها بعد
دخوله فيها. انتهى. مسألة " وجوب دخول أهل الثواب الجنة " مبنية على قاعدة عقلية مسلمة وهي أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لان الذى تعلق به الوعد حق للموعود له، وعدم الوفاء به إضاعة لحق الغير وهو من الظلم، وأما الوعيد فهو جعل حق للموعد على التخلف الذي يوعد به له، وليس من الواجب لصاحب الحق إن يستوفي حقه بل له أن يستوفي وله أن يترك، والله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، وأوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على نفسه، وأما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه وله أن يتركهم بترك حق نفسه. وأما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات والروايات، والاجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب والسنة أو العقل على ذلك، وليس بحجة مستقلة.
[ 36 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرء: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ". وفيه: أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت: " فمنهم شقي وسعيد " قلت: يا رسول الله فعلا م نعمل، على شئ قد فرغ منه أو على شئ لم يفرغ منه ؟ قال: بل على شئ قد فرغ منه، وجرت به الاقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له.
أقول: وهذا اللفظ مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطرق متعدده من طرق أهل السنة كما في صحيح البخاري عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون ؟ قال: " كل ميسر لما خلق له " وفيه أيضا عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الارض فقال: ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: أ لا نتكل ؟ قال: اعملوا " فكل ميسر لما خلق له " وقرء: " فأما من أعطى واتقى " الخ. ولتوضيح ذلك نقول: أنه لا يخفى على ذي مسكة أن كلا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان وآثارها ما لم يلبس لباس التحقق والوجود فهو على حد الامكان، وللامكان نسبة إلى الوجود والعدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا وأن لا تصير، والمني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الانسانيد أي إنها تحمل استعداد أن يصير إنسانا إن اجتمع معها بقية أجزاء العلة الموجبة للانسانية واستعداد أن يبطل فيصير شيئا غير الانسان. وإذا تلبس بلباس الوجود وصار مثلا رمادا بالفعل وإنسانا بالفعل بطل عند ذلك
[ 37 ]
عنه الامكان الذي كان ينسبه إلى الرماد وغيره معا وإلى الانسان وعدمه معا، وصار إنسانا فحسب يمتنع غيره ورمادا يمتنع مع هذه الفعلية غيره. وبهذا يتضح أنا إذا أخذنا الفعليات ونسبناها إلى عللها الموجبة لها وهكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليات لا يتغير شئ منها عما هو عليه، وبطل الامكانات والاستعدادات والاختيارات جميعا، وإذا نظرنا إلى الامور من جهة الامكانات والاستعدادات التي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شئ من الاشياء المادية من حيز الامكان ومستقر الاختيار.
فللكون وجهان: وجه ضرورة وفعلية يتعين فيه كل جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، ولا يقبل أي إبهام وتردد، وأي تغيير وتبديل وهو الوجه الذي تقوم فيه المسببات بأسبابها الموجبة والمعلولات بعللها التامة التي لا تنفك عن مقتضياتها ولا تتخلف معلولاتها عنها ولا تنفع في تغييرها عما هي عليه حيلة، ولا في تبديلها سعي ولا حركة. ووجه آخر هو وجه الامكان وصورة الاستعداد والقابلية لا يتعين بحسبه شئ إلا بعد الوقوع، ولا يخرج عن الابهام والاجمال إلا بعد التحقق، وعليه يقوم ناموس الاختيار، وبه يتقوم السعي والحركات، ويبتنى العمل والاكتساب، وإليه تركن التعاليم والتربية والخوف والرجاء والاماني والاهواء، وبه تنجح الدعوة والامر والنهي ويصح الثواب والعقاب. ومن الضروري أن الوجهين لا يتدافعان في الوجود ولا يبطل أحدهما الآخر فللفعلية ظرفها وللامكان والاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانية تعينها بعد التحقق، ولا تعينها بعده إبهامها قبله. والوجه الاول هو وجه القضاء الالهي، ولا يبطل تعيين الحوادث بحسبه عدم تعينها بحسب ظرف الدعوة والعمل والاكتساب، وسنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء والقدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى. ولنرجع إلى الاحاديث: التأمل في سياقها يعطي أنهم فهموا من كتابة السعادة والشقاوة والجنة والنار وجريان القلم بذلك، الضرورة والوجوب، وتوهموا من ذلك أولا لزوم بطلان المقدمات الموصلة
[ 38 ]
إلى الغايات، وارتفاع الروابط بين المسببات وأسبابها، وأنه إذا قضي للانسان بالجنة تحتم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل وسواء عمل صالحا أو اقترف سيئا. وتوهموا ثانيا أن تلك المقدمات والاسباب نظائر للغايات والمسببات واقعة تحت
القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى ولا للسعي والاكتساب مجال. والذي وقع في الاحاديث من سؤالهم كقولهم: " يا رسول الله فعلا م نعمل، على شئ قد فرغ منه أو على شئ لم يفرغ منه ؟ " وقولهم: " يا رسول الله فيم يعمل العاملون ؟ " وقولهم: " أ لا نتكل ؟ " أي أ لا نترك العمل اتكالا على ما كتبه الله كتابة لا تتغير ولا تتبدل ؟ كل ذلك يشير إلى التوهم الاول، وكان الذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار والاستطاعة صرفهم عن الاشارة إلى ثاني التوهمين وإن كان ناشبا على قلوبهم فإنهما متلازمان. وقد أجاب صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤالهم بقوله: " كل ميسر لما خلق له " وهو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الانسان: " ثم السبيل يسره " عبس: 20 أي إن كلا من أهل الجنة الذي خلقه الله لها، ومن أهل النار الذي خلقه الله لها كما قال: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " الاعراف: 179. له غاية في خلقه وقد يسره الله السبيل إلى تلك الغاية وسهل له السلوك منه إليها. فبين الانسان الذي كتبت له الجنة وبين الجنة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، وبينه وبين النار التي كثبت له كذلك، وسبيل الجنة هو الايمان والتقوى، وسبيل النار هو الشرك والمعصية، فالانسان الذي كتب الله له الجنة إنما كتب له الجنة التي سبيلها الايمان والتقوى فلابد من سلوكه، ولم يكتب له الجنة سوآء عمل أو لم يعمل وسواء عمل صالحا أو سيئا، وكذلك الذي كتب له النار إنما كتب له النار من طريق الشرك والمعصية لا مطلقا. ولذلك أعقب صلى الله عليه وسلم قوله: " كل ميسر لما خلق له " - على عليه السلام - بتلاوة قوله تعالى: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسري وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسره للعسري " الليل: 10. فالمتوقع لاحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من
[ 39 ]
من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنما الدار دار سعي، وحركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك ونقلة، قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعية يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفي " النجم، 41. ولم يهمل صلى الله عليه وسلم الجواب عن ثاني التوهمين حيث عبر بالتيسير فإن التيسير هو التسهيل، ومن المعلوم أن التسهيل إنما يتحقق في مر لا ضرورة تحتمه ولا وجوب يعينه ويسد باب عدمه، ولو كان سبيل الجنة ضروري السلوك حتمي القطع على الاطلاق للانسان الذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغير، ولم يكن معنى لتيسره وتسهيل سلوكه له وهو ظاهر. فقوله صلى الله عليه وآله وسلم، " كل ميسر لما خلق له " يدل على أن لما يؤل إليه أمر الانسان من السعادة والشقاء وجهين وجه ضرورة وقضاء حتم لا يتغير عن سبيل مثله، ووجه إمكان واختيار ميسر للانسان يسلك إليه بالعمل والاكتساب، والدعود الالهية إنما تتوجه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الاول. وقد تقدم كلام في الجبر والاختيار في تفسير قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26 في الجزء الاول من الكتاب. في الدر المنثور أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتاده، أنه تلا هذه الآية: " فأما الذين شقوا " فقال، حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يخرج قوم من النار " ولا نقول كما قال أهل حروراء. أقول: وقوله: " ولا نقول كما قال أهل حروراء " هو من كلام قتادة، وأهل حروراء قوم من الخوارج، وهم يقولون بخلود من دخل النار فيها. وفيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فاما الذين شقوا
- إلى قوله - إلا ما شاء ربك " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد الاهوازي في كتاب الزهد بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجهنميين فقال: كان أبو جعفر يقول:
[ 40 ]
يخرجون منها فينتهى بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم أقول: ورواه أيضا بإسناده عن عمر بن أبان عنه عليه السلام. والمراد بالجهنميين طائفة خاصة من أهل النار وهم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، ويسمون الجهنميين، لا عامة أهل النار كما يدل عليه ما سيأتي. وفيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن أناسا يخرجون من النار. حتى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم ودماؤهم، ويذهب عنهم قشف النار، ويدخلون الجنة يقولون - أهل الجنة - الجهنميين فينادون بأجمعهم: اللهم أذهب عنا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثم قال: يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار ولا تدركهم الشفاعة. وفيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنميين: إنهم يدخلون النار بذنوبهم، ويخرجون بعفو الله. وفيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام إنهم يقولون: لا تعجبون من قوم يعمون أن الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء الله ؟ فقال: أ ما يقرؤن قول الله تبارك وتعالى: " ومن دونهما جنتان " إنها جنة دون جنة ونار دون نار. إنهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما والله منزلة، ولكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لاضيق من الحلقة، إن القائم إذا قام بدء بهؤلاء.
أقول: قوله: " إن القائم " الخ، أي إذا ظهر بدء بهؤلاء المستهزئين بأهل الحق انتقاما. وفي تفسير العياشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قوله: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك " قال: هذه في الذين يخرجون من النار. وفيه: عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: " فمنهم شقي وسعيد " قال:
[ 41 ]
في ذكر أهل النار استثنى، وليس في ذكر أهل الجنة استثنى " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ". أقول: يشير عليه السلام إلى أن الاستثناء بالمشية في أهل الجنة لما عقبه الله بقوله: " عطاء غير مجذوذ " لم يكن استثناء دالا على إخراج بعض أهل الجنة منها، وإنما يدل على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنه معقب بقوله: " إن ربك فعال لما يريد " المشعر بوقوع الفعل، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: " فأما الذين شقوا " الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة: " إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا " إلى آخر الآية فذهب الرجاء لاهل النار أن يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الابد، وقوله: " وأما الذين سعدوا " الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله ما نسخها فأنزل بالمدينة: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات - إلى قوله - ظلا ظليلا " فأوجب لهم خلود الابد. إقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنهما تدلان على الانقطاع قد عرفت خلافه. على أن النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل ولا نقل. على أن ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنة. على أن خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكية
كالانعام والاعراف وغيرهما. وفيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وفيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرء: " فأما الذين شقوا ". وفيه أخرج ابن المنذر وإبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لاهل النار من هذه الآية: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك " قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة ولا حجة فيها على غيرهم،
[ 42 ]
ولو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب، وقد قال تعالى في الكفار: " وما هم بخارجين من النار " البقرة: 167. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: انه بلغنا أنه يأتي على جهنم حتى (1) يصفق أبوابها. فقال: لا والله انه الخلود. قلت: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك " فقال: هذه في الذين يخرجون من النار. أقول: والروايات الدالة على خلود الكفار في النار من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا، وقد قدمنا بحثا فلسفيا في خلود العذاب وانقطاعه في ذيل قوله: " وما هم بخارجين من النار " البقرة: 167 في الجزء الاول من الكتاب. * * * فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص - 109. ولقد آتينا موسى
الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب - 110. وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير - 111. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعلمون بصير - 112. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون - 113. وأقم الصلوة طرفي النهار
(1) حين ظ. (*)
[ 43 ]
وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين - 114. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين - 115. فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين - 116. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون - 117. ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين - 118. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين - 119. (بيان) لما فصل تعالى فيما قصه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قصص الامم الغابرة وما أداهم إليه شركهم وفسقهم وجحودهم لآيات الله واستكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم وساقهم إلى الهلاك وعذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة. إمر في هذه الآيات نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعتبر هو ومن معه بذلك، ويستيقنوا أن الشرك بالله والفساد في الارض لا يهدي الانسان إلا إلى الهلاك والبوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية ويمسكوا بالصبر والصلاة ولا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار وما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، ويعلموا إن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا
السفلى وأن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه وستتم بما يجازيهم به يوم القيامة. قوله تعالى: " فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم " الخ
[ 44 ]
تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الامم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء والفساد في الارض فأخذهم الله بالعذاب، والمشار إليهم بقوله: " هؤلاء " هم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: " ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم " أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الاولون من غير حجة، والمراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم وفسقهم. وقوله: " غير منقوص " حال من النصيب وفيه تإكيد لقوله: " لموفوهم " فأن التوفية تأدية حق الغير بالتمام والكمال، وفيه إيئاس الكافرين من العفو الالهي. ومعنى الآية: فإذا سمعت قصص الاولين وأنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله ويكذبون بآياته، وعلمت سنة الله تعالى فيهم وأنها الهلاك في الدنيا والمصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شك ومرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة ولا بينة، وإنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان. ويمكن أن يكون المراد بآبائهم، الامم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا وذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: " أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " المؤمنون: 68 وهذا أنسب وأحسن والمعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الامم الهالكة الذين هم آباؤهم، ولا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمه سبقت من ربك
لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب " لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، وكانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم ويقضوا بالحق في اتخاذهم شركاء لله سبحانه، وتكذيبهم بآيات الله ورمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى. تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لامر اتخاذهم الآلهة وتكذيب القرآن فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الامم الماضية لها وسينالهم العذاب كما نال أسلافهم وإن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى عليه السلام فيما آتاه الله من الكتاب وأن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب
[ 45 ]
فاختلف فيه " إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى. وقوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " كرر سبحانه في كتابه ذكر أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس: 19، وقال: " وما اختلف الذين اوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " آل عمران: 19، وقال: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213. وقد قضى الله سبحانه إن يوفي الناس أجر ما عملوه وجزاء ما اكتسبوه، وكان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم في الارض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا ويكتسبوا في دنياهم لاخراهم كما قال: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36، ومقتضى هذين القضائين أن يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله وكتابه بغيا، إلى يوم القيامة. فإن قلت فما بال الامم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة
لكلمة سبقت منه. قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم ولا معاصيهم وبالجملة مجرد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الاخر ويؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه: " ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47. وبالجملة قوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " يشير إلى أن اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، ومقتضى ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة. وقوله: " وإنهم لفي شك منه مريب " الارابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف الشك بالمريب من قبيل قوله: " ظلا ظليلا " و " حجابا مستورا " و " حجرا محجورا "
[ 46 ]
وغير ذلك، ويفيد تأكدا لمعنى الشك والظاهر أن مرجع الضمير في قوله: " وإنهم " امة موسى وهم اليهود، وحق لهم أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى عزراء عندما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الارض المقدسة، وقد أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا ونظيرها الانجيل من جهة سنده. على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضي الفطرة الانسانية أن تنسبها إلى كتاب سماوي ومقتضاه الشك فيها. وأما إرجاع الضمير في قوله: " وأنهم " إلى مشركي العرب، وفي قوله: " منه " إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لان الله سبحانه قد أتم الحجة علهيم
في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتحدى بمثل قوله: " قل فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات " ولا معنى مع ذلك لاسناد شك إليهم. قوله تعالى: " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير " لفظه إن هي المشبهة بالفعل وأسمها قوله: " كلا " منونا مقطوعا عن الاضافة والتقدير كلهم أي المختلفين، وخبرها قوله: " ليوفينهم " واللام والنون لتأكيد الخبر، وقوله: " لما " مؤلف من لام تدل على القسم وما مشددة تفصل بين اللامين، وتفيد مع ذلك تأكيدا، وجواب القسم محذوف يدل عليه خبر إن. والمعنى - والله أعلم - وإن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم ويعطينهم ربك أعمالهم أي جزاءها إنه بما يعملون من أعمال الخير والشر خبير. ونقل في روح المعاني عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن " لما " في الآية هي لما الجازمة وحذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت ولما، وسافرت ولما. ثم قال: والاولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي وإن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم ربك إياها. وهذا وجه وجيه. ولاهل التفسير في مفردات الآية ونظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما
[ 47 ]
أوردناه، ومن شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير. قوله تعالى: " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير " يقال: قام كذا وثبت وركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب وغيره، والظاهر أن الاصل المأخوذ به في ذلك قيام الانسان وذلك أن الانسان في سائر حالاته وأوضاعه غير القيام كالقعود والانبطاح والجثو والاستلقاء والانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الاعمال كالقبض والبسط والاخذ والرد وسائر ما الانسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات وحركة
وإخذ ورد وإعطاء ومنع وجلب ودفع، وثبت مهيمنا على ما عنده من القوى وأفعالها، فقيام الانسان يمثل شخصيته الانسانية بما له من الشؤون. ثم استعير في كل شئ لاعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره وأعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله، وقيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الارض، وقيام الاناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه وقيام العدل أن ينبسط على الارض وقيام السنة والقانون أن تجرى في البلاد. والاقامة جعل الشئ قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئا منها كإقامة العدل وإقامة السنة وإقامة الصلاة وإقامة الشهادة، وإقامة الحدود، وإقامة الدين ونحو ذلك. والاستقامه طلب القيام من الشئ واستدعاء ظهور عامة آثاره ومنافعه فاستقامة الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء والوضوح وعدم إضلاله من ركبه، واستقامة الانسان في امر ان يطلب من نفسه القيام به واصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد ولا نقص، ويأتي تاما كاملا، قال تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه " حم السجدة: 6 أي قوموا بحق توحيده في الوهيته، وقال: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " حم السجدة: 30 أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شؤن حياتهم لا يركنون في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد ويلائمه أي يراعونه ويحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم وظاهرهم. وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا " الروم: 30 فإن المراد بإقامة الوجه إقامه النفس من حيث تستقبل العمل
[ 48 ]
وتواجهه، وإقامة الانسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم. فقوله: " فاستقم كما أمرت " أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت بالاستقامة، وقد أمر به في قوله: " وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من
المشركين " يونس: 105، وقوله: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الروم: 30. قال في روح المعاني: أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستقامه مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى الله عليه وآله وسلم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الافراط والتفريط، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الاخلاق. انتهى. أما احتماله إن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: " كما أمرت " أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامه فبعيد عن سنة القرآن وحاشا أن يعتمد بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، وقد عرفت أن الاشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، وإقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، وقد ورد قوله: " أقم وجهك للدين " - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكيتان، وسورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا وإن لم يسلم ذلك في السورة الاخرى التي هي سورة الروم. وأما قوله: " إن المراد بقوله: " استقم " الدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم المتوسط بين الافراط والتفريط " فقد عرفت أن معنى استقامه الانسان في أمر ثبوته على حفظه وتوفية حقه بتمامه وكماله، واستقامه الانسان مطلقا ركوزه وثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه وأركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته واستطاعته لغي لا أثر له. ولو كان المراد بالامر بالاستقامه هو الامر بلزوم الاعتدال بين الافراط والتفريط لكان الانسب أن يردف هذا الامر بالنهي عن الافراط والتفريط معا مع أنه تعالى عقبه بقوله: " ولا تطغوا " فنهى عن الافراط فقط، وهو بمنزلة عطف التفسير لقوله: " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك " وهذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: " فاستقم " الخ
[ 49 ]
الامر بإظهار الثبات على العبودية ولزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور والاستكبار عن الخضوع لله والخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: " ولا تطغوا " كما فعل ذلك الامم الماضية، ولم يكونوا مبتلين إلا بالافراط دون التفريط والاستكبار دون التذلل. وقوله: " ومن تاب معك " عطف على الضمير المستكن في " استقم " أي استقم أنت ومن تاب معك أي استقيموا جميعا وإنما أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم وأفرده بالذكر معهم تشريفا لمقام النبوة، وعلى ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " البقرة: 285 وقوله: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " التحريم: 8. على أن الامر الذي تقيد به قوله: " فاستقم " أعني قوله: " كما إمرت " يختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يشاركه فيه غيره فان ما ذكر من مثل قوله: " فأقم وجهك للدين " " الخ " خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالامر السابق. والمراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالايمان وإطلاق التوبة على إصل الايمان - وهو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: " ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " المؤمن: 7 إلى غير ذلك. وقوله: " ولا تطغوا " أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة والخلقة وهو العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك وساقهم إلى الهلكة، والظاهر أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده ثم استعير لهذا الامر المعنوي الذي هو طغيان الانسان في حياته لتشابه الاثر وهو الفساد. وقوله: " إنه بما تعملون بصير " تعليل لمضمون ما تقدمه، ومعنى الآية اثبت على
دين التوحيد والزم طريق العبودية من غير تزلزل وتذبذب، وليثبت الذين آمنوا معك، ولا تتعدوا الحد الذي حد لكم لان الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.
[ 50 ]
وفي الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشئ من آثار الرحمة وأمارات الملاطفة وقد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الامم الماضية والقرون الخالية بأعمالهم واستغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس وتطير القلوب. غير ما في قوله: " فاستقم كما أمرت " من إفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر وإخراجه من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا بالذكر يوجب توجه هول الخطاب وروع التكليم من مقام العزة والكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجه إلى جميع الامة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى 6 " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف المماة " أسرى: 75. ولذلك ذكر أكثر المفسرين أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " شيبتني سورة هود " ناظر إلى هذه الآية، وسيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " قال في الصحاح ركن إليه كنصر، ركونا مال وسكن، و والركن بالضم الجانب الاقوى. والامر العظيم والعز والمنعة انتهى وعن لسان العرب مثله، وعن المصباح ان الركون هو الاعتماد على الشئ. وقال الراغب ركن الشئ جانبه الذى يسكن إليه، ويستعار للقوة، قال تعالى: " لو ان لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " وركنت إلى فلان أركن بالفتح والصحيح ان يقال: ركن يركن - كنصر - وركن يركن كعلم - قال تعالى " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " وناقة مركنة الضرع له اركان تعظمه والمركن الاجابة، واركان العبادات جوانبها التى عليها مبناها، وبتركها بطلانها. انتهى وهذا قريب مما ذكره في المصباح.
والحق انه الاعتماد على الشئ عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب ولذلك عدى بالى لا بعلى وما ذكره اهل اللغه تفسير له بالاعم من معناه على ما هو دأبهم. فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم اما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التى يضرهم افشاؤها، واما في حياة دينية كأن يسمح لهم بنوع من المداخله في ادارة امور المجتمع الدينى
[ 51 ]
بولاية الامور العامة أو المودة التى تفضى إلى المخالطة والتأثير في شؤن المجتمع أو الفرد الحيوية. وبالجملة الاقتراب في امر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو احياء حق باحياء باطل وبالاخرة اماتة الحق لاحيائه. والدليل على هذا الذى ذكرنا انه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذى هو من تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المؤمنين من امته، والشؤون التى له ولامته هي المعارف الدينية والاخلاق والسنن الاسلامية في تبليغها وحفظها واجرائها والحياة الاجتماعية بما يطابقها، وولاية امور المجتمع الاسلامي، وانتحال الفرد بالدين واستنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولا لامته أن يركنوا في شئ من ذلك إلى الذين ظلموا. على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجه المأخوذة من قصص القرى الظالمة التى اخذهم الله بظلمهم وهما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، ولم يكن ظلم هؤلاء الامم الهالكة في شركهم بالله تعالى وعباده الاصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين والفساد في الارض بعد اصلاحها وهو الاستنان بالسنن الظالمة التى يقيمها الولاة الجائرون،
ويستن بها الناس وهم بذلك ظالمون. ومن المعلوم ايضا من السياق ان الايتين مترتبتان في غرضهما فالاولى تنهى عن أن يكونوا من اولئك الذين ظلموا والثانية تنهى ان يقتربوا منهم ويميلوا إليهم (1) ويعتمدوا في حقهم على باطلهم فقوله: " لا تركنوا إلى الذين ظلموا " نهى عن الميل إليهم والاعتماد عليهم والبناء على باطلهم في امر اصل الدين والحياة الدينية جميعا. ووقوع الايتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن المراد بالذين ظلموا في الايه ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما والا لعم جميع الناس الا
(1) أي أن يتوسلوا في اجراء الحق بين أنفسهم بالوسيلة الباطلة التى عند اعداء الدين من الظالمين. (*)
[ 52 ]
اهل العصمة ولم يبق للنهى حينئذ معنى، وليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فان لافادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة الدالة على التلبس والاستمرار اسبابا لا يوجد في المقام منها شئ ولا دلالة لشئ على شئ جزافا. بل المراد بالذين ظلموا اناس حالهم في الظلم حال اولئك الذين قصهم الله في الايات السابقة من الامم الهالكة، وكان الشأن في قصتهم انه تعالى اخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الالهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم وإلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة وعمن ردها بالذين ظلموا وما يقرب منه في اكثر من عشر مواضع كقوله: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " وقوله: " واخذت الذين ظلموا الصيحة " وقوله: " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا امر كل جبار عنيد " وقوله: " الا ان ثمود كفروا ربهم " وقوله: " الا بعدا لمدين كما بعدت ثمود " إلى غير ذلك. فقد عبر سبحانه عن ردهم وقبولهم قبال الدعوة الالهية وبالقياس إليها بالفعل
الماضي الدال على مجرد التحقق والوقوع، واما في الخارج من مقام القياس والنسبة فان التعبير بالصفة كقوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " وقوله: " وما هي من الظالمين " وقوله: " ولا تتولوا مجرمين " إلى غير ذلك وهو كثير. ومقتضى مقام القياس والنسبة إلى الدعوة قبولا وردا ان يكتفى بمجرد الوقوع والتحقق، ويبين انهم وسموا باحدى السمتين: الايمان أو الظلم، ولا حاجة إلى ذكر الاتصاف والاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا وعصوا واتبعوا امر فرعون انهم وسموا بسمة الظلم والعصيان واتباع امر فرعون، ومعنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الايمان وتعلموا بعلامته. فكان التعبير بالماضي كافيا في افادة اصل الاتسام المذكور وان كان مما يلزمه الاتصاف، وبعبارة اخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية انما تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، ولذا ترى انه كلما خرج الكلام عن مقام القياس والنسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله:
[ 53 ]
" بعدا للقوم الظالمين " وقوله: " ولا تكن مع الكافرين " فافهم ذلك. ومن هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: " الذين ظلموا " حيث اخذه بعضهم دالا على مجرد تحقق ظلم ما، وآخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره: فسر الزمخشري " الذين ظلموا " بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم ولم يقل: إلى الظالمين، وحكى ان الموفق صلى خلف الامام فقرأ بهذه الاية فغشى عليه فلما افاق قيل له، فقال ؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى. ومعنى هذا ان الوعيد في الاية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، وهذا غلط ايضا وانما المراد بالذين ظلموا في الاية فريق الظالمين من اعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا
في الايات الكثيرة التى يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي وحسبك منه قوله تعالى: " ان الذين كفروا سواء عليهم ءانذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6، والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الاية السابقة بقوله: " فاستقم كما امرت ومن تاب معك ". وقد عبر عن هؤلاء الاعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن اقوام الرسل الاولين في قصصهم من هذه السورة به في الايات 37، 67، 94، وعبر عنهم فيها بالظالمين ايضا كقوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " فلا فرق في هذه الايات بين التعبير بالوصف والتعبير بالذى وصلته فانهما في الكلام عن الاقوام بمعنى واحد - انتهى. اما قول صاحب الكشاف: " ان المراد بالذين ظلموا " الذين وجد منهم الظلم ولم يقل: " إلى الظالمين " فهو كذلك لكنه لا ينفعه فان التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام وان كان لا يفيد ازيد من تحقق المعنى الحدثى ووقوعه لكنه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " النازعات: 41 حيث عبر بالفعل وهو منطبق على معنى الصفة. واما قول صاحب المنار: " انما المراد بالذين ظلموا في الاية فريق الظالمين من اعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه " فتحكم محض،
[ 54 ]
واى دليل يدل على قصور الاية عن الشمول للظالمين من اهل الكتاب وقد ذكرهم الله اخيرا في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، وقد نهى الله عن ولايتهم وشدد فيه حتى قال: " ومن يتولهم منكم فانه منهم " المائدة: 51، وقال في ولاية مطلق الكافرين، " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ " آل عمران: 28. واى مانع يمنع الاية ان تشمل الظالمين من هذه الامة وفيهم من هو اشقى من جبابرة
عاد وثمود واطغى من فرعون وهامان وقارون. ومجرد كون الاسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش ومشركى مكة وحواليها لا يوجب تخصيصا في اللفظ فان خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالاية تنهى عن الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من اهل الكتاب. واما قوله: ان المراد بقوله: " ان الذين كفروا سواء عليهم ا انذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون " المعنى الوصفى وان كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع من كفر في الماضي. ففيه انا بينا في الكلام على تلك الاية وفي مواضع اخرى تقدمت في الكتاب ان الاية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بادئ امره حتى كفاه الله اياهم وافناهم ببدر وغيره، وانهم المسمون بالذين كفروا. وليست الاية عامة، ولو كانت الاية عامة وكان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الاية فيما تخبر به فما اكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الاية. ولو قيل: ان المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الاية شيئا إذ لا معنى لقولنا: ان الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من اخذها آية خاصة غير عامة، وكون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة باعيانهم. وقد ذكرنا فيما تقدم ان " الذين آمنوا " ايضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه اسم تشريفي لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اول دعوته الحقة، وبهم تختص خطابات " يا ايها الذين آمنوا " في القرآن وان شاركهم غيرهم في الاحكام. واما قوله في آخر كلامه: وقد عبر عن هؤلاء الاعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن اقوام الرسل الاولين في قصصهم من هذه السورة به وعبر عنهم فيها بالظالمين ايضا فلا
[ 55 ]
فرق بين التعبيرين " الخ " ومحصله ان التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا وتارة بالظالمين دليل على
ان المراد بالكلمتين واحد. ففيه انه خفى عليه وجه العناية الكلامية الذى تقدمت الاشاره إليه واتحاد مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما. فالمحصل من مضمون الاية نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وامته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بان يميلوا إليهم ويعتمدوا على ظلمهم في امر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد بقوله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ". وقوله: " فتمسكم النار " تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار، وقد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم اهل الظلم مس النار وعاقبة نفس الظلم النار، وهذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم والتلبس بالظلم نفسه. وقوله: " وما لكم من دون الله من اولياء " في موضع الحال من مفعول " فتمسكم " أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من اولياء وهو يوم القيامة الذى يفقد فيه الانسان جميع اوليائه من دون الله. أو حال الركون ان كان المراد بالنار العذاب، والمراد بقوله: " ثم لا تنصرون " نفى الشفاعة على الاول والخذلان الالهى على الثاني. والتعبير بثم في قوله: " ثم لا تنصرون " للدلالة على اختتام الامر على ذلك بالخيبة والخذلان كأنه قيل: تمسكم النار وليس لكم الا الله فتدعونه فلا يجيبكم وتستنصرونه فلا ينصركم فيؤل امركم إلى الخسران والخيبة والخذلان. وقد تحصل مما تقدم من الابحاث في الاية امور: الاول: أن المنهى عنه في الاية انما هو الركون إلى اهل الظلم في امر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن امور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع وتقليدهم الامور العامة ا اجراء الامور الدينية بايدهم وقوتهم واشباه ذلك. واما الركون والاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع وشرى والثقة بهم
وائتمانهم في بعض الامور فان ذلك كله غير مشمول للنهى الذى في الاية لانها ليست بركون
[ 56 ]
في دين أو حياة دينية، وقد وثق النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق وائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثه ايام، وكان يعامل هو وكذا المسلمون بمرئى ومسمع منه الكفار والمشركين. الثاني: ان الركون المنهى عنه في الاية اخص من الولاية المنهى عنها في آيات اخرى كثيرة فان الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو اخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم وهم اعداء الدين، واما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو اخص من الولاية موردا أي ان كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلى، وبروز الاثر في الركون بالفعل وفي الولاية اعم مما يكون بالفعل. ويظهر من جمع من المفسرين ان الركون المنهى عنه في الاية هو الولاية المنهى عنها في آيات اخر. قال صاحب المنار في تفسيره بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: ان النهى في الاية متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا باعمالهم، والتشبه بهم والتزيى بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: " ولا تركنوا " فان الركون هو الميل اليسير، وقوله: " إلى الذين ظلموا " أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. انتهى. اقول: كل ما أدغمه في النهى عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغى للمؤمن اجتراحه، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة ولكن لا يصح ان يجعل شئ منه تفسيرا للاية مرادا منها، والمخاطب الاول بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسابقون الاولون إلى التوبة من الشرك والايمان معه، ولم يكن احد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين،
والانحطاط في هواهم، والرضا باعمالهم. إلى آخر ما اطنب فيه. وقد ناقض فيه نفسه اولا حيث اعترف بكون بعض الامور المذكورة من لوازم الركون لكنه استحقرها ونفى شمول الاية لها، والمعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير ان اكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.
[ 57 ]
وافسد من ذلك قوله: ان المخاطب الاول بهذا النهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسابقون الاولون ولم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا باعمالهم الخ فان فيه اولا: ان الخطاب خطاب واحد موجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم وإلى امته، ولا اول فيه ولا ثانى، وتقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ. وثانيا: ان عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لايمنع من توجيه النهى إليه وخاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع وانما يمنع عن تأكيده والالحاح عليه وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما هو اعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله وعن ترك تبليغ بعض اوامره ونواهيه، قال تعالى: " ولقد اوحى اليك وإلى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر: 65، وقال: " يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة: 67، وقال: " يا ايها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ان الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى اليك من ربك " الاحزاب: 2 ولا يظن به صلى الله عليه وآله وسلم ان يشرك بربه البتة، ولا ان لا يبلغ ما انزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين والمنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي. وكذا السابقون الاولون نهوا عن امور هي اعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " نزلت في اهل بدر وفيهم
السابقون الاولون وقد وصف بعضهم بقوله: " الذين ظلموا " وهو اشد لحنا من قوله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا "، وكعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر وأحد وحنين، والنواهي الموجهة إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الاولين ان يبتلوا به على ان بعضهم ابتلى ببعضها بعد. الثالث: ان الاية بما لها من السياق المؤيد باشعار المقام انما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شئ من ظلمهم وهو ان يراعوا في قولهم الحق وعملهم الحق جانب ظلمهم وباطلهم حتى يكون في ذلك احياء للحق بسبب احياء الباطل، ومآله إلى احياء حق باماتة حق آخر كما تقدمت الاشارة إليه.
[ 58 ]
واما الميل إلى شئ من ظلمهم وادخاله في الدين أو اجراؤه في المجتمع الاسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين. وقد اختلط هذا الامر على كثير من المفسرين فاوردوا في المقام ابحاثا لا تمس الاية ادنى مس، وقد اغمضنا عن ايرادها والبحث في صحتها وسقمها ايثار اللاختصار ومن اراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم. قوله تعالى: " واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات " الخ، طرفا النهار هوالصباح والمساء، والزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا ومعنى على ما قيل، وهو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات ونحوها، والتقدير وساعات من الليل اقرب من النهار. والمعنى اقم الصلاة في الصباح والمساء وفي ساعات من الليل هي اقرب من النهار، وينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح والعصر وهى صلاة المساء والمغرب والعشاء الاخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح والمغرب ووقتهما
طرفا النهار والعشاء الاخرة ووقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، وقيل غير ذلك. لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل بيته (ع) من البيان، وسيجئ في البحث الروائي الاتى ان شاء الله تعالى. وقوله: " ان الحسنات يذهبن السيئات " تعليل لقوله: " واقم الصلاة " وبيان ان الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي وهى ما تعتريها من السيئات، وقد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وقوله: " ذلك ذكرى للذاكرين " أي هذا الذى ذكر وهو ان الحسنات يذهبن السيئات على رفعة قدره تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده. قوله تعالى: " واصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " ثم امره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر بعد ما امره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: " واستعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 45 وذلك ان كلا منهما في بابه من اعظم الاركان اعني الصلاة في العبادات، والصبر في الاخلاق وقد قال تعالى في الصلاة: " ولذكر الله اكبر " العنكبوت: 45 وقال في الصبر: " ان ذلك لمن عزم الامور " الشورى: 43.
[ 59 ]
واجتماعهما احسن وسيلة يستعان بها على النوائب والمكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق والجزع والانهزام، والصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، وقد تقدم بيان في ذلك في تفسير الايه 45 من سورة البقرة في الجزء الاول من الكتاب. واطلاق الامر بالصبر يعطى ان المراد به الاعم من الصبر على العبادة والصبر عن المعصية والصبر عند النائبة، وعلى هذا يكون امرا بالصبر على جميع ما تقدم من الا وامر والنواهي اعني قوله: " فاستقم " " ولا تطغوا " " ولا تركنوا " " واقم الصلاة ". لكن افراد الامر وتخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد انه صبر في امر يختص به والا قيل: " واصبروا " جريا على السياق، وهذا يؤيد قول من قال: ان المراد اصبر على
اذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه وظلم الظالمين منهم، واما قوله: " واقم الصلاة " فانه ليس امرا بما يخصه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة بل امر باقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو امر لهم جميعا بالصلوة فافهم ذلك. وقوله: " فان الله لا يضيع اجر المحسنين " تعليل للامر بالصبر. قوله تعالى: " فلو لا كان من القرون من قبلكم اولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض " الخ لو لا بمعنى هلا والا يفيد التعجيب والتوبيخ، والمعنى هلا كان من القرون التى كانت من قبلكم وقد افنيناها بالعذاب والهلاك اولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الارض ليصلحوا بذلك فيها ويحفظوا امتهم من الاستئصال. وقوله: " الا قليلا ممن انجينا منهم " استثناء من معنى النفى في الجملة السابقة فان المعنى: من العجب انه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله وشاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الارض الا قليلا ممن انجينا من العذاب والهلاك منهم فانهم كانوا ينهون عن الفساد. وقوله: " واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين " بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء وهم اكثرهم وعرفهم بانهم الذين ظلموا وبين انهم اتبعوا لذائذ الدنيا التى اترفوا فيها وكانوا مجرمين. وقد تحصل بهذا الاستثناء وهذا الباقي الذى ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين.
[ 60 ]
مختلفين: الناجون بانجاء الله والمجرمون ولذلك عقبه بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك. " قوله تعالى: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون " أي لم يكن من سنته تعالى اهلاك القرى التى اهلها مصلحون لان ذلك ظلم ولا يظلم ربك احدا فقوله: " بظلم " قيد توضيحي لا احترازي، ويفيد ان سنته تعالى عدم اهلاك القرى المصلحة
لكونه من الظلم " وما ربك بظلام للعبيد ". قوله تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك - إلى قوله - اجمعين " الخلف خلاف القدام وهو الاصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف اباه أي سد مسده لوقوعه بعده، واخلف وعده أي لم يف به كأنه جعله خلفه، ومات وخلف ابنا أي تركه خلفه، واستخلف فلانا أي طلب منه ان ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم وذريته في الارض، وخالف فلان فلانا وتخالفا إذا تفرقا في رأى أو عمل كأن كلا منهما يجعل الاخر خلفه، وتخلف عن امره إذا ادبر ولم ياتمر به، واختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، واختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، واختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد اخرى. ثم الاختلاف ويقابله الاتفاق من الامور التى لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى وتضعيفها وآثار اخرى غير محمودة من نزاع ومشاجرة وجدال وقتال وشقاق كل ذلك يذهب بالامن والسلام غير ان نوعا منه لا مناص منه في العالم الانساني وهو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فان التركيبات البدنية مختلفة في الافراد وهو يؤدى إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية وبانضمام اختلاف الاجواء والظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق والسنن والاداب والمقاصد والاعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الانسانية، وقد أو ضحت الابحاث الاجتماعية ان لو لا ذلك لم يعش المجتمع الانساني ولا طرفة عين. وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلى نفسه حيث قال: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا "
[ 61 ]
الزخرف: 32. ولم يذمه تعالى في شئ من كلامه الا إذا صحب هوى النفس وخالف
هدى العقل. وليس منه الاختلاف في الدين فان الله سبحانه يذكر انه فطر الناس على معرفته وتوحيده وسوى نفس الانسان فالهمها فجورها وتقواها، وان الدين الحنيف هو من الفطرة التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغى المختلفين فيه وظلمهم و " ما اختلفوا فيه الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ". وقد جمع الله الاختلافين في قوله: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وهذا هو الاختلاف الاول في الحياة والمعيشة - وما اختلف فيه - وهذا هو الاختلاف الثاني في الدين - الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه " البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف. والذى ذكره بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة " يريد به رفع الاختلاف من بينهم وتوحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، ومن المعلوم انه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الايات السابقة على هذه الاية من اختلافهم في امر الدين وانقسامهم إلى طائفة انجاهم الله وهم قليل وطائفة اخرى وهم الذين ظلموا. فالمعنى انهم وان اختلفوا في الدين فانهم لم يعجزوا الله بذلك ولو شاء الله لجعل الناس امة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين " النحل: 9 وقوله: " ا فلم ييأس الذين آمنوا ان لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " الرعد: 31. وعلى هذا فقوله: " ولا يزالون مختلفين " انما يعنى به الاختلاف في الدين فحسب فان ذلك هو الذى يذكر لنا ان لو شاء لرفعه من بينهم، والكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.
على ان قوله: " الا من رحم ربك " يصرح انه رفعه عن طائفة رحمهم، والاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة وانما رفع عنهم الاختلاف
[ 62 ]
الدينى الذى يذمه وينسبه إلى البغى بعد العلم بالحق. وقوله: " الا من رحم ربك " استثناء من قوله: " ولا يزالون مختلفين " أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق ابدا الا الذين رحمهم الله فانهم لا يختلفون في الحق ولا يتفرقون عنه، والرحمة هي الهداية الالهية كما يفيده قوله: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه " البقرة: 213. فان قلت: معنى اختلاف الناس ان يقابل بعضهم بعضا بالنفى والاثبات فيصير معنى قوله: " ولا يزالون مختلفين " انهم منقسمون دائما إلى محق ومبطل، ولا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه الا بحسب الازمان دون الافراد وذلك ان انضمام قوله: " الا من رحم ربك " إليه يؤول المعنى إلى مثل قولنا: انهم منقسمون دائما إلى مبطلين ومحقين الا من رحم ربك منهم فانهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، ومن المعلوم ان المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: ان منهم مبطلين ومحقين والمحقون محقون لا مبطل فيهم، وهذا كلام لا فائدة فيه. على انه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف اصلا وهم من الناس المختلفين، والاختلاف قائم بهم وبالمبطلين معا. قلت: الاختلاف المذكور في هذه الاية سائر الايات المتعرضة له الذامة لاهله انما هو الاختلاف في الحق ومخالفة البعض للبعض في الحق وان كانت توجب كون بعض منهم على الحق وعلى بصيرة من الامر لكنه إذا نسب إلى المجموع وهو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع وتفرقهم عن الحق وعدم اجتماعهم عليه وتركهم اياه بحياله، ومقتضاه اختفاء الحق عنهم وارتيابهم فيه.
والله سبحانه انما يذم الاختلاف من جهة لازمه هذا وهو التفرق والاعراض عن الحق والايات تشهد بذلك فانه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا ان المراد بالمختلفين اهل الاراء أو الاعمال المختلفة التى تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك. ومن احسن ما يؤيده قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "
[ 63 ]
الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، وكذا قوله: " وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الانعام: 153 وهذا اوضح دلالة من سابقه فانه يجعل اهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من اهل التفرق والاختلاف. ولذلك ترى انه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مر من الايات: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وانهم لفى شك منه مريب " آية 110 من السورة وقد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه. وقال تعالى: " عم يتساءلون عن النباء العظيم الذى هم فيه مختلفون " النبأ: 3 أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون وقال: " انكم لفى قول مختلف يؤفك عنه من افك قتل الخراصون " الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه ولا يبتنى على علم بل الخرص والظن هو الذى اوجده فيكم. وفي هذا المعنى قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون " آل عمران: 71 فان هذا اللبس المذموم منهم انما كان باظهار قول يشبه الحق وليس به وهو القاء التفرق الذى يختفى به الحق. فالمراد باختلافهم ايجادهم اقوا لا وآراء يتفرقون بها عن الحق ويظهر بها الريب فهم
لا تباعهم اهواءهم المخالفة للحق يظهرون آرائهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن افهام الناس بغيا وعدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. ويتبين بما تقدم على طوله ان الاشارة بقوله: " ولذلك خلقهم " إلى الرحمة المدلول عليه بقوله: " الا من رحم ربك " والتأنيث اللفظى في لفظ الرحمة لا ينافى تذكير اسم الاشارة لان المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: " ان رحمة الله قريب من المحسنين " الاعراف: 56 وذلك لانك عرفت ان هذا الاختلاف بغى منهم يفرقهم عن الحق ويستره ويظهر الباطل ولا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، ولا معنى لان يوجد الله سبحانه العالم الانساني ليبغوا ويميتوا الحق ويحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.
[ 64 ]
على ان سياق الايات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فانها في مقام بيان ان الله تعالى يدعو الناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما ولا شرا، ولكنهم بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته، ويعبدون غيره، ويفسدون في الارض فيستحقون العذاب، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة والهداية، والذى من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم انفسهم، وهذا هو الذى يعطيه سياق الآيات. وكون الرحمة أعنى الهداية غاية مقصودة في الخلقة انما هو لاتصالها بما هو الغاية الاخيرة وهو السعادة كما في قوله حكاية عن اهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا " الاعراف: 43 وهذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " الذاريات: 56. وقوله: " وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس اجمعين " أي حقت
كلمته تعالى واخذت مصداقها منهم بما ظلموا واختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والكلمة هي قوله: " لاملان جهنم " الخ. والاية نظيرة قوله: " ولو شئنا لآتيناكل نفس هداها ولكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس اجمعين ": ألم السجدة: 13 والاصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى ابليس لعنه الله إذ قال: " فبعزتك لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق اقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين ": ص: 85 والآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا. هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين وقد تلخص بذلك: اولا ان المراد بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة " توحيدهم برفع التفرق والخلاف من بينهم وقيل: ان المراد هو الالجاء إلى الاسلام ورفع الاختيار لكنه ينافى التكليف ولذلك لم يفعل ونسب إلى قتادة، وقيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه اراد بكم اعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثواب الاعمالكم، ونسب إلى ابى مسلم. وانت خبير بأن سياق الايات لا يساعد على شئ من المعنيين.
[ 65 ]
وثانيا: ان المراد بقوله: " ولا يزالون مختلفين " دوامهم على الاختلاف في الدين ومعناه التفرق عن الحق وستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق. وقال بعضهم: هو الاختلاف في الارزاق والاحوال وبالجملة الاختلاف غير الدينى ونسب إلى الحسن. وقد عرفت انه اجنبي من سياق الايات السابقة. وقال آخرون: ان معنى " يختلفون " يخلف بعضهم بعضا في تقليد اسلافهم وتعاطى باطلهم، وهو كسابقه اجنبي من مساق الايات وفيها قوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه " الاية. وثالثا: ان المراد بقوله: " الا من رحم " الا من هداه الله من المؤمنين. ورابعا: ان الاشارة بقوله: " ولذلك خلقهم " إلى الرحمة وهى الغاية التى ارادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم. وذكر بعضهم. ان المعنى خلقهم للاختلاف ونسب
إلى الحسن وعطاء. وقد عرفت انه سخيف ردى جدا نعم لو جاز عود ضمير " خلقهم " إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم وكانت الاية قريبة المضمون من قوله: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " الاية الاعراف: 179. وذكر آخرون: ان الاشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يتبع ذلك من ارادتهم واختيارهم في اعمالهم ومن ذلك الدين والايمان والطاعة والعصيان، وبالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف اعم مما في الدين أو في غيره. ونسب إلى ابن عباس بناء على ما روى عنه انه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وإلى مالك بن انس إذ قال في معنى الاية: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالاعادة. وخامسا: ان المراد بتمام الكلمة هو تحققها واخذها مصداقها.
[ 66 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى: في قوله تعالى: " وان كلا لما ليوفينهم ربك " الاية قال: قال (ع): في القيامة. وفى الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم وابو الشيخ عن الحسن قال ": لما نزلت هذه الاية: " فاستقم كما امرت ومن تاب معك " قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا. وفي المجمع في قوله تعالى: " فاستقم كما امرت " الاية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت اشد عليه ولا اشق من هذه الاية، ولذلك قال لاصحابه حين قالوا له: اسرع اليك الشيب يا رسول الله: شيبتني هود والواقعة. اقول: والحديث مشهور في بعض الالفاظ شيبتني هود واخواتها، وعدم اشتمال
الواقعة على ما يناظر قوله: " فاستقم كما امرت " الاية يبعد ان تكون إليه الاشارة في الحديث، والمشترك فيه بين السورتين حديث القيامة والله اعلم. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: " ولا تركنوا " الاية قال: قال (ع): ركون مودة ونصيحة وطاعة. اقول: ورواه ايضا في المجمع مرسلا عنهم (ع). وفي تفسير العياشي عن عثمان بن عيسى عن رجل عن ابى عبد الله (ع) " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " قال: اما انه لم يجعلها خلودا ولكن " تمسكم النار " فلا تركنوا إليهم. اقول: أي ولكن قال تمسكم النار فجعله مسا. وفيه عن جرير عن ابى عبد الله (ع) قال: " اقم الصلاة طرفي النهار " وطرفاه المغرب والغداة " وزلفا من الليل " وهى صلاة العشاء الاخرة. وفى التهذيب باسناده عن زرارة عن ابى جعفر (ع) في حديث في الصلوات الخمس اليومية: وقال تعالى في ذلك " اقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " وهى صلاة
[ 67 ]
العشاء الاخرة. اقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر وما بعدها ليشمل اوقات الخمس. وفي المعاني باسناده عن ابراهيم بن عمر عمن حدثه عن ابى عبد الله (ع) في قول الله عزو جل: " إن الحسنات يذهبن السيئات " قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار. اقول: والحديث مروى في الكافي وتفسير العياشي وامالي المفيد وامالي الشيخ. وفي المجمع عن الواحدى باسناده عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن ابى عثمان
قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا ابا عثمان ألا تسألني لم افعل هذا ؟ قلت: ولم تفعله ؟ قال: هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا معه تحت شجرة فاخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: ألا تسألني يا سلمان لم افعل هذا ؟ قلت: ولم فعلته ؟ قال: ان المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الاية: وأقم الصلاة إلى آخرها. اقول: ورواه في الدر المنثور عن الطيالسي واحمد والدارمى وابن جرير والطبراني والبغوى في معجمه وابن مردويه غير مسلسل. وفيه عنه باسناده عن الحارث عن على بن ابى طالب (ع) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله انى اصبت ذنبا، فأعرض عنه فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أليس قد صليت معنا هذه الصلاة واحسنت لها الطهور ؟ قال: بلى. قال: فانها كفارة ذنبك. اقول: والرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود وابى امامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وواثلة بن الاسقع وانس وغيرهم وفي سرد القصة اختلاف ما في الفاظهم، ورواه الترمذي وغيره عن ابى اليسر وهو صاحب القصة. وفى تفسير العياشي عن ابى حمزة الثمالى قال: سمعت احدهما (ع) يقول: إن عليا
[ 68 ]
(ع) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله ارجى عندكم ؟ فقال بعضهم: " إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قال: حسنة وليست اياها. فقال بعضهم: " يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " قال: حسنة وليست اياها. وقال بعضهم: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " قال: حسنة وليست اياها.
قال: ثم احجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين ؟ قالوا: لا والله ما عندنا شئ. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ارجى آية في كتاب الله: " واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " وقرأ الاية كلها، وقال: يا على والذى بعثنى بالحق بشيرا ونذيرا - ان احدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شئ كما ولدته امه فإذا اصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا على انما منزلة الصلوات الخمس لامتي كنهر جار على باب احدكم فما ظن احدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم ؟ أكان يبقى في جسده درن ؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي. اقول: وقد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق اهل السنة عن عدة من الصحابة كابى هريرة وانس وجابر وابى سعيد الخدرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه عن ابراهيم الكرخي قال: كنت عند ابى عبد الله (ع) فدخل عليه رجل من اهل المدينة فقال له أبو عبد الله (ع): يا فلان من اين جئت ؟ قال: ولم يقل في جوابه، فقال أبو عبد الله (ع): جئت من هنا وههنا. انظر بما تقطع به يومك فان معك ملكا موكلا يحفظ ويكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة وان كانت صغيرة فانها ستسوؤك يوما، ولا تحتقر حسنة فانه ليس شئ اشد طلبا من الحسنة انها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه وتسقطه وتذهب به بعدك، وذلك قول الله " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ". وفيه عن سماعة بن مهران قال: سأل ابا عبد الله (ع) رجل من اهل الجبال عن رجل اصاب مالا من اعمال السلطان فهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما
[ 69 ]
اكتسب، وهو يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله (ع): ان
الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تكفر الخطيئة. ثم قال أبو عبد الله (ع): ان خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس. وفى الدر المنثور اخرج احمد والطبراني عن ابى امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من امرء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى فيحسن الصلاة الا غفرت له ما بينها وبين الصلاة التى كانت قبلها من ذنوبه. اقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من اراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث. وفيه اخرج الطبراني وابو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن تفسير هذه الاية: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: واهلها ينصف بعضهم بعضا. وفي الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (ع) عن قول الله تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك " فقال: كانوا امة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ علهيم الحجة. اقول: ورواه الصدق في المعاني عنه ع مثله. وفي المعاني باسناده عن ابى بصير قال: سألت ابا عبد الله ع عن قول الله عز وجل: " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: وسألته عن قوله عزوجل: " ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم. وفي تفسير القمى عن ابى الجارود عن ابى جعفر ع قال: " ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك " يعنى آل محمد واتباعهم يقول الله: " ولذلك خلقهم " يعنى اهل الرحمة لا يختلفون في الدين.
وفى تفسير العياشي عن يعقوب بن سعيد عن ابى عبد الله ع قال: سألته عن
[ 70 ]
قول الله: " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " قال: خلقهم للعبادة قال: قلت: قوله: " ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال: نزلت هذه بعد تلك. اقول: يشير إلى كون الاية الثانية اعني قوله: " الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " لكونها خاصة ناسخة للاية الاولى العامة، وقد تقدم في الكلام على النسخ انه في عرفهم (ع) اعم مما اصطلح عليه علماء الاصول، والايات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها على الايات العامة فان العوامل والاسباب الخاصة انفذ حكما من العامة فافهمه. * * * وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين - 120. وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم انا عاملون - 121. وانتظروا انا منتظرون - 122. ولله غيب السموات والارض واليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون - 123. (بيان) الايات تلخص للنبى صلى الله عليه وآله وسلم القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، وتنبؤه ان السورة تبين له حق القول في المبدأ والمعاد وسنة الله الجارية في عباده فهى بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعليم للحق، وبالنسبة إلى المؤمنين موعظة وذكرى، وبالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الايمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجهم: اعملوا بما ترون ونحن عاملون بما نراه، وننتظر جميعا صدق ما قص الله علينا من سنته الجارية في خلقه من اسعاد المصلحين واشقاء المفسدين، وتختم بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بعبادته والتوكل عليه لان الامر كله إليه.
[ 71 ]
قوله تعالى: " وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك " إلى آخر الاية أي وكل القصص نقص عليك تفصيلا أو اجمالا، وقوله: " من انباء الرسل " بيان لما اضيف إليه كل، وقوله: " ما نثبت به فؤادك " عطف بيان للانباء اشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده وحسم مادة القلق والاضطراب منه. والمعنى نقص عليك انباء الرسل لنثبت به فؤادك ونربط جأشك في ما انت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحق، والنهضة على قطع منابت الفساد، والمحنة من اذى قومك. ثم ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمه صلى الله عليه وآله وسلم وقومه مؤمنين وكافرين فقال فيما يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فائدة نزول السورة: " وجاءك في هذه الحق " والاشارة إلى السورة أو إلى الايات النازلة فيها أو الانباء على وجه، ومجئ الحق فيها هو ما بين الله تعالى في ضمن القصص وقبلها وبعدها من حقائق المعارف في المبدء والمعاد وسنته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل ونشر الدعوة ثم اسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، وفي الاخرة بالجنة، واشقاء الظالمين بالاخذ في الدنيا والعذاب الخالد في الاخرة. وقال فيما يرجع إلى المؤمنين: " وموعظة وذكرى للمؤمنين " فان فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسبوه من علوم الفطرة في المبدء والمعاد وما يرتبط بهما، وفيما ذكر فيها من القصص والعبر موعظة يتعظون بها. قوله تعالى: " وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم انا عاملون وانتظروا انا منتظرون " وهذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يختم الحجاج معهم ويقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: اما إذا لم تؤمنوا ولم تنقطعوا عن الشرك والفساد بما القيت اليكم من التذكرة والعبر ولم تصدقوا بما قصه الله من انباء الامم واخبر به من سنته الجارية فيهم فاعملوا على ما انتم عليه من المكانة والمنزلة، وبما تحسبونه خيرا لكم انا عاملون، وانتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم انا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبأ الالهى وكذبه.
وهذا قطع للخصام ونوع تهديد اورده الله في القصص الماضية قصة نوح وهود وصالح (ع)، وفي قصة شعيب (ع) حاكيا عنه: " ويا قوم اعملوا على مكانتكم انى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا انى معكم رقيب " آية
[ 72 ]
93 من السورة. قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والارض واليه يرجع الامر كله " لما كان امره تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يأمره بالعمل بما تهوى انفسهم والانتظار، واخبارهم بأنه ومن آمن معه عاملون ومنتظرون، في معنى امره ومن تبعه بالعمل والانتظار عقبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس وثبات من القلب من ان الدائرة ستكون له عليهم. والمعنى فاعمل وانتظر انت ومن تبعك فغيب السماوات والارض الذى يتضمن عاقبة امرك وامرهم انما يملكه ربك الذى هو الله سبحانه دون آلهتهم التى يشركون بها ودون الاسباب التى يتوكلون عليها حتى يديروا الدائرة لانفسهم ويحولوا العاقبة إلى ما ينفعهم، والى ربك الذى هو الله يرجع الامر كله فيظهر من غيبه عاقبة الامر على ما شاءه واخبر به، فالدائرة لك عليهم، وهذا من عجيب البيان. ومن هنا يظهر وجه تبديل قوله: " ربك " المكرر في هذه الايات بلفظ الجلالة " الله " لان فيه من الاشعار بالاحاطة بكل ما دق وجل ما ليس في غيره، والمقام يقتضى الاعتماد والالتجاء إلى ملجأ لا يقهره قاهر ولا يغلب عليه غالب، وهو الله سبحانه ولذلك ترى انه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرره من صفة الرب، وهو قوله: " وما ربك بغافل عما تعملون ". قوله تعالى: " فاعبده وتوكل عليه " الظاهر انه تفريع لقوله: " واليه يرجع الامر كله " أي إذا كان الامر كله مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئا ولا يستقل بشئ فاعبده سبحانه واتخذه وكيلا في جميع الامور ولا تتوكل على شئ من الاسباب دونه لانها اسباب بتسبيبه غير مستقلة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شئ منها. وما ربك بغافل عما تعملون
فلا يجوز التساهل في عبادته والتوكل عليه.
[ 73 ]
(بيان سورة يوسف مكية وهى مائة واحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم الرتلك آيات الكتاب المبين - 1. انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون - 2. نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين - 3. (بيان) غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الذى اخلص ايمانه له تعالى اخلاصا وامتلا بمحبته تعالى لا يبتغى له بدلا ولم يلوالى غيره تعالى من شئ، وان الله تعالى يتولى هو امره فيربيه احسن تربية فيورده مورد القرب ويسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى فيخلصه لنفسه ويحييه حياة الهية وان كانت الاسباب الظاهرة اجمعت على هلاكه، ويرفعه وان توفرت الحوادث على ضعته، ويعزه وان دعت النوائب ورزايا الدهر إلى ذلته وحط قدره. وقد بين تعالى ذلك بسرد قصة يوسف الصديق (ع). ولم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصة من القصص باستقصائها من اولها إلى آخرها غير قصته (ع)، وقد خصت السورة بها من غير شركة ما من غيرها. فقد كان ع عبدا مخلصا في عبوديته فاخلصه الله لنفسه واعزه بعزته وقد تجمعت الاسباب على اذلاله وضعته فكلما القته في احد المهالك احياه الله تعالى من نفس السبيل التى كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده اخوته فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر وادخله في بيت الملك والعزة، راودته التى هو في بيتها عن نفسه واتهمته عند العزيز ولم تلبث دون ان اعترفت عند النسوة ببراءته ثم اتهمته وادخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، وكان قميصه الملطخ بالدم الذى جاؤا به إلى ابيه يعقوب اول يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره
[ 74 ]
فصار قميصه بعينه وقد ارسله بيد اخوته من مصر إلى ابيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، وعلى هذا القياس. وبالجملة كلما نازعه شئ من الاسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد امره ونجاح طلبته، ولم يزل سبحانه يحوله من حال إلى حال حتى آتاه الحكم والملك واجتباه وعلمه من تأويل الاحاديث وأتم نعمته عليه كما وعده ابوه. وقد بدء الله سبحانه قصته بذكر رؤيا رآها في بادئ الامر وهو صبى في حجر ابيه والرؤيا من المبشرات ثم حقق بشارته واتم كلمته فيه بما خصه به من التربية الالهية، وهذا هو شأنه تعالى في اوليائه كما قال تعالى: " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم " يونس: 64. وفى قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف وتعبير ابيه ع لها: " لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين " اشعار بأنه كان هناك قوم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يرجع إلى هذه القصة، وهو يؤيد ما ورد إن قوما من اليهود بعثوا مشركي مكة ان يسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب انتقال بنى اسرائيل إلى مصر وقد كان يعقوب (ع) ساكنا في ارض الشام فنزلت السورة. وعلى هذا فالغرض بيان قصته (ع) وقصة آل يعقوب، وقد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها وهو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من مفتتح السورة ومختتمها، والسورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، وما ورد في بعض الروايات عن ابن عباس إن اربعا من آياتها مدنية، وهى الايات الثلاث التى في اولها، وقوله " لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين " مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد. قوله تعالى: " الر تلك آيات الكتاب المبين " الاشارة بلفظ البعيد للتعظيم والتفخيم، والظاهر ان يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلو وهو مبين واضح في نفسه ومبين
موضح لغيره ما ضمنه الله تعالى من المعارف الالهية وحقائق المبدء والمعاد. وقد وصف الكتاب في الاية بالمبين لا كما في قوله في اول سورة يونس: " تلك آيات الكتاب الحكيم " لكون هذه السورة نازلة في شأن قصة آل يعقوب وبيانها، ومن المحتمل أن
[ 75 ]
يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ. قوله تعالى: " إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الضمير للكتاب بما انه مشتمل على الايات الالهية والمعارف الحقيقية، وانزاله قرآنا عربيا هو الباسه في مرحلة الانزال لباس القراءة والعربية، وجعله لفظا متلوا مطابقا لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر: " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4. وقوله: " لعلكم تعقلون " من قبيل توسعة الخطاب وتعميمه فان السورة مفتتحة بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " تلك آيات الكتاب "، وعلى ذلك يجرى بعد كما في قوله: " نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك " الخ. فمعنى الاية - والله اعلم - انا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الايات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربي محلى بحليته ليقع في معرض التعقل منك ومن قومك أو امتك، ولو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقرو أو لم يجعل عربيا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من اسرار الايات بل اختص فهمه بك لاختصاصك بوحيه وتعليمه. وفي ذلك دلالة ما على ان لالفاظ الكتاب العزيز من جهة تعينها بالاستناد إلى الوحى وكونها عربية دخلا في ضبط اسرار الايات وحقائق المعارف، ولو انه اوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه وكان اللفظ الحاكى له لفظه صلى الله عليه وآله وسلم كما في الاحاديث القدسية مثلا أو ترجم إلى لغة اخرى خفى بعض اسرار آياته البينات عن عقول الناس ولم تنله ايدى تعقلهم وفهمهم. وعنايته تعالى فيما اوحى من كتابه باللفظ مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه كيف ؟ وقد قسمه إلى المحكمات والمتشابهات وجعل المحكمات ام الكتاب ترجع إليها المتشابهات
قال تعالى: " هو الذى انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات " آل عمران: 7 وقال تعالى ايضا: " ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين " النحل: 103. قوله تعالى: " نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين " قال الراغب في المفردات: القص تتبع الاثر يقال: قصصت اثره، والقصص الاثر قال: فارتدا على آثارهما قصصا، وقالت لاخته قصيه. قال:
[ 76 ]
والقصص الاخبار المتتبعة قال تعالى: لهو القصص الحق في قصصهم عبرة وقص عليه القصص نقص عليك احسن القصص. انتهى فالقصص هو القصة واحسن القصص احسن القصة والحديث، وربما قيل: انه مصدر بمعنى الاقتصاص. فان كان اسم مصدر فقصة يوسف (ع) احسن قصة لانها تصف اخلاص التوحيد في العبودية، وتمثل ولاية الله سبحانه لعبده وانه يربيه بسلوكه في صراط الحب ورفعه من حضيض الذلة إلى اوج العزة، واخذه من غيابة جب الاسارة ومربط الرقية وسجن النكال والنقمة إلى عرش العزة وسرير الملك. وان كان مصدرا فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذى اقتص سبحانه به احسن الاقتصاص لانه اقتصاص لقصة الحب والغرام بأعف ما يكون واستر ما يمكن. والمعنى - والله اعلم - نحن نقص عليك احسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن اليك وانك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصة من الغافلين عنها. * * * إذ قال يوسف لابيه يا ابت انى رايت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين - 4. قال يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين - 5. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحق ان ربك
عليم حكيم - 6.
[ 77 ]
(بيان) تذكر الايات رؤيا رآها يوسف وقصها على ابيه يعقوب (ع) فعبرها ابوه له ونهاه ان يقصها على اخوته، وهذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية والقرب من ربه، وهى بمنزلة المدخل في قصته (ع). قوله تعالى: " إذ قال يوسف لابيه يا أبت انى رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لى ساجدين " لم يذكر يعقوب (ع) باسمه بل كنى عنه بالاب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة والرأفة والشفقة كما يدل عليه ما في الاية التالية: " قال يا بنى لا تقصص " الخ. وقوله: " رأيت " و " رأيتهم " من الرؤيا وهى ما يشاهده النائم في نومته أو الذى خمدت حواسه الظاهرة باغماء أو ما يشابهه، ويشهد به قوله في الاية التالية: " لا تقصص رؤياك على اخوتك " وقوله في آخر القصة: " يا ابت هذا تأويل رؤياي ". وتكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله " رأيت " وقوله " لى ساجدين " ومن فائد التكرير الدلالة على انه انما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى. على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة اشخاص الكواكب والشمس والقمر مشاهدة امر صوري ومشاهدة سجدتهم وخضوعهم وتعظيمهم له مشاهدة امر معنوى. وقد عبر عن الكواكب والنيرين في قوله: " رأيتهم لى ساجدين " بما يختص باولى العقل - ضمير الجمع المذكر وجمع المذكر السالم - للدلالة على ان سجدتهم كانت عن علم وارادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر. وقد افتتح سبحانه قصته (ع) بذكر هذه الرؤيا التى اراها له وهى بشرى له تمثل له
ما سيناله من الولاية الالهية ويخص به من اجتباء الله اياه وتعليمه تأويل الاحاديث واتمام نعمته عليه، ومن هناك تبتدئ التربية الالهية له لان الذى بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، ولا ينتقل من شأن إلى شأن، ولا يواجه
[ 78 ]
نائبة، ولا يلقى مصيبة، الا وهو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه على الصبر عليها. وهذه هي الحكمة في ان الله سبحانه يخص اولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب ومنزلة الزلفى كما في قوله: " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - إلى ان قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة " يونس: 64. قوله تعالى قال: " يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين " ذكر في المفردات: ان الكيد ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموما وممدوحا وان كان يستعمل في المذموم اكثر وكذلك الاستدراج والمكر. انتهى وقد ذكروا ان الكيد يتعدى بنفسه وباللام. والاية تدل على ان يعقوب لما سمع ما قصه عليه يوسف من الرؤيا ايقن بما يدل عليه ان يوسف (ع) سيتولى الله امره ويرفع قدره، يسنده على اريكة الملك وعرش العزة، ويخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فاشفق على يوسف (ع) وخاف من اخوته عليه وهم عصبة اقوياء ان لو سمعوا الرؤيا - وهى ظاهرة الانطباق على يعقوب (ع) وزوجه واحد عشر من ولده غير يوسف، وظاهره الدلالة على انهم جميعا سيخضعون ويسجدون ليوسف - حملهم الكبر والانفة ان يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه و بين ما تبشره به رؤياه. ولذلك خاطب يوسف (ع) خطاب الاشفاق كما يدل عليه قوله: " يا بنى بلفظ التصغير، ونهاه عن اقتصاص رؤياه على اخوته قبل ان يعبرها له وينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الالهية المقضية في حقه، ولم يقدم النهى على البشارة
الالفرط حبه له وشدة اهتمامه به واعتنائه بشأنه، وما كان يتفرس من اخوته انهم يحسدونه وانهم امتلئوا منه بغضا وحنقا. والدليل على بلوغ حسدهم وظهور حنقهم وبغضهم قوله: " لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا " فلم يقل انى اخاف ان يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الامن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم واكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال: " فيكيدوا لك كيدا
[ 79 ]
ثم اكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: " ان الشيطان للانسان عدو مبين " أي ان لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذى هو الحسد ويثيره ويهيجه ليؤثر اثره السئ وهو الشيطان الذى هو عدو للانسان مبين لا خلة بينه وبينه ابدا يحمل الانسان بوسوسته وتسويله على ان يخرج من صراط الاستقامة والسعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه وآخرته فيفسد ما بين الوالد وولده وينزع بين الشقيق وشقيقه ويفرق بين الصديق وصديقه ليضلهم عن الصراط. فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (ع): يا بنى لا تقصص رؤياك على اخوتك فانهم يحسدونك ويغتاظون من امرك فيكيدونك عندئذ بنزغ واغراء من الشيطان وقد تمكن من قلوبهم ولا يدعهم يعرضوا عن كيدك فان الشيطان للانسان عدو مبين. قوله تعالى: " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب " إلى آخر الاية الاجتباء من الجباية وهى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه ومنه جبايه الخراج أي جمعه قال تعالى: " يجبي إليه ثمرات كل شئ " القصص: 57 ففى معنى الاجتباء جمع اجزاء الشئ وحفظها من التفرق والتشتت، وفيه سلوك وحركة من الجابى نحو المجبى فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هو ان يقصده برحمته ويخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله ويحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة
للانسان ويركبه صراطه المستقيم وهو ان يتولى امره ويخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما اخبر تعالى بذلك في يوسف (ع) إذ قال: " انه من عبادنا المخلصين " الاية 24 من السورة. وقوله: " ويعلمك من تأويل الاحاديث التأويل " هو ما ينتهى إليه الرؤيا من الامر الذى تتعقبه، وهو الحقيقة التى تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه ومشاعره كما تمثل سجدة ابوي يوسف واخوته الاحد عشر في صورة احد عشر كوكبا والشمس والقمر وخرورها امامه ساجدة له، وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى: " فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " الاية آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب. والاحاديث جمع الحديث وربما اريد به الرؤي لانها من حديث النفس فان نفس
[ 80 ]
الانسان تصور له الامور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الامور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله ومنه يظهر ما في قول بعضهم ان الرؤي سميت احاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها وهو كما ترى. وكذا ما قيل: انها سميت احاديث لانها من حديث الملك ان كانت صادقة ومن حديث الشيطان ان كانت كاذبة. انتهى وفيه انها ربما لم تستند إلى ملك ولا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ ونحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء ونزول الثلج ونحوهما. ورده بعضهم بأنه يخالف الواقع فان رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر انتهى وقد اشتبه عليه معنى الحديث وظن ان المراد بقولهم: ان الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان الحديث على نحو التكليم باللفظ وليس
كذلك بل المراد ان المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما ان تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الاصل المراد وهذا كما يقال لمن يقصد امرا ويعزم على فعل أو ترك انه حدثه نفسه ان يفعل كذا أو يترك كذا أي انه يصوره فاراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بانه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا وبالجملة معنى كون الرؤيا من الاحاديث انها من قبيل تصور الامور للنائم كما يتصور الانباء والقصص بالتحديث اللفظى فهى حديث اما ملكى أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق انها من احاديث النفس بالمباشرة وسيجئ استيفاء البحث في ذلك ان شاء الله تعالى هذا. لكن الظاهر المتحصل من قصته (ع) المسرودة في هذه السورة ان الاحاديث التى علمه الله تعالى تأويلها اعم من احاديث الرؤيا وانما هي الاحاديث اعني الحوادث والوقائع التى تتصور للانسان اعم من ان تتصور له في يقظة أو منام فان بين الحوادث والاصول التى تنشأ هي منها والغايات التى تنتهى إليها اتصالا لا يسع انكاره وبذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن ان يهتدى عبد باذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الاحاديث والحقائق التى تنتهى هي إليها. ويؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف
[ 81 ]
(ع) وتأويل يوسف لرؤيا نفسه ورؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا عزيز مصر وفيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى " الاية 37 من السورة وكذا قوله: " فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب واوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " الاية 15 من السورة وسيوافيك توضيحه ان شاء الله تعالى. وقوله: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب " قال الراغب في المفردات: النعمة (بالكسر فالسكون) الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التى يكون عليها الانسان
كالجلسة والركبة والنعمة (بالفتح فالسكون) التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير. قال: والانعام ايصال الاحسان إلى الغير ولا يقال الا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فانه لا يقال: انعم فلان على فرسه قال تعالى: " انعمت عليهم " " واذ تقول للذى انعم الله عليه وانعمت عليه " والنعماء بازاء الضراء. قال: والنعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: " في جنات النعيم " وقال تعالى: " جنات النعيم " وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش وخصب قال تعالى: " فأكرمه ونعمه " وطعام ناعم وجارية ناعمة انتهى. ففى الكلمة - كما ترى - شئ من معنى اللين والطيب والملائمة فكأنها مأخوذة من النعومة وهى الاصل في معناها وقد اختص استعمالها بالانسان لان له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع ويستلئمه ويتنعم به بخلاف غيره الذى لا يميز ما ينفعه مما يضره كما ان المال والاولاد وغيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد ونقمة لاخر ونعمة للانسان في حال ونقمة في اخرى. ولذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الالهية كالمال والجاه والازواج والاولاد وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الانسان الا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة الولاية الالهية تقرب الانسان إلى الله زلفى واما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فانما هي نقمة وليست بنعمة والايات في ذلك كثيرة.
[ 82 ]
نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهى نعمة منه وفضل ورحمة لانه خير يفيض الخير ولا يريد في موهبته شرا ولا سوء وهو رؤف رحيم غفور ودود قال تعالى: " وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ابراهيم: 34 والخطاب في الاية لعامة الناس وقال تعالى: " وذرنى والمكذبين اولى النعمة ومهلهم قليلا " المزمل: 11 وقال تعالى: " ثم إذا
خولناه نعمة منا قال انما اوتيته على علم " الزمر: 49 فهذه وامثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى: " لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " ابراهيم: 7. وبالجملة إذا كان الانسان في ولاية الله كان جميع الاسباب التى يتسبب بها في استبقاء الحياة والتوصل إلى السعادة نعما الهية بالنسبة إليه وان كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما وهى جميعا من الله سبحانه نعم وان كانت مكفورا بها. ثم ان وسائل الحياة ان كانت ناقصة لا تفى بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن اوتى مالا وسلب الامن والسلام فلا يتمكن من ان يتمتع به كما يريده ومتى واينما يريده وإذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة. فقوله: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب " يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك وفى حق آل يعقوب وهم يعقوب وزوجه وسائر بنيه كما كان رآه في رؤياه. وقد جعل يوسف (ع) اصلا وآل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: " عليك وعلى آل يعقوب " كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له ورأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر وأحد عشر كوكبا سجدا له. وقد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (ع) انه آتاه الحكم والنبوة والملك والعزة في مصر مضافا إلى ان جعله من المخلصين وعلمه من تأويل الاحاديث ومما أتم به النعمة على آل يعقوب انه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (ع) وجاء به وبأهله جميعا من البدو ورزقهم الحضارة بنزول مصر. وقوله: " كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحاق " أي نظير ما أتم النعمة
[ 83 ]
من قبل على ابراهيم واسحاق وهما أبواك فأنه آتاهما خير الدنيا والآخرة فقوله: " من قبل " متعلق بقوله: " اتمها " وربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله " ابويك " والتقدير كما اتمها على أبويك الكائنين من قبل. و " ابراهيم واسحاق " بدل أو عطف بيان لقوله " ابويك " وفائدة هذا السياق الاشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت ابراهيم من طريق اسحاق حيث اتمها الله على ابراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف (ع) وسائر آل يعقوب. ومعنى الآية: وكما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بانقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، ويعلمك من تأويل الاحاديث وهو ما يؤل إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة ويتم نعمته هذه وهى الولاية الالهية بالنزول في مصر واجتماع الاهل والملك والعزة عليك وعلى ابويك واخوتك وانما يفعل ربك بك ذلك لانه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجرى عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك وما يستحقونه من غضبه. والتدبر في الاية الكريمة يعطى: اولا: ان يعقوب ايضا كان من المخلصين وقد علمه الله من تأويل الاحاديث فأنه (ع) اخبر كما في هذه الاية بتأويل رؤيا يوسف وما كان ليخبر عن خرص وتخمين دون ان يعلمه الله ذلك. على ان الله بعد ما حكى عنه لبنيه " يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة " الخ قال في حقه: " وانه لذو علم لما علمناه ولكن اكثر الناس لا يعلمون ". على انه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه انه قال: " لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى " فأخبر انه من تأويل الحديث وقد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: " انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وبالاخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ " الخ فأخبر انه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه ابراهيم واسحاق
ويعقوب نقى الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا ولذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الاحاديث والاشتراك في العلة كما ترى يعطى ان آباءه الكرام ابراهيم واسحاق ويعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الاحاديث.
[ 84 ]
ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: " واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب اولى الايدى والابصار انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " ص: 46 ويعطى ان العلم بتأويل الاحاديث من فروع الاخلاص لله سبحانه. وثانيا: ان جميع ما اخبر به يعقوب (ع) منطبق على متن ما رآه يوسف ع من الرؤيا وهو سجدة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له وذلك ان سجدتهم له وفيهم يعقوب الذى هو من المخلصين ولا يسجد الا لله وحده تكشف عن انهم انما سجدوا امام يوسف لله ولم ياخذوا يوسف الا قبلة كالكعبة التى يسجد إليها ولا يقصد بذلك الا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف ولا له الا الله تعالى وهذا هو كون العبد مخلصا بفتح اللام لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شئ كما يؤمى إليه يوسف بقوله: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شى " ء وقد تقدم آنفا ان العلم بتأويل الاحاديث متفرع على الاخلاص. ومن هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: " وكذلك أي كما رايت نفسك مسجودا لها يجتبيك ربك أي يخلصك لنفسه ويعلمك من تأويل الاحاديث ". وكذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا وهى اجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الانوار واسعة المدارات تدل على انهم سترتفع مكانتهم ويعلوا كعبهم في حياتهم الانسانية السعيدة وهى الحياة الدينية العامرة للدنيا والاخرة ويمتازون في ذلك من غيرهم. ومن هنا مضى يعقوب في حديثه وقال: " ويتم نعمته عليك أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك وعلى آل يعقوب أي علي وعلى زوجي وولدى جميعا
كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحاق ان ربك عليم حكيم ". وثالثا: ان المراد باتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة وضم الدنيا إلى الاخرة ولا تنافى بين نسبة اتمام النعمة إلى الجميع وبين اختصاص الاجتباء وتعليم تأويل الاحاديث بيعقوب ويوسف (ع) من بينهم لان النعمة وهى الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب وحيث نسبت إلى الجميع ياخذ كل منهم نصيبه منها. على ان من الجائز ان ينسب امر إلى المجموع باعتبار اشتماله على اجزاء بعضها قائم
[ 85 ]
بمعنى ذلك الامر كما في قوله: " ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات " الجاثية: 16 وايتاء الكتاب والحكم والنبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات. ورابعا: ان يوسف كان هو الوسيلة في اتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب ولذلك جعله يعقوب اصلا في الحديث وعطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله وأفرده بالذكر حيث قال: " ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ". ولذلك ايضا نسب هذه العناية والرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة " ربك " ولم يقل: " يجتبيك الله " ولا " ان الله عليم حكيم " فهذا كله يشهد بأنه هو الاصل في اتمام النعمة على آل يعقوب واما ابواه ابراهيم واسحاق فان التعبير بما يشعر بالتنظير " كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحاق " يخرجهما من تحت اصالة يوسف فافهم ذلك. (بحث روائي) في تفسير القمى قال: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع) قال: تأويل هذه الرؤيا انه سيملك مصر ويدخل عليه ابواه واخوته. فأما الشمس فام يوسف راحيل والقمر يعقوب واما احد عشر كوكبا فأخوته فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله
وحده حين نظروا إليه وكان ذلك السجود لله. وفى الدر المنثور اخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: " احد عشر كوكبا " قال: اخوته والشمس قال امه والقمر قال ابوه ولامه راحيل ثلث الحسن. اقول والروايتان كما ترى تفسر ان الشمس بامه والقمر بأبيه ولا تخلوان من ضعف وربما روى ان التى دخلت عليه بمصر هي خالته دون امه فقد ماتت امه قبل ذلك وكذلك وردت في التوراة. وفي تفسير القمى عن الباقر (ع): كان له احد عشر اخا - وكان له من امه اخ واحد يسمى بنيامين. قال فرآى يوسف هذه الرؤيا وله تسع سنين فقصها على ابيه فقال يا بنى لا تقصص الاية.
[ 86 ]
اقول: وفي بعض الروايات انه كان يومئذ ابن سبع سنين وفي التوراة انه كان ابن ست عشر سنة وهو بعيد. وفي قصة الرؤيا روايات اخرى سيجئ بعضها في البحث الروائي الاتى ان شاء الله تعالى. * * * لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين 7 - إذ قالوا ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفى ضلال مبين (8) - اقتلوا يوسف أو اطرحوه ارضا يخل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) - قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين (10) - قالوا يا ابانا ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون (11) - ارسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون (12) - قال انى ليحزنني ان تذهبوا به واخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون (13) - قالوا لئن اكله الذئب ونحن
عصبة انا إذا لخاسرون 14) - فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب واوحينا إليه لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون (15) - وجاؤا اباهم عشاء يبكون (16) - قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف
[ 87 ]
عند متاعنا فأكله الذئب وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17) - وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18) - وجاءت سيارة فارسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام واسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19) - وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20) - وقال الذى اشتراه من مصر لا مراته اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على ولكن اكثر الناس لا يعلمون (21). (بيان) شروع في القصة بعد ذكر البشارة التى هي كالمقدمة الملوحة إلى اجمال الغاية التى تنتهى إليها القصة والايات تتضمن الفصل الاول من فصول القصة وفيه مفارقة يوسف ليعقوب (ع) وخروجه من بيت ابيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر وقد حدث خلال هذه الاحوال ان القاه اخوته في البئر واخرجته السيارة منها وباعه اخوته من السيارة وهم حملوه إلى مصر وباعوه من العزيز فبقى عنده. قوله تعالى: " لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين " شروع في القصة وفيه التنبيه على ان القصة مشتملة على آيات الهية دالة على توحيد الله سبحانه وانه هو الولى
[ 88 ]
يلى امور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة ويثبتهم في اريكة الكمال فهو تعالى الغالب على امره يسوق الاسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره ويستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها. فهذه اخوة يوسف (ع) حسدوا اخاهم وكادوه والقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبدا يريدون بذلك ان يسوقوه إلى الهلاك فاحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك وان يذللوه فاعزه الله بعين سبب التذليل ووضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع والخفض وان يحولوا حب ابيهم إلى انفسهم فيخلوا لهم وجه ابيهم فعكس الله الامر وذهبوا ببصر ابيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذى جاء به إليه البشير والقاه على وجهه. ولم يزل يوسف ع كلما قصده قاصد بسوء انجاه الله منه وجعل فيه ظهور كرامته وجمال نفسه وكلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة ومنقبة شريفة ظاهرة وإلى ذلك يشير يوسف (ع) حيث يعرف نفسه لا خوته ويقول: " انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " الاية 91 من السورة ويقول لابيه بحضرة من اخوته " يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد احسن بى إذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بينى وبين اخوتى " ثم تأخذه الجذبة الالهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه ويعرض عن غيره فيقول: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة " الاية 101 من السورة. وفي قوله تعالى: " للسائلين " دلالة على انه كان هناك جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة. قوله تعالى: " إذ قالوا ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا
لفى ضلال مبين " ذكر في المجمع ان العصبة هي الجماعة التى يتعصب بعضها لبعض ويقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر وقيل ما بين العشرة إلى الاربعين ولا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر انتهى.
[ 89 ]
وقوله: " إذ قالوا ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا " القائلون هم ابناء يعقوب ما خلا يوسف واخاه الذى ذكروه معه وكانت عدتهم عشرة وهم رجال اقوياء بيدهم تدبير بيت ابيهم يعقوب وادارة مواشيه وامواله كما يدل عليه قولهم " ونحن عصبة ". وقولهم: " ليوسف واخوه " بنسبته إلى يوسف مع انهم جميعا ابناء ليعقوب واخوة فيما بينهم يشعر بان يوسف واخاه هذا كانا اخوين لام واحدة واخوين لهؤلاء القائلين لاب فقط الروايات تذكر ان اسم اخى يوسف هذا بنيامين والسياق يشهد انهما كانا صغيرين لا يقومان بشئ من امر بيت يعقوب وتدبير مواشيه وامواله. وقولهم: " ونحن عصبة " أي عشرة اقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض وهو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم وحنقهم لهما وغيظهم على ابيهم يعقوب في حبه لهما اكثر منهم وهو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: " ان ابانا لفى ضلال مبين ". وقولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " قضاء منهم على ابيهم بالضلال ويعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة وفساد السيرة دون الضلال في الدين. اما اولا: فلان ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم انهم جماعة اخوان اقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شؤن ابيهم الحيوية واصلاح معاشه ودفع كل مكروه يواجهه ويوسف واخوه طفلان صغيران لا يقويان من امور الحياة على شئ وليس كل منها الا كلا عليه وعليهم وإذا كان كذلك كان توغل ابيهم في حبهما واشتغاله بكليته بهما دونهم واقباله عليهما بالاعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعى ان يهتم الانسان بكل من اسبابه ووسائله على قدر ما له من التأثير
وقصر الانسان اهتمامه على من هو كل عليه ولا يغنى عنه طائلا والاعراض عمن بيده مفاتيح حياته وازمة معاشه ليس الا ضلالا من صراط الاستقامة واعوجاجا في التدبير واما الضلال في الدين فله اسباب اخر كالكفر بالله وآياته ومخالفة أو امره ونواهيه. واما ثانيا: فلانهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة ابيهم يعقوب كما يظهر من قولهم: " وتكونوا من بعده قوما صالحين " وقولهم اخيرا " يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا " الاية 97 من السورة وقولهم ليوسف اخيرا " تا لله لقد آثرك الله علينا " وغير ذلك ولو ارادوا بقولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.
[ 90 ]
وهم مع ذلك كانوا يحبون اباهم ويعظمونه ويو قرونه وانما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب ابيهم كما قالوا: " اقتلوا يوسف أو اطرحوه ارضا يخل لكم وجه ابيكم " فهم كما يدل عليه هذا السياق كانوا يحبونه ويحبون ان يخلص لهم حبه ولو كان خلاف ذلك لا نبعثوا بالطبع إلى ان يبدؤا بابيهم دون اخيهم وان يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو ويصفو لهم الامر ثم الشأن في يوسف عليهم اهون. ولقد جبهوا اباهم اخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم " انى لا جد ريح يوسف لو لا ان تفندون قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " الاية 95 من السورة ومن المعلوم ان ليس المراد به الضلال في الدين بل الافراط في حب يوسف والمبالغة في امره بما لا ينبغى. ويظهر من الاية وما يرتبط بها من الايات انه كان يعقوب (ع) يسكن البدو وكان له اثنا عشر ابنا وهم اولاد علة وكان عشرة منهم كبارا هم عصبة اولوقوة وشدة يدور عليهم رحى حياته ويدبر بايديهم امور امواله ومواشيه وكان اثنان منهم صغيرين اخوين لام واحدة في حجر ابيهما وهما يوسف واخوه لامه وابيه وكان يعقوب (ع) مقبلا اليهما يحبهما حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال والتقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف ؟ وهو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى: " انا اخلصناهم بخالصة ذكرى
الدار " ص: 46 وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. فكان هذا الحب والايثار يثير حسد سائر الاخوة لهما ويؤجج نائرة الاضغان منهم عليهما ويعقوب (ع) يتفرس ذلك ويبالغ في حبهما وخاصة في حب يوسف وكان يخافهم عليه ولا يرضى بخلوتهم به ولا يأمنهم عليه وذلك يزيد في حسدهم وغيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر والمكر كما مرت استفادته من قوله: " فيكيدوا لك كيدا " حتى رآى يوسف الرؤيا وقصها لابيه فزاد بذلك اشفاق ابيه عليه وازداد حبه له ووجده فيه واوصاه ان يكتم رؤياه ولا يخبر اخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره. فاجتمع الكبار من بنى يعقوب وتذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من امر ابيهم وما يصنعه بيوسف واخيه حيث يشتغل بهما عنهم ويؤثر هما عليهم وهما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل وهم عصبة اولوقوة وشدة اركان حياته واياديه الفعالة في
[ 91 ]
دفع كل رزية عادية وجلب منافع المعيشة وادارة الاموال والمواشى وليس من حسن السيرة واستقامة الطريقة ايثار هذين الضعيفين على ضعفهما على اولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة ابيهم وحكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه. ولم يريدوا برمى ابيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الايات وقد تقدمت الاشارة إليها. وبذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الاية منها ما ذكره بعضهم ان هذا الحكم منهم بضلال ابيهم عن طريق العدل والمساواة جهل مبين وخطأ كبير لعل سببه اتهمهام اياه بافراطه في حب امهما من قبل فيكون مثاره الاول اختلاف الامهات بتعدد الزوجات ولا سيما الاماء منهن (1) وهو الذى اضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الاولاد وضعافهم وكانا اصغر اولاده.
قال ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الاولاد وتربيتهم على المحبة والعدل وانقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول اهانة له ومحاباة لاخيه بالهوى وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الاخلاق والتقوى والعلم والذكاء. وما كان يعقوب بالذى يخفى عليه هذا وما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم الا من علمه بما يجب فيه ولكن ما يفعل الانسان بغريزته وقلبه وروحه ؟ أيستطيع ان يحول دون سلطانها على جوارحه ؟ كلا انتهى. اما قوله ان منشأ حسدهم وبغيهم اختلاف الامهات وخاصة الاماء منهن الخ ففيه ان استدعاء اختلاف الامهات اختلاف الاولاد وان كان مما لا يسوغ انكاره ووجود ذلك في المورد محتمل لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا ولو كان هو السبب الوحيد لفعلوا باخى يوسف ما فعلوا به ولم يقنعوا به.
(1) اشارة إلى ما في التوراة ان يعقوب كان له من الاولاد اثنا عشر ولدا ذكرا وهم راوبين وشمعون ولاوى ويهوذا ويساكر وزبولون وهؤلاء من ليئة بنت خاله ويوسف وبنيامين من راحيل بنت خاله الاخرى. ودان ونفتالى من بلهة جارية راحيل، وجاد واشير من زلفة جارية ليئة. (*)
[ 92 ]
واما قوله وهو الذى اضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الاولاد وضعافهم ومفاده ان محبة يعقوب ليوسف انما كانت رقة وترحما غريزيا منه لصغرهما كما هو المشهود من الاباء بالنسبة إلى صغار اولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو اصغر منهم. ففيه ان هذا النوع من الحب المشوب بالرقة والترحم مما يسلمه الكبار للصغار وينقطعون عن مزاحمتهم ومعارضتهم في ذلك ترى كبراء الاولاد إذا شاهدوا زيادة
اهتمام الوالدين بصغارهم وضعفائهم واعترضوا بان ذلك خلاف التعديل والتسوية فاجيبوا بانهم صغار ضعفاء يجب ان يرق لهم ويرحمو ويعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في امر الحياة سكتوا وانقطعوا عن الاعتراض واقنعهم ذلك. فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف واخيه صورة الرقة والرأفة والرحمة لهما لصغرهما وهى التى يعهدها كل من العصبة في نفسه ويذكرها من ابيه له في حال صغره لم يعيبوها ولم يذموا اباهم عليها ولكان قولهم " ونحن عصبة " دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة ابيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال ابيهم في زيادة حبه لهما. على انهم قالوا لابيهم حينما كلموا اباهم في امر يوسف: " ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " ومن المعلوم ان اكرامه ليوسف وضمه إليه ومراقبته له وعدم امن احد منهم عليه امر وراء المحبة بالرقة والرحمة له ولصغره وضعفه واما قوله وما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال ومعناه ان هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية اولاده على علم منه بان ذلك خلاف العدل والانصاف وانه سيدفعه إلى بلوى في اولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب وعلقة الروح مما لا يستطيعه الانسان. ففيه انه افساد للاصول المسلمة العقلية والنقلية التى يستنتج منها حقائق مقامات الانبياء والعلماء بالله من الصديقين والشهداء والصالحين وما بنى عليه البحث عن كرائم الاخلاق ان الانسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها ومحق الرذائل النفسانية التى اصلها واساسها اتباع هوى النفس وايثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة وبغية وهذا امر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من اهل التقوى والورع فما الظن بالانبياء.
[ 93 ]
ثم بمثل يعقوب (ع) منهم. وليت شعرى إذا لم يكن في استطاعة الانسان ان يخالف هوى نفسه في امثال هذه
الامور فما معنى هذه الا وامر والنواهي الجمة في الدين المتعلقة بها وهل هي الا مجازفة صريحة. على ان فيما ذكره ازراء لمقامات انبياء الله واوليائه وحطا لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس اسراء هوى انفسهم الجاهلين بمقام ربهم وقد عرف سبحانه انبياء بمثل قوله: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " الانعام: 87 وقال في يعقوب وابويه ابراهيم واسحاق (ع): " وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا واوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وايتاء الزكاء وكانوا لنا عابدين " الانبياء: 73 وقال فيهم ايضا: " انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " ص 46. فاخبر انه هداهم إلى مستقيم صراطه ولم يقيد ذلك بقيد وانه اجتباهم وجمعهم واخلصهم لنفسه فهم مخلصون بفتح اللام لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك فلا. يبتغون الا ما يريده من الحق ولا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير انفسهم أو غيره وقد كرر سبحانه في كلامه حكاية اغواء بنى آدم عن الشيطان واستثنى المخلصين: " لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ص: 83. فالحق ان يعقوب انما كان يحب يوسف واخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى والكمال ومن يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه ان الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ولم يكن حبه هوى البتة. ومنها ما ذكره بعضهم ان مرادهم من قولهم: " ان ابانا لفى ضلال مبين " ضلاله في الدين وقد عرفت ان سياق الايات الكريمة يدفعه. ويقابل هذا القول بوجه قول آخرين ان اخوة يوسف كانوا انبياء وانما نسبوا اباهم إلى الضلال في سيرته والعدول في امرهم عن العدل والاستقامة وإذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية والظلم في اخيهم وابيهم اجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الانبياء قبل
[ 94 ]
النبوة وربما اجيب بجواز ان يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين ومن الجائز صدور امثال هذه الامور عن الاطفال المراهقين وهذه اوهام مدفوعة وليس قوله تعالى: " واوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط " النساء: 163 الظاهر في نبوة الاسباط صريحا في اخوة يوسف. والحق ان اخوة يوسف لم يكونوا انبياء بل كانوا اولاد انبياء حسدو يوسف واذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم واصلحوا وقد استغفر لهم يعقوب ويوسف (ع) كما حكى الله عن ابيهم قوله: " سوف استغفر لكم ربى " الاية 98 من السورة بعد قولهم: " يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين " وعن يوسف قوله: " يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين " الاية: 92 من السورة بعد اعترافهم له بقولهم: " وان كنا لخاطئين ". ومنها قول بعضهم ان اخوة يوسف انما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه وقد كان يعقوب نهاه ان يقص رؤياه على اخوته والحق ان الرؤيا انما اوجبت زيادة حسدهم وقد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه. قوله تعالى: " اقتلوا يوسف أو اطرحوه ارضا يخل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين " تتمة قول اخوة يوسف والاية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذى عقدوه في امر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله: " وما كنت لديهم إذ اجمعوا امرهم وهم يمكرون " الاية 102 من السورة. وقد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الايات الثلاث: " قالوا ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة إلى قوله ان كنتم فاعلين ". فأوردوا اولا: ذكر مصيبتهم في يوسف واخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى انفسهما وجذبا نفسه اليهما عن سائر الاولاد فصار يلتزمها ولا يعبأ بغيرهما ما فعلوا وهذه
محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الامر فيه سقوط شخصيتهم وخيبة مسعاهم وذلتهم بعد العزة وضعفهم بعد القوة وهو انحراف من يعقوب في سيرته وطريقته. ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الزرية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة
[ 95 ]
ويراه من الرأى فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف وآخرون إلى طرحه ارضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى ابيه واللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه ويمحو رسمه فيخلو وجه ابيهم لهم وينبسط حبه وحبائه فيهم. ثم اتفقوا على ما يقرب من الراى الثاني وهو ان يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة ويذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره ويعفى اثره. فقوله تعالى: " اقتلوا يوسف " حكاية لاحد الرأيين منهم في امره وفي ذكرهم يوسف وحده وقد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف واخاه معا: " ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا " دليل على انه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب وبلوغ عنايته واهتمامه وان كان اخوه ايضا محبوا بالحب والاكرام من بينهم وكيف لا ؟ ويوسف هو الذى رأى الرؤيا وبشر بأخص العنايات الالهية والكرامات الغيبية وقد كان اكبرهما والخطر المتوجه من قبله إليهم اقرب مما من قبل اخيه ولعل في ذكر الاخوين معا اشارة إلى حب يعقوب لامهما الموجب لحبه بالطبع لهما وتهييج حسد الاخوة وغيظهم وحقدهم بالنسبة اليهما. وقوله: " أو اطرحوه ارضا " حكاية رأيهم الثاني فيه والمعنى صيروه أو غربوه في ارض لا يقدر معه على العود إلى بيت ابيه فيكون كالمقتول ينقطع اثره ويستراح من خطره كالقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء ونظير ذلك. والدليل عليه تنكير ارض ولفظ الطرح الذى يستعمل في القاء الانسان المتاع أو الاثاث الذى يستغنى عنه ولا ينتفع به للاعراض عنه.
وفي نسبة الرأيين بالترديد إليهم دليل على ان مجموع الرأيين كان هو المرضي عند اكثر الاخوة حتى قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف الخ. وقوله: " يخل لكم وجه ابيكم " أي افعلوا به احد الامرين حتى يخلو لكم وجه ابيكم وهو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذى يجلب الحب والعطف إلى نفسه كأنهم ويوسف إذا اجتمعوا واباهم حال يوسف بينه وبينهم وصرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه ابيهم لهم واختص حبه بهم وانحصر اقباله عليهم.
[ 96 ]
وقوله: " وتكونوا من بعده قوما صالحين " أي وتكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه والمال واحد قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية. وفي هذا دليل على انهم كانوا يرونه ذنبا واثما وكانوا يحترمون امر الدين ويقدسونه لكن غلبهم الحسد وسولت لهم انفسهم اقتراف الذنب وارتكاب المظلمة وآمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الالهية وهو ان يقترفوا الذنب ثم يتوبوا. وهذا من الجهل فان التوبة التى شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فان من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله والخضوع لمقامه حقيقة بل انما يقصد المكر بربه في دفع ما اوعده من العذاب والعقوبة مع المخالفة لامره أو نهيه فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه اولا: ان يذنب فيتوب فهى في الحقيقة تتمة ما رامه اولا من نوع المعصية وهو الذنب الذى تعقبه توبة وليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما فعل وقد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى: " انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة " الاية النساء 17 في الجزء الرابع من الكتاب. وقيل المراد بالصلاح في الاية صلاح الامر من حيث سعادة الحياة الدنيا وانتظام الامور فيها والمعنى وتكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح امركم مع ابيكم.
قوله تعالى: " قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين " الجب هو البئر التى لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة وان بني بها سميت البئر طويا والغيابة بفتح الغين المنهبط من الارض الذى يغيب ما فيه من الانظار وغيابة الجب قعره الذى لا يرى لما فيه من الظلمة. وقد اختار هذا القائل الرأى الثاني المذكور في الاية السابقة الذى يشير إليه قوله: أو اطرحوه ارضا " الا انه قيده بما يؤمن معه القتل أو امر آخر يؤدى إلى هلاكه كأن يلقى في بئرو يترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك فما ابداه من الرأى يتضمن نفى يوسف من الارض من غير ان يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون اهلاكا لذي رحم وهو ان يلقى في بعض الابار التى على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه ويسيروا به إلى بلاد نائية تعفو اثره وتقطع خبره والسياق يشهد بأنهم
[ 97 ]
ارتضوا هذا الراى إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه وقد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الايات التالية. واختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بانه كان احد اخوته لقوله تعالى: " قال قائل منهم فقيل هو روبين ابن خالة يوسف وقيل هو يهوذا وقد كان اسنهم واعقلهم وقيل هو لاوى ولا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه. وذكر بعضهم ان تعريف الجب باللام يدل على انه كان جبا معهودا فيما بينهم وهو حسن لو لم يكن اللام للجنس وقد اختلفوا ايضا في ان هذا الجب اين كان هو ؟ على اقوال مختلفة لا يترتب على شئ منها فائدة طائلة. قوله تعالى: " قالوا يا ابانا ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " اصل لا تأمنا لا تأمننا ثم ادغم بالادغام الكبير.
والاية تدل على ان الاخوة اجمعوا على قول القائل لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابة الجب واجمعوا على ان يمكروا بابيهم فيأخذوا يوسف ويفعلوا به ما عزموا عليه وقد كان ابوهم لا يأمنهم على يوسف ولا يخليه واياهم فكان من الواجب قبلا ان يزكوا انفسهم عند ابيهم ويجلوا قلبه من كدر الشبهة والارتياب حتى يتمكنوا من اخذه والذهاب به. ولذلك جاؤا اباهم وخاطبوه بقولهم: " يا ابانا وفيه اثارة للعطف والرحمة وايثار للمودة ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " أي والحال انا لا نريد به الا الخير ولا نبتغى الا ما يرضيه ويسره. ثم سألوه ما يريدونه وهو ان يرسله معهم إلى مرتعهم الذى كانوا يخرجون إليه ماشيتهم وغنمهم ليرتع ويلعب هناك وهم حافظون له فقالوا ارسله معنا الخ. قوله تعالى: " ارسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون " الرتع هو توسع الحيوان في الرعى والانسان في التنزه واكل الفواكه ونحو ذلك. وقولهم ارسله معنا غدا يرتع ويلعب اقتراح لمسؤلهم كما تقدمت الاشارة إليه
[ 98 ]
وقولهم: " وانا لحافظون " اكدوه بوجوه التأكيد إن واللام والجملة الاسمية على وزان قولهم: " وانا له لناصحون " كما يدل ان كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس ابيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فان كنت تخاف عليه ايانا معشر الاخوة كأن نقصده بسوء فانا له لناصحون وان كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كأن يدهمه المكروه ونحن مساهلون في حفظه ومستهينون في كلاءته فانا له لحافظون. فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعى ذكروا اولا انه في امن من ناحيتهم دائما ثم سالوا ان يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا انهم حافظون له ما دام عندهم وبذلك يظهر ان قولهم: " وانا له لناصحون " تأمين له دائمي من ناحية انفسهم وقولهم: " وانا له لحافظون " تأمين له موقت من غيرهم.
قوله تعالى: " قال انى ليحزنني ان تذهبوا به واخاف ان ياكله الذئب وانتم عنه غافلون " هذا ما ذكر ابوهم جوابا لما سألوه ولم ينف عن نفسه انه لا يأمنهم عليه وانما ذكر ما ياخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال وقد اكد كلامه: " انى ليحزنني ان تذهبوا به " وقد كشف عن المانع انه نفسه التى يحزنها ذهابهم به لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم ولئلا يهيج ذلك عنادهم ولجاجهم وهو من لطائف النكت. واعتذر إليهم في ذلك بقوله: " واخاف ان ياكله الذئب وانتم عنه غافلون " وهو عذر موجه فان الصحارى ذوات المراتع التى تأوى إليها المواشى وترتع فيها الاغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها وتكمن فيها للافتراس والاصطياد فمن الجائز ان يقبلوا على بعض شانهم ويغفلوا عنه فيأكله الذئب. قوله تعالى: " قالوا لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا إذا لخاسرون " تجاهلوا لابيهم كأنهم لم يفقهوا الا انه يأمنهم عليه لكن يخاف ان ياكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب وذكروا لتطيب نفسه انهم جماعة اقوياء متعاضدون ذوو بأس وشدة واقسموا بالله ان اكل الذئب اياه وهم عصبة يقضى بخسرانهم ولن يكونوا خاسرين البتة وانما اقسموا كما يدل عليه لام القسم ليطيبوا نفسه ويذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به وهذا شائع في الكلام وفي الكلام وعد ضمنى منهم له انهم لن يغفلوا لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا انفسهم فيما اقسموا له واخلفوه ما وعدوه إذ قالوا:
[ 99 ]
" يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب " الاية. قوله تعالى: " فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب " قال الراغب اجمعت على كذا اكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو فاجمعوا امركم وشركاءكم قال ويقال اجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه انتهى. وفي المجمع اجمعوا أي عزموا جميعا ان يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر
واتفقت دواعيهم عليه فان من دعاه داع واحد إلى الشئ لا يقال فيه انه اجمع عليه فكأنه ماخوذ من اجتماع الدواعى انتهى والاية تشعر بأنهم اقنعوا اباهم بما قالوا له من القول وارضوه ان لا يمنعهم ان يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لانفاذ ما ازمعوا عليه من القائه في غيابة الجب. وجواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الامر وفظاعته وهى صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف امرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب ولا يطيقه السمع فيشرع في بيان اسبابه والاحوال التى تؤدى إليه فيجرى في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على ان صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم ان يصرح به ولا يطيق السامع ان يسمعه. فكأن الذى يصف القصة عز اسمه لما قال: " ولما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجب " سكت مليا وامسك عن ذكر ما فعلوا به اسى وأسفا لان السمع لا يطيق وعى ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الانبياء ولم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه وهم اخوته وهم يعلمون مبلغ حب ابيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بايدى اخوته ويثكل ابا كريما مثل يعقوب بايدى ابنائه ويزين بغيا شنيعا كهذا في اعين رجال ربوا في حجر النبوة ونشؤا في بيت الانبياء. ولما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال: " واوحينا إليه " الخ. قوله تعالى: " واوحينا إليه لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون " الضمير ليوسف
[ 100 ]
وظاهر الوحى انه من وحى النبوة والمراد بامرهم هذا القاؤهم اياه في غيابة الجب وكذا الظاهر ان جملة وهم لا يشعرون حال من الايحاء المدلول عليه بقوله واوحينا
الخ ومتعلق لا يشعرون هو الامر أي لا يشعرون بحقيقة امرهم هذا أو الايحاء أي وهم لا يشعرون بما اوحينا إليه. والمعنى والله اعلم واوحينا الى يوسف اقسم لتخبرنهم بحقيقة امرهم هذا وتاويل ما فعلوا بك فانهم يرونه نفيا لشخصك وانساء لاسمك واطفاء لنورك وتذليلا لك وحطا لقدرك وهو في الحقيقة تقريب لك إلى اريكة العزة وعرش المملكة واحياء لذكرك واتمام لنورك ورفع لقدرك وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة وستنبؤهم بذلك وهو قوله لهم وقد اتكى على اريكة العزة وهم قيام امامه يسترحمونه بقولهم: " يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين " إذ قال: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه إذ انتم جاهلون إلى ان قال انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا " الخ. انظر إلى موضع قوله هل علمتم فانه اشارة إلى ان هذا الذى تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف وقوله: " إذ انتم جاهلون " فانه يحاذي من هذه الاية التى نحن فيها قوله: " وهم لا يشعرون ". وقيل في معنى الاية وجوه اخر: منها انك ستخبر اخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك وهو الذى اخبرهم به في مصر وهم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه. ومنها ان المراد بانبائه اياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من اساء إليه فيقول: لانبئنك ولا عرفنك. ومنها قول بعضهم كما روى عن ابن عباس ان المراد بانبائه اياهم بامرهم ما جرى له مع اخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم وهم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال ان هذا الجام يخبرني انكم كان لكم اخ من ابيكم القيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس. وهذه وجوه لا تخلو من سخافة والوجه ما قدمناه وقد كثر ورود هذه اللفظة في
كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبؤكم بما كنتم تعملون " المائدة: 105 وقوله: " وسوف ينبؤهم الله بما كانوا يصنعون " المائدة: 14
[ 101 ]
وقوله: " يوم يبعثهم الله جميعا فينبؤهم بما عملوا " المجادلة: 6 إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة. ومنها قول بعضهم ان المعنى واوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون بهذا الوحى وهذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد ولا حاجة إليه ظاهرا. ومنها قول بعضهم ان معنى الاية لتخبرنهم برقى حياتك وعزتك وملكك بامرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا وهم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله. وعمدة الفرق بين هذا القول وما قدمناه من الوجه ان في هذا القول صرف الانباء عن الانباء الكلامي إلى الانباء بالحال الخارجي والوضع العينى ولا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف " الخ. قوله تعالى: " وجاؤا اباهم عشاء يبكون العشاء آخر النهار وقيل من صلاة المغرب إلى العتمة وانما كانوا يبكون ليلبسوا الامر على ابيهم فيصدقهم فيما يقولون ولا يكذبهم. قوله تعالى: " قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب " إلى آخر الاية قال الراغب في المفردات اصل السبق التقدم في السير نحو والسابقات سبقا والاستباق التسابق وقال انا ذهبنا نستبق واستبقا الباب انتهى وقال الزمخشري في الكشاف نستبق أي نتسابق والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل والارتماء والترامى وغير ذلك والمعنى نتسابق في العدو أو في الرمى انتهى.
وقال صاحب المنار في تفسيره انا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا ان يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التى يقصد بها الغلب وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ومنه " فاستبقوا الخيرات " فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب وقوله الاتى في هذه السورة واستبقا الباب كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه ارجاعه وصيغة المشاركة لا تؤدى هذا المعنى ولم يفطن
[ 102 ]
الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى. اقول والذى مثل به من قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " من موارد الغلب فان من المندوب شرعا ان لا يؤثر الانسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات وان يتقدم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق وكذا قوله تعالى واستبقا الباب فان المراد به قطعا ان كلا منهما كان يريد ان يسبق الاخر إلى الباب هذا ليفتحه وهذه لتمنعه من الفتح وهو معنى التسابق فالحق ان معنيي الاستباق والتسابق متحدان صدقا على المورد وفي الصحاح سابقته فسبقته سبقا واستبقنا في العدو أي تسابقنا انتهى وفي لسان العرب سابقته فسبقته واستبقنا في العدو أي تسابقنا انتهى. ولعل الوجه في تصادق استبق وتسابق ان نفس السبق معنى اضافي في نفسه وزنة افتعل تفيد تأكد معنى فعل وامعان الفاعل في فعله واخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب واكتسب وحمل واحتمل وصبر واصطبر وقرب واقترب وخفي واختفى وجهدو اجتهد ونظائرها وطرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الاضافة يفيد جهد الفاعل ان يخص السبق لنفسه ولا يتم الا مع تسابق في المورد. وقوله " بمؤمن لنا " أي بمصدق لقولنا والايمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء
قال تعالى: " فآمن له لوط " العنكبوت: 26. والمعنى انهم حينما جاؤا اباهم عشاء يبكون قالوا لابيهم يا ابانا انا معشر الاخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمى ولعله كان في عدو فان ذلك ابلغ في ابعادهم من رحلهم ومتاعهم وكان عنده يوسف على ما ذكروا وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا فاكله الذئب ومن خيبتنا ومسكنتنا انك لست بمصدق لنا فيما نقوله ونخبر به ولو كنا صادقين فيه. وقولهم: " وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " كلام ياتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الاسباب وانسدت عليه طرق الحيلة للدلالة على ان كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه وعذره غير مسموع هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر ان يخبر بالحق ويكشف عن الصدق وان كان غير مصدق فيه فهو كناية عن الصدق في المقال.
[ 103 ]
قوله تعالى: " وجاؤا على قميصه بدم كذب " الكذب بالفتح فالكسر مصدر اريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب. وفي الاية اشعار بان القميص وعليه دم وقد نكر الدم للدلالة على هو ان دلالته وضعفها على ما وصفوه كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فان من افترسته السباع واكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق وهذا شان الكذب لا يخلو الحديث الكاذب ولا الاحدوثة الكاذبة من تناف بين اجزائه وتناقض بين اطرافه أو شواهد من اوضاع واحوال خارجية تحف به وتنادى بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته وباطنه وان حسنت صورته. (كلام في ان الكذب لا يفلح) من المجرب ان الكذب لا يدوم على اعتباره وان الكاذب لا يلبث دون ان ياتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما اخبر به أو ادعاه والوجه فيه ان الكون يجرى على نظام يرتبط به بعض اجزائه ببعض بنسب واضافات غير متغيرة ولا متبدلة فلكل
حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض ولها جميعا فيما بينها احكام وآثار يتصل بعضها ببعض ولو اختل واحد منها لاختل الجميع وسلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة وهذا قانون كلى غير قابل لورود الاستثناء عليه. فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه ان يفارق المكان الاول ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كل ما يلازمه ويتصل به ويخلو عنه المكان الاول ويشغل به الثاني وان يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم ولو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الاول اختلت جميع اللوازم المحتفة به. وليس في وسع الانسان ولا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس ان يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو ان يخرجها عن
[ 104 ]
محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فان القى سترا على واحدة منها ظهرت الاخرى والا فالثالثة وهكذ. ومن هنا كانت الدولة للحق وان كانت للباطل جولة وكانت القيمة للصدق وان تعلقت الرغبة احيانا بالكذب قال تعالى: " ان الله لا يهدى من هو كاذب كفار " الزمر: 3 وقال: " ان الله لا يهدى من هو مسرف كذاب " المؤمن: 28. وقال: " ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " النحل: 116 وقال: " بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في امر مريج " ق: 5 وذلك انهم لماعدوا الحق كذبا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض اجزائه بعضا ويدفع طرف منه طرفا. قوله تعالى: " قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعى ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس
معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه ان يوسف قد اكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بالحاح واصرار وجاؤا بقميصه وعليه دم كذب ينادى بكذبهم فيما قالوه واخبروا به. فاضرب عن قولهم: " انا ذهبنا نستبق " الخ بقوله: " بل سولت لكم انفسكم امرا " والتسويل الوسوسة أي ليس الامر على ما تخبرون بل وسوست لكم انفسكم فيه امرا وابهم الامر ولم يعينه ثم اخبر انه صابر في ذلك من غير ان يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقاما وانما يكظم ما هجم نفسه كظما. فقوله: " بل سولت لكم انفسكم امرا " تكذيب لما اخبروا به من امر يوسف وبيان انه على علم من ان فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وانما يستند إلى مكر مكروه وتسويل من انفسهم لهم والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: " فصبر جميل " إلى آخر الاية. وقوله: " فصبر جميل " مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والتقدير ساصبر على ما اصابني فان الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وابهامها للاشارة إلى فخامة امره وعظم شانه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمله. وقد فرع قوله: " فصبر جميل " على ما تقدم للاشعار بان الاسباب التى احاطت
[ 105 ]
به وافرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسع له معها الا ان يسلك سبيل الصبر وذلك انه (ع) فقد احب الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له انه صار اكلة للذئب وهذا قميصه ملطخا بالدم وهو يرى انهم كاذبون فيما يخبرونه به ويرى ان لهم صنعا في افتقاده ومكرا في امره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه امره واين هو ؟ وما حاله ؟ فانما اعوانه على امثال هذه النوائب واعضاده لدفع ما يقصده من المكاره انما هم ابناؤه وهم عصبة اولوا قوة وشدة فإذا كانوا هم الاسباب لنزول
النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم ؟ وبماذا يدفعهم عن نفسه ؟ فلا يسعه الا الصبر. غير ان الصبر ليس هو ان يتحمل الانسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالارض الميتة التى تطؤها الاقدام وتلعب بها الايدى فان الله سبحانه طبع الانسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع ولا فضيلة في ابطال هذه الغريزة الالهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الذى به يستقيم امر الحياة الانسانية من الاختلال وضبط الجمعية الداخلية من التفرق والتلاشى ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الراى فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره وغيرهم المنهزمون عند اول هجمة ثم لا يلوون على شئ. ومن هنا يعلم ان الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها الا انه ليس تمام السبب في اعادة العافية وارجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الانسان لدفع العدو المهاجم واما عود نعمة الامن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز والظفر وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الانسان الموحد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة ان يتحصن اولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذى هو فوق كل سبب راجيا ان يدفع عنه الشر ويوجه امره إلى غاية صلاح حاله والله سبحانه غالب على امره وقد تقدم شئ من هذا البحث في تفسير قوله تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 45 في الجزء الاول من الكتاب. ولهذا كله لما قال يعقوب (ع) " فصبر جميل " عقبه بقوله: " والله المستعان على ما تصفون " فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما اتى به في قوله في الايات
[ 106 ]
المستقبلة: " فصبر جميل عسى الله ان يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " الاية: 83 من السورة.
فقوله: " والله المستعان على ما تصفون " وهو من اعجب الكلام بيان لتوكله على ربه يقول انى اعلم ان لكم في الامر مكرا وان يوسف لم ياكله ذئب لكنى لا اركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالاسباب الظاهرة التى لا تغنى طائلا بغير اذن من الله ولا اتشحط بينها بل اضبط استقامة نفسي بالصبر واوكل ربى ان يظهر على ما تصفون ان يوسف قد قضى نحبه وصار اكلة لذئب. فظهر ان قوله: " والله المستعان على ما تصفون " دعاء في موقف التوكل ومعناه اللهم انى توكلت عليك في امرى هذا فكن عونا لى على ما يصفه بنى هؤلاء والكلمة مبنية على توحيد الفعل فانها مسوقة سوق الحصر ومعناها ان الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لى غيره فانه (ع) كان يرى ان لا حكم حقا الا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: " ان الحكم الا لله عليك توكلت " ولتكميل هذا التوحيد بما هو اعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل ساصبر ولم يقل والله استعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وان الامر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده واسفه وحزنه ليوسف غير انه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده الا لله وفي الله. قوله تعالى: " وجاءت سيارة فارسلوا واردهم فادلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام واسروه بضاعة والله عليم بما يعملون " قال الراغب الورود اصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره انتهى وقال دلوت الدلو إذا ارسلتها وادليتها إذا اخرجتها انتهى وقيل بالعكس وقال الاسرار خلاف الاعلان انتهى. وقوله: " قال يا بشرى هذا غلام " ايراده بالفصل مع انه متفرع وقوعا على ادلاء الدلو للدلالة على انه كان امرا غير مترقب الوقوع فان الذى يترقب وقوعه عن الادلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم ولذا قال: " يا بشرى ونداء البشرى كنداء الاسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره. وقوله: " والله عليم بما يعملون " مفاده ذم عملهم والابانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها ويمكن ان يكون المراد به ان ذلك انما كان بعلم من الله اراد
[ 107 ]
بذلك ان يبلغ يوسف مبلغه الذى قدر له فانه لو لم يخرج من الجب ولم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما اوتيه من الملك والعزة. ومعنى الاية وجاءت جماعة مارة إلى هناك فارسلوا من يطلب لهم الماء فارسل دلوه في الجب ثم لما اخرجها فاجأهم بقوله يا بشرى هذا غلام وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج فاخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال ان الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو ان ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة والملك والنبوة. قوله تعالى: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه على ما قيل انهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدون الا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ والشراء هو البيع والزهد هو الرغبة عن الشئ أو هو كناية عن الاتقاء. والظاهر من السياق ان ضميري الجمع في قوله وشروه وكانوا للسيارة والمعنى ان السيارة الذين اخرجوه من الجب واسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهى دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون ان يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من ايديهم. ومعظم المفسرين على ان الضميرين لاخوة يوسف والمعنى انهم باعوا يوسف من السيارة بعد ان ادعوا انه غلام لهم سقط في البئر وهم انما حضروا هناك لاخراجه من الجب فباعوه من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال. أو ان اول الضميرين للاخوة والثانى للسيارة والمعنى ان الاخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من انفسهم الزهد والرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون ان الامر لا يخلو من مكر وان
الغلام ليس فيه سيماء العبيد. وسياق الايات لا يساعد على شئ من الوجهين فضمائر الجمع في الاية السابقة للسيارة ولم يقع للاخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير وشروه وكانوا أو احدهما إليهم على ان ظاهر قوله في الاية التالية: " وقال الذى اشتراه من مصر انه
[ 108 ]
اشتراه متحقق بهذا الشراء. واما ما ورد في الروايات ان اخوة يوسف حضروا هناك واخذوا يوسف منهم بدعوى انه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس فلا يدفع ظاهر السياق في الايات ولا انه يدفع الروايات. وربما قيل ان الشراء في الاية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق. قوله تعالى: " وقال الذى اشتراه من مصر لامراته اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا " السياق يدل على ان السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض اهل مصر وادخله في بيته. وقد اعجبت الايات في ذكر هذا الذى اشتراه وتعريفه فذكر فيها اولا بمثل قوله تعالى: " وقال الذى اشتراه من مصر " فانبأت انه كان رجلا من اهل مصر وثانيا بمثل قوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " فعرفته بانه كان سيدا مصمودا إليه وثالثا: بمثل قوله " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " فاوضحت انه كان عزيزا في مصر يسلم له اهل المدينة العزة والمناعة ثم اشارت إلى انه كان له سجن وهو من شؤن مصدرية الامور والرئاسة بين الناس وعلم بذلك ان يوسف كان ابتيع اول يوم لعزيز مصر ودخل بيت العزة. وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى الا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث
من القصة ولم يكن لاول مرة في تعريفه حاجة إلى ازيد من وصفه بانه كان رجلا من اهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: " وقال الذى اشتراه من مصر ". وكيف كان الاية تنبئ على ايجازها بان السيارة حملوا يوسف معهم وادخلوه مصر وشروه من بعض اهلها فادخله بيته ووصاه امراته قائلا اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا والعادة الجارية تقضى ان لا يهتم السادة والموالي بامر ارقائهم دون ان يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الاصالة والرشد ويشاهد في سيماه الخير والسعادة وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومآت من
[ 109 ]
احسن افراد الغلمان والجوارى فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من الفوه فكان لامر العزيز باكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق وعلى الاخص من جهة انه امر بذلك امراته وسيدة بيته وليس من المعهود ان تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الامور وسفاسفها ولا ان تتصدى السيدات المنيعة مكانا امور العبيد والغلمان. نعم ان يوسف (ع) كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الالباب وكان قد اوتى مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الاصل وهذه صفات لا تنمو في الانسان الا واعراقها ناجمة فيه ايام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ امره. فهذه هي التى جذبت نفس العزيز إلى يوسف وهو طفل صغير حتى تمنى ان ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من اخص الناس به ينتفع به في اموره الهامة ومقاصده العالية أو يدخل في ارومته ويكون ولدا له ولامراته بالتبنى فيعود وارثا لبيته. ومن هنا يمكن ان يستظهر ان العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى
ان يتبنى هو وزوجته يوسف. فقوله: " وقال الذى اشتراه من مصر " أي العزيز لامراته وهى العزيزة " اكرمي مثواه " أي تصدى بنفسك امره واجعلي له مقاما كريما عندك عسى ان ينفعنا في مقاصدنا العالية وامورنا الهامة أو نتخذه ولدا بالتبنى. قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون " قال في المفردات المكان عند اهل اللغة الموضع الحاوى للشئ قال ويقال مكنته ومكنت له فتمكن قال تعالى: " ولقد مكناهم في الارض " " ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه " " ا ولم نمكن لهم " " ونمكن لهم الارض " قال قال الخليل: المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام اجرى مجرى فعال فقيل تمكن وتمسكن مثل تمنزل انتهى فالمكان هو مقر الشئ من الارض والامكان والتمكين الاقرار والتقرير في المحل وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشئ من الامور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال امكنته من الشئ فتمكن منه أي اقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.
[ 110 ]
ولعل المراد من تمكين يوسف في الارض اقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة والتوسع فيها بعد ما حرم عليه اخوته القرار على وجه الارض فالقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسيربه الركبان من ارض إلى ارض ويتغرب عن ارضه ومستقر ابيه. وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الارض في خلال قصته مرتين احداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة اياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الاية: " ولقد مكنا ليوسف في الارض " وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن ارض مصر حيث قال تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء " الاية 56 من السورة والعناية في الموضعين واحدة.
وقوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض " الاشارة إلى ما ذكره من اخراجه من الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فان كان المراد من تمكينه في الارض هذا المقدار من التمكين الذى حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على اهناء عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشئ بنفسه ليدل به على غزارة الاوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشئ بنفسه كقوله كأننا والماء من حولنا * قوم جلوس حولهم ماء بل المراد ان ما فعلنا به من التمكين في الارض كان يماثل هذا الذى وصفناه واخبرنا عنه فهو يتضمن من الاوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشئ مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة اوصافه واهميتها وتعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه. ومن هذا الباب قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 وقوله تعالى: " لمثل هذا فليعمل العاملون " الصافات: 61 والمراد ان كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شئ وان كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لاجل الفوز به. وان كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الارض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلى ببعض افراده ليدل به على ان سائر الافراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض اجزائه للدلالة على ان الاجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور
[ 111 ]
فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الارض يجرى على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على احسن حال فان اخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الارض عند ابيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من اهله فجعل الله سبحانه
كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على احسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور اخلاصه وصدقه في ايمانه ثم بدا لهم ان يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الارض تمكينا يتبوء من الارض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع. وبالجملة الاية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: " كذلك يضل الله الكافرين " المؤمن: 74 وقوله: " كذلك يضرب الله الامثال " الرعد: 17 اي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، وضربه الامثال ابدا على هذا النحو من المثل المضروب وهو انموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره. وقوله: " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية، وهو معطوف على مقدر والتقدير: مكنا له في الارض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الاحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات اخر لا يسعها مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75 ونظائره. وقوله: " والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون " الظاهر أن المراد بالامر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: " يدبر الامر " يونس: 3 وأنما أضيف إليه تعالى لانه مالك كل أمر كما قال تعالى: " ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " الاعراف: 54. والمعنى أن كل شأن من شؤن الصنع والايجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو
[ 112 ]
يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته، قال تعالى: " إن الله بالغ أمره " الطلاق: 3. وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الاسباب الفعالة باذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع والطاعة ولكن اكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم ان الاسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعالة برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شئ وقد اخطأوا. (بحث روائي) في المعاني باسناده عن ابى حمزة الثمالى قال: صليت مع علي بن الحسين (ع) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وانا معه فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابى سائل الا اطعمتموه فان اليوم يوم الجمعة قلت ليس كل من يسأل مستحقا فقال يا ثابت اخاف ان يكون بعض من يسألنا محقا فلا نطعمه ونرده فينزل بنا اهل البيت ما نزل بيعقوب وآله اطعموهم. ان يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به وياكل هو وعياله منه وان سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة وكان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند اوان افطاره يهتف على بابه اطعمو السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه ولم يصدقوا قوله. فلما أيس ان يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكى جوعه إلى الله وبات طاويا واصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله وبات يعقوب وآل يعقوب شباعا بطانا واصبحوا وعندهم من فضل طعامهم. قال فأوحى الله عزوجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة لقد اذللت يا يعقوب عبدى ذلة استجررت بها غضبى واستوجبت بها ادبى ونزول عقوبتي وبلواى عليك وعلى ولدك يا يعقوب ان احب انبيائي إلى واكرمهم على من رحم مساكين عبادي وقربهم
إليه واطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ.
[ 113 ]
يا يعقوب ما رحمت دميال عبدى المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء امس لما اعتر ببابك عند اوان افطاره ويهتف بكم اطعموا السائل الغريب المجتاز القانع - فلم تطعموه شيئا فاسترجع واستعبر وشكى ما به الي وبات جائعا وطاويا حامدا واصبح لى صائما - وانت يا يعقوب وولدك شباع واصبحت وعندكم فضل من طعامكم. أو ما علمت يا يعقوب ان العقوبة والبلوى إلى اوليائي اسرع منها إلى اعدائي ؟ وذلك حسن النظر منى لاوليائي واستدراج منى لاعدائي - اما وعزتي لانزلن بك بلواى ولا جعلنك وولدك غرضا لمصابي ولاؤدبنك بعقوبتى فاستعدوا لبلواى وارضوا بقضائي واصبروا للمصائب. فقلت لعلي بن الحسين (ع) جعلت فداك - متى رأى يوسف الرؤيا ؟ فقال في تلك الليلة التى بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعا - وبات فيها دميال طاويا جائعا فلما رأى يوسف الرؤيا واصبح يقصها على ابيه يعقوب - اغتم يعقوب لما سمع من يوسف وبقى مغتما - فأوحى الله إليه ان استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك على اخوتك - فانى اخاف ان يكيدوا لك كيدا - فلم يكتم يوسف رؤياه وقصها على اخوته. قال علي بن الحسين (ع) ان اول بلوى نزل - بيعقوب وآل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا - قال فاشتدت رقة يعقوب على يوسف وخاف ان يكون ما اوحى الله عزوجل إليه من الاستعداد للبلاء انما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده. فلما رأى اخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف وتكرمته اياه وايثاره اياه عليهم - اشتد ذلك عليهم وبدا البلاء فيهم فتآمروا فيما بينهم و " قالوا ليوسف واخوه
احب إلى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفى ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه ارضا يخل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين " أي تتوبون. فعند ذلك " قالوا يا ابانا ما لك لا تأمنا على يوسف وانا له لناصحون " فقال يعقوب " انى ليحزنني ان تذهبوا به - واخاف ان ياكله الذئب وانتم عنه غافلون " فانتزعه مقدرا
[ 114 ]
حذرا عليه منه ان يكون البلوى من الله عزوجل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في قلبه وحبه له. قال فغلب قدرة الله وقضاؤه ونافذ امره في يعقوب ويوسف واخوته - فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه ولا يوسف وولده فدفعه إليهم وهو لذلك كاره متوقع البلوى من الله في يوسف. فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من ايديهم - وضمه إليه واعتنقه وبكى ودفعه إليهم - فانطلقوا به مسرعين مخافة ان يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم فلما امعنوا به اتوا به غيضة اشجار فقالوا نذبحه ونلقيه تحت هذه الشجرة، فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم: " لا تقتلوا يوسف و " " لكن القوة في غيابة الجب يلتقطة بعض السيارة ان كنتم فاعلين ". فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه وهم يظنون انه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ناداهم يا ولد رومين اقرؤا يعقوب السلام منى فلما رأوا كلامه قال بعضهم لبعض لا تزولوا من ههنا حتى تعلموا انه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا " ورجعوا إلى ابيهم عشاء يبكون قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ". فلما سمع مقالتهم استرجع واستعبر وذكر ما اوحى الله عزوجل إليه من الاستعداد للبلاء فصبر واذعن للبلوى وقال لهم: " بل سولت لكم انفسكم امرا " وما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل ان ارى تأويل رؤياه الصادقة.
قال أبو حمزة ثم انقطع حديث علي بن الحسين (ع) عند هذا. قال أبو حمزة فلما كان من الغد غدوت إليه وقلت له - جعلت فداك انك حدثتني امس بحديث ليعقوب وولده ثم قطعته فيما كان من قصة اخوة يوسف وقصة يوسف بعد ذاك ؟ فقال انهم لما اصبحوا قالوا انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف أمات ام هو حى. ؟ فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة وقد ارسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لاصحابه يا بشرى هذا غلام فلما
[ 115 ]
اخرجوه اقبل إليهم اخوة يوسف - فقالوا هذا عبدنا سقط منا امس في هذا الجب وجئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من ايديهم ونحوا به ناحية فقالوا له اما ان تقر لنا انك عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم. فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا من يشترى منكم هذا العبد منا ؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما وكان اخوته فيه من الزاهدين وسار به الذى اشتراه من البدو حتى ادخله مصر - فباعه الذى اشتراه من البدو من ملك مصر - وذلك قول الله عزوجل: " وقال الذى اشتراه من مصر لامراته - اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا ". قال أبو حمزة فقلت لعلي بن الحسين (ع) ابن كم كان يوسف يوم القوة في الجب ؟ فقال ابن تسع سنين - فقلت كم كان بين منزل يعقوب يومئذ وبين مصر فقال مسيرة اثنا عشر يوما الحديث. اقول وللحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى وفيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الايات لكنها ترتفع بأدنى تأمل. وفي الدر المنثور اخرج احمد والبخاري عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم - يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن ابى جعفر (ع) قال: الانبياء على خمسة انواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به ومنهم من ينبؤ في منامه مثل يوسف وابراهيم (ع) ومنهم من يعاين ومنهم من نكت (ينكت ظ) في قلبه ويوقر في اذنه. وفيه عن ابى خديجة عن رجل عن ابى عبد الله (ع) قال: انما ابتلي يعقوب بيوسف انه ذبح كبشا سميناو رجل من اصحابه يدعى بيوم (بقوم) محتاج لم يجد ما يفطر عليه فاغفله ولم يطعمه فابتلى بيوسف وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادى من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب. وفى تفسير القمى قال وفى رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع) في قوله:
[ 116 ]
" لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " يقول لا يشعرون انك انت يوسف اتاه جبرئيل واخبره بذلك. وفيه وفي رواية ابى الجارود في قول الله: " وجاؤا على قميصه بدم كذب " قال انهم ذبحوا جديا على قميصه. وفي امالي الشيخ باسناده في قوله عزوجل: " فصبر جميل " قال بلا شكوى. اقول وكأن الرواية عن الصادق (ع) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن حيان بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المضامين السابقة رويات اخر. * * * ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين 22. وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون - 23. ولقد
همت به وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين - 24. واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من اراد باهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم - 25. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين - 26. وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين - 27.
[ 117 ]
فلما رأى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن ان كيدكن عظيم - 28 يوسف اعرض عن هذا واستغفرى لذنبك انك كنت من الخاطئين - 29. وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين - 30. فلما سمعت بمكرهن ارسلت اليهن واعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم - 31. قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين - 32. قال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين - 33. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم - 34. (بيان) تتضمن الايات قصته (ع) ايام لبثه في بيت العزيز وقد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له ومراودتها اياه عن نفسه ومني بتعلق نساء المدينة به ومراودتهن اياه عن نفسه
وكان ذلك بلوى وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه وطهارة ذيله امر عجيب ومن
[ 118 ]
تولهه في محبة ربه ما هو اعجب. قوله تعالى: " ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين " بلوغ الاشد ان يعمر الانسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى به اركانه بذهاب آثار الصباوة ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التى عندها يكمل العقل ويتم الرشد. والظاهر ان المراد به الانتهاء إلى اول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالاربعين والدليل عليه قوله تعالى في موسى (ع): " ولما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما " القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: " استوى " وقوله: " حتى إذا بلغ اشده وبلغ اربعين سنة قال رب اوزعنى ان اشكر نعمتك " الاية الاحقاف: 15 فلو كان بلوغ الاشد هو بلوغ الاربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله بلغ. فلا مجال لما ذكره بعضهم ان المراد ببلوغ الاشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث والثلاثين وكذا ما قاله آخرون ان المراد به بلوغ الاربعين وهو سن الاربعين على ان من المضحك ان تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الاربعين من عمره واشرف على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه. وقوله: " آتيناه حكما " الحكم هو القول الفصل وازالة الشك والريب من الامور القابلة للاختلاف على ما يتحصل من اللغة ولازمه اصابة النظر في عامة المعارف الانسانية الراجعة إلى المبدأ والمعاد والاخلاق النفسانية والشرائع والاداب المرتبطة بالمجتمع البشرى. وبالنظر إلى قوله (ع) لصاحبيه في السجن " ان الحكم الا لله " الاية: 40 من السورة وقوله بعد " قضي الامر الذي فيه تستفتيان " الاية: 41 من السورة يعلم ان
هذا الحكم الذى اوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله وهذا هو الذى سأله ابراهيم (ع) من ربه إذ قال: " رب هب لى حكما والحقني بالصالحين " الشعراء: 83. وقوله " وعلما " وهذا العلم المذكور المنسوب إلى ايتائه تعالى كيفما كان واى مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما ان الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني ولا تسويل شيطاني كيف ؟ والذى آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى: " والله غالب
[ 119 ]
على امره الاية 21 من السورة وقال: " ان الله بالغ امره " الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب والشك وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة. ثم من المعلوم ان هذه المواهب الالهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التى تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوى هي والنفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها وقد قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج الا نكدا " الاعراف: 58 والى ذلك الاشارة بقوله: " وكذلك نجزى المحسنين " حيث يدل على ان هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله اياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعى لهما اصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين. وليس من البعيد ان يستفاد من قوله: " وكذلك نجزى المحسنين ان الله تعالى يجزى كل محسن على اختلاف صفات الاحسان شيئا من الحكم والعلم يناسب موقعه في الاحسان وقد قال تعالى: " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28 وقال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122. وهذا العلم المذكور في الاية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الاحاديث فانه واقع بين قوله تعالى في الايات السابقة: " وليعلمه من تأويل الاحاديث " وقوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: " ذلكما مما علمني ربى " فافهم ذلك.
قوله تعالى: " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون " قال في المفردات الرود هو التردد في طلب الشئ برفق ومنه الرائد لطالب الكلاء قال والارادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شئ قال: والمراودة ان تنازع غيرك في الارادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود وراودت فلانا عن كذا قال تعالى: " هي راودتني عن نفسي " وقال: " تراود فتاها عن نفسه " أي تصرفه عن رأيه وعلى ذلك قوله: " ولقد راودته عن نفسه " " سنراود عنه اباه " انتهى. وفي المجمع المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود لانه يعمل به ولا يقال في المطالبة بدين راوده واصله من راد يرود إذا طلب المرعى وفى
[ 120 ]
المثل الرائد لا يكذب اهله والتغليق اطباق الباب بما يعسر فتحه وانما شدد ذلك لتكثير الاغلاق أو للمبالغة في الايثاق انتهى. وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم ومعاذ الله أي اعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله. والاية الكريمة: " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون " على ما فيها من الايجاز تنبئ عن اجمال قصة المراودة غير ان التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذى هي واقعة فيه وسائر ما يلوح من اطراف قصته الموردة في السورة يجلى عن حقيقة الحال ويكشف القناع عن تفصيل ما خبئ من الامر. يوسف هو ذا طفل صغير حولته ايدى المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد ولعله لم يسأل الا عن اسمه ولم يتكلم الا ان قال اسمى يوسف أو قيل عنه ذلك ولم يلح من لهجته الا
انه كان قد نشأ بين العبريين ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس للعبيد بيوت ولم يكن من المعهود ان يحفظ للارقاء انساب وهو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشئ وكم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه الا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن " واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحاق ويعقوب " ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين اولئك الوثنيين الا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله " معاذ الله انه ربى " الخ. هو اليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه ملئ بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه ابوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا ان الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه ابراهيم واسحاق ويعقوب وليس ينسى ما فعله به اخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الاسباب: انه تحت الولاية الالهية والتربية الربوبية معني بأمره وسينبؤ اخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. فكان (ع) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة الطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت
[ 121 ]
ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد الا على خير ولا يواجه الا جميلا. وهذا هو الذى هون عليه ما نزل به من النوائب وتواتر عليه من المحن والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك ولم يجزع ولم يضل الطريق وقد ذكر ذلك لاخوته حين عرفهم نفسه بقوله: " انه من يتق ويصبر فأن الله لا يضيع أجر المحسنين " الاية 90 من السورة فلم يزل يوسف (ع) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه ويمعن قلبه في لطيف الاشارات إليه ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية ويشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت وهو على كل شئ شهيد حتى تمكنت المحبة الالهية منه واستقر
الوله والهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف ولا طرفة عين وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: " معاذ الله انه ربي " وقوله: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ " وقوله: " إن الحكم الا لله " وقوله: " انت وليي في الدنيا والآخرة وغير ذلك كما سنبين ان شاء الله تعالى. فهذا ما عند يوسف (ع) فقد كان شبحا ما وراءه الا محبة الهية أنسته نفسه وشغلته عن كل شئ وصورة معناها انها خالصة اخلصها الله لنفسه لم يشاركه فيه احد. ولم يظهر للعزيز منه اول يوم إذ حل في بيته الا انه غلام صغير عبرى مملوك له غير ان قوله: " لامراته اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا " يكشف انه شاهد منه وقارا وتمكينا وتفرس فيه عظمة وكبرياء نفسانية اطمعته في ان ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبنى على ما في يوسف من عجيب الجمال والحسن. امرأة العزيز: امرأة العزيز وهى عزيزة مصر وصاها العزيز يوسف ان تكرم مثواه واعلمها ان له فيه اربة وامنية فلم تزل تجتهد في اكرام يوسف وتحسن مثواه وتهتم بأمره لا كما يهتم في امر رقيق مملوك بل كما يعنى بامر جوهر كريم أو قطعة كبد وتحبه لبديع جماله وغزير كماله وتزداد كلما مضت الايام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم واستوى على مستوى
[ 122 ]
الرجال لم تملك نفسها دون ان تعشقه وتذل على ما لها من مناعة الملك والعزة وعصمة العفة والخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الاخذ بمجامع قلبها. وقد كان يوسف يلازمها في العشرة ولا يفارق بينها من جانب وكانت عزيزة لا يثنى امرها ولا ترد عزيمتها وكانت فيما تزعم سيده يوسف وهو عبدها المملوك لا يسعه الا ان
يطيعها وينقاد لها ولبيوت الملوك والاعزة ان تحتال لشتى مقاصدها ومآربها بانواع الحيل والمكايد فإن عامة الاسباب وان عزت وامتنعت ميسرة لها وكانت العزيزة ذات جمال وزينة فان حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة ولا تحل بها الا غوان ذوات حسن فتانات. والعادة تحكم ان هذه الاسباب وقد اجتمعت على عزيزة مصر اسعرت في سرها كل لهيب واججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف وتولهت في غرامه واشتغلت به عن كل شئ وقد احاط بقلبها من كل جانب هو اول منطقها إذا تكلمت وفي ضميرها إذا سكتت فلا هم لها الا يوسف ولا بغية لها الا فيه قد شغفها حبا وليوسف الجمال الذى يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلات به عين محب واله وادام النظر إليه مهيم ذو غرام. يوسف وأمراة العزيز لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه في عشرته وتشفع ذلك بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده ولعل الذى كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما ترومه ويغريها عليه. حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد غلقت الابواب فلم يبق فيه الا هي ويوسف وهى لا تشك ان سيطيعها يوسف في امرها ولا يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة وتشاهد ان الاوضاع والاحوال الحاضرة تقضى بفوزها ونيلها ما تريده منه. فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية اما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد ان تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الابواب ومراودته عن نفسه والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الامر " هيت لك " لتقهره
[ 123 ]
على ما تريده منه. واما هو فقد استغرق في حب ربه واخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشئ في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيها جماله وجلاله وقد طارت الاسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالاسباب ولا يركن إلى الاعضاد. ترى انها تتوسل عليه بالاسباب بتغليق الابواب والمراودة والامر بقولها هيت لك واما هو فقد قابلها بقوله معاذ الله فلم يجبها بتهديد ولم يقل انى اخاف العزيز أو لا اخونه أو انى من بيت النبوة والطهارة أو ان عفتى أو عصمتي تمنعني من الفحشاء ولم يقل انى ارجو ثواب الله أو اخاف عذابه إلى غير ذلك ولو كان قلبه متعلقا بشئ من الاسباب الظاهرة لذكره وبدا به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الانسان. بل استمسك بعروة التوحيد واجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه احد سوى ربه ولا تعدى بصره اياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذى هدته إليه المحبة الالهية واولهه في ربه فانساه الاسباب كلها حتى انساه نفسه فلم يقل انى اعوذ منك بالله أو ما يؤدى معناه وانما قال معاذ الله وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا: " انى اعوذ بالرحمان منك ان كنت تقيا " مريم: 18. واما قوله لها ثانيا " انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون " فإنه يوضح كلمة التوحيد الذى افاده بقوله " معاذ الله " ويجليه يقول ان الذى اشاهده ان اكرامك مثواى عن قول العزيز لك اكرمي مثواه فعل من ربى واحسان منه الي فربى احسن مثواى وان انتسب اليك ذلك بوجه فهو الذى يجب علي ان اعوذ به والوذ إليه وانما اعوذ به لان اجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد افاد (ع) بقوله " انه ربى احسن مثواى " اولا: انه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ اربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله اربابا اخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بان الله هو ربه لا رب سواه.
[ 124 ]
وثانيا: انه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا ويشرك به فعلا باعطاء الاستقلال لهذه الاسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر باذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الاثار إلى الاسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز انها هي التى اكرمت مثواه عن وصية العزيز وانها وبعلها ربان له يتوليان امره يرى هو ان الله سبحانه هو الذى احسن مثواه وانه ربه الذى يتولى تدبير امره فعليه ان يعوذ به. وثالثا: انه انما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لانه ظلم لا يفلح المتلبس به ولا يهتدى إلى سعادته ولا يتمكن في حضرة الامن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده ابراهيم (ع): " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82. ورابعا انه مربوب أي مملوك مدبر لله سبحانه ليس له من الامر شئ ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله له أو احب ان ياتي به ولذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله " معاذ الله " الخ فلم يقل لا أفعل ما تأمرينني به ولم يقل لا ارتكب كذا ولم يقل اعوذ بالله منك وما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة واشفاقا من وسمة الشرك والجهالة اللهم الا ما في قوله " انه ربى احسن مثواى " حيث اشار فيه إلى نفسه مرتين وليس فيه الا تثبيت المربوبية وتأكيد الذلة والحاجة ولهذه العلة بعينها بدل الاكرام احسانا فاتى حذاء قول العزيز اكرمي مثواه بقوله احسن مثواى لما في الاكرام من الاشعار باحترام الشخصية وتعظيمها. وبالجملة الواقعة وان كانت مراجعة ومغالبة بين امرأة العزيز ويوسف (ع) بحسب ظاهر الحال فهى كانت تنازعا بين حب وهيمان الهى وعشق وغرام حيوانى يتشاجران في
يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه وكانت كلمة الله هي العليا فاخذته الجذبة السماوية الالهية ودافعت عنه المحبة الالهية والله غالب على امره. فقوله تعالى: " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه " يدل على اصل المراودة والاتيان بالوصف اعني كونه في بيتها للدلالة على ان الاوضاع والاحوال كانت لها عليه وان الامر كان عليه شديدا وكذا قوله وغلقت الابواب حيث عبر بالتغليق وهو يدل على المبالغة وعلق الغلق بالابواب وهو جمع محلى باللام وكذا قوله " وقالت هيت لك " حيث عبر بالامر المولوي الدال على اعمال المولوية والسيادة مع اشعاره بأنها هيأت له
[ 125 ]
من نفسها ما ليس بينه وبين طلبتها الا مجرد اقبال من يوسف ولا بين يوسف على ما هيأت من العلل والشرائط ونظمتها بزعمها وبين الاقبال عليها شئ حائل غير ان الله كان اقرب إلى يوسف من نفسه ومن العزيزة امرأة العزيز ولله سبحانه العزة جميعا. وقوله " قال معاذ الله انه ربى احسن مثواى " إلى آخر الاية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول اعوذ بالله معاذا مما تدعيننى إليه لانه ربى الذى تولى امرى واحسن مثواى وجعلني بذلك سعيدا مفلحا ولو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح وخرجت به من تحت ولايته. وقد راعى (ع) في كلامه هذا ادب العبودية كله كما تقدم وقد اتى اولا بلفظة الجلالة ثم بصفة الربوبية ليدل به على انه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه ابراهيم واسحاق ويعقوب. واحتمل عدة من المفسرين ان يكون الضمير في قوله انه " ربى احسن مثواى " للشأن والمراد ان ربى ومولاى وهو العزيز بناء على ظاهر الامر فقد اشترى يوسف من السيارة احسن مثواى حيث امركم بإكرام مثواى ولو اجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له وما كنت لاخونه.
ونظير الوجه قول بعضهم ان الضمير عائد إلى العزيز وهو اسم ان وخبرها قوله ربى وقوله احسن مثواى خبر بعد خبر. وفيه انه لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال انه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول وهو في السجن: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " الاية: 52 من السورة ولم يقل انى لم اظلمه بالغيب. على انه (ع) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه وهو حر غير مملوك له وان كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر وقد قال لاحد صاحبيه في السجن: " اذكرني عند ربك " الاية: 42 من السورة وقال لرسول الملك " ارجع إلى ربك " الاية: 51 من السورة ولم يعبر عن الملك بلفظ ربى على عادتهم في ذكر الملوك وقال ايضا لرسول الملك: " اسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن ان ربى بكيدهن عليم " حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما ياخذ الملك ربا للرسول.
[ 126 ]
ويؤيد ما ذكرنا ايضا قوله في الاية التالية: " لو لا ان راى برهان ربه ". قوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين " التدبر البالغ في اطراف القصة وامعان النظر فيما محتف به الجهات والاسباب والشرائط العاملة فيها يعطى ان نجاة يوسف منها لم تكن الا امرا خارقا للعادة وواقعة هي اشبه بالرؤيا منها باليقظة. فقد كان يوسف (ع) رجلا ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء وكان شابا بالغا أشده وذلك أو ان غليان الشهوة وثوران الشبق وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الالباب والجمال والملاحة يدعو إلى الهوى والترح وكان مستغرقا في النعمة وهنئ العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من اقوى اسباب التهوس والاتراف وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك والعظماء.
وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب وهى عزيزة مصر وهى عاشقة والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه وكانت لها سوابق الاكرام والاحسان والانعام ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الانسان وقد تعرضت له ودعته إلى نفسها والصبر مع التعرض اصعب وقد راودته هذه الفتانة واتت فيها بما في مقدرتها من الغنج والدلال وقد الحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها اصعب وأشق وكانت عزيزة لا يرد امرها ولا يثنى رأيها وهى ربته خصه بها العزيز وكانا في قصر زاه من قصور الملوك ذى المناظر الرائقة التى تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنئ. وكانا في خلوة وقد غلقت الابواب وارخت الستور وكان لا يأمن الشر مع الامتناع وكان في امن من ظهور الامر وانهتاك الستر لانها كانت عزيزة بيدها اسباب الستر والتعمية ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنئ طويل وكان يمكن ليوسف ان يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وامانيها كالملك والعزة والمال. فهذه اسباب وامور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو اقبلت على صخرة صماء لا ذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا الا الخوف من ظهور الامر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز.
[ 127 ]
اما الخوف من ظهور الامر فقد مر انه كان في أمن منه ولو كان بدا من ذلك شئ لكان في وسع العزيزة ان تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من امر مراودتها فكادت حتى ارضت نفس العزيز ارضاء فلم يؤاخذها بشئ وقلبت العقوبة ليوسف حتى سجن. واما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت اخوة يوسف عما هو اعظم من الزنا واشد اثما فانهم كانوا ابناء ابراهيم واسحاق ويعقوب امثال يوسف فلم تمنعهم شرافة النسب من ان يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة بيع العبيد ويثكلوا فيه اباهم
يعقوب النبي (ع) فبكى حتى ابيضت عيناه. واما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين الاجتماعية انما تؤثر اثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك انما يتم فيما إذا كان الانسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة واما لو اغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفى الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشئ من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب. فلم يكن عند يوسف (ع) ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الاسباب القوية التى كانت لها عليه الا اصل التوحيد وهو الايمان بالله وان شئت فقل المحبة الالهية التى ملات وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا ولا موضع اصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة ولنرجع إلى متن الاية. فقوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين " لا ريب ان الاية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة والسياق يعطى ان المراد بصرف السوء والفحشاء عنه انجاؤه مما اريد منه وسئل بالمراودة والخلوة وان المشار إليه بقوله كذلك هو ما يشتمل عليه قوله: " ان رأى برهان ربه ". فيؤل معنى قوله: " كذلك لنصرف " إلى آخر الاية إلى انه (ع) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذى صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف (ع).
[ 128 ]
ولازم ذلك ان يكون الجزاء المقدر لقوله: " لو لا ان رأى برهان ربه " هو ارتكاب السوء والفحشاء ولازم ذلك ان يكون لو لا ان رأى الخ قيدا لقوله وهم بها وذلك يقتضى ان يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية ويكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط والمعنى انه لو لا ان رأى برهان ربه لهم بها واوشك ان يرتكب فان لو لا وان كانت ملحقة بأدوات الشرط وقد منع النحاة تقدم جزائها
عليها قياسا على ان الشرطية الا ان قوله وهم بها ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله: " ولقد همت به " وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا والله لاضربنه ان يضربني والمعنى والله ان يضربني اضربه ومعنى الاية والله لقد همت به والله لو لا ان راى برهان ربه لهم بها واوشك ان يقع في المعصية وانما قلنا اوشك ان يقع ولم نقل وقع لان الهم كما قيل لا يستعمل الا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: " وهموا بما لم ينالوا " التوبة: 74 وقوله: " إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا " آل عمران: 122 وقول صخر: أهم بأمر الحزم لا استطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف وقد اشار سبحانه إلى ذلك بقوله: " لنصرف عنه السوء والفحشاء " ولم يقل لنصرفه من السوء والفحشاء فتدبر فيه. ومن هنا يظهر ان الانسب ان يكون المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما ان المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهى الزنا فهو (ع) لم يفعل ولم يكد ولولا ما اراه الله من البرهان لهم وكاد ان يفعل وهذا المعنى هو الذى يؤيده ما قدمناه من الاعتبار والتأمل في الاسباب والعوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه. فقوله تعالى: " ولقد همت به " اللام فيه للقسم والمعنى واقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه ولا يكون الهم الا بان تشفع الارادة بشئ من العمل وقوله: " وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه " معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة والمعنى اقسم لو لا رؤيته برهان ربه لهم بها وكاد ان يجيبها لما تريده منه. والبرهان هو السلطان ويراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة
[ 129 ]
قال تعالى: " فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملاه " القصص: 32 وقال: " يا ايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم " النساء: 174 وقال: " أإله مع الله قل هاتوا
برهانكم ان كنتم صادقين " النمل: 64 وهو الحجة اليقينية التى تجلى الحق ولا تدع ريبا لمرتاب. والذى رآه يوسف (ع) من برهان ربه وان لم يوضحه كلامه تعالى كل الايضاح لكنه على أي حال كان سببا من اسباب اليقين لا يجامع الجهل والضلال بتاتا ويدل على انه كان من قبيل العلم قول يوسف (ع) فيما يناجى ربه كما سيأتي: " والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين " الاية: 33 من السورة ويدل على انه ليس من العلم المتعارف بحسن الافعال وقبحها ومصلحتها ومفسدتها ان هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال والمعصية وهو ظاهر قال تعالى: " أفرايت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم " الجاثية: 23 وقال: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14. فالبرهان الذى اراه به وهو الذى يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الانسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية اصلا وسنورد فيه بعض الكلام ان شاء الله تعالى. وقوله: " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " اللام في لنصرف للغاية أو التعليل والمال واحد وكذلك متعلق بقوله لنصرف والاشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه والسوء هو الذى يسوء صدوره من العبد بما هو عبد وهو مطلق المعصية اوالهم بها والفحشاء هو ارتكاب الاعمال الشنيعة كالزنا وقد تقدم ان ظاهر السياق انطباق السوء والفحشاء على الزنا والهم به. والمعنى الغاية أو السبب في ان رأى برهان ربه هي ان نصرف عنه الفحشاء والهم بها. ومن لطيف الاشارة في الاية ما في قوله: " لنصرف عنه السوء والفحشاء " حيث اخذ السوء والفحشاء مصروفين عنه لاهو مصروفا عنهما لما في الثاني من الدلالة على انه كان فيه ما يقتضى اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك وهو ينافى شهادته تعالى بأنه من عباده
[ 130 ]
المخلصين وهم الذين اخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شئ فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه. وقوله: " انه من عبادنا المخلصين " في مقام التعليل لقوله كذلك لنصرف الخ والمعنى عاملنا يوسف كذلك لانه من عبادنا المخلصين وهم يعاملون هذه المعاملة. ويظهر من الاية ان من شأن المخلصين من عباد الله ان يروا برهان ربهم وان الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصية ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه وهذه هي العصمة الالهية. ويظهر ايضا ان هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا. وللمفسرين من العامة والخاصة في تفسير الاية اقوال مختلفة: 1 - منها: ما ذكره بعضهم ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والحسن وغيرهم ان المعنى انها همت بالفاحشة وانه هم بمثله لولا ان راى برهان ربه لفعل. وقد وصفوا همه (ع) بما يجل عنه مقام النبوة ويتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا انه قصدها بالفاحشة ودنا منها حتى حل السراويل وجلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه ابطل الشهوة ونجاه من الهلكة وذكروا في وصف هذا البرهان امورا كثيرة مختلفة. قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة اختلفوا فيه يعنى في البرهان ما هو ؟ قال بعضهم ان طائرا وقع على كتفه فقال في اذنه لا تفعله فان فعلت سقطت من درجة الانبياء وقيل انه رأى يعقوب عاضا على اصبعه وهو يقول يا يوسف أما تراني وقال الحسن البصري رآها وهى تغطى شيئا فقال لها ما تصنعين ؟ قالت اغطى وجه صنمي لئلا يرانى فقال يوسف انت تستحيين الجماد الذى لا يعقل ولا يرى فانا اولى
ان استحيى ممن يرانى ويعلم سرى وعلانيتي. قال ارباب اللسان انه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الانبياء
[ 131 ]
وتريد ان تفعل فعل السفهاء وقيل رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا وقيل انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول يا رسول العصمة لا تفعل فانك معصوم وقيل نكس رأسه فرأى على الارض مكتوبا ومن يعمل سوء يجز به وقيل اتاه ملك ومسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من اصابع رجليه وقيل رأى الملك في البيت وهو يقول ألست ههنا وقيل وقع بينهما حجاب فلا يرى احد صاحبه وقيل رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها لمن انت قالت لمن لا يزنى. وقيل جاز عليه طائر فناداه يا يوسف لا تعجل فانها لك حلال ولك خلقت وقيل رأى ذلك الجب الذى كان بحذائه عليه ملك قائم يقول يا يوسف أنسيت هذا الجب وقيل رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها وقيل رأى شخصا فقال يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا اعظم ما يكون فقال الزانى في بطني غدا فهرب منه انتهى. ومما قيل فيه انه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من اطراف انامله رواه في الدر المنثور عن مجاهد وعكرمة وابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التى اوردها في التفسير بالمأثور. والجواب عنه مضافا إلى انه (ع) كان نبيا ذا عصمة الهية تحفظه من المعصية وقد تقدم اثبات ذلك ان الذى اورده الله تعالى من كرائم صفاته واخلاص عبوديته لا يبقى شكا في انه اطهر ساحة وارفع منزلة من ان ينسب إليه امثال هذه الالواث فقد ذكر تعالى انه من عباده الذين اخلصهم لنفسه واجتباهم لعبوديته وآتاهم حكما وعلما
وعلمه من تأويل الاحاديث وانه كان عبدامتقيا صبورا في الله غير خائن ولا ظالم ولا جاهل وكان من المحسنين وقد الحقه بآبائه الصالحين ابراهيم واسحاق ويعقوب. وكيف يستقيم هذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة الا لانسان طاهر في وجدانه منزه في اركانه صالح في اعماله مستقيم في احواله. واما من ذهب لوجهه في معصية الله وهم بما هو من افحش الاثم في دين الله وهو زنا ذات البعل وخيانة من احسن إليه ابلغ الاحسان في عرضه واصر عليه حتى حل التكة
[ 132 ]
وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف وازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحى ولم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رؤس اصابعه وشاهد ثعبانا اعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه وهرب من هول ما رأى فمثله احرى به ان لا يسمى انسانا فضلا ان يتكئ على اريكة النبوة والرسالة ويأتمنه الله على وحيه ويسلم إليه مفاتيح دينه ويؤتيه حكمه وعلمه ويلحقه بمثل ابراهيم الخليل لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الاقاويل المختلفة والاسرائيليات والاثار الموضوعة إذ يتهمون جده ابراهيم (ع) في زوجته سارة لا يبالون ان يتهموا نجله (ع) في زوجة غيره. قال في الكشاف وقد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع وبانه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الاربع وهى مستلقية على قفاها وفسر البرهان بأنه سمع صوتا اياك واياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا اعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على انملته وقيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من انامله. وقيل كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا الا يوسف فانه ولد له احد عشر ولدا من اجل ما نقص من شهوته حين هم وقيل صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش
فلما زنى قعد لا ريش له وقيل بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها " وان عليكم لحافظين كراما كاتبين " فلم ينصرف ثم راى فيها " ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا " فلم ينته ثم رأى فيها " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل ادرك عبدى قبل ان يصيب الخطيئة فانحط جبريل وهو يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وانت مكتوب في ديوان الانبياء ؟ وقيل رأى تمثال العزيز وقيل قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت استحيى منه ان يرانا فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ولا استحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور ؟ وهذا ونحوه مما يورده اهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وانبيائه واهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل. ولو وجدت من يوسف (ع) ادنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما
[ 133 ]
نعيت على آدم زلته وعلى داود وعلى نوح وعلى ايوب وعلى ذى النون وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد اثنى عليه وسمى مخلصا ؟ فعلم بالقطع انه ثبت في ذلك المقام الدحض وانه جاهد نفسه مجاهدة اولى القوة والعزم ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما انزل من كتب الاولين ثم في القرآن الذى هو حجة على سائر كتبه ومصدق لها ولم يقتصر الا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الاخرين كما جعله لجده الخليل ابراهيم (ع) وليقتدى به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الازار والتثبت في مواقع العثار. فأخزى الله اولئك في ايرادهم ما يؤدى إلى ان يكون انزال الله السورة التى هي احسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبى من انبياء الله في القعود بين شعب الزانية وفي
حل تكته للوقوع عليها وفي ان ينهاه ربه ثلاث مرات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن وبالتوبيخ العظيم وبالوعيد الشديد وبالتشبية بالطائر الذى سقط ريشه حين سفد غير انثاه وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهى ولا يتنبه حتى يتداركه الله بجبريل وباجباره ولو ان اوقح الزناة واشطرهم واحدهم حدقة اجلحهم وجها لقى بأدنى ما لقى به مما ذكروا لما بقى له عرق ينبض ولا عضو يتحرك فيا له من مذهب ما افحشه ومن ضلال ما ابينه انتهى. وما احسن ما قال بعض اهل التفسير في ذم اصحاب هذا القول انهم يتهمونه (ع) في هذه الواقعة وقد شهد ببراءته وطهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول " انه من عبادنا المخلصين " والشاهد الذى شهد له من اهلها إذ قال ان كان قميصه قد من قبل إلى آخر الايتين والعزيز إذ قال لامراته انه من كيدكن وامرأة العزيز إذ قالت الان حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين والنسوة إذ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ويوسف ينفى ذلك عن نفسه وقد سماه الله صديقا إذ قال انى لم اخنه بالغيب. وعمدة السبب في تعاطيهم هذا القول امران احدهما افراطهم في الركون إلى الاثار وقبول الحديث كيفما كان وان خالف
[ 134 ]
صريح العقل ومحكم الكتاب فلعبت باحلامهم الاسرائيليات وما يلحق بها من الاخبار الموضوعة المدسوسة وانستهم كل حق وحقيقة وصرفتهم عن المعارف الحقيقية. ولذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس ولا للمقامات المعنوية الانسانية كالنبوة والولاية والعصمة والاخلاص اصلا الا الوضع والاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الانسان الاعتباري التى ليست لها وراء التسمية والمواضعة حقيقة تتكئ عليها وتطمئن إليها.
فيقيسون نفوس الانبياء الكرام على سائر النفوس العامية التى تنقلب بين الاهواء وبلغت بها الجهالة والخساسة فان ارتقت فانما ترتقى إلى منزلة التقوى ورجاء الثواب وخوف العقاب تصيب كثيرا وتخطئ وان لحقت بها عصمة الهية في مورد أو موارد فانما هي قوة حاجزة بين الانسان والمعصية لا تعمل عملها الا بابطال سائر الاسباب والقوى التى جهز بها الانسان والجاء الانسان واضطراره إلى فعل الجميل واقتراف الحسنة ولا جمال لفعل ولا حسن لعمل ولا مدح لانسان مع الالجاء والاضطرار وللكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به. الثاني ظاهر قوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه " بناء على ما ذكره النحاة ان جزاء لولا لا يتقدم عليها قياسا على ان الشرطية وعلى هذا يصير قوله وهم بها جملة تامة غير متعلقة بالشرط وجواب لولا قولنا لفعل أو ما يشبه ذلك والتقدير ولقد همت امرأة العزيز بيوسف وهم يوسف بها لو لا ان رأى برهان ربه لفعل وهو المطلوب. وقد عرفت فساد ذلك وان الجملتين معا اعني قوله ولقد همت به وقوله وهم بها قسميتان وان جزاء لو لا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه والكلام على تقدير واقسم لقد همت به واقسم لو لا ان رأى برهان ربه لهم بها نظير قولهم والله لاضربنه ان ضربني. على ان الذى قدروه من المعنى كان الانسب به ان يقال ولو لا ان رأى برهان ربه بالوصل ولا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل. 2 - ومن الاقوال في الاية ان المراد بهمه (ع) ميل الطبع وانتزاع الغريزة قال في
[ 135 ]
الكشاف فان قلت كيف جاز على نبى الله ان يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها ؟ قلت المراد ان نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم
به والقصد إليه وكما تقتضيه صورة تلك الحال التى تكاد تذهب بالعقول والعزائم وهو يكسر ما به ويرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم. ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوجا عند الله بالامتناع لان استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بانه من عباده المخلصين ويجوز ان يريد بقوله وهم بها وشارف ان يهم بها كما يقول الرجل قتلته لو لم اخف الله يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنه شرع فيه. ثم قال فان قلت لم جعلت جواب لو لا محذوفا يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدما قلت لان لو لا لا يتقدم عليها جوابها من قبل انه في حكم الشرط وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض واما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز. فان قلت فلم جعلت لو لا متعلقة بهم بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله ولقد همت به وهم بها لان الهم لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون الا باثنين معا فكأنه قيل ولقد هما بالمخالطة لو لا ان منع مانع احدهما. قلت نعم ما قلت ولكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال ولقد همت به وهم بها فكان اغفاله الغاء له فوجب ان يكون التقدير ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها على ان المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لو لا ان راى برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت لو لا حقيقة بان تعلق بهم بها وحده انتهى. ولخصه البيضاوى في تفسيره حيث قال المراد بهمه (ع) ميل الطبع ومنازعة
الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والاجر
[ 136 ]
الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم اخف الله انتهى. ورد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم وهو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الاعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه واما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة والهم بمعناه اللغوى مذموم لا ينبغى صدوره من نبى كريم والطبع وان كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما. اقول هذا انما يصلح جوابا لقولهم ان المراد بهمه (ع) ميل الطبع ومنازعة الشهوة واما تجويزه ان يكون المراد بالهم الاشراف على الهم فلا بل هو قول على حدة في معنى الاية وهو ان يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إل المخالطة وبهمه اشرافه (ع) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل والقرينة عليه هو وصفه تعالى اياه بما فيه مدح بالغ ولو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح اصلا فمن هنا يعلم ان المراد بهمه (ع) اشرافه على الهم لا الهم بالفعل. والجواب انه معنى مجازى لا يصار إليه الا مع عدم امكان الحمل على المعنى الحقيقي وقد تقدم انه بمكان من الامكان. على ان الذى ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه وان المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية والمحارم الالهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل الا في الابصار الحسي أو المشاهدة القلبية التى هي بمنزلتها أو اظهر منها واما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة. 3 - ومن الاقوال في الاية ان المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته وهمه بها هو
قصده ان يضربها للدفاع عن نفسه والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على انه من عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الانبياء (ع) قال في مجمع البيان ان الهم في ظاهر الاية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لانه قال ولقد همت به وهم بها فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز ان يراد ويعزم عليهما لان الموجود الباقي لا يصح ان يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الاية على العزم فلا بد
[ 137 ]
من تقدير امر محذوف يتعلق العزم به وقد امكن ان نعلق عزمه بغير القبيح ونجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال ولقد همت بالفاحشة منه وارادت ذلك وهم يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وايقاع مكروه به. وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان ان الله سبحانه اراه برهانا على انه ان اقدم على ما هم به اهلكه اهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بانه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه فاخبر سبحانه انه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به ويكون التقدير لو لا ان رأى برهان ربه لفعل ذلك ويكون جواب لو لا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤف رحيم " انتهى موضع الحاجة. والجواب انه قول لا بأس به لكنه مبنى على التفرقة بين الهمين وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه الا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد وقد عرفت امكان ذلك. على ان لازمه ان يكون المراد بالبرهان الذى رآه ما يدل على انه ان ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة اخرى تصيبه ويكون المراد بالسوء والفحشاء القتل والتهمة كما اشار إليه في المجمع وهذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا. واما ما ذكره في المجمع من عدم جواز ارادة العزم على المخالطة من الهمين معا ومحصله ان الهم انما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده وإذا فرض تحقق الهم من
احد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الاخر إذ لا معنى لتعلق الارادة بالمريد والطلب من الطالب وبعث من هو مبعوث بالفعل. ففيه انه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق ولحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كانسانين يريدان الاقتراب والاجتماع فربما يثبت احدهما ويتحرك إليه الاخر وربما يتحركان ويقتربان ويتدليان معا وجسمين يريدان الانجذاب والاتصال فربما يجذب احدهما وينجذب إليه الاخر وربما يتجاذبان ويتدانيان. 4 - ومن الاقوال في الاية ان المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب والدفاع فهى لما راودته وردها بالامتناع والاستنكاف ثارت منها داعية الغضب والانتقام وهاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط والاسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما امرته به وهو
[ 138 ]
لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه وضربها ان مستها بسوء غير ان ضربه اياها ومقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في انه راودها عن نفسها ودعاها إلى الفحشاء اراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك وألهم ان يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه ويخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب. ولا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة اما في قوله ولقد همت به فلان الهم لا يكون الا بفعل للهام والوقاع ليس من افعال المرأة فتهم به وانما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه هذا اولا. على ان يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها فان نصوص الايات قبل هذه الاية وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته ايضا وهذا ثانيا. على ان ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه ان يقال ولقد هم بها وهمت به لان الاول هو المقدم في الطبع والوضع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه لا
يتحقق بدونه وهذا ثالثا. على انه قد علم من القصة ان هذه المراة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها ادنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له فاذن لا يصح ان يقال انها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا انه كان قبولا لطلبه ومواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه واما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير وهذا رابعا انتهى ملخصا مما اورده صاحب المنار في تفسيره. والجواب انه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما اوردناه على سابقه واما ما يختص به ان المراد بهمها به قصدها اياه بضرب ونحوه فمما لا دليل عليه اصلا واما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك. واما ما ذكره في استبعاد ان يراد من قوله ولقد همت به الهم على المخالطة أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فان من المعلوم ان هذه المخالطة تتألف عادة من حركات وسكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال والعمل دون القبول فلو همت به
[ 139 ]
بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة وتلجئه إلى اجابتها فيما تريده منه صح ان يقال انها همت به أي بمخالطته وليس من الواجب ان يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به اطلاق الهم عليه. واما ما ذكره اخيرا انها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح ان يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه انها انما كانت جازمة في ارادتها منه وعزيمتها عليه واما في تحقق الفعل ووقوعه على ما قدرته فلا كيف ؟ وقد شاهدت من يوسف الامتناع والاباء عن مراودتها وانما همت به لما قابلها بالاستنكاف ولا جزم لها مع ذلك باجابته لها ومطاوعته لما ارادته منه وهو ظاهر.
5 - ومن الاقوال في الاية حمل الكلام على التقديم والتاخير ويكون التقدير ولقد همت به ولو لا ان رأى برهان ربه لهم بها ولما راى برهان ربه لم يهم بها ويجرى ذلك مجرى قولهم قد كنت هلكت لو لا انى تداركتك وقد كنت قتلت لو لا انى خلصتك والمعنى لو لا تداركي لهلكت ولو تخليصي لقتلت وان كان لم يقع هلاك وقتل ومثله قول الشاعر فلا تدعني قومي ليوم كريهة * لئن لم اعجل ضربة أو اعجل وفى القرآن الكريم ان كادت لتبدى به لو لا ان ربطنا على قلبها " نسبه في المجمع إلى ابى مسلم المفسر. والجواب انه ان كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون ان في القرآن تقديما وتأخيرا فانما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم واكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: " وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب " هود: 71 انه من التقديم والتأخير وان التقدير فبشرناها فضحكت واما قوله: " وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه " فالمعنى يختلف فيه بالتقديم والتاخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للولا مقدما عليها على ما ذكروه وإذا اخر كان هما مقيدا بالشرط. وان كان المراد انه جواب للولا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على ان الشرطية ويؤولون ما سمع من ذلك اللهم الا ان يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل
[ 140 ]
على هذا القياس ولا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك 6 - ومن الاقوال في الايه ما ذكروا انها اول ما همت به في منامها وهم بها لانه رآها في منامه فعند ذلك علم انها له فلذلك هم بها اورده الغزالي في تفسيره قال وهذا وجه حسن لان الانبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي انتهى. والجواب انه ان اريد به ان قوله وهم بها حكاية ما رآه يوسف (ع) في المنام فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة وان اريد به انه (ع) رآها في المنام وهم
بها فيه واعتقد من هناك انها له وخاصة بناء على ان رؤيا الانبياء وحي ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فادركته رؤية برهان من ربه يبين له انه قد اخطأ في زعمه ففيه اثبات خطأ الانبياء في تلقى الوحى وليس ذلك باقل محذورا من تجويز اقدامهم على المعاصي. على ان الاية السابقة وقد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه واستعاذ بالله منه تناقض ذلك فكيف يزعم انها له وهو يعده ظلما ويستعيذ منه بالله سبحانه ؟ فهذه عمدة الاقوال في الاية وهى مع ما قدمناه اولا ترتقى إلى سبعة أو ثمانية وقد علمت ان معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الاقوال فمن قائل انه سبب يقيني شاهده يوسف (ع) ومن قائل انه الايات والامور التى ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة ومن قائل انه العلم بحرمة الزنا وعذابه ومن قائل انه ملكة العفة ومن قائل انه العصمة والطهارة وقد عرفت ما هو الحق منها وسنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الايات ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر " الاستباق هو التسابق وقد تقدم والقد والقط هو الشق الا ان القد هو الشق طولا والقط هو الشق عرضا والدبر والقبل كالخلف والامام. والسياق يعطى ان استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (ع) يريد ان يفتحه ويتخلص منها بالخروج من البيت وامرأة العزيز كانت تريد ان تسبقه إليه فتمنعه من الفتح والخروج لعلها تفوز بما تريده منه وان يوسف سبقها الى الباب فاجتذبته من قميصه
[ 141 ]
من الوراء فقدته ولم ينقد الا لانه كان في حال الهرب مبتعدا منها والا لم ينشق طولا. وقوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " الالفاء الوجدان يقال الفيته كذا أي وجدت والمراد بسيدها زوجها قيل انه جرى على عرف مصر وقد كانت النساء بمصر يلقبن
زوجهن بالسيد وهو مستمر إلى هذا الزمان. قوله تعالى: " قالت ما جزاء من اراد باهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم " لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق وانما اوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب وحضورهما والهيئة هذه الهيئة عنده ويتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " إلى تمام خمس آيات. فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه وتسأله ان يجازيه فذكرت انه اراد بها سوء وعليه ان يسجنه أو يعذبه عذابا اليما لكنها لم تصرح بذلك ولا بشئ من اطراف الواقعة بل كنت وأتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت " ما جزاء من اراد باهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم " فلم يصرح باسم يوسف وهو المريد ولا باسم نفسها وهى الاهل ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز وتقديسا لساحته. ولم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن والعذاب الاليم لان قلبها الواله إليه الملئ بحبه ما كان يساعدها على التعيين فان في الابهام نوعا من الفرج الا ان في تعبيرها بقولها " باهلك " نوعا من التحريض عليه وتهييجه على مؤاخذته ولم يكن ذلك الا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد والاسى لئلا يتفطن بواقع الامر فيؤاخذها اما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فان صرفه عن مؤاخذة يوسف (ع) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة. قوله تعالى: " قال هي راودتني عن نفسي " لم يبدأ يوسف (ع) بالقول ادبا مع العزيز وصونا لها ان يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون ان يصرح بالحق فقال هي راودتني عن نفسي وفي الكلام دلالة على القصر وهى من قصر القلب أي لم اردها بالسوء بل هي التى ارادت ذلك فراودتني عن نفسي. وفي كلامه هذا وهو خال عن اقسام التأكيد كالقسم ونحوه دلالة على سكون
[ 142 ]
نفسه (ع) وطمأنينته وانه لم يحتشم ولم يجزع ولم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ
كان لم يأت بسوء ولا يخافها ولا ما اتهمته وقد استعاذ بربه حين قال معاذ الله قوله تعالى: " وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " إلى آخر الايتين لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله ان كان قميصه الخ بمنزلة مقول القول بالنسبه إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله ان كان قميصه الخ وقد قيل ان هذا القول لما ادى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة. وقد اشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة ويتضح طريق القضية فتكلم فقال ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين فان من البين ان احدهما صادق في دعواه والاخر كاذب وكون القد من قبل يدل على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فان كون القد من دبر يدل على هربه منها وتعقيبها اياه واجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها وهو ظاهر. واما من هذا الشاهد ؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم كان رجلا حكيما اشار للعزيز بما اشار كما عن الحسن وقتادة وعكرمة وقيل كان رجلا وهو ابن عم المرأة وكان جالسا مع زوجها لدى الباب وقيل لم يكن من الانس ولا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد ورد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: " من اهلها ". ومن طرق اهل البيت (ع) وبعض طرق اهل السنة انه كان صبيا في المهد من اهلها وسيجئ في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى. والذى ينبغى ان ينظر فيه ان الذى اتى به هذا الشاهد بيان عقلي ودليل فكرى يؤدى إلى نتيجة هي القاضية لاحد هذين المتداعيين على الاخر ومثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فانها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه وبالجملة القول الذى لا يعتمد على التفكير والتعقل كما في قوله: " شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم " حم السجدة: 20 وقوله: " قالوا نشهد انك لرسول الله " المنافقون: 1 فان الحكم بصدق الرسالة وان
كان في نفسه مستندا إلى التفكر والتعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر وتعقل كما في موارد يعبر عنه فيها
[ 143 ]
بالقول ونحوه. فليس من البعيد ان يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل وشهد شاهد اشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو وفكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر وتعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذى يبتنى على ترو وتفكر وبهذا يتايد ما ورد من الرواية انه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الاعجاز ايد الله سبحانه به قول يوسف (ع). قوله تعالى: " فلما رأى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن ان كيدكن عظيم " أي فلما رأى العزيز قميص يوسف والحال انه مقدود مشقوق من خلف قال ان الامر من كيدكن معاشر النساء ان كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق. ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على انه انما صدر منها بما انها من النساء وكيدهن معهود معروف ولذا استعظمه وقال ثانيا ان كيدكن عظيم وذلك ان الرجال اوتوا من الميل والانجذاب اليهن ما ليس يخفى واوتين من اسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهن ان ياخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن ارواحهم بجلوات فتانة واطوار سحارة تسلب احلامهم وتصرفهم إلى ارادتهن من حيث لا يشعرون وهو الكيد وارادة الانسان بالسوء ومفاد الاية ان العزيز لما شاهد ان قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (ع) على امراته. قوله تعالى: " يوسف اعرض عن هذا واستغفرى لذنبك انك كنت من الخاطئين " من مقول قول العزيز أي انه بعد ما قضى له عليها امر يوسف ان يعرض عن الامر وامر امرأته ان تستغفر لذنبها ومن خطيئتها
فقوله يوسف: " اعرض عن هذا " يشير إلى ما وقع من الامر ويعزم على يوسف ان يعرض عنه ويفرضه كان لم يكن فلا يحدث به ولا يذيعه ولم يرد في كلامه تعالى ما يدل على ان يوسف (ع) حدث به احدا وهو الظن به (ع) كما نرى انه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير وقد استولى عليها الوله وسلب منها الغرام كل حلم وحزم ولم تكن المراودة مرة أو مرتين والدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة امرأة العزيز
[ 144 ]
تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا. وقوله واستغفرى لذنبك انك كنت من الخاطئين يقرر لها الذنب ويأمرها ان تستغفر ربها لذلك الذنب لانها كانت بذلك من اهل الخطيئة ولذلك قيل من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات. وهذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لانه قضاء وحكم والقضاء العزيز لا للشاهد. ومن الخطأ قول بعضهم ان معنى واستغفرى لذنبك سلى زوجك ان لا يعاقبك على ذنبك انتهى بناء على ان الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز وكذا قول آخر معناه استغفري الله من ذنبك وتوبى إليه فان الذنب كان منك لا من يوسف فانهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الاصنام انتهى. وذلك ان الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون الا الالهة والارباب من دون الله سبحانه وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب على ان الاية لا تشتمل الا على قوله واستغفرى من دون ان يذكر المتعلق وهو ربها المعبود لها في مذهبها. وربما قيل ان الاية تدل على ان العزيز كان فاقدا للغيرة والحق ان الذى تدل
عليه انه كان شديد الحب لامراته ان قوله تعالى: " وقال نسوة في المدينة امراة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين " قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الاية إلى تمام ست آيات. والذى يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الاحوال وما يستوجبه طبع القصة انه لما كان من امر يوسف والعزيزة ما كان شاع الخبر في المدينة تدريجا وصارت النساء وهن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن ومحافلهن فيما بينهن ويعيرن بذلك عزيزة مصر ويعبنها انها تولهت إلى فتاها وافتتنت به وقد احاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه وضلت به ضلالا مبينا.
[ 145 ]
وكان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع اكثر النساء من الحسد والعجب فان المرأة تغلبه العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة وركوز لطف الخلقة جمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة والجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال ويورث ذلك فيها وخاصة في الفتيات اعجابا بالنفس وحسدا للغير. وبالجملة كان تحديثهن بحديث الحب والمراودة مكرا منهن بالعزيزة وفيه بعض السلوة لنفوسهن والشفاء لغليل صدورهن ولما يرين يوسف ولا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولها وهتك سترها وانما كن يتخيلن شيئا ويقاسن قياسا واين الرواية من الدراية والبيان من العيان. وشاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التى لا هم لها الا ان تفوز في طلب يوسف وبلوغ ما تريد منه ولا تعبؤ في حبه بشئ من الملك والعزة الا لان تتوصل به إلى حبه لها وميله إليها وانجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها وعلمت بمكرهن بها فأرسلت اليهن للحضور لديها وانهن سيدات ونساء اشراف المدينة واركان البلاد ممن
له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه. فتهيأن للحضور وتبرزن باحسن الجمال واوقع الزينة على ما هو الدأب في امثال هذه الاحتفالات من امثال هؤلاء السيدات وكل تتمنى ان ترى يوسف وتشاهد ما عنده من الحسن الذى اوقع على العزيزة ما اوقع وفضحها. والعزيزة لا هم لها يومئذ الا ان تريهن يوسف حتى يعذرنه ويشتغلن عنها بانفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن وهى لا تعبؤ بافتتانهن بيوسف ولا تخاف عليه منهن لانها على ما تزعم مولاته وصاحبته ومالكة امره وهو فتاها المخصوص بها وهى تعلم ان يوسف ليس بالذى يرغب فيهن أو يصبو اليهن وهو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام والاعتزاز عن هذه الاهواء والاميال. ثم لما حضرن عند العزيزة واخذن مقاعدهن ووقع الانس وجرت المحادثة والمفاوضة واخذن في التفكه آتت كل واحدة منهن سكينا وقد هيئت لهن وقدمت اليهن الفاكهة عند ذلك امرت يوسف ان يخرج اليهن وقد كان مستورا عنهن.
[ 146 ]
فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه اعينهن طارت عقولهن وطاحت احلامهن ولم يدرين دون ان قطعن ايديهن مكان الفاكهة التى فيها لما دخل عليهن من البهت والذهول وهذه خاصة الوله والفزع فان نفس الانسان إذا انجذبت إلى شئ مما تفرط في حبه أو تخافه وتهوله اضطربت وبهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى والاعضاء وتنظيم الامر فربما اقدم مسرعا إلى الخطر الذى ادهشه لقاؤه وربما نسى الفرار فبقي كالجماد الذى لا حراك به وربما يفعل غير ما هو قاصده وفاعله اختباطا ونظائرها في جانب الحب كثيرة وحكايات المغرمين والمتولهين من العشاق مشهورة. وكان هذا هو الفرق بين العزيزة وبينهن فان استغراقها في حب يوسف انما حصل لها تدريجا واما نساء المدينة فانهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال وغادرهن
الحب ففضحهن واطار عقلهن واضل رأيهن فنسين الفاكهة وقطعن ايديهن وتركن كل تجلد واصطبار وابدين ما في انفسهن من وله الحب وقلن: " حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم ". هذا وهن في بيت العزيز وهو بيت يجب فيه التحفظ على كل ادب ووقار وكان يجب ان يتقينها ويحتشمن موقعها وهن شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر وستر وهذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتك وهن لم ينسين ما كن بالامس يتحدثن به ويلمن ويذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف وهما في بيت واحد منذ سنين. فكان من الواجب على كل منهن ان تتقى صواحبها فلا تتهتك وهن يعلمن ما انجر إليه امر امرأة العزيز من سوء الذكر وفضاحة الشهرة هذا كله ويوسف واقف امامهن يسمع قولهن ويشاهد صنعهن. لكن الذى شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في انفسهن وبدل مجلس الادب والاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من انفسهم ضميرا ولا يبالى حضارها ما قيل أو يقال فيهم ولم يلبثن دون ان قلن حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم وقد قلن غير بعيد " امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين ". وكلامهن هذا بعد قولهن ذاك اعذار منهن فمفاده ان الذى كنا نقوله قبل انما هو
[ 147 ]
حق لو كان هذا بشرا وليس به وانما يذم الانسان ويعاب لو ابتلى بهوى بشر ومراودته وكان في وسعه ان يكتفى عنه بما يكافئه ويغنى عنه واما الجمال الذى لا يعادله جمال ويسلب كل حزم واختيار فلا لوم على هواه ولا ذم في غرامه. ولهذا انقلب المجلس دفعة وانقطعت قيود الاحتشام فانبسطن وتظاهرن بالقول في حسن يوسف وكل تتكلم بما في ضميرها منه وقالت امرأة العزيز: " فذلكن الذى
لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا وحفظا لمقامها عندهن وطمعا في مطاوعته وانقياده: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ". واما يوسف فلم يأخذه شئ من تلك الوجوه الحسان بالحاظها الفتانة ولا التفت إلى شئ من لطيف كلامهن ونعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال وجلال يذل عنده كل عزة وجلال فلم يكلمهن بشئ ولم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول وانما رجع إلى ربه " فقال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين. " وكلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة " معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون " دل بسياقه على ان هذا المقام كان اشق وامر على يوسف (ع) إذ كان بالامس يقاوم هم امرأة العزيز ويعالج كيدها وحدها وقد توجهت إليه اليوم همهن ومكايدهن جميعا وكان ما بالامس واقعة في خلوة على تستر منها وهى وهن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في اغوائه ملجآت على مراودته وجميع الاسباب والمقتضيات اليوم قاضية لهن عليه اشد مما كانت عليه بالامس. ولذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن ههنا واكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم. ولنرجع إلى البحث عن الايات. فقوله تعالى: " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها " الخ النسوة اسم جمع للمرأة وتقييد بقوله في المدينة تفيد انهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر
[ 148 ]
قولهن في شيوع الفضيحة. وامرأة العزيز هي التى كان يوسف في بيتها وقد راودته عن نفسه والعزيز معناه
معروف وقد كان يلقب به السيد الذى اشترى يوسف من السيارة وكان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الارض. وفى قوله تراود دلالة على الاستمرار وهو افحش المراودة والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة وقد شاع تسمية العبد فتى وكأنه بهذه العناية اضيف إلى ضميرها فقيل فتاها. وفى المفردات شغفها حبا أي اصاب شغاف قلبها أي باطنه عن الحسن وقيل وسطه عن ابى علي وهما يتقاربان انتهى وشغاف القلب غلافه المحيط به. والمعنى وقال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من اثر فيها وفي حقها امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه ولا يحرى بها ذلك لانها مرأة ومن القحة ان تراود المرأة الرجل بل ذاك ان كان من طبع الرجال وانها امرأة العزيز فهى عزيزة مصر فمن الواجب الذى لا معدل عنه ان تراعى شرف بيتها وعزة زوجها ومكانة نفسها وان الذى علقت به عبدها ومن الشنيع ان يتوله مثلها وهى عزيزة مصر بعبد عبرانى من جملة عبيده وانها احبته وتعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من اجابتها فلم تنته حتى الحت واستمرت على مراودته وذلك اقبح واشنع وامعن في الضلال. ولذلك عقبن قولهن امرأة العزيز تراود الخ بقولهن: " انا لنراها في ضلال مبين ". قوله تعالى: " فلما سمعت بمكرهن ارسلت اليهن واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا " قال في المجمع المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة انتهى وتسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من ن احية رقيباتها حسدا وبغيا وانما ارسلت اليهن لتريهن يوسف وتبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها ويعذرنها في حبه. وعلى هذا انما سمى قولهن مكرا ونسب السمع إليه لانه صدر منهن حسدا وبغيا لغاية
[ 149 ]
فضاحتها بين الناس. وقيل انما كان قولهن مكرا لانهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فانما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل اليهن ليحضرن عندها فتريهن اياه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى ان يراودنه عن نفسه هذا والوجه الاول اقرب إلى سياق الايات. وقوله ارسلت اليهن معناه معلوم وهو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها وقوله واعتدت لهن متكا وآتت كل واحدة منهن سكينا الاعتاد الاعداد والتهيئة أي اعدت وهيأت والمتكأ بضم الميم وتشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء والمراد به ما يتكؤ عليه من نمرق أو كرسى كما كان معمولا في بيوت العظماء وفسر المتكأ بالاترج وهو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذ متكأ بالضم فالسكون وهو الاترج وقرئ متكا بضم الميم وتشديد التاء من غير همز. وقوله: " وآتت كل واحدة منهن سكينا " أي لقطع ما يرون اكله من الفاكهة كالاترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع وقوله: " وقالت اخرج عليهن " أي امرت يوسف ان يخرج عليهن وهن خاليات الاذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة وقطعها وفى اللفظ دلالة على انه (ع) كان غائبا عنهن وكان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذى كن فيه فانها قالت اخرج عليهن ولو كان في خارج من البيت لقالت ادخل عليهن. وفى السياق دلالة على ان هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها وقد اصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فأعتدت لهن متكا وآتت كل واحدة منهن سكينا واخفت يوسف عن اعينهن ثم فاجأتهن باظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن ويندهشن بذاك الجمال البديع ويأتين بما لا ياتي به ذو شعور البتة
وهو تقطيع الايدى مكان الفواكه لا من الواحدة والثنتين منهن بل من الجميع. قوله تعالى: " فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم " الاكبار الاعظام وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن
[ 150 ]
وارادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكونى العام وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الانسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والافكار فأنساها وصار يتخبط في اعماله. ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن ايديهن تقطيعا مكان الفاكهة التى كن يردن قطعها وفي صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال قتل القوم تقتيلا وموتهم الجدب تمويتا. وقوله: " وقلن حاش لله " تنزيه لله سبحانه في امر يوسف وهذا كقوله تعالى: " ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " النور: 16 وهو من ادب الكلام عند المليين إذا جرى القول في امر فيه نوع تنزيه وتبرئة لاحد يبدء فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من اريد تنزيهه فهن لما اردن تنزيهه (ع) بقولهن ما هذا بشرا الخ بدأن بتنزيهه تعالى ثم اخذن ينزهنه. وقوله: " ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم " نفى ان يكون يوسف (ع) بشرا واثبات انه ملك كريم وهذا بناء على ما يعتقده المليون منهم الوثنيون ان الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كل خير وسعادة في العالم منهم يترشح كل حياة وعلم وحسن وبهاء وسرور وسائر ما يتمنى ويؤمل من الامور ففيهم كل جمال صوري ومعنوي وإذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر ويتصوره اصحاب الاصنام في صور انسانية حسنة بهية. ولعل هذا هو السبب في قولهن: " ان هذا الا ملك كريم " حيث لم يصفنه بما يدل
على حسن الوجه وجمال المنظر مع ان الذى فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه واعتدال صورته بل سمينه ملكا كريما لتكون فيه اشارة إلى حسن صورته وسيرته معا وجمال خلقه وخلقه وظاهره وباطنه جميعا والله اعلم. وتقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: " فذلكن الذى لمتننى فيه " يدل على انهن لم يفهمن بهذا الكلام اعذار لامرأة العزيز في حبها له وتيمها وغرامها به وانما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه واظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن وتوله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن ولم تقل امرأة العزيز فذلكن الذى لمتننى فيه الا بعد ما فضحتهن
[ 151 ]
فعلا وقولا بتقطيع الايدى وتنزيه الحسن فلم يبق لهن الا ان يصدقنها فيما تقول ويعذرنها فيما تفعل. قوله تعالى: " قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " إلى آخر الاية الكلام في موضع دفن الدخل كان قائلا يقول فماذا قالت امرأة العزيز لهن ؟ فقيل قالت فذلكن الذى لمتننى فيه. وقد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن وفعلهن واشارت إلى شخص الذى لمنها فيه ووصفته بانه الذى لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها وعزة زوجها وعفة نفسها في حبه وعذرا قبال لومهن اياها في مراودته واقوى البيان ان يحال السامع إلى العيان ومن هذا الباب قوله تعالى: " أهذا الذى يذكر آلهتكم " الانبياء: 36 وقوله: " ربنا هؤلاء اضلونا " الاعراف: 38. ثم اعترفت بالمراودة وذكرت لهن انها راودته لكنه اخذ بالعفة وطلب العصمة وانما استرسلت واظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن ونبهت يوسف انها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به وهذا معنى قولها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم.
ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من اجباره على الموافقة وسياسته لو خالفت فقالت: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " وقد اكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم والنون واللام ونحوها ليدل على انها عزمت على ذلك عزيمة جازمة وعندها ما يجبره على ما ارادته ولو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة والصغار والهوان بعد الاكرام والاحترام وفي الكلام تجلد ونوع تعزز وتمنع بالنسبة اليهن ونوع تنبيه وتهديد بالنسبة إلى يوسف (ع). وهذا التهديد الذى يتضمنه قولها: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " اشد واهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: " ما جزاء من اراد بأهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم ". اما اولا فلانها رددت الجزاء هناك بين السجن والعذاب الاليم وجمع ههنا بين الجزائين
[ 152 ]
وهو السجن والكون من الصاغرين. واما ثانيا فلانها ههنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها وكلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به وقد حققت انها تملك قلب زوجها وتقدر ان تصرفه مما يريده إلى ما تريده وتقوى على التصرف في امره كيفما شاءت ؟ قوله تعالى: " قال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين " قال الراغب في المفردات صبا فلان يصبوصبوا وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان قال تعالى: " اصب اليهن وأكن من الجاهلين " انتهى وفى المجمع الصبوة لطافة الهوى انتهى. تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن ويوسف (ع) واقف امامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف (ع) لم يلتفت اليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذى ملك قلبه بقلب لا مكان فيه الا له ولا
شغل له الا به " وقال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه " الخ. وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وان يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بالقائه في السجن وانما هو بيان حال لربه وانه عن تربية الهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية والبعد منه فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به وراودته عن نفسه معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون ففى الكلامين معا تمنع وتعزز بالله وانما الفرق انه يخاطب باحدهما امرأة العزيز وبالاخر ربه القوى العزيز وليس شئ من الكلامين دعاء البتة. وفي قوله رب السجن احب إلى الخ نوع توطئة لقوله " والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن " الخ الذى هو دعاء في صورة بيان الحال. فمعنى الاية رب انى لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لا خترت السجن على غيره واسألك ان تصرف عنى كيدهن فانك ان لا تصرف عنى كيدهن انتزع وأمل اليهن واكن من الجاهلين فانى انما اتوقى شرهن بعلمك الذى علمتنيه وتصرف به عنى كيدهن فان امسكت عن افاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكه الصبوة والهوى.
[ 153 ]
وقد ظهر من الاية بمعونة السياق اولا: ان قوله رب السجن احب الي " الخ ليس دعاء من يوسف (ع) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالاعراض عنهن والرجوع إليه ومعنى احب الي انى اختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه الا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الانساني والنفس الامارة. وان قوله تعالى: " فاستجاب له ربه " اشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله والا تصرف عنى كيدهن الخ من معنى الدعاء ويؤيده تعقيبه بقوله فصرف عنه كيدهن وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.
ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين ولو كان دعاء بالسجن واستجابه الله سبحانه وقدر له السجن لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم. وثانيا ان النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه واما انهن دعونه إلى انفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالامرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم اسرت كل واحدة منهن داعية اياه إلى نفسها فالاية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن إذ لو لا دعوة منهن إلى انفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة اليهن. والذى يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن إلى ان قال قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " الايات: 50 - 52 من السورة انهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد اشركهن في القصة ثم قال لم اخنه بالغيب ولم يقل لم اخن بالغيب ولا قال لم اخنه وغيره فتدبر فيه. ومع ذلك فمن المحال عادة ان يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن
[ 154 ]
ايديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له اصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية انهن ما فارقن المجلس الا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين الا وهو همهن وفيه هواهن يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له انفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن. وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله " رب السجن احب الي مما يدعونني
إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن " فانه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله الا لشدة الامر عليه واحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به. وثالثا: ان تلك القوة القدسية التى استعصم بها يوسف (ع) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه وليست الامر الدفعي المفروغ عنه والا لانقطعت الحاجة إليه تعالى ولذا عبر عنه بقوله: " والا تصرف عنى " ولم يقل وان لم تصرف عنى وان كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة اشارات. ولذلك ايضا قال تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " الخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد. ورابعا ان هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال (ع) واكن من الجاهلين ولم يقل وأكن من الظالمين كما قال لامرأة العزيز انه لا يفلح الظالمون أو اكن من الخائنين كما قال للملك وان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الامر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: انه ظلم والظالم لا يفلح وانه خيانة والله لا يهدى كيد الخائن وخاطب ربه بحقيقة الامر وهو ان الصبوة اليهن من الجهل. وستوافيك حقيقة الحال في هذين الامرين (1) في ابحاث ملحقة بالبيان ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم " أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن "
(1) اي الامر الثالث والرابع. (*)
[ 155 ]
انه هو السميع باقوال عباده العليم باحوالهم (ابحاث حول التقوى الدينى ودرجاته)
في فصول 1 - القانون والاخلاق الكريمة والتوحيد لا يسعد القانون الا بايمان تحفظه الاخلاق الكريمة والاخلاق الكريمه لا تتم الا بالتوحيد فالتوحيد هو الاصل الذى عليه تنمو شجرة السعادة الانسانية وتتفرع بالاخلاق الكريمة وهذه الفروع هي التى تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع قال تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " ابراهيم: 26 فجعل الايمان بالله كشجرة لها اصل وهو التوحيد لا محالة " واكل تؤتيه كل حين باذن ربها " وهو العمل الصالح وفرع وهو الخلق الكريم كالتقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها. وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر: 10 فجعل سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق وجعل العمل الذى يصلح له ويناسبه هو الذى يرفعه ويمده في صعوده. بيان ذلك: ان من المعلوم ان الانسان لا يتم له كماله النوعى ولا يسعد في حياته التى لا بغيه له اعظم من اسعادها الا باجتماع من افراد يتعاونون على اعمال الحياة على ما فيها من الكثرة والتنوع وليس يقوى الواحد من الانسان على الاتيان بها جميعا. وهذا هو الذى احوج الانسان الاجتماعي إلى ان يتسنن بسنن وقوانين يحفظ بها حقوق الافراد عن الضيعة والفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا اعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله ويقدره وزنه الاجتماعي من غير ان يظلم القوى المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز. ومن المسلم ان هذه السنن والقوانين لا تثبت مؤثرة الا بسنن وقوانين اخرى جزائية
[ 156 ]
تهدد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوى الحقوق وتخوفهم بالسيئة قبال السيئة وباخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات وتضمن اجراء الجميع القوة الحاكمة التى تحكم فيهم وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق. وانما تتحقق هذه الامنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على المجرم واما إذا جهلت ووقع الاجرام على جهل منها أو غفلة وكم له من وجود فلا مانع يمنع من تحققه والقوانين لا ايدى لها تبطش بها وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم اشد قوة ضاعت القوانين وفشت التخلفات والتعديات على حقوق الناس والانسان كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو اضر غيره. ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى ازمة جميع الامور فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على رده إلى العدل وتقويمه بالحق فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ولا يعارض في ارادته. والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس وهو ذا نصب اعيننا في اكثر اقطار الارض. فالقوانين والسنن وان كانت عادلة في حدود مفاهيمها واحكام الجزاء وان كانت بالغة في شدتها لا تجرى على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف الا باخلاق فاضلة انسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الانسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها. ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الامم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على اسس اخلاقية حيث لا ضامن لاجرائها فانهم امم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم الا نفع الامة وخيرها ولا يدفع الا ما يضر
امته ولا هم لامته الا استرقاق سائر الامم الضعيفة واستدرارهم واستعمار بلادهم واستباحة نفوسهم واعراضهم واموالهم فلم يورثهم هذا التقدم والرقى الا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الافراد إلى المجتمعات فقامت الامة اليوم مقام الفرد بالامس
[ 157 ]
وهجرت الالفاظ معانيها إلى اضدادها تطلق الحرية والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد بها الا الرقية والخسة والظلم والرذيلة. وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة الا إذا تأسست على اخلاق كريمة انسانية واستظهرت بها. ثم الاخلاق لا تفى بإسعاد المجتمع ولا تسوق الانسان إلى صلاح العمل الا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الايمان بأن للعالم ومنه الانسان الها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شئ ولا يغلب في قدرته عن احد خلق الاشياء على اكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزى المحسن باحسانه ويعاقب المسئ باساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين. ومن المعلوم ان الاخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للانسان هم الا مراقبة رضاه تعالى في اعماله وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولولا ارتضاع الاخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للانسان غاية في اعماله الحيوية الا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية واقصى ما يمكنه ان يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية ان يفكر في نفسه ان من الواجب عليه ان يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشى وللاجتماع من الفساد وان من اللازم عليه ان يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي ويثنى عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في اوراق التاريخ بخطوط ذهبية. اما ثناء الناس وتقديرهم العمل فانما يجرى في امور هامة علموا بها اما الجزئيات وما
لم يعلموا بها كالاعمال السرية فلا وقاء يقيها واما الذكر الجارى والاسم السامى ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الامور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا الا اعتقادا خرافيا إذ لا انسان على هذا بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شئ من النفع بثناء أو حسن ذكر واى عاقل يشترى تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت الا البطلان والاعتقاد الخرافى يزول بأدنى تنبه والتفات.
[ 158 ]
فقد تبين ان شيئا من هذه الامور ليس من شأنه ان يقوم مقام التوحيد ولا ان يخلفه في صد الانسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه ان لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه ان لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لاسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذى يزعم انه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (ع) وقد كان امره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة اياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (ع) ولا كان من الحري ان يمنعه شئ الا العلم بمقام ربه. 2 - يحصل التقوى الدينى بأحد امور ثلاثة وان شئت فقل انه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة الخوف والرجاء والحب قال تعالى: " في الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور " الحديد: 20 فعلى المؤمن ان يتنبه لحقيقة الدنيا وهى انها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه ان لا يجلعها غاية لاعماله في الحيوة وان يعلم ان له وراءها دارا وهى الدار الاخرة فيها ينال غاية اعماله وهى عذاب شديد للسيئات يجب ان يخافه ويخاف الله فيه ومغفرة من الله قبال اعماله الصالحة يجب ان يرجوها ويرجو الله فيها
ورضوان من الله يجب ان يقدمه لرضى نفسه. وطباع الناس مختلفة في ايثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف وكلما فكر فيما اوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من انواع العذاب الذى اعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه. وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الاعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة. وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وانما يعبدونه لانه اهل للعبادة وذلك لانهم عرفوه بما يليق به من الاسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا انه ربهم الذى يملكهم وارادتهم ورضاهم وكل شئ غيرهم ويدبر الامر
[ 159 ]
وحده وليسوا الا عباد الله فحسب وليس للعبد الا ان يعبد ربه ويقدم مرضاته وارادته على مرضاته وارادته فهم يعبدون الله ولا يريدون في شئ من اعمالهم فعلا أو تركا الا وجهه ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ولا إلى ثواب يرجيهم وان خافوا عذابه ورجوا رحمته والى هذا يشير قوله (ع) " ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ". وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا اعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الالهية وذلك انهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه وقد سمى نفسه باحسن الاسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الانسانية ان تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الاطلاق وقال تعالى: " ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شئ فاعبدوه " الانعام: 102 ثم قال: " الذى احسن كل شئ خلقه "
الم السجدة: 7 فأفاد ان الخلقة تدور مدار الحسن وانهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة ان ما خلقه من شئ آية تدل عليه وان في السماوات والارض لايات لاولى الالباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكى شيئا من جماله وجلاله. فالاشياء من جهة انواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذى لا يتناهى ويحمده ويثنى على حسنه الذى لا يفنى ومن جهة ما فيها من انواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى: " وان من شئ الا يسبح بحمده " اسرى 44. فهؤلاء يسلكون في معرفة الاشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال الا انها كمرائى تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهى وبفقرها وحاجتها ما احاط بها من الغنى المطلق وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شئ ويمحو رسم الاهواء والاميال النفسانية عن باطنه ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه الا الله عز اسمه قال تعالى: " والذين آمنوا اشد حبا لله " البقرة: 165. ولذلك يرى اهل هذا الطريق ان الطريقين الاخرين اعني طريق العبادة خوفا
[ 160 ]
وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فان الذى يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما ان من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ولو امكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير ان يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته وقد تقدمت الرواية عن الصادق (ع) " هل الدين الا الحب " وقوله (ع) في حديث: وانى اعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه الا
المطهرون " الحديث وانما كان اهل الحب مطهرين لتنزههم عن الاهواء النفسانية والالواث المادية فلا يتم الاخلاص في العبادة الا من طريق الحب 3 - كيف يورث الحب الاخلاص ؟ عبادته تعالى خوفا من العذاب تبعث الانسان إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الاخرة فالزاهد من شأنه ان يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام اعني ترك الواجبات وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الافعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الاخرة والجنة فالعابد من شأنه ان يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام والطريقان معا انما يدعو ان إلى الاخلاص للدين لا لرب الدين. واما محبة الله سبحانه فانها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال وتقصر القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبى أو ولى وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فان حب الشئ حب لآثاره. فهذا الانسان يحب من الاعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه وهو النور الذى يضئ له طريق العمل قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 والروح الذى يشير إليه بالخيرات والاعمال الصالحات قال تعالى: " وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 وهذا هو السر في انه لا يقع منه الا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه وشر. واما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فانه لا يقع بصره على شئ منها خطير أو حقير كثير أو يسير الا احبه واستحسنه لانه لا يرى منها الا انها آيات محضة تجلى له
[ 161 ]
ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذى لا يتناهى العارى من كل شين ومكروه.
ولذلك كان هذا الانسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه ولذة وابتهاج لا الم ولا حزن معه وامن لا خوف معه فان هذه العوارض السوء انما تطرء عن ادراك للسوء وترقب للشر والمكروه ومن كان لا يرى الا الخير والجميل ولا يجد الا ما يجرى على وفق ارادته ورضاه فلا سبيل للغم والحزن والخوف وكل ما يسوء الانسان ويؤذيه إليه بل ينال من السرور والابتهاج والامن ما لا يقدره ولا يحيط به الا الله سبحانه وهذا امر ليس في وسع النفوس العادية ان تتعقله وتكتنهه الا بنوع من التصور الناقص. واليه يشير امثال قوله تعالى: " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون " يونس: 63 وقوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82. وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شئ مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فان كل ما يترائى لهم ليس الا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الاعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: " كلا ان كتاب الابرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " المطففين: 21 وقوله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم " المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب. وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لامره إذ لا يرون الا خيرا ولا يشاهدون الا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في اخلاقهم كما كانوا مخلصين له في اعمالهم هذا معنى اخلاص العبد دينه لله قال تعالى: " هو الحى لا اله هو فادعوه مخلصين له الدين " المؤمن: 65. 4 - واما اخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الاخلاص له منسوبا
[ 162 ]
إليه تعالى فان العبد لا يملك من نفسه شيئا الا بالله والله سبحانه هو المالك لما ملكه اياه فاخلاصه دينه وان شئت فقل اخلاصه نفسه لله هو اخلاصه تعالى اياه لنفسه. نعم ههنا شئ وهو ان الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة فنشأوا من بادئ الامر بأذهان وقادة وادراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل اعلى وارقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات والظاهر ان هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن. وهؤلاء هم الانبياء والائمة وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه واخلصهم لحضرته قال تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " الانعام: 87 وقال: " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: 78. وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي وتمتنع معه صدور شئ منها عنهم صغيرة أو كبيرة وبهذا يمتاز العصمة من العدالة فانهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة. وقد تقدم آنفا ان من خاصة هؤلاء القوم انهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم والله سبحانه يصدق ذلك بقوله: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين " الصافات 160 وان المحبة الالهية تبعثهم على ان لا يريدوا الا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن ابليس في غير مورد من كلامه كقوله: " قال فبعزتك لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ص 83. ومن الدليل على ان العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون الا انفسهم وما يضرونك من شئ وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك
عظيما " النساء: 113 وقد فصلنا الكلام في معنى الاية في تفسير سورة النساء. وقوله تعالى حكاية عن يوسف (ع): " قال رب السجن احب الي مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين " يوسف: 33 وقد اوضحنا وجه دلالة الاية على ذلك.
[ 163 ]
ويظهر من ذلك اولا ان هذا العلم يخالف سائر العلوم في ان اثره العملي وهو صرف الانسان عما لا ينبغى إلى ما ينبغى قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فان الصرف فيها اكثري غير دائم قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14 وقال: " أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم " الجاثية: 23 وقال: " فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " الجاثية: 17. ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين " الصافات: 160 وذلك ان هؤلاء المخلصين من الانبياء والائمة (ع) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة باسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان ايضا والاية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به اولئك المخلصون فليس الا ان العلم غير العلم وان كان متعلق العلمين واحدا من وجه. وثانيا ان هذا العلم اعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الانسانية المختارة في افعالها الارادية ولا يخرجها إلى ساحة الاجبار والاضطرار كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار ومجرد قوة العلم لا يوجب الا قوة الارادة كطالب السلامة إذا ايقن بكون مانع ما سما قاتلا من حينه فانه يمتنع باختياره من شربه قطعا وانما يضطر الفاعل ويجبر إذا اخرج من يجبره احد طرفي الفعل والترك من الامكان إلى الامتناع. ويشهد على ذلك قوله: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88 تفيد
الاية انهم في امكانهم ان يشركوا بالله وان كان الاجتباء والهدى الالهى مانعا من ذلك وقوله: " يا ايها النبي بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة: 67 إلى غير ذلك من الايات. فالانسان المعصوم انما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن عن اختياره وارادته ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى. ولا ينافى ذلك ايضا ما يشير إليه كلامه تعالى ويصرح به الاخبار ان ذلك من الانبياء والائمة بتسديد من روح القدس فان النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الايمان ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فان شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره وارادته فافهم ذلك.
[ 164 ]
نعم هناك قوم زعموا ان الله سبحانه انما يصرف الانسان عن المعصية لا من طريق اختياره وارادته بل من طريق منازعة الاسباب ومغالبتها بخلق ارادة أو ارسال ملك يقاوم ارادة الانسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الانسان ان يقصده كما يمنع الانسان القوى الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه. وبعض هؤلاء وان كانوا من المجبرة لكن الاصل المشترك الذى يبتنى عليه نظرهم هذا واشباهه انهم يرون ان حاجة الاشياء إلى البارئ الحق سبحانه انما هي في حدوثها واما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الاسباب الا انه لما كان اقدر واقوى من كل شئ كان له ان يتصرف في الاشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو اطلاق واحياء أو اماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر. فإذا اراد الله سبحانه ان يصرف عبدا عن شر مثلا ارسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى ارادته مثلا عن الشر إلى الخير أو اراد ان يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه ابليس فحوله من الخير إلى الشر وان كان ذلك لا بمقدار يوجب الاجبار
والاضطرار. وهذا مدفوع بما نشاهده من انفسنا في اعمال الخير والشر مشاهدة عيان انه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير انفسنا التى تعمل اعمالها عن شعور بها وارادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الاسباب كالملك والشيطان سبب طولى لا عرضى وهو ظاهر. مضافا إلى ان المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من اصله وقد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الابحاث السالفة. (بحث روائي) في المعاني باسناده عن ابى حمزة الثمالى عن السجاد (ع) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق.
[ 165 ]
قال (ع): وكان يوسف من اجمل اهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال معاذ الله انا اهل بيت لا يزنون فغلقت الابواب عليها وعليه وقالت لا تخف والقت نفسها عليه فافلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فاخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من اراد باهلك سوءا الا ان يسجن أو عذاب اليم. قال فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف - ما اردت باهلك سوءا - بل هي راودتني عن نفسي - فسل هذا الصبى اينا راود صاحبه عن نفسه ؟ قال كان عندها من اهلها صبى زائر لها - فانطق الله الصبى لفصل القضاء - فقال ايها الملك انظر إلى قميص يوسف فان كان مقدودا من قدامه فهو الذى راودها وان كان مقدودا من خلفه فهى التى راودته. فلما سمع الملك كلام الصبى وما اقتصه - افزعه ذلك فزعا شديدا فجئ بالقميص
فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها انه من كيدكن ان كيدكن عظيم وقال ليوسف اعرض عن هذا ولا يسمعه منك احد واكتمه. قال فلم يكتمه يوسف واذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فارسلت اليهن وهيات لهن طعاما ومجلسا ثم اتتهن باترنج وآتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن ما قلن يعنى النساء فقالت لهن هذا الذى لمتننى فيه تعنى في حبه وخرجن النسوة من تحتها - فارسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن وقال الا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين وصرف الله عنه كيدهن. فلما شاع امر يوسف وامرأة العزيز والنسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبى ليسجنن يوسف فسجنه في السجن ودخل السجن مع يوسف فتيان وكان من قصتهما وقصة يوسف ما قصه الله في الكتاب قال أبو حمزة ثم انقطع حديث على بن الحسين (ع). اقول وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن ابى حمزة عنه (ع) باختلاف
[ 166 ]
يسير وقوله (ع) " قال معاذ الله انا اهل بيت لا يزنون " تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الاية " انه ربى احسن مثواى " الخ وهو يؤيد ما قدمناه في بيان الاية ان الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه اكثر المفسرين فافهم ذلك. وقوله فأبى عليهن وقال " الا تصرف عنى " الخ ظاهر في انه (ع) لم ياخذ قوله رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الاية انه ليس بدعاء. وفي العيون باسناده عن حمدان عن على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس
المأمون وعنده الرضا على بن موسى فقال له المأمون يا ابن رسول الله - ا ليس من قولك: ان الانبياء معصومون قال بلى وذكر الحديث إلى ان قال فيه: (قال ظ) فاخبرني عن قول الله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه " فقال الرضا (ع) لقد همت به ولو لا ان راى برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا ياتيه. ولقد حدثنى ابى عن ابيه الصادق (ع) انه قال همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فقال المأمون لله درك يا ابا الحسن. اقول: تقدم ان ابن الجهم هذا لا يخلو عن شئ لكن صدر الحديث اعني جواب الرضا (ع) يوافق ما قدمناه في بيان الاية واما ما نقله عن جده الصادق (ع) انها همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فلعل المراد به ما ذكره الرضا (ع) من الجواب لقبوله الانطباق عليه ولعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الاتى فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الاية. وفيه باسناده عن ابى الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (ع) اهل المقالات من اهل الاسلام ومن الديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر اهل المقالات فلم يقم احد الا وقد الزمه حجته كأنه القم حجرا. قام إليه على بن محمد بن الجهم فقال يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الانبياء ؟ فقال نعم فقال له فما تقول في قوله عزوجل في يوسف " ولقد همت به وهم بها " ؟ فقال له اما قوله تعالى في يوسف " ولقد همت به وهم بها " فانها همت بالمعصية وهم يوسف
[ 167 ]
بقتلها ان اجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عزوجل " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " والسوء القتل والفحشاء الزنا. وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن على بن ابى طالب في قوله: " ولقد
همت به وهم بها " قال طمعت فيه وطمع فيها وكان من الطمع ان هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب ابيض بينها وبينه فقال أي شئ تصنعين ؟ فقالت استحيى من الهى ان يرانى على هذه الصورة فقال يوسف (ع) تستحين من صنم لا ياكل ولا يشرب ولا استحيى انا من الهى الذى هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال لا تنالينها منى ابدا وهو البرهان الذى راى. اقول والرواية من الموضوعات كيف ؟ وكلامه وكلام سائر ائمة اهل البيت (ع) مشحون بذكر عصمة الانبياء ومذهبهم في ذلك مشهور. على ان سترها الصنم وانتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق اهل البيت (ع) لكنها آحاد لا تعويل عليها نعم لا يبعدان تقوم المراة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (ع) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه وبين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء وفحشاء كما كان له ذلك من قبل وقد قال تعالى في حقه: انه من عبادنا المخلصين فان صح شئ من هذه الروايات فليكن هذا معناه. وفيه اخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع) ثلاث عثرات حين هم بها فسجن وحين قال اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه وحين قال انكم لسارقون قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل. اقول والرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر ان الله اجتباه واخلصه لنفسه وان الشيطان لا سبيل له إلى من اخلصه الله لنفسه وكيف يستقيم لمن هم على افحش معصية وانساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين وجبه بالسرقة ان يعده الله صديقا من عباده المخلصين والمحسنين ويذكر انه آتاه الحكم والعلم واجتباه واتم عليه نعمته وعلى هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر
[ 168 ]
المنثور وقد تقدم نقل شطر منها عند بيان الايات ولا تعويل على شئ منها. وفيه اخرج احمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تكلم اربعة وهم صغار ابن ماشطه بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. وفي تفسير القمى قال وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع): في قوله " قد شغفها حبا " يقول قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره والحجاب هو الشغاف والشغاف هو حجاب القلب. وفيه في حديث جمعها النسوة وتقطيعهن ايديهن قال ": فما امسى يوسف (ع) في ذلك اليوم - حتى بعثت إليه كل امرأه رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن الحديث. * * * ثم بدا لهم من بعد ما راوا الايات ليسجننه حتى حين - 35. ودخل معه السجن فتيان قال احدهما انى ارانى اعصر خمرا وقال الاخر انى ارانى احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين - 36. قال لا ياتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان ياتيكما ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون - 37. واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحق ويعقوب مكان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا
[ 169 ]
وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون - 38. يا صاحبي السجن ء أرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار - 39. ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان
ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 40. يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقي ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذى فيه تستفتيان - 41. وقال للذى ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين - 42. (بيان) تتضمن الايات شطرا من قصته (ع) وهو دخوله السجن ومكثه فيه بضع سنين وهو مقدمة تقربه التام عند الملك ونيله عزة مصر وفيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد وقد جاء ببيان عجيب واظهاره لاول مرة انه من اسرة ابراهيم واسحاق ويعقوب. قوله تعالى: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين " البداء هو ظهور رأى بعد ما لم يكن يقال ؟ بدا لى في امر كذا اي ظهر لى فيه راى جديد والضمير في قوله لهم إلى العزيز وامراته ومن يتلوهما من اهل الاختصاص واعوان الملك والعزة. والمراد بالايات الشواهد والادلة الدالة على براءة يوسف (ع) وطهارة ذيله مما
[ 170 ]
اتهموه به كشهادة الصبى وقد القميص من خلفه واستباقهما الباب معا ولعل منها تقطيع النسوة ايديهن برؤيته واستعصامه عن مراودتهن اياه عن نفسه واعتراف امراة العزيز لهن انها راودته عن نفسه فاستعصم. وقوله ليسجننه اللام فيه للقسم أي اقسموا وعزموا ليسجننه البتة وهو تفسير للرأى الذى بدا لهم ويتعلق به قوله حتى حين ولا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع حين عن الاضافة والمعنى على هذا ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة
الشائع في المدينة وينساه الناس. ومعنى الاية ثم ظهر للعزيز ومن يتلوه من امرأته وسائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما راوا هذه الايات الدالة على براءته وعصمته وهو ان يسجنوه حينا من الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذى يجلب لهم العار والشين واقسموا على ذلك. ويظهر بذلك انهم انما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز وصونا لاسرته عن هوان التهمة والعار ولعل من غرضهم ان يتحفظوا على امن المدينة العام ولا يخلوا الناس وخاصة النساء ان يفتتنوا به فان هذا الحسن الذى أو له امراة العزيز والسيدات من شرفاء المدينة وفعل بهم ما فعل من طبعه ان لا يلبث دون ان يقيم في المدينة بلوى. لكن الذى يظهر من قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن " إلى آخر ما قال ثم قول الملك لهن ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه وقولهن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ثم قول امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين كل ذلك يدل على ان المراة البست الامر بعد على زوجها وارابته في براءة يوسف (ع) فاعتقد خلاف ما دلت عليه الايات أو شك في ذلك ولم يكن ذلك الا عن سلطة تامة منها عليه وتمكن كامل من قلبه ورأيه. وعلى هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بامر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها وتؤدب يوسف لعله ينقاد لها ويرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر من النسوة بقولها " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ". قوله تعالى: " ودخل معه السجن فتيان " إلى آخر الاية الفتى العبد وسياق الايات
[ 171 ]
يدل على انهما كانا عبدين من عبيد الملك وقد وردت به الروايات كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
وقوله: " قال احدهما انى ارانى اعصر خمرا " فصل قوله قال احدهما للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا وبين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله ارانى وخطابه له بصاحب السجن. وقوله ارانى لحكاية الحال الماضية كما قيل وقوله اعصر خمرا أي اعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمى العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه. والمعنى اصبح احدهما وقال ليوسف (ع) انى رايت فيما يرى النائم انى اعصر عنبا للخمر. وقوله " وقال الاخر انى ارانى احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه " أي تنهشه وهى رؤيا اخرى ذكرها صاحبه وقوله " نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين " أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله قال وقال وهذا من لطائف تفنن القرآن والضمير في قوله بتأويله راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق وفي قوله " انا نراك من المحسنين " تعليل لسؤالهما التأويل ونراك أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم وانما اقبلا عليه في تأويل رؤياهما لاحسانه لما يعتقد عامة الناس ان المحسنين الابرار ذووا قلوب طاهرة ونفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الامور وجريان الحوادث انتقالا احسن واقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم. والمعنى قال احدهما ليوسف انى رايت فيما يرى النائم كذا وقال الاخر انى رايت كذا وقالا له اخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لانا نعتقد انك من المحسنين ولا يخفى لهم امثال هذه الامور الخفية لزكاء نفوسهم وصفاء قلوبهم. قوله تعالى: " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان ياتيكما " لما اقبل صاحبا السجن على يوسف (ع) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (ع) الفرصة في بث ما عنده من اسرار التوحيد والدعوة إلى ربه سبحانه الذى علمه ذلك فاخبرهما انه عليم بذلك بتعليم
[ 172 ]
من ربه خبير بتأويل الاحاديث وتوسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد ونفى الشركاء ثم اول رؤياهما. فقال اولا لا ياتيكما طعام ترزقانه وانتما في السجن الانبأتكما بتأويله اي بتأويل ذاكما الطعام وحقيقته وما يؤول إليه امره فانا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما ادعوكما إليه من دين التوحيد. هذا على تقدير عود الضمير في قوله بتأويله إلى الطعام ويكون عليه اظهارا منه (ع) لاية نبوته نظير قول المسيح (ع) لبنى اسرائيل " وانبؤكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين " آل عمران: 49 ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق اهل البيت (ع) كما سيأتي في بحث روائي ان شاء الله تعالى. واما على تقدير عود ضمير بتأويله إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله لا يأتيكما طعام الخ وعد منه لهما تأويل رؤياهما ووعد بتسريعه غير ان هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر الى السياق. قوله تعالى: " ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحاق ويعقوب " بين (ع) ان العلم والتنبؤ بتأويل الاحاديث ليس من العلم العادى الاكتسابى في شئ بل هو مما علمه اياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين واتباعه ملة آبائه ابراهيم اسحاق ويعقوب أي رفضه دين الشرك واخذه بدين التوحيد. والمشركون من اهل الاوثان يعتقدون بالله سبحانه ويثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم ان الذى يقدر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله وكذا عود النفوس بعد الموت بأبدان
اخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شئ ولذلك نفى (ع) عنهم الايمان بالله وبالاخرة واكد كفرهم بالاخرة بتكرار الضمير حيث قال وهم بالاخرة هم كافرون وذلك لان من لا يؤمن بالله فأحرى به ان لا يؤمن برجوع العباد إليه. وهذا الذى يقصه الله سبحانه من قول يوسف (ع) واتبعت ملة آبائى ابراهيم
[ 173 ]
واسحاق ويعقوب هو اول ما انبأ في مصر نسبه وانه من اهل بيت ابراهيم واسحاق ويعقوب (ع). قوله تعالى: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون " أي لم يجعل الله سبحانه لنا اهل البيت سبيلا إلى ان نشرك به شيئا ومنعنا من ذلك ذلك المنع من فضل الله ونعمته علينا اهل البيت وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به. واما انه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى ان يشركوا به فليس جعل اجبار والجاء بل جعل تأييد وتسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة والرسالة والله اعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك ودانوا بالتوحيد. واما ان ذلك من فضل الله عليهم وعلى الناس فلانهم ايدوا بالحق وهو افضل الفضل والناس في وسعهم ان يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم ويهتدوا بهداهم. واما ان اكثر الناس لا يشكرون فلانهم يكفرون بهذه النعمة وهى النبوة والرسالة فلا يعبؤون بها ولا يتبعون اهلها أو لانهم يكفرون بنعمة التوحيد ويتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة والجن والانس يعبدونهم من دون الله. هذا ما ذكره اكثر المفسرين في معنى الاية. ويبقى عليه شئ وهو ان التوحيد ونفى الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فأنه مما يستقل به العقل وتقضى به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع
بل هم والانبياء في امر التوحيد على مستوى واحد وشرع سواء ولو كفروا بالتوحيد فانما كفروا لعدم اجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الانبياء. لكن يجب ان يعلم انه كما ان من الواجب في عناية الله سبحانه ان يجهز نوع الانسان مضافا إلى الهامه من طريق العقل الخير والشر والتقوى والفجور بما يدرك به احكام دينه وقوانين شرعه وهو سبيل النبوة والوحى وقد تكرر توضيحه في ابحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته ان يجهز افرادا منه بنفوس طاهرة وقلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الاصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به اصل التوحيد عصرا بعد
[ 174 ]
عصر ويحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل والبرهان عليه هو البرهان على النبوة والوحى فان الواحد من الانسان العادى لا يمتنع عليه الشرك ونسيان التوحيد والجائز على الواحد جائز على الجميع وفي تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته وبطلان الغرض الالهى في خلقته. فمن الواجب ان يكون في النوع رجال متلبسون باخلاص التوحيد يقومون بأمره ويدافعون عنه وينبهون الناس عن رقدة الغفلة والجهالة بالقاء حججه وبث شواهده وآياته وبينهم وبين الناس رابطة التعليم والتعلم دون السوق والاتباع. وهذه النفوس ان كانت فهى نفوس الانبياء والائمة (ع) وفى خلقهم وبعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم وعلى الناس بنصب من يذكرهم الحق الذى تقضى به فطرتهم ويدافع عن الحق تجاه غفلتهم وضلالتهم فان اشتغال الناس بالاعمال المادية ومزاولتهم للامور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية وتحرضهم على الاخلاد إلى الارض فتبعدهم عن المعنويات وتنسيهم ما في فطرهم من المعارف الالهية ولو لا رجال متألهون متولهون في الله الذين اخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لا حيطت الارض بالعماء وانقطع السبب الموصول بين الارض والسماء وبطلت غاية الخلقة وساخت
الارض باهلها. ومن هنا يظهر ان الحق ان تنزل الاية على هذه الحقيقة فيكون معنى الاية لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى ان نشرك بالله شيئا ذلك أي كوننا في امن من الشرك من فضل الله علينا لانه الهدى الذى هو سعادة الانسان وفوزه العظيم وعلى الناس لان في ذلك تذكيرهم إذا نسوا وتنبيههم إذا غفلوا وتعليمهم إذا جهلوا وتقويمهم إذا عوجوا ولكن اكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبؤون به ولا يقبلون عليه بل يعرضون عنه هذا. وذكر بعضهم في معنى الاية ان المشار إليه بقوله ذلك من فضل الله علينا الخ هو العلم بتأويل الاحاديث وهو كما ترى بعيد من سياق الاية قوله تعالى: " يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم خار يخار خيره إذا انتخب واختار احد شيئين يتردد
[ 175 ]
بينهما من حيث الفعل أو من حيث الاخذ بوجه فالخير منهما هو الذى يفضل على الاخر في صفة المطلوبية فيتعين الاخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذى يتعين القيام به وخير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الاخذ به كخير المالين من جهة التمتع به وخير الدارين من جهة سكناها وخير الانسانين من جهة مصاحبته وخير الرأيين من جهة الاخذ به وخير الالهين من جهة عبادته ومن هنا ذكر اهل الادب ان الخير في الاصل اخير افعل تفضيل والحقيقة انه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده افعل التفضيل من الفضل في القياس. وبما مر يتبين ان قوله (ع) ءأرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار الخ مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الامر بينه وبين سائر الارباب التى تدعى من دون الله لا لبيان انه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الارباب أو انه
تعالى هو الا له الذى تنتهى إليه الاشياء بدءا وعودا دونها أو غير ذلك فان الشئ انما يسمى خيرا من جهة طلبه وتعيينه بالاخذ به بنحو فقوله (ع) أهو خيرام سائر الارباب يريد به السؤال عن تعين احد الطرفين من جهة الاخذ به والاخذ بالرب هو عبادته. ثم انه (ع) سمى آلهتهم اربابا متفرقين لانهم كانوا يعبدون الملائكة وهم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التى تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا وعرضا ويعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم واله القدرة واله السماء واله الارض واله الحسن واله الحب واله الا من والخصب وغير ذلك ويعبدون الجن وهم مبادئ الشر في العالم كالموت والفناء والفقر والقبح والا لم والغم وغير ذلك ويعبدون افرادا كالكملين من الاولياء والجبابرة من السلاطين والملوك وغيرهم وهم جميعا متفرقون من حيث اعيانهم ومن حيث اصنامهم والتماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم. وقابل الارباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه ووصفه بالواحد القهار حيث قال ام الله الواحد القهار فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله " ءأرباب متفرقون لضرورة التقابل بين طرفي الترديد. فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الالهية التى هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه
[ 176 ]
ووجود لا يتطرق العدم والفناء إليه والوجود الذى هذا شأنه لا يمكن ان يفرض له حد محدود ولا امد ممدود لان كل محدود فهو معدوم وراء حده والممدود باطل بعد امده فهو تعالى ذات غير محدود ووجود غير متناه بحب وإذا كان كذلك لم يمكن ان يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة وفاقرا لا يجد الصفة في ذاته ولم يمكن ايضا فرض المغايرة والبينونة بين صفاته الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لان ذلك يؤدى إلى وجود حدود في
داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات والصفات ويتكثر جميعا ويحد وهذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بايدينا من معارفهم. فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الا له سبحانه لو تفطنوا ان الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره وان ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه ولا بعض صفات كما له صفات زائد على بعض فهو علم وقدرة وحياة بعينه. فهو تعالى احدى الذات والصفات أي انه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شئ الا موجودا به لا مستقلا بالوجود وواحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية الا ان تكون عين الذات فهو الذى يقهر كل شئ لا يقهره شئ. والاشارة إلى هذا كله هي التى دعته (ع) ان يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال " ام الله الواحد القهار " أي انه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا اضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن ان يفرض قباله ذات الا وهى موجودة به لا بنفسها ولا ان يفرض قباله صفة له الا وهى عينه والا صارت باطلة كل ذلك لانه بحث غير محدود بحد ولا منته إلى نهاية. وقد تمت الحجة على الخصم منه (ع) في هذا السؤال بما وصف الارباب بكونهم متفرقين واياه تعالى بالواحد القهار لان كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة أي تفرقة مفروضة بين الذات والصفات فالذات عين الصفات والصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات والصفات ومن عبد علمه فقد عبد ذاته وان عبد علمه ولم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه ولا ذاته وعلى هذا القياس. فإذا فرض تردد العبادة بين ارباب متفرقين وبين الله الواحد القهار تعالى وتقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض ارباب متفرقين ولا تفرقة في العبادة.
[ 177 ]
نعم يبقى هناك شئ وهو الذى يعتمد عليه عامة الوثنية من ان الله سبحانه اجل وارفع ذاتا من ان تحيط به عقولنا أو يناله افهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته ولا يسعنا
التقرب منه بعبوديته والخضوع له والذى يسعنا هو ان نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التى هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه ويشفعوا لنا عنده فاشار (ع) في الشطر الثاني من كلامه اعني قوله ما تعبدون من دونه الا اسماء الخ إلى دفعه. قوله تعالى: " ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله امر ان لا تعبدوا الا اياه " الخ بدء (ع) بخطاب صاحبيه في السجن اولا ثم عمم الخطاب للجميع لان الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الاوثان. ونفى العبادة الا عن الاسماء كناية عن انه لا مسميات وراء هذه الاسماء فتقع العبادة في مقابل الاسماء كلفظة اله السماء واله الارض واله البحر واله البر والاب والام وابن الا له ونظائر ذلك. وقد اكد كون هذه الاسماء ليس وراءها مسميات بقوله انتم وآباؤكم فانه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الاسامي احد غيركم بل انتم وآباؤكم وضعتموها ثم اكده ثانيا بقوله ما انزل الله بها من سلطان والسلطان هو البرهان لتسلطه على العقول اي ما انزل الله بهذه الاسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على ان لها مسميات وراءها وحينئذ كان يثبت لها الالوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها. ومن الجائز ان يكون ضمير بها عائدا إلى العبادة أي ما انزل الله حجة على عبادتها بان يثبت لها شفاعة واستقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها والتوجه إليها فان الامر الى الله على كل حال واليه اشار بقوله بعده " ان الحكم الا لله ". وهو اعني قوله ان الحكم الا لله مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في امر ما لا يستقيم الا ممن يملك تمام التصرف ولا مالك للتصرف والتدبير في امور العالم وتربية العباد حقيقة الا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى الا له.
[ 178 ]
وهو اعني قوله ان الحكم الا لله مفيد فيما قبله وما بعده صالح لتعليلهما معا اما فائدته في قوله قبل ما انزل الله بها من سلطان فقد ظهرت آنفا واما فائدته في قوله بعد امر الا تعبدوا الا اياه فلانه متضمن لجانب اثبات الحكم كما ان قوله قبل ما انزل الله بها من سلطان متضمن لجانب السلب وحكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل ما انزل الله بها من سلطان قيل فماذا حكم به في امر العبادة فقيل امر الا تعبدوا الا اياه ولذلك جئ بالفعل. ومعنى الاية والله اعلم ما تعبدون من دون الله الا اسماء خالية عن المسميات لم يضعها الا انتم وآباؤكم من غير ان ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على ان لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها. واما قوله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله ونفى الشريك عنه والقيم هو القائم بالامر القوى على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل والمتضعضع والمعنى ان دين التوحيد وحده هو القوى على ادارة المجتمع وسوقه إلى منزل السعادة والدين المحكم غير المتزلزل الذى فيه الرشد من غير غى والحقية من غير بطلان ولكن اكثر الناس لا نسهم بالحس والمحسوس وانهما كهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب واستقامة العقل لا يعلمون ذلك وانما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة معرضون. اما ان التوحيد دين فيه الرشد ومطابقة الواقع فيكفى في بيانه ما اقامه (ع) من البرهان واما انه هو القوى على ادارة المجتمع الانساني فلان هذا النوع انما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته واحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبنى باطل خرافي لا يعتمد على اصل ثابت. فقد بان من جميع ما تقدم ان الايتين جميعا اعني قوله يا صاحبي السجن إلى
قوله الا تعبدوا الا اياه برهان واحد على توحيد العبادة محصله ان عبادة المعبود ان كانت لا لوهيته في نفسه ووجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان ولا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الالهة وان كانت لكون آلهة
[ 179 ]
غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فان الله حكم من طريق العقل وبلسان انبيائه ان لا يعبد الا هو. وبذلك يظهر فساد ما اورده البيضاوى في تفسيره تبعا للكشاف ان الايتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الاولى وهو قوله " أ أرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار " دليل خطابي وما في الثانية وهو قوله ما تعبدون من دونه الا اسماء الخ برهان تام قال البيضاوى وهذا من التدرج في الدعوة والزام الحجة بين لهم اولا رجحان التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطابة ثم برهن على ان ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فان استحقاق العبادة اما بالذات واما بالغير وكلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذى لا يقتضى العقل غيره ولا يرتضى العلم دونه انتهى. ولعل الذى حداه إلى ذلك ما في الاية الاولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابى وقد فاته ما فيها من قيد الواحد القهار وقد عرفت تقرير ما تتضمنه الايتان من البرهان وان الذى ذكره من معنى الاية الثانية هو مدلول مجموع الايتين دون الثانية فحسب. وربما يقرر مدلول الايتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه ان الله الواحد الذى يقهر بقدرته الاسباب المتفرقة التى تفعل في الكون ويسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الاطراف كما هو المشهود
من وحدة النظام وتوافق الاسباب خير من ارباب متفرقين تترشح منها لتفرقها ومضادتها انظمة مختلفة وتدابير متضادة تؤدى إلى انفصام وحدة النظام الكونى وفساد التدبير الواحد العمومي. ثم الالهة المعبودة من دون الله اسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل ولا من جانب النقل لان العقل لا يدل الا على التوحيد والانبياء لم يؤمروا من جهة الوحى الا بان لا يعبد الا الله وحده انتهى. وهذا التقرير كما ترى ينزل الاية الاولى على معنى قوله تعالى: " لو كان فيهما
[ 180 ]
آلهة الا الله لفسدتا " الانبياء: 22 ويعمم الاية الثانية على نفى الوهية آلهة الا الله بذاتها ونفى الوهيتها من جهة اذن الله في شفاعتها. ويرد عليه اولا ان فيه تقييدا لاطلاق قوله القهار من غير مقيد فان الله سبحانه كما يقهر الاسباب في تأثيرها يقهر كل شئ في ذاته وصفته وآثاره فلا ثانى له في وجوده ولا ثانى له في استقلاله في نفسه وفي تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الاطلاق ان يفرض شئ يستقل عنه في وجوده ولا امر يستقل عنه في امره والاله الذى يفرض دونه اما مستقل عنه في ذاته وآثار ذاته جميعا واما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب وكلا الامرين محال كما ظهر. وثانيا ان فيه تعميما لخصوص الاية الثانية من غير معمم فان الاية كما عرفت تنيط كونها آلهة باذن الله وحكمه كما هو ظاهر قوله " ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله " الخ ومن الواضح ان هذه الالوهية المنوطة باذنه تعالى وحكمه الوهية شفاعة لا الوهية ذاتية أي الوهية بالغير لا ما هو اعم من الالوهية بالذات وبالغير جميعا. قوله تعالى: " يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقي ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من راسه قضي الامر الذى فيه تستفتيان " معنى الاية ظاهر وقرينة
المناسبة قاضية بأن قوله " اما احدكما " الخ تأويل رؤيا من قال منهما انى ارانى اعصر خمرا وقوله واما الاخر الخ تأويل لرؤيا الاخر. وقوله قضى الامر الذى فيه تستفتيان لا يخلو من اشعار بان الصاحبين أو احدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا ولعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب واكل الطير من رأسه ويتايد بهذا ما ورد من الرواية من طرق ائمة اهل البيت (ع) ان الثاني من الصاحبين قال له انى كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (ع) قضى الامر الذى فيه تستفتيان أي ان التأويل الذى استفتيتما فيه مقضى مقطوع لا مناص عنه. قوله تعالى " وقال للذى ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين " الضمائر في قوله قال وظن ولبث راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للذى ظن هو انه سينجو منهما اذكرني عند ربك بما يثير رحمته لعله يخرجني من السجن.
[ 181 ]
واطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بانه من المقضى المقطوع به وتصريحه بان ربه علمه تأويل الاحاديث لعله من اطلاق الظن على مطلق الاعتقاد وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: " الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم " البقرة - 46. واما قول بعضهم ان اطلاق الظن على اعتقاده يدل على انه انما اول ما اول عن اجتهاد منه يفسده ما قدمنا الاشارة إليه انه صرح لهما بعلمه في قوله " قضى الامر الذى فيه تستفتيان " والله سبحانه ايد ذلك بقوله: " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " وهذا ينافى الاجتهاد الظنى. وقد احتمل ان يكون ضمير ظن راجعا الى الموصول أي قال يوسف لصاحبه الذى ظن ذلك الصاحب انه ناج منهما وهذا المعنى لا باس به ان ساعده السياق.
وقوله: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " الخ الضميران راجعان إلى الذى أي فأنسى الشيطان صاحبه الناجى ان يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين والبضع ما دون العشرة فاضافة الذكر إلى ربه من قبيل اضافة المصدر إلى معموله المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة. واما ارجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد ان الشيطان انسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم وربما نسب إلى الرواية. فمما يخالف نص الكتاب فان الله سبحانه نص على كونه (ع) من المخلصين ونص على ان المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما اثنى الله عليه في هذه السورة. والاخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالاسباب فان ذلك من اعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل انما يوجب ترك الثقة بها والاعتماد عليها وليس في قوله: " اذكرني عند ربك " ما يشعر بذلك البتة. على ان قوله تعالى بعد آيتين: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امه " الخ قرينة صالحة على ان الناسي هو الساقى دون يوسف
[ 182 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع): في قوله: " ثم بدا لهم من بعد ما راوا الايات ليسجننه حتى حين " فالايات شهادة الصبى والقميص المخرق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها اياه على الباب فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. ودخل معه السجن فتيان يقول عبد ان للملك احدهما خباز والاخر صاحب الشراب والذى كذب ولم ير المنام هو الخباز
وذكر الحديث على بن ابراهيم القمى قال: ووكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلما دخل السجن قالوا له ما صناعتك ؟ قال اعبر الرؤيا فرأى احد الموكلين في منامه كما قال يعصر خمرا قال يوسف تخرج وتصير على شراب الملك وترتفع منزلتك عنده - وقال الاخر انى ارانى احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه ولم يكن راى ذلك فقال له يوسف انت يقتلك الملك ويصلبك وتاكل الطير من راسك فضحك الرجل وقال انى لم ارذلك فقال يوسف كما حكى الله: " يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقى ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من راسه - قضى الامر الذى فيه تستفتيان ". فقال أبو عبد الله (ع) في قوله: " انا نراك من المحسنين " قال كان يقوم على المريض ويلتمس للمحتاج ويوسع على المحبوس فلما اراد من يرى في نومه يعصر خمرا الخروج من الحبس قال له يوسف " اذكرني عند ربك " فكان كما قال الله: " فانساه الشيطان ذكر ربه ". اقول وفي الرواية اضطراب لفظي وظاهرها ان صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين وانما كانا موكلين عليه من قبل الملك ولا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: " وقال للذى ظن انه ناج منهما " وقوله: " قال الذى نجا منهما.
[ 183 ]
وفي تفسير العياشي عن سماعة: " عن قول الله: " اذكرني عند ربك " قال هو العزيز وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم يقل يوسف الكلمة التى قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغى الفرج من عند غير الله تعالى اقول: ورواه عن ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابى هريرة عنه
صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه " رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث " وروى مثله عن عكرمة والحسن وغيرهما وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن طربال وعن ابن ابى يعقوب وعن يعقوب بن شعيب عن ابى عبد الله (ع) ولفظ الاخير قال: قال الله ليوسف: ألست الذى حببتك إلى ابيك وفضلتك على الناس بالحسن ؟ أو لست الذى سقت اليك السيارة فانقذتك واخرجتك من الجب ؟ أو لست الذى صرفت عنك كيد النسوة ؟ فما حملك على ان ترفع رعية أو تدعو مخلوقا هو دوني ؟ فألبث لما قلت بضع سنين وقد تقدم ان هذه وامثالها روايات تخالف نص الكتاب. ومثلها ما في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع) ثلاث عثرات قوله: " اذكرني عند ربك " وقوله لاخوته: " انكم لسارقون " وقوله: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " فقال له جبرئيل ولا حين هممت ؟ فقال: " وما ابرئ نفسي " وفي الرواية نسبة الفرية والكذب الصريح إلى الصديق (ع). وفي بعض هذه الروايات ان عثراته الثلاث هي همه بها و: قوله اذكرني عند ربك وقوله: انكم لسارقون والله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه * * * وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف
[ 184 ]
وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا ايها الملا افتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون - 43. قالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين - 44. وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة انا انبئكم بتأويله فأرسلون - 45. يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات لعلى ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون - 46. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما
حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون - 47. ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون - 48. ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون - 49. وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن ان ربى بكيدهن عليم - 50. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين - 51. ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين - 52. وما ابرئ النفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما
[ 185 ]
رحم ربى ان ربى غفور رحيم - 53. وقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين - 54. قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم - 55. وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين - 56. ولاجر الاخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون - 57. (بيان) تتضمن الايات قصة خروجه (ع) من السجن ونيله عزة مصر والاسباب المؤدية إلى ذلك وفيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه وظهور براءته التام. قوله تعالى: " وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " إلى آخر الاية رؤيا للملك يخبر بها الملا والدليل عليه قوله: " يا ايها الملا أفتوني في رؤياي " وقوله انى ارى حكاية حال ماضية ومن المحتمل انها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: " انى ارانى اعصر خمرا " " انى ارانى احمل " الخ.
والسمان جمع سمينة والعجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة قال في المجمع ولا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف والقياس في جمعه العجف بضم العين وسكون الجيم كالحمراء والخضراء والبيضاء على حمر وخضر وبيض وقال غيره ان ذلك من قبيل الاتباع والجمع القياسي عجف. والافتاء افعال من الفتوى والفتيا قال في المجمع الفتيا الجواب عن حكم المعنى وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى. وقوله تعبرون من العبر وهو بيان تأويل الرؤيا وقد يسمى تعبيرا وهو على
[ 186 ]
أي حال مأخوذ من عبور النهر ونحوه كأن العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل وهو حقيقة الامر التى تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له. قال في الكشاف في قوله " سبع بقرات سمان " الخ فان قلت هل من فرق بين ايقاع سمان صفه للمميز وهو بقرات دون المميز وهو سبع وان يقال سبع بقرات سمانا ؟ قلت إذا أو قعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى ان تميز السبع بنوع من البقرات وهى السمان منهن لا بجنسهن ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فان قلت هلا قيل سبع عجاف على الاضافة ؟ قلت التمييز موضوع لبيان الجنس والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده فان قلت فقد يقال ثلاثة فرسان وخمسة اصحاب قلت الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفات جرت مجرى الاسماء فاخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها الا تراك لا تقول عندي ثلاثة ضخام واربعة غلاظ انتهى. وقال ايضا فان قلت هل في الاية دليل على ان السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر ؟ قلت الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف
والسنابل الخضر فوجب ان يتناول معنى الاخر السبع ويكون قوله واخر يابسات بمعنى وسبعا اخر فان قلت هل يجوز ان يعطف قوله واخر يابسات على سنبلات خضر فيكون مجرور المحل ؟ قلت يؤدى إلى تدافع وهو ان عطفها على سنبلات خضر يقتضى ان يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة ولفظ الاخر يقتضى ان يكون غير السبع بيانه انك تقول عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصح لانك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام وقعود على ان بعضهم قيا وبعضهم قعود فلو قلت عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد انتهى وكلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج ازيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها اما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة. ومعنى الاية: " وقال ملك مصر لملائه انى ارى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل وارى سبع سنبلات خضر وسنبلات اخر يابسات يا ايها الملا بينوا
[ 187 ]
لى ما عندكم من حكم رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون. قوله تعالى: " قالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين " الاحلام جمع حلم بضمتين وقد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه وكأن الاصل في معناه ما يتصور للانسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس ومنه تسمية العقل حلما لانه استقامة التفكر ومنه ايضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى: " وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم " النور: 59 أي زمان البلوغ بلوغ العقل ومنه الحلم بكسر الحاء بمعنى الاناءة ضد الطيش وهو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وعدم المعاجلة في العقوبة فانه انما يكون عن استقامة التفكر وذكر الراغب ان الاصل في معناه الحلم بكسر الحاء ولا يخلو من تكلف. وقال الراغب الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان وجمعه اضغاث قال تعالى: " وخذ بيدك ضغثا وبه شبه الاحلام المختلفة التى لا تتبين حقائقها قالوا اضغاث
احلام حزم اخلاط من الاحلام انتهى. وتسمية الرؤيا الواحدة باضغاث الاحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت واختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها والانسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اخرى ومنهما إلى ثالثة وهكذا فإذا اختلطت ابعاضها كانت اضغاث احلام وامتنع الوقوف على حقيقتها ويدل على ما ذكرنا من العناية التعبير باضغاث احلام بتنكير المضاف والمضاف إليه معا كما لا يخفى. على ان الاية اعني قوله " وقال الملك انى ارى " الخ غير صريحة في كونه رؤيا واحدة وفي التوراة انه رأى البقرات السمان والعجاف في رؤيا والسنبلات الخضر واليابسات في رؤيا اخرى. وقوله " وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين " ان كان الالف واللام للعهد فالمعنى وما نحن بتأويل هذه المنامات التى هي اضغاث احلام بعالمين وان كان لغير العهد والجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وانما نعبر غير اضغاث الاحلام منها وعلى أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه اضغاث احلام وبين نفيهم
[ 188 ]
العلم بتأويل الاحلام عن انفسهم ولو كان المراد بالاحلام الاحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطرى كلامهم يغنى عن الاخر. ومعنى الاية قالوا أي قال الملا للملك ما رايته اضغاث احلام واخلاط من منامات مختلفة وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وانما نعلم تأويل الرؤى الصالحة قوله تعالى: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة انا انبئكم بتأويله فأرسلون " الامة الجماعة التى تقصد لشأن ويغلب استعمالها في الانسان والمراد بها ههنا الجماعة من
السنين وهى المدة التى نسى فيها هذا القائل وهو ساقى الملك ان يذكر يوسف عند ربه وقد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين. والمعنى وقال الذى نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه وادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين اول رؤياه انا انبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى اخبركم بتأويل ذلك. وخطاب الجمع في قوله: " انبئكم " وقوله فارسلون تشريك لمن حضر مع الملك وهم الملا من اركان الدولة واعضاد المملكة الذين يلون امور الناس والدليل عليه قوله الاتى لعلى ارجع إلى الناس كما سيأتي. قوله تعالى: " يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان " إلى آخر الاية في الكلام حذف وتقدير ايجازا والتقدير فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف ايها الصديق افتنا في رؤيا الملك وذكر الرؤيا وذكر ان الناس في انتظار تأويله وهذا الاسلوب من لطائف اساليب القرآن الكريم. وسمى يوسف صديقا وهو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه ومنام صاحبه في السجن وامور اخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن وقد امضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد. وقد ذكر متن الرؤيا من غير ان يصرح انه رؤيا فقال " افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات " لان قوله افتنا
[ 189 ]
وهو سؤال الحكم الذى يؤدى إليه نظره وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل الرؤيا وكذا ذيل الكلام يدل على ذلك ويكشف عنه. وقوله " لعلى ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون " لعل الاول تعليل لقوله افتنا ولعل الثاني تعليل لقوله ارجع والمراد افتنا في امر هذه الرؤيا ففى افتائك رجاء ان
ارجع به إلى الناس واخبرهم بها وفي رجوعي إليهم رجاء ان يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة والجهاله. ومن هنا يظهر ان قوله ارجع في معنى ارجع بذلك فمن المعلوم انه لو افتى فيه فرجع المستفتى إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما القى إليه من التأويل فافهم ذلك. وفى قوله اولا افتنا وثانيا " لعلى ارجع إلى الناس " دلالة على انه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك والملا ولم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم ولذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له ولغيره فقال تزرعون الخ. وفى قوله إلى الناس اشعار أو دلالة على ان الناس كانوا في انتظار ان يرتفع بتأويله حيرتهم وليس الا ان الملا كانوا هم اولياء امور الناس وخيرتهم في الامر خيرة الناس أو ان الناس انفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك واهتمامهم برؤياه لان الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الانسان من شؤن الحياة والملوك انما يهتمون بشؤون المملكة وامور الرعية. قوله تعالى: " قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون " قال الراغب الدأب ادامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: " كدأب آل فرعون أي كعادتهم التى يستمرون عليها انتهى وعليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة وقيل هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد واجتهاد ويمكن ان يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه. ذكروا ان تزرعون خبر في معنى الانشاء وكثيرا ما يؤتى بالامر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: " تؤمنون بالله ورسوله
[ 190 ]
وتجاهدون في سبيل الله " الصف: 11 والدليل عليه قوله بعد " فما حصدتم فذروه في سنبله " قيل وانما امر بوضعه وتركه في سنبله لان السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك وان بقى مدة من الزمان وإذا ديس وصفى اسرع إليه الهلاك. والمعنى ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلايهلك وحفظوه كذلك الا قليلا وهو ما تأكلون في هذه السنين. قوله تعالى: " ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد ياكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون " الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من الصعوبة والحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر وهذا انسب لما بعده من توصيفها بقوله: " يأكلن ما قدمتم لهن. وعليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم واكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم. والاحصان الاحراز والادخار والمعنى ثم ياتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم ياكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحرزون وتدخرون. قوله تعالى: " ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " يقال غاثه الله واغاثه أي نصره ويغيثه بفتح الياء وضمها أي ينصره وهو من الغوث بمعنى النصرة وغاثهم الله يغيثهم من الغيث وهو المطر فقوله " فيه يغاث الناس " ان كان من الغوث كان معناه ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة ورفع الجدب والمجاعة وانزال النعمة والبركة وان كان من الغيث كان معناه يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم. وهذا المعنى الثاني انسب بالنظر إلى قوله بعده وفيه يعصرون ولا يصغى إلى قول من يدعى ان المعنى الاول هو المتبادر من سياق الاية الا على قراءة يعصرون
بالبناء للمجهول ومعناه يمطرون. وما اورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني انه لا ينطبق على مورد الاية فان
[ 191 ]
خصب مصر انما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالامطار لا تؤثر فيها اثرا. رد عليه بان الفيضان نفسه لا يكون الا بالمطر الذى يمده في مجاريه من بلاد السودان. على ان من الجائز ان يكون يغاث ماخوذا من الغيث بمعنى النبات قال في لسان العرب والغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى وهذا انسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله وفيه يعصرون. وقوله وفيه يعصرون من العصر وهو اخراج ما في الشئ من ماء أو دهن بالضغط كاخراج ماء العنب والتمر للدبس وغيره واخراج دهن الزيت والسمسم للائتدام والاستصباح وغيرهما ويمكن ان يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع انعامهم كما فسره بعضهم به. والمعنى ثم ياتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت اراضيهم أو يمطرون أو ينصرون وفيه يتخذون الاشربة والادهنة من الفواكه والبقول أو يحلبون ضروع انعامهم وفيه كناية عن توفر النعمة عليهم وعلى انعامهم ومواشيهم. قال البيضاوى في تفسيره وهذه بشارة بشرهم بها بعد ان اول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ولعله علم ذلك بالوحى أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بان السنة الالهية ان يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم انتهى وذكر غيره نحوا مما ذكره. وقال صاحب المنار في تفسيره في الاية والمراد ان هذا العام عظيم الخصب والاقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والا تراف والانباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا
لجواز ان يكون العام الاول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف الا بوحى من الله عزوجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوزام تأويلها بهذا التفصيل انتهى. والذى ارى انهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا وتاويلها سبيل المساهلة والمسامحة وذلك انا إذا تدبرنا في كلامه (ع) في التأويل اعني قوله " تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم
[ 192 ]
فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون " وجدناه (ع) لم يبن كلامه على اساس اخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة ولو انه اراد ذلك لكان من حق الكلام ان يقول مثلا يأتي عليكم سبع مخصبات ثم ياتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة وطريق النجاة من هذه المهلكة العامة قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال. بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل وبين ان امره بذلك توطئة وتقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة والمخمصة وهو ظاهر وهذا دليل على ان الذى رآه الملك من الرؤيا انما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لانجاء الناس من مصيبة الجدب واشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسؤليته في امر رعيته وهو ان يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم ويحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس وتصفية لذلك. فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الارض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة والمجدبة أي الرزق الذى يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الاول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن وما في السبع الاخر في صورة الهزال وحكت نفاد ما ادخروه في السبع الاولى في السبع
الثانية بأكل العجاف للسمان وحكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر. ولم يزد يوسف (ع) في تأويله على ذلك شيئا الا امورا ثلاثة احدها ما استثناه بقوله: " الا قليلا مما تأكلون " وليس جزء من التأويل وانما هو اباحة وبيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب ان يذروه في سنبله. وثانيها قوله " الا قليلا مما تحصنون " وهو الذى يجب ان يدخروه للعام الذى فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ليتخذ بذرا ومددا احتياطيا وكأنه (ع) اخذه من قوله في حكاية الرؤيا ياكلهن سبع عجاف حيث لم يقل اكلتهن بل عبر عن اشتغالهن باكلهن ولما يفنيهن بأكل كلهن ولو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد
[ 193 ]
لرأى انهن اكلتهن عن آخرهن وثالثها قوله ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون والظاهر انه (ع) استفاده من عدد السبع الذى تكرر في البقرات السمان والعجاف والسنبلات الخضر وقوله: " ثم ياتي من بعد ذلك عام " وان كان اخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن ان هذا العام الذى سيستقبلهم بعد مضى السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في امر الزرع والادخار ولا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى ارزاق الناس. ولعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ولم يقل فيه تغاثون وفيه تعصرون بالجرى على نحو الخطاب في الايتين السابقتين ففيه اشارة إلى ان الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في امر معاشهم وتصديكم لادارة ارزاقهم بل يغاثون ويعصرون لنزول النعمة والبركة في سنة مخصبة. ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار في كلامه المتقدم ان هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (ع) الا بوحى من الله لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل انتهى.
فان تبدل سنى الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه واما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة. ومما ذكرنا ايضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الاية بالسبع حيث قيل وسبع سنبلات خضر واخر يابسات حيث عرفت ان الرؤيا لا تجلى نفس حادثة الخصب والجدب وانما تجلى ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك اشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك. ومما تقدم يظهر ايضا ان الانسب ان يكون المراد بقوله يغاث وقوله يعصرون الامطار أو اعشاب الكلاء وحلب المواشي لان ذلك هو المناسب لما رآه في
[ 194 ]
منامه من البقرات السبع سمانا وعجافا فإن هذا هو المعهود ومنه يظهر وجه تخصيص الغيث والعصر بالذكر في هذه الاية والله اعلم. قوله تعالى: " وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن ايديهن ان ربي بكيدهن عليم " في الكلام حذف واضمار ايجازا والتقدير على ما يدل عليه السياق والاعتبار بطبيعة الاحوال وجاء الرسول وهو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به. وظاهر ان الذي انبأه من جدب سبع سنين متوالية كان امرا عظيما والذي اشار إليه من الرأي البين الصواب اعظم منه واغرب عند الملك المهتم بأمر امته المعتني بشؤون مملكته وقد افزعه ما سمع وادهشه ولذلك امر باحضاره ليكلمه ويتبصر بما يقوله مزيد تبصر ويشهد بهذا ما حكاه الله من تكليمه اياه بقوله: " فلما جاءه وكلمه " الخ.
ولم يكن امره باتيانه به اشخاصا له بل اطلاقا من السجن واشخاصا للتكليم ولو كان اشخاصا واحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (ع) ان يستنكف عن الحضور بل اجبر عليه اجبارا بل كان احضارا عن عفو واطلاق فوسعه ان ياتي الحضور ويسأله ان يقضي فيه بالحق وكانت نتيجة هذا الاباء والسؤال ان يقول الملك ثانيا: ائتوني به استخلصه لنفسي بعد ما قال اولا ائتوني به وقد راعى (ع) ادبا بارعا في قوله للرسول: " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن " فلم يذكر امراة العزيز بما يسوؤه وليس يريد الا ان يقضى بينه وبينها وانما اشار إلى النسوة اللاتى راودنه ولم يذكرهن ايضا بسوء الا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما. ولم يذكرهن بشئ من المكروه الا ما في قوله " ان ربى بكيدهن عليم وليس الا نوعا من بث الشكوى لربه. وما الطف قوله في صدر الاية وذيلها حيث يقول للرسول: " ارجع إلى ربك فاسأله " ثم يقول ان ربى بكيدهن عليم وفيه نوع من تبليغ الحق وليكن فيه
[ 195 ]
تنبه لمن يزعم ان مراده من ربى فيما قال لامرأة العزيز انه ربى احسن مثواى هو زوجها وانه يسميه ربا لنفسه. وما الطف قوله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن والبال هو الامر الذى يهتم به يقول ما هو الامر العظيم والشأن الخطير الذى اوقعهن فيما وقعن فيه وليس الا هواهن فيه وولههن في حبه حتى انساهن انفسهن فقطعن الايدى مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه ان الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا والكف عن معا شقتهن والامتناع من اجابتهن بما يردنه وهن يفدينه بالانفس والاموال اعظم ولم
يكن المراودة بالمرة والمرتين ولا الالحاح والاصرار يوما أو يومين ولن تتيسر المقاومة والاستقامة تجاه ذلك الا لمن صرف الله عنه السوء والفحشاء ببرهان من عنده. قوله تعالى: " قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء الاية قال الراغب الخطب الامر العظيم الذى يكثر فيه التخاطب قال تعالى: " فما خطبك يا سامرى " " فما خطبكم ايها المرسلون " انتهى. وقال ايضا حصحص الحق أي وضح وذلك بانكشاف ما يظهره وحص وحصحص نحو كف وكفكف وكب وكبكب وحصه قطع منه اما بالمباشرة واما بالحكم إلى ان قال والحصة القطعة من الجملة ويستعمل استعمال النصيب انتهى. وقوله قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف واضمار ايجازا كل ذلك يدل عليه السياق والتقدير كان سائلا يسأل فيقول فما الذى كان بعد ذلك ؟ وما فعل الملك ؟ فقيل رجع الرسول إلى الملك وبلغه ما قاله يوسف وسأله من القضاء فاحضر النسوة وسألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء فنزهنه عن كل سوء وشهدن انهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه. وذكرهن كلمة التنزيه حاش لله نظير تنزيههن حينما راينه لاول مرة حاش لله ما هذا بشرا يدل على بلوغه (ع) النهاية في النزاهة والعفة فيما علمنه كما انه كان بالغا في الحسن.
[ 196 ]
والكلام في فصل قوله قالت امرأة العزيز نظير الكلام في قوله قال ما خطبكن وقوله قلن حاش لله فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز وهى الاصل في هذه الفتنة واعترفت بذنبها وصدقت يوسف (ع) فيما كان يدعيه من البراءة قالت الآن
حصحص ووضح الحق وهو انه انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها وكذبت نفسها في اتهامه بالمراودة ولم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة انه لم يراود ولا اجابها في مراودتها بالطاعة. واتضحت بذلك براءته (ع) من كل وجه وفي قول النسوة وقول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفى السوء عنه بالنكرة في سياق النفى مع زيادة من ما علمنا عليه من سوء مع كلمة التنزيه حاش لله في قولهن واعترافها بالذنب في سياق الحصر انا راودته عن نفسه وشهادتها بصدقه مؤكدة بان واللام والجملة الاسمية وانه لمن الصادقين وغير ذلك في قولها وهذا ينفى عنه (ع) كل سوء اعم من الفحشاء والمراودة لها واى ميل ونزعة إليها وكذب وافتراء بنزاهة من حسن اختياره. قوله تعالى: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " من كلام يوسف (ع) على ما يدل عليه السياق وكأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء واعتراف امرأة العزيز بالذنب وشهادتها بصدقه وقضاء الملك ببراءته. وحكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: " آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله " البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق الخ وقوله وانا لنحن الصافون وانا لنحن المسبحون " الصافات: 166. وعلى هذا فالاشارة بقوله ذلك إلى ارجاع الرسول إلى الملك وسؤاله القضاء والضمير في ليعلم ولم اخنه عائد إلى العزيز والمعنى انما ارجعت الرسول إلى الملك وسألته ان يحقق الامر ويقضى بالحق ليعلم العزيز انى لم اخنه بالغيب بمراودة امرأته وليعلم ان الله لا يهدى كيد الخائنين. يذكر (ع) لما فعله من الا رجاع والسؤال غايتين احدهما ان يعلم العزيز انه لم يخنه وتطيب نفسه منه ويزول عنها وعن امره أي
[ 197 ]
شبهة وريبة. والثانى ان يعلم ان الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته وانه سيفتضح لا محالة سنة الله التى قد خلت في عباده ولن تجد لسنه الله تبديلا فان الخيانة من الباطل والباطل لا يدوم وسيظهر الحق عليه ظهورا ولو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتى قطعن ايديهن واخذن بالمراودة ولا امرأة العزيز فيما فعلت واصرت عليه فالله لا يهدى كيد الخائنين. وكان الغرض من الغاية الثانية وان الله لا يهدى كيد الخائنين وتذكيره وتعليمه للملك الحصول على لازم فائدة الخبر وهو ان يعلم الملك انه (ع) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب ولا يخون في شئ البتة كان جديرا بان يؤتمن على كل شئ نفسا كان أو عرضا أو مالا. وبهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله ان يسأل الملك اياه وهو قوله بعد ان اشخص عند الملك اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم. والاية ظاهرة في ان هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذى اشير إليه بقوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " وقوله وقال الذى اشتراه من مصر لامراته اكرمي مثواه. وقد ذكر بعض المفسرين ان هذه الاية والتى بعدها تتمة قول امرأة العزيز " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وسياتى الكلام عليه. قوله تعالى: " وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " تتمة كلام يوسف (ع) وذلك ان قوله: " انى لم اخنه بالغيب كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول والقوة وهو (ع) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا ولا قوة فبادر (ع) إلى نفى الحول والقوة عن نفسه ونسبة ما
ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه وتسوية نفسه بسائر النفوس التى هي بحسب الطبع مائلة إلى الاهواء امارة بالسوء فقال: " وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى " فقوله هذا كقول شعيب (ع): " ان اريد الا الا صلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله " هود: 88.
[ 198 ]
فقوله: " وما ابرئ نفسي " اشارة إلى قوله انى لم اخنه بالغيب وانه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه وعلل ذلك بقوله " ان النفس لامارة بالسوء " أي ان النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل ان تبرء من الميل إلى السوء وانما تكف عن امرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل. ومن هنا يظهر ان قوله " الا ما رحم ربى " يفيد فائدتين. ؟. احداهما تقييد اطلاق قوله " ان النفس لامارة بالسوء " فيفيد ان اقتراف الحسنات الذى هو برحمة من الله سبحانه من امر النفس وليس يقع عن الجاء واجبار من جانبه تعالى. وثانيتهما الاشارة إلى ان تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه. وقد علل الحكم بقوله: " ان ربى غفور رحيم " فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لان المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الامر الجميل ومغفرته تعالى كما تمحو الذنوب وآثارها كذلك تستر النقائص وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب قال تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم " الانعام: 145 وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب. ومن لطائف ما في كلامه من الاشارة تعبيره (ع) عن الله عز اسمه بلفظ ربى فقد كرره ثلاثا حيث قال " ان ربى بكيدهن عليم " الا ما رحم ربى ان ربى
غفور رحيم " لان هذه الجمل تتضمن نوع انعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى باضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين واما قوله " وان الله لا يهدى كيد الخائنين " فهو خال عن هذه النسبة ولذلك عبر بلفظ الجلالة. وقد ذكر جمع من المفسرين ان الايتين اعني قوله ذلك " ليعلم انى لم اخنه بالغيب " الخ من تمام كلام امرأة العزيز والمعنى على هذا ان امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه قالت ذلك أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتى بانه من الصادقين
[ 199 ]
ليعلم إذا بلغه عنى هذا الكلام انى لم اخنه بالغيب بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلى انا وانه كان صادقا وان الله لا يهدى كيد الخائنين كما انه لم يهد كيدى انا إذ كدته بأنواع المراودة وبالسجن بضع سنين حتى اظهر صدقه في قوله وطهارة ذيله وبراءة نفسه وفضحنى امام الملك والملا ولم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن وما ابرئ نفسي من السوء مطلقا فانى كدت له بالسجن ليلجأ به إلى ان يفعل ما آمره ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم. وهذا وجه ردئ جدا اما اولا فلان قوله " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام ان يقال وليعلم انى لم اخنه بالغيب بصيغة الامر فان قوله ذلك على هذا الوجه اشارة إلى اعترافها بالذنب وشهادتها بصدقه فقوله لم اخنه بالغيب ان كان عنوانا لاعترافها وشهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فان محصل معناه حينئذ انما اعترفت وشهدت ليعلم انى اعترفت وشهدت له بالغيب مضافا إلى ان ذلك يبطل معنى الاعتراف والشهادة لدلالته على انها انما اعترفت وشهدت ليسمع يوسف ذلك ويعلم به لا لاظهار الحق وبيان حقيقة الامر. وان كان عنوانا لاعمالها طول غيبته إذ لبث بضع سنين في السجن أي انما اعترفت
وشهدت له ليعلم انى لم اخنه طول غيبته فقد خانته إذ كادت به فسجن ولبث في السجن بضع سنين مضافا إلى ان اعترافها وشهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه وهو ظاهر. واما ثانيا فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف ان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد ذكرها يوسف به اول حين إذ راودته عن نفسه فقال انه لا يفلح الظالمون. واما ثالثا فلان قولها وما ابرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن يناقض قولها لم اخنه بالغيب كما لا يخفى مضافا إلى ان قوله " ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحرى ان يصدر من امرأة احاطت بها الاهواء وهى تعبد الاصنام. وذكر بعضهم وجها آخر في معنى الايتين بارجاع ضمير ليعلم ولم اخنه إلى العزيز وهو زوجها فهى كأنها تقول ذاك الذى حصل اقررت به ليعلم زوجي انى لم اخنه
[ 200 ]
بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا وان كل ما وقع انى راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع فبقى عرض زوجي مصونا وشرفه محفوظا ولئن برأت يوسف من الاثم فما ابرئ منه نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى. وفيه ان الكلام لو كان من كلامها وهى تريد ان تطيب به نفس زوجها وتزيل أي ريبة عن قلبه انتج خلاف المطلوب فان قولها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " انما يفيد العلم بانها راودته عن نفسه واما شهادتها انه امتنع ولم يطعها فيما امرته به فهى شهادة لنفسها لا عليها وكان من الممكن انها انما شهدت له لتطيب نفس زوجها وتزيل ما عنده من الشك والريب فاعترافها وشهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز انها لم تخنه بالغيب. مضافا إلى ان قوله " وما ابرئ نفسي " الخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها
انا راودته عن نفسه وظاهر السياق خلافه على ان بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه. قوله تعالى: " وقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين " يقال استخلصه أي جعله خالصا والمكين صاحب المكانة والمنزلة وفي قوله فلما كلمه حذف للايجاز والتقدير فلما اتى به إليه وكلمه قال انك اليوم الخ وفي تقييد الحكم باليوم اشارة إلى التعليل والمعنى انك اليوم وقد ظهر من مكارم اخلاقك في التجنب عن السوء والفحشاء والخيانة والظلم والصبر على كل مكروه وصغار في سبيل طهارة نفسك واختصاصك بتأييد من ربك غيبي وعلم بالاحاديث والرأى والحزم والحكمة والعقل لدينا ذو مكانة وامانة وقد اطلق قوله مكين امين فأفاد بذلك عموم الحكم. والمعنى وقال الملك ائتونى بيوسف اجعله خالصا لنفسي وخاصة لى فلما اتى به إليه وكلمه قال له انك اليوم وقد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة وامانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد ويأتمنك على جميع شؤن الملك وفي ذلك حكم صدارته. قوله تعالى: " قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم " لما عهد الملك ليوسف انك اليوم لدينا مكين امين واطلق القول سأله يوسف (ع) ان ينصبه على خزائن الارض ويفوض إليه امرها والمراد بالارض ارض مصر.
[ 201 ]
ولم يسأله ما سأل الا ليتقلد بنفسه ادارة امر الميرة وارزاق الناس فيجمعها ويدخرها للسنين السبع الشداد التى سيستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة الارزاق بين الناس واعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غير حيف. وقد علل سؤاله ذلك بقوله " انى حفيظ عليم " فان هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله ولا غنى عنهما له وقد اجيب إلى ما سأل واشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الايات وما يتلوها.
قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين " التمكين هو الاقدار والتبوء اخذ المكان. والاشارة بقوله كذلك إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (ع) عزة مصر وهو حديث السجن وقد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة وعلى هذا النمط كان يجرى امره (ع) اكرمه ابوه فحسده اخوته فكادوا به بالقائه في غيابة الجب وبيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز وكادت به امرأة العزيز ونسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته. وللاشارة إلى امر السجن وحبسه وسلبه حرية الاختلاط والعشرة قال تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء " أي رفعنا عنه حرج السجن الذى سلب منه اطلاق الارادة فصار مطلق المشية له ان يتبوء في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز ووصاه امراته: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على امره. " وبهذه المقايسة يظهر ان قوله ههنا " نصيب برحمتنا من نشاء " في معنى قوله هناك والله غالب على امره وان المراد ان الله سبحانه إذا شاء ان يصيب برحمته احدا لم يغلب في مشيته ولا يسع لاى مانع مفروض ان يمنع من اصابته ولو وسع لسبب ان يبطل مشية الله في احد لوسع في يوسف الذى تعاضدت الاسباب القاطعة وتظاهرت لخفضه فرفعه الله ولا ذلا له فأعزه الله ان الحكم الا لله.
[ 202 ]
وقوله: " ولا نضيع اجر المحسنين " اشارة إلى ان هذا التمكين اجر اوتيه يوسف (ع) ووعد جميل للمحسنين جميعا ان الله لا يضيع اجرهم. قوله تعالى: " ولاجر الاخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " أي لاولياء الله من عباده فهو وعد جميل اخروى لاوليائه تعالى خاصة وكان يوسف (ع) منهم.
والدليل على انه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية وكانوا يتقون الدالة على ان هذا الايمان وهو حقيقة الايمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي وهذا التقوى لا يتحقق من غير ايمان فهو ايمان بعد ايمان وتقوى وهو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الاخرة " يونس: 64 (بحث روائي) في تفسير القمى: ثم ان الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه انى رايت في نومى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف أي مهازيل ورايت سبع سنبلات خضر واخر يابسات وقال (1) أبو عبد الله (ع) سبع سنابل ثم قال " يا ايها الملا افتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون " فلم يعرفوا تأويل ذلك. فذكر الذى كان على راس الملك رؤياه التى رآها وذكر يوسف بعد سبع سنين وهو قوله: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة " أي بعد حين انا انبئكم بتأويله فأرسلون فجاء إلى يوسف فقال " ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات ". قال يوسف تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فانه يفسد في طول سبع سنين وإذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد
(1) وقرء خ ل. (*)
[ 203 ]
ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (ع) انما نزل ما قربتم لهن ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يمطرون. وقال أبو عبد الله (ع) قرء رجل على امير المؤمنين (ع) ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون على البناء للفاعل فقال ويحك أي شئ يعصرون
يعصرون الخمر ؟ قال الرجل يا امير المؤمنين كيف اقرؤها ؟ فقال انما نزلت وفيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة والدليل على ذلك قوله: " وانزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ". فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتونى به فلما جائه الرسول قال ارجع إلى ربك يعنى إلى الملك فأساله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن ؟ ان ربى بكيدهن عليم. فجمع الملك النسوة فقال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امراة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين أي لا اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ثم قالت وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى. فقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال انك اليوم لدينا مكين امين فاسأل حاجتك قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم يعنى الكناديج والانابير فجعله عليها وهو قوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء ". اقول قوله وقرء الصادق (ع) سبع سنابل في رواية العياشي عن ابن ابى يعفور عنه (ع) انه قرء سبع سنبلات (1) وقوله (ع) انما نزل ما قربتم لهن أي ان التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب وقوله (ع) انما نزلت وفيه يعصرون أي يمطرون أي بالبناء للمفعول ومنه يعلم انه (ع) يأخذ قوله يغاث من الغيث دون
(1) على ما أخرجه في البرهان واما في نسخة العياشي المطبوعة " سبع سنابل " ايضا. (*)
[ 204 ]
الغوث وروى هذا المعنى ايضا العياشي في تفسيره عن على بن معمر عن ابيه عن ابى
عبد الله (ع). وقوله أي لا اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ظاهر في اخذ قوله " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " إلى آخر الايتين من كلام امراة العزيز وقد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم. وفي الدر المنثور اخرج الفاريابى وابن جرير وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجبت لصبر اخى يوسف وكرمه والله يغفر له حيث ارسل إليه ليستفتى في الرؤيا وان كنت انا لم افعل حتى اخرج وعجبت من صبره وكرمه والله يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتى اخبرهم بعذره ولو كنت انا لبادرت الباب ولكنه احب ان يكون له العذر. اقول وقد روى هذا المعنى بطرق اخرى ومن طرق اهل البيت (ع) ما في تفسير العياشي عن ابان عن محمد بن مسلم عن احدهما (ع) قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين ارسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى اشترط عليه ان يخرجني من السجن وعجبت لصبره عن شان امرأة الملك (1) حتى اظهر الله عذره. اقول وهذا النبوى لا يخلو من شئ فان فيه احد المحذورين اما الطعن في حسن تدبير يوسف (ع) وتوصله إلى الخروج من السجن وقد احسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه ولا هم لامرأة العزيز ونسوة مصر الا في مراودته عن نفسه والجائه إلى موافقة هواهن وهو القائل " رب السجن احب الي مما يدعونني إليه " وانما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته وتيأس منه امراة العزيز والنسوة ويوضع في موضع يليق به من المكانة والمنزلة. ولذا انبأ وهو في السجن اولا بما هو وظيفة الملك الواجبة اثر رؤياه من جمع الارزاق العامة وادخارها فتوصل به إلى قول الملك ائتونى به ثم لما امر باخراجه ابى إلى ان
(1) هي امرأة العزيز دون الملك ولعل اطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث منه. (*)
[ 205 ]
يحكم بينه وبين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله ائتونى به استخلصه لنفسي وهذا احسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر وبسط العدل والاحسان في الارض مضافا إلى ما ظهر للملك وملائه في خلال هذه الاحوال من عظيم صبره وعزمه في الامور وتحمله الاذى في جنب الحق وعلمه الغزير وحكمه القويم. واما الطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاشاه ان يقول انه لو كان مكان يوسف طاش ولم يصبر مع الاعتراف بان الحق كان معه في صبره وهو اعتراف بان من شانه ان لا يصبر فيما يجب الصبر فيه وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم ان يامر الناس بشئ وينسى نفسه وقد صبر وتحمل الاذى في جنب الله قبل الهجرة وبعدها من الناس حتى اثنى الله عليه بمثل قوله: " وانك لعلى خلق عظيم ". وفى الدر المنثور ايضا اخرج الحاكم في تاريخه وابن مردويه والديلمي عن انس قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء هذه الاية: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " قال لما قالها يوسف قال له جبريل يا يوسف اذكر همك قال وما ابرئ نفسي. اقول وهذا المعنى مروى في عدة روايات بالفاظ متقاربة ففى رواية ابن عباس لما قالها يوسف فغمزه جبريل فقال ولا حين هممت بها ؟ وفى رواية عن حكيم بن جابر فقال له جبريل ولا حين حللت السراويل ؟ ونحو من ذلك في روايات اخر عن مجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد والسدى والحسن وابن جريح وابى صالح وغيرهم. وقد تقدم في البيان السابق ان هذه وامثالها من موضوعات الاخبار مخالفة لنص الكتاب وحاشا مقام يوسف الصديق (ع) ان يكذب بقوله لم اخنه بالغيب ثم يصلح ما افسده بغمز من جبريل قال في الكشاف ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة
فزعموا ان يوسف حين قال انى لم اخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها ؟ وقالت له امرأة العزيز ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف ؟ وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسوله انتهى. وفي تفسير العياشي عن سماعة قال: سألته عن قول الله " ارجع إلى ربك " الاية يعنى العزيز.
[ 206 ]
اقول وفى تفسير البرهان عن الطبرسي في كتاب النبوة بالاسناد عن احمد بن محمد ابن عيسى عن الحسن بن على بن الياس قال سمعت الرضا (ع) يقول: واقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون واقبلت السنون المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الا صار في ملك يوسف. وباعهم في السنة الثانية بالحلى والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلى ولا جواهر الا صار في ملكه وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشى حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية الا صار في ملكه وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والاماء حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا امة الا صار في ملكه وباعهم في السنة الخامسة بالدور والفناء حتى لم يبق في مصر وما حولها دار ولا فناء الا صار في ملكه وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والانهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الا صار في ملكه وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر الا صار عبدا ليوسف. فملك احرارهم وعبيدهم واموالهم وقال الناس ما رأينا ولا سمعنا بملك اعطاه (الله ط) من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبير ا ثم قال يوسف للملك ما ترى فيما خولنى ربى من ملك مصر وما حولها ؟ اشر علينا برايك فانى لم اصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم ولكن الله انجاهم بيدى قال الملك
الرأى رأيك. قال يوسف انى اشهد الله واشهدك ايها الملك انى قد اعتقت اهل مصر كلهم ورددت عليهم اموالهم وعبيدهم ورددت عليك الملك وخاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الا بسيرتي ولا تحكم الا بحكمى. قال له الملك ان ذلك توبتي وفخري ان لا اسير الا بسيرتك ولا احكم الا بحكمك ولولاك ما توليت عليك ولا اهتديت له وقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وانا اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانك رسوله فأقم على (ما ظ) وليتك فانك لدينا مكين امين. اقول والروايات في هذا المقام كثيرة اغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الايات
[ 207 ]
ولذلك تركنا نقلها. وفى تفسير العياشي قال سليمان قال سفيان: قلت لابي عبد الله (ع) ما يجوز ان يزكى الرجل نفسه ؟ قال نعم إذا اضطر إليه أما سمعت قول يوسف اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم وقول العبد الصالح انى لكم ناصح امين ؟ اقول الظاهر ان المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: " وابلغكم رسالات ربى وانا لكم ناصح امين " الاعراف: 68. وفي العيون باسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى اصحابنا عن الرضا (ع) انه قال له رجل اصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون ؟ فكأنه انكر ذلك عليه فقال له أبو الحسن الرضا (ع) ايما افضل النبي أو الوصي فقال لا بل النبي قال فأيما افضل مسلم أو مشرك ؟ قال لا بل مسلم. قال فان عزيز (1) مصر كان مشركا وكان يوسف نبيا وان المأمون مسلم وانا
وصى ويوسف سأل العزيز ان يوليه حتى قال استعملني على خزائن الارض انى حفيظ عليم والمأمون اجبرني على ما انا فيه قال وقال في قوله حفيظ عليم قال حافظ على ما في يدى عالم بكل لسان اقول وقوله استعملني على خزائن الارض نقل الاية بالمعنى ورواه العياشي في تفسيره وروى آخر الحديث في المعاني ايضا عن فضل بن ابى قرة عن الصادق (ع): * * * وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون - 58 ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى باخ لكم من ابيكم ألا ترون انى
(1) المراد به ملك مصر ولعل اطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. (*)
[ 208 ]
اني أو في الكيل وانا خير المنزلين - 59. فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون - 60. قالوا سنراود عنه اباه وانا لفاعلون - 61. وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى اهلهم لعلهم يرجعون - 82. (بيان) فصل آخر مختار من قصة يوسف (ع) يذكر الله تعالى فيه مجئ اخوته إليه في خلال سنى الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب وكان ذلك مقدمة لضم يوسف (ع) اخاه من امه وهو المحسود المذكور في قوله تعالى: " حكاية عن الاخوة ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة " إليه ثم تعريفهم نفسه ونقل بيت يعقوب (ع) من البدو إلى مصر. وانما لم يعرفهم نفسه ابتداء لانه اراد ان يلحق اخاه من امه إلى نفسه ويرى اخوته من ابيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما ومن الله عليهما اثر تقواهما وصبرهما على ما آذوهما عن الحسد والبغى ثم يشخصهم جميعا والايات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر واقتراحه
ان ياتوا باخيهم من ابيهم إليه ان عادوا إلى اشتراء الطعام والميرة وتقبلهم ذلك. قوله تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون " في الكلام حذف كثير وانما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به وانما الغرض بيان لحوق اخى يوسف من امه به واشراكه معه في النعمة والمن الالهى ثم معرفتهم بيوسف ولحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته وما جرى عليه بعد عزة مصر. والذى جاء إليه من اخوته هم العصبة ما خلا اخيه من امه فان يعقوب (ع) كان يأنس به ولا يخلى بينه وبينهم بعد ما كان من امر يوسف ما كان والدليل على ذلك كله ما سيأتي من الايات.
[ 209 ]
وكان بين دخولهم هذا على اخيهم يوسف وبين انتصابه على خزائن الارض وتقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن اكثر من سبع سنين فانهم انما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة وقد خلت السبع السنون المخصبة ولم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم اخرج من الجب وهو صبى وقد مر عليه سنون في بيت العزيز ولبث بضع سنين في السجن وتولى امر الخزائن منذ اكثر من سبع سنين وهو اليوم في زى عزيز مصر لا يظن به انه رجل عبرى من غير القبط وهذا كله صرفهم عن ان يظنوا به انه اخوهم ويعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ". قوله تعالى: " ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من ابيكم الا ترون انى أو في الكيل وانا خير المنزلين " قال الراغب في المفردات الجهاز ما يعد من متاع وغيره والتجهيز حمل ذلك أو بعثه انتهى فالمعنى ولما حملهم ما اعد لهم من الجهاز والطعام الذى باعه منهم امرهم بان ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم وقال ائتونى الخ. وقوله ألا ترون انى أو في الكيل أي لا ابخس فيه ولا اظلمكم بالاتكاء على
قدرتي وعزتي وانا خير المنزلين اكرم النازلين بى واحسن مثواهم وهذا تحريض لهم ان يعودوا إليه ثانيا ويأتوا إليه بأخيهم من ابيهم كما ان قوله في الاية التالية: " فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " تهديد لهم لئلا يعصوا امره وكما ان قولهم في الاية الاتية: " سنراود عنه اباه وانا لفاعلون " تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف (ع). ثم من المعلوم ان قوله (ع) أو ان خروجهم " ائتونى بأخ لكم من ابيكم " مع ما فيه من التأكيد والتحريض والتهديد ليس من شأنه ان يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة وتوطئة تعمي عليهم وتصرفهم ان يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره. وهو ظاهر. وقد اورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم وتكليمه اياهم امورا كثيرة لا دليل على شئ منها من كلامه تعالى في سياق القصة ولا اثر يطمأن إليه في امثال المقام. وكلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، وانما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم
[ 210 ]
فأخبروه وهم عشرة أنهم اخوة وأن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه ابوه ولا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه. قوله تعالى: " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " الكيل بمعنى المكيل وهو الطعام، ولا تقربون اي لا تقربوني بدخول أرضي والحضور عندي للامتيار واشتراء الطعام. ومعنى الآية ظاهر، وهو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم. قوله تعالى: " قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون " المراودة كما تقدم هي الرجوع في امر مرة بعد مرة بالالحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (ع) " سنراود عنه أباه " دليل على انهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به ولا يرضى بمفارقته له ويأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، وفى قولهم: " اباه " ولم يقولوا: ابانا تأييد لذلك.
وقولهم: " وإنا لفاعلون " أي فاعلون للاتيان به أو للمراودة لحمله معهم والاتيان به إليه، ومعنى الآية ظاهر، وفيه تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف (ع) كما تقدم. قوله تعالى: " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون " الفتيان جمع الفتى وهو الغلام وقال الراغب البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال ابضع بضاعة وابتضعها قال تعالى " هذه بضاعتنا " ردت الينا وقال تعالى ببضاعة مزجاة والاصل في هذه الكلمة البضع بفتح الباء وهو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال وفلان بضعة منى أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منى قال والبضع بالكسر المنقطع من العشرة ويقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة وقيل بل هو فوق الخمس ودون العشرة انتهى والرحال جمع رحل وهو الوعاء والاثاث والانقلاب الرجوع. ومعنى الاية وقال يوسف (ع) لغلمانه اجعلوا مالهم وبضاعتهم التى قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في اوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا ورجعوا إلى اهلهم وفتحوا الاوعية لعلهم يرجعون الينا ويأتوا باخيهم فان ذلك يقع في قلوبهم ويطمعهم إلى الرجوع والتمتع من الاكرام والاحسان
[ 211 ]
* * * فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فارسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون - 63. قال هل آمنكم عليه الا كما آمنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين 64. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا ابانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت الينا ونمير اهلنا ونحفظ اخانا ونزداد كيل بعير
ذلك كيل يسير - 65. قال لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل - 66. وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون - 67. ولما دخلوا من حيث امرهم ابوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا حاجة في نفس يعقوب قضيها وانه لذو علم لما علمناه ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 68. ولما دخلوا على يوسف آوى إليه اخاه قال انى انا اخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون - 69. فلما جهزهم بجهازهم جعل
[ 212 ]
السقاية في رحل اخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون - 70. قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون - 71. قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم - 72. قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين - 73. قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين - 74 قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين - 75. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم - 76. قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال انتم شر مكانا والله اعلم بما تصفون - 77. قالوا يا ايها العزيز ان له ابا شيخا كبيرا فخذ احدنا مكانه انا نراك من المحسنين - 78. قال معاذ الله ان ناخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا
إذا لظالمون - 79. فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن ابرح الارض حتى يأذن لى ابى أو يحكم الله لى وهو خير
[ 213 ]
الحاكمين - 80. ارجعوا إلى ابيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين - 81. وسئل القرية التى كنا فيها والعير التى اقبلنا فيها وانا لصادقون - 82. (بيان) الايات تقتص رجوع اخوة يوسف (ع) من عنده إلى ابيهم وارضاءهم اباهم ان يرسل معهم اخا يوسف من امه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف واخذ يوسف اخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك. قوله تعالى: " فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فأرسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون " الاكتيال اخذ الطعام كيلا ان كان مما يكال قال الراغب الكيل كيل الطعام يقال كلت له الطعام إذا توليت له ذلك وكلته الطعام إذا اعطيته كيلا واكتلت عليه إذا اخذت منه كيلا قال تعالى: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم ". وقوله: " قالوا يا ابانا منع منا الكيل أي لو لم نذهب بأخينا ولم يذهب معنا إلى مصر بدليل قوله فأرسل معنا اخانا فهو اجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر من امره بمنعهم من الكيل ان لم ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم يقصونه لابيهم ويسألونه ان يرسله معهم ليكتالوا ولا يحرموا. وقولهم اخانا اظهار رأفة واشفاق لتطييب نفس ابيهم من انفسهم كقولهم " وانا له لحافظون " بما فيه من التأكيد البالغ. قوله تعالى: " قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظا
وهو ارحم الراحمين " قال في المجمع الا من اطمئنان القلب إلى سلامة الامر يقال أمنه
[ 214 ]
يأمنه امنا انتهى فقوله هل آمنكم عليه الخ أي هل اطمئن اليكم في ابني هذا الا مثل ما اطماننت اليكم في اخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان. ومحصله انكم تتوقعون منى ان اثق فيه بكم وتطمئن نفسي اليكم كما وثقت بكم واطماننت اليكم في اخيه من قبل وتعدوننى بقولكم وانا له لحافظون ان تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم وانا له لحافظون وقد امنتكم بمثل هذا الا من على يوسف فلم تغنوا عنى شيئا وجئتم بقميصه الملطخ بالدم ان الذئب اكله وامنى لكم على هذا الاخ مثل امني على اخيه من قبل امن لمن لا يغنى امنه والاطمئنان إليه شيئا ولا بيده حفظ ما سلم إليه وائتمن له. وقوله فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين تفريع على سابق كلامه هل آمنكم عليه الخ وتفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان اليكم في امره لغي لا اثر له ولا يغنى شيئا فخير الاطمئنان والاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه وإذا تردد الامر بين التوكل عليه والتفويض إليه وبين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين وقوله " وهو ارحم الراحمين " في موضع التعليل لقوله فالله خير حافظا أي ان غيره تعالى ربما امن في امر وائتمن عليه في امانة سلم له فلم يرحم المؤتمن وضيع الامانة لكنه سبحانه ارحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة ويترحم العاجز الضعيف الذى فوض إليه امرا وتوكل عليه ومن يتوكل على الله فهو حسبه. ومن هنا يظهر ان مراده (ع) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة انه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الاسباب وان كان الامر كذلك قال تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره " الطلاق: 3 كيف والاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذى يتنزه عنه ساحة الانبياء وقد نص تعالى على ان يعقوب (ع) من المخلصين اهل الاجتباء وانه من الائمة الهداة المهديين وهو
(ع) يعترف في قوله الا كما امنتكم على اخيه من قبل انه امنهم على يوسف ولو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة على انه امنهم على اخى يوسف ايضا بعد ما اعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الايات التالية. بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة انه تعالى
[ 215 ]
متصف بصفات كريمة يؤمن معها ان يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له امورهم فانه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم ويجمع الجميع انه ارحم الراحمين على انه لا يغلب في امره لا يقهر في مشيته واما الناس إذا امنوا على امر واطمئن إليهم في شئ فانهم اسراء الاهواء وملاعب الهوسات النفسانية ربما اخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم ان يحفظوه ولا يخونوه وربما خانوا ولم يحفظوا على انهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وارادة. وبالجملة مراده (ع) ان الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لانه تعالى ارحم الراحمين لا يخون عبده فيما امنه عليه واطمأن فيه إليه بخلاف الناس فانهم ربما لم يفوا لعهد الامانة ولم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه ولذلك لما كلف بنيه ثانيا ان يؤتوه موثقا من الله قال: " ان تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم " فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ وهو حفظه إذا احيط بهم فانه فوق استطاعتهم ومقدرتهم وليسوا بمسؤلين عنه وانما سالهم الموثق في اتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل والنفى ونحو ذلك فافهم ذلك. ومما تقدم يظهر ان في قوله (ع) وهو ارحم الراحمين نوع تعريض لهم وتلويح إلى انهم لم يستوفوا الرحم أو لم يرحموه اصلا في امر يوسف حين امنهم عليه والاية على أي حال في معنى الرد لما سألوه. قوله تعالى: " ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " إلى آخر الاية
البغى هو الطلب ويستعمل كثيرا في الشر ومنه البغى بمعنى الظلم والبغى بمعنى الزنا وقال في المجمع الميرة الاطعمة التى تحمل من بلد إلى بلد ويقال مرتهم اميرهم ميرا إذا اتيتهم بالميرة ومثله امترتهم امتيارا انتهى. وقوله: " يا ابانا ما نبغى " استفهام أي لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وكان ذلك دليلا على اكرام العزيز لهم وانه غير قاصد بهم سوء وقد سلم إليهم الطعام ورد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا ودرا راجعوا اباهم وقالوا يا ابانا ما الذى نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا ؟ فقد أو في لنا الكيل ورد الينا ما بذلناه من البضاعه ثمنا.
[ 216 ]
فقولهم يا ابانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت الينا ارادوا به تطييب نفس ابيهم ليرضى بذهاب اخيهم معهم لانه في امن من العزيز وهم يحفظونه كما وعدوه ولذلك عقبوه بقولهم ونمير اهلنا ونحفظ اخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير أي سهل. وربما قيل ان ما في قوله ما نبغى للنفي أي ما نطلب بما اخبرناك من العزيز واكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت الينا وكذا قيل ان اليسير بمعنى القليل أي ان الذى جئنا به اليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى ان نضيف إليه كيل بعير اخينا. قوله تعالى: " قال لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتاتننى به الا ان يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل " الموثق بكسر الثاء ما يوثق به ويعتمد عليه والموثق من الله هو امر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله وايتاء موثق الهى واعطاؤه هو ان يسلط الانسان على امر الهى يوثق به كالعهد واليمين بمنزلة الرهينة والمعاهد والمقسم بقوله عاهدت الله ان افعل كذا أو بالله لافعلن كذا يراهن كرامة الله وحرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له ولو لم يف بما قال خسر في رهينته وهو مسؤل
عند الله لا محالة. والاحاطة من حاط بمعنى حفظ ومنه الحائط للجدار الذى يدور حول المكان ليحفظه والله سبحانه محيط بكل شئ أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج ولا شئ من اجزائه من قدرته واحاط به البلاء والمصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه ومنه قولهم احيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة والخلاص قال تعالى: " واحيط بثمره فاصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها " الكهف: 42 وقال: " وظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين " يونس: 22 ومنه قوله في الاية " الا ان يحاط بكم " أي ان ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة وقدرة فلا يسعكم الاتيان به الي. والوكالة نوع تسلط على امر يعود إلى الغير ليقوم به وتوكيل الانسان غيره في امر تسليطه عليه ليقوم في اصلاحه مقامه والتوكل عليه اعتماده والاطمئنان إليه في امر وتوكيله تعالى والتوكل عليه في الامور ليس بعناية انه خالق كل شئ ومالكه ومدبره بل
[ 217 ]
بعناية انه اذن في نسبة الامور إلى مصادرها والافعال إلى فواعلها وملكها اياها بنحو من التمليك وهى فاقدة للاصالة والاستقلال في التأثير والله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا اراد الانسان امرا وتوصل إليه بالاسباب العادية التى بين يديه ان يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الامر وينفى الاستقلال والاصالة عن نفسه وعن الاسباب التى استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه فليس التوكل هو قطع الانسان أو نفيه نسبة الامور إلى نفسه أو إلى الاسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه وعن الاسباب وارجاع الاستقلال والاصالة إليه تعالى مع ابقاء اصل النسبة غير المستقلة التى إلى نفسه وإلى الاسباب. ولذلك نرى ان يعقوب (ع) فيما تحكيه الايات من توكله على الله لم بلغ الاسباب
ولم يهملها بل تمسك بالاسباب العادية فكلم اولا بنيه في اخيهم ثم اخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله وكذا فيما وصاهم في الاية الاتية بدخولهم من ابواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى. فالله سبحانه على كل شئ وكيل من جهة الامور التى لها نسبة إليها كما انه ولى لها من جهة استقلاله بالقيام على الامور المنسوبة إليها وهى عاجزة عن القيام بها بحول وقوة وانه رب كل شئ من جهة انه المالك المدبر لها. ومعنى الاية قال يعقوب لبنيه لن ارسله أي اخاكم من ام يوسف معكم حتى تؤتون وتعطوني موثقا من الله اثق به واعتمد عليه من عهد أو يمين لتاتننى به واللام للقسم ولما كان ايتاؤهم موثقا من الله انما كان يمضى ويفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم وقدرتهم استثنى فقال الا ان يحاط بكم وتسلبوا الاستطاعة والقدرة فلما آتوه موثقهم من الله قال يعقوب الله على ما نقول وكيل أي انا قاولنا جميعا فقلت وقلتم وتوسلنا بذلك إلى هذه الاسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الاقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشئ فليات به كما التزم وان تخلف فليجازه الله وينتصف منه. قوله تعالى: " وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة " إلى آخر الاية هذه كلمة القاها يعقوب (ع) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله وتجهزوا
[ 218 ]
واستعدوا للرحيل ومن المعلوم من سياق القصة انه خاف على بنيه وهم احد عشر عصبة لا من ان يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لانه كان من المعلوم انه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا وهم احد عشر اخوة لاب واحد بل انما كان يخاف عليهم ان يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة اخرى.
وقوله بعده: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله " لا يخلو من دلالة أو اشعار بانه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (ع) والله اعلم احس حينما تجهزوا للسفر واصطفوا امامه للوداع احساس الهام ان جمعهم وهم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق وينقص من عددهم فأمرهم ان لا يتظاهروا بالاجماع كذلك وحذرهم عن الدخول من باب واحد وعزم عليهم ان يدخلوا من ابواب متفرقة رجاء ان يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم والنقص في عددهم. ثم رجع إلى اطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذى ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا اصيلا مستقلا ولا مؤثر في الوجود بالحقيقة الا الله سبحانه فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم " وما اغنى عنكم من الله من شئ " ثم علله بقوله ان الحكم الا لله أي لست ارفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما امرتكم به من السبب الذى تتقون به نزول النازلة وتتوسلون به إلى السلامة والعافية ولا احكم بان تحفظوا بهذه الحيلة فان هذه الاسباب لا تغنى من الله شيئا ولا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا الا لله بل هذه اسباب ظاهرية انما تؤثر إذا اراد الله لها ان تؤثر. ولذلك عقب كلامه هذا بقوله: " عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون " أي ان هذا سبب امرتكم باتخاذه لدفع ما اخافه عليكم من البلاء وتوكلت مع ذلك على الله في اخذ هذا السبب وفي سائر الاسباب التى اخذتها في اموري وعلى هذا المسير يجب ان يسير كل رشيد غير غوى يرى انه لا يقوى باستقلاله لادارة اموره ولا ان الاسباب العادية باستقلالها تقوى على ايصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه ان يلتجئ في اموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبر امره احسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذى لا يقهره شئ الغالب الذى لا يغلبه شئ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
[ 219 ]
وقد تبين بالاية أو لا معنى التوكل وانه تسليط الغير على امر له نسبة إلى المتوكل
والموكل. وثانيا ان هذه الاسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية ان يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير ويكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد والصواب لا ان يهمل الاسباب التى بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فانه من الغي والجهل. وثالثا ان ذاك السبب الذى يجب التوكل عليه في الامور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فانه الله لا اله الا هو رب كل شئ وهذا هو المستفاد من الحصر الذى يدل عليه قوله: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون " قوله تعالى: " ولما دخلوا من حيث امرهم ابوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا حاجة في نفس يعقوب قضاها إلى آخر الاية الذى يعطيه سياق الايات السابقة واللاحقة والتدبر فيها والله اعلم ان يكون المراد بدخولهم من حيث امرهم ابوهم انهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من ابواب متفرقة كما امرهم ابوهم حينما ودعوه للرحيل وانما اتخذ يعقوب (ع) هذا الامر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم وتنقص من عددهم كما اشير إليه في الاية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة وهى الدخول من حيث امرهم ابوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء وكان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم واخذ العزيز اخاهم من ابيهم لحديث سرقت الصواع وانفصل منهم كبيرهم فبقى في مصر وادى ذلك إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث امرهم من الله من شئ. لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (ع) فانه جعل هذا السبب الذى تخلف عن امره وادى إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (ع) فان يوسف اخذ اخاه إليه ورجع سائر الاخوة الا كبيرهم إلى ابيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه ويتذللون لعزته فعرفهم نفسه واشخص اباه واهله إلى مصر
فاتصلوا به.
[ 220 ]
فقوله: " ما كان يغنى عنهم من الله من شئ " أي لم يكن من شان يعقوب أو هذا الامر الذى اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة ان يغنى عنهم من الله شيئا البتة ويدفع عنهم ما قضى الله ان يفارق اثنان منهم جمعهم بل اخذ منهم واحد وفارقهم ولزم ارض مصر آخر وهو كبيرهم. وقوله: " الا حاجة في نفس يعقوب قضاها " قيل ان الا بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذى فقده وهو يوسف. ولا يبعد ان يكون الا استثنائية فان قوله ما كان " يغنى عنهم من الله من شئ " في معنى قولنا لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا ولم يقض الله لهم جميعا به حاجة الا حاجة في نفس يعقوب وقوله قضاها استئناف وجواب سؤال كأن سائلا يسال فيقول ما ذا فعل بها ؟ فاجيب بقوله قضاها. وقوله " وانه لذو علم لما علمناه " الضمير ليعقوب أي ان يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا اياه وظاهر نسبة التعليم إليه تعالى انه علم موهبي غير اكتسابي وقد تقدم ان اخلاص التوحيد يؤدى إلى مثل هذه العناية الالهية ويؤيد ذلك ايضا قوله تعالى: " بعده ولكن اكثر الناس لا يعلمون " إذ لو كان من العلم الاكتسابى الذى يحكم بالاسباب الظاهرية ويتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس واهتدوا إليه. والجملة " وانه لذو علم لما علمناه " الخ ثناء على يعقوب (ع) والعلم الموهبى لا يضل في هدايته ولا يخطئ في اصابته والكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (ع) من البلاء وتوسل به من الوسيلة وحاجته في يوسف في نفسه لا ينساها ولا يزال يذكرها فمن هذه الجهات يعلم ان في قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ تصديقا
ليعقوب (ع) فيما قاله لبنيه وتصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بامرهم بما امر وتوكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه. هذا ما يعطيه التدبر في سياق الايات وللمفسرين اقوال عجيبة في معنى الاية كقول بعضهم ان المراد بقوله ما كان يغنى عنهم إلى قوله قضاها انه لم يكن دخولهم كما امرهم ابوهم يغنى عنهم أو يدفع عنهم شيئا اراد الله ايقاعه بهم من حسد أو اصابة عين
[ 221 ]
وكان يعقوب (ع) عالما بان الحذر لا يدفع القدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي ازال به اضطراب قلبه واذهب به القلق عن نفسه. وقول بعضهم ان المعنى ان الله لو قدر ان تصيبهم العين لا صابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين. وقول بعضهم ان معنى قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ انه لذو يقين ومعرفة بالله لاجل تعليمنا اياه ولكن اكثر الناس لا يعلمون مرتبته. وقول بعضهم ان اللام في لما علمناه للتقوية والمعنى انه يعلم ما علمناه فيعمل به لان من علم شيئا وهو لا يعمل به كان كمن لا يعلم إلى غير ذلك من اقاويلهم. قوله تعالى: " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه اخاه قال انى انا اخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون " الايواء إليه ضمه وتقريبه منه في مجلسه ونحوه والابتئاس اجتلاب البؤس والا غتمام والحزن وضمير الجمع للاخوة. ومعنى الاية ولما دخلوا على يوسف بعد دخولهم مصر آوى وقرب إليه اخاه الذى امرهم ان ياتوا به إليه وكان اخا له من ابيه وامه قال له انى انا اخوك أي يوسف الذى فقدته منذ سنين والجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر فلا تبتئس ولا تغتم بما كانوا أي الاخوة يعملون من انواع الاذى والمظالم التى حملهم عليها حسدهم لى ولك ونحن اخوان من ام أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فانه كيد
لحبسك عندي. وظاهر السياق انه عرفه نفسه باسرار القول إليه وسلاه على ما عمله الاخوة وطيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم ان معنى قوله انى انا اخوك انا اخوك مكان اخيك الهالك وقد كان اخبره انه كان له اخ من امه هلك من قبل فبقى وحده لا اخ له من امه ولم يعترف يوسف له بالنسب ولكنه اراد ان يطيب نفسه. وذلك انه ينافيه ما في قوله انى انا اخوك من وجوه التأكيد وذلك انما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن انه هو يوسف على انه ينافى ايضا ما سيأتي من قوله لاخوته عند تعريفهم نفسه " انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا " فانه انما يناسب ما إذا علم
[ 222 ]
اخوه انه اخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى. قوله تعالى: " فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل اخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون " السقاية الظرف الذى يشرب فيه والرحل ما يوضع على البعير للركوب والعير القوم الذين معهم احمال الميرة وذلك اسم للرجال والجمال الحاملة للميرة وان كان قد يستعمل في كل واحد من دون الاخر ذكر ذلك الراغب في مفرداته. ومعنى الاية ظاهر وهذه حيلة احتالها يوسف (ع) لياخذ بها اخاه إليه كما قصه وفصله الله تعالى وجعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به اخوه وهما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته. وقوله ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون الخطاب لاخوة يوسف وفيهم اخوه لامه ومن الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في امر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الاخرين وفي القرآن منه شئ كثير وهذا الامر الذى سمى سرقه وهو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم وهو اخو يوسف لامه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فان معنى هذا الخطاب في مثل هذا
المقام ان السقاية مفقودة وهى عند بعضكم ممن لا يتعين الا بعد الفحص والتفتيش. ومن المعلوم من السياق ان اخا يوسف لامه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه ولذلك لم يتكلم من اول الامر إلى آخره ولا بكلمة ولا نفى عن نفسه السرقة ولا اضطرب كيف ؟ وقد عرفه يوسف انه اخاه وسلاه وطيب نفسه فليس الا ان يوسف (ع) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع وانه انما يريد بتسميته سارقا واخراج السقاية من رحله ان يقبض عليه ويأخذه إليه فتسميته سارقا انما كان اتهاما في نظر الاخوة واما بالنسبة إليه وفي نظره فلم يكن تسمية جدية وتهمة حقيقية بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة. فنسبة السرقة إليهم بالنظر إلى هذه الجهات لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا على ان القائل هو المؤذن الذى اذن بذلك. وذكر بعض المفسرين ان القائل انكم لسارقون بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير امره ولم يعلم ان يوسف امر بجعل الصاع في رحالهم.
[ 223 ]
وقال بعضهم ان يوسف (ع) امر المنادى ان ينادى به ولم يرد به سرقة الصاع وانما عنى به انكم سرقتم يوسف من ابيه والقيتموه في الجب ونسب ذلك إلى ابى مسلم المفسر. وقال بعضهم ان الجملة استفهامية والتقدير أ إنكم لسارقون ؟ بحذف همزة الاستفهام ولا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد. قوله تعالى: " قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون " الفقد كما قيل غيبة الشئ عن الحس بحيث لا يعرف مكانه والضمير في قوله قالوا للاخوة وهم العير وقوله ما ذا تفقدون مقول القول والضمير في قوله عليهم ليوسف وفتيانه كما يدل عليه السياق.
والمعنى قال اخوة يوسف المقبلين ليوسف وفتيانه ما ذا تفقدون وفى السياق دلالة على ان المنادى انما ناداهم من ورائهم وقد اخذوا في السير. قوله تعالى: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم " الصواع بالضم السقاية وقيل ان الصواع هو الصاع الذى يكال به وكان صواع الملك اناء يشرب فيه ويكال به ولذلك سمى تارة سقاية واخرى صواعا ويجوز فيه التذكير والتانيث ولذلك قال ولمن جاء به وقال ثم استخرجها. والحمل ما يحمله الحامل من الاثقال وقد ذكر الراغب ان الاثقال المحمولة في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء والاثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء. وقال في المجمع الزعيم والكفيل والضمين نظائر والزعيم ايضا القائم بامر القوم وهو الرئيس. ولعل القائل نفقد صواع الملك هو فتيان يوسف والقائل ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم يوسف (ع) نفسه لانه هو الرئيس الذى يقوم بامر الا عطاء والمنع والضمانة والكفالة والحكم ويعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا اجاب عنهم يوسف وفتيانه اما فتيانه فقالوا نفقد صواع الملك واما يوسف فقال ولمن جاء به
[ 224 ]
حمل بعير وانا به زعيم وهذه جعالة. وظاهر بعض المفسرين ان قوله ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم تتمة قول المؤذن ايتها العير انكم لسارقون وعلى هذا فقوله قالوا واقبلوا عليهم إلى قوله صواع الملك معترض قوله تعالى: " قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين " المراد بالارض ارض مصر وهى التى جاؤها ومعنى الاية ظاهر.
وفى قولهم " لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض " دلالة على انهم فتشوا وحقق في امرهم اول ما دخلوا مصر للميرة بامر يوسف (ع) بدعوى الخوف من ان يكونوا جواسيس وعيونا أو نازلين بها لاغراض فاسدة اخرى فسئلوا عن شانهم ومحلهم ونسبهم وامثال ذلك وبه يتأيد ما ورد في بعض الروايات ان يوسف اظهر لهم انه في ريب من امرهم فسألهم عن شأنهم ومكانهم واهلهم وعند ذلك ذكروا ان لهم ابا شائخا واخا من ابيهم فأمر باتيانهم به وسياتى في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى. وقولهم وما كنا سارقين نفى ان يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم اهل البيت ذلك. قوله تعالى: " قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين " أي قال فتيان يوسف أو هو وفتيانه سائلين منهم عن الجزاء ما جزاء السرق أو ما جزاء الذى سرق منكم ان كنتم كاذبين في انكاركم. والكلام في قولهم ان كنتم كاذبين في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم انكم لسارقون وقد تقدم. قوله تعالى: " قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين " مرادهم ان جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى ان من سرق ما لا يصير عبدا لمن سرق ما له وهكذا كان حكمه في سنة يعقوب (ع) كما يدل عليه قولهم " كذلك نجزى الظالمين " أي هؤلاء الظالمين وهم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: " جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه " للدلالة على ان السرقة انما يجازى بها نفس السارق لا رفقته وصحبه وهم احد عشر نسمة لا ينبغى ان يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة الا السارق بعينه
[ 225 ]
من غير ان يتعدى إلى نفوس الاخرين ورحالهم ثم للمسروق منه ان يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.
قوله تعالى: " فبدأ باوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه " فيه تفريع على ما تقدم أي اخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء اخيه للتعمية عليهم حذرا من ان يتنبهوا ويتفطنوا انه هو الذى وضعها في رحل اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه وعند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله. قوله تعالى: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله " إلى آخر الاية الاشارة إلى ما جرى من الامر في طريق اخذ يوسف (ع) اخاه لامه من عصبة اخوته وقد كان كيدا لانه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير ان يعلموا ويتفطنوا به ولو علموا لما رضوا به ولا مكنوه منه وهذا هو الكيد غير انه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحى منه إليه علمه به طريق التوصل إلى اخذ اخيه ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال كذلك كدنا ليوسف. وليس كل كيد بمنفى عنه تعالى وانما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذى هو ظلم ونظيره المكر والاضلال والاستدراج وغيرها. وقوله " ما كان لياخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله " بيان للسبب الداعي إلى الكيد وهو انه كان يريد ان ياخذ اخاه إليه ولم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في ارض مصر طريق يؤدى إلى اخذه ولا ان السرقة حكمها استعباد السارق ولذلك كادهم يوسف بامر من الله بجعل السقاية في رحله ثم اعلام انهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه ان كانوا كاذبين فيخبروا ان جزاء السرق عندهم اخذ السارق واستعباده فيأخذهم بما رضوا به لانفسهم. وعلى هذا فلم يكن له ان ياخذ اخاه في دين الملك الا في حال يشاء الله ذلك وهو هذا الحال الذى رضوا فيه ان يجازوا بما رضوا به لانفسهم.
[ 226 ]
ومن هنا يظهر ان الاستثناء يفيد انه كان من دين الملك ان يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء وهو اشق وكان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية وسياسات الملوك. وقوله " نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم " ا متنان على يوسف (ع) بما رفعه الله على اخوته وبيان لقوله كذلك كدنا ليوسف وكان امتنانا عليه. وفى قوله وفوق كل ذى علم عليم بيان ان العلم من الامور التى لا يقف على حد ينتهى إليه بل كل ذى علم يمكن ان يفرض من هو اعلم منه. وينبغى ان يعلم ان ظاهر قوله ذى علم هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظه ذى من الدلالة على المصاحبة والمقارنة فالله سبحانه وعلمه الذى هو صفة ذاته عين ذاته وهو تعالى علم غير محدود كما ان وجوده احدى غير محدود خارج بذاته عن اطلاق الكلام. على ان الجملة وفوق كل ذى علم عليم انما تصدق فيما امكن هناك فرض فوق والله سبحانه لا فوق له ولا تحت له ولا وراء لوجوده ولا حد لذاته ولا نهاية. ولا يبعد ان يكون قوله " وفوق كل ذى علم عليم " اشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذى علم بان يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اورد في هيئة النكرة صونا للسان عن تعريفه للتعظيم. قوله تعالى: " قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل " إلى آخر الاية القائلون هم اخوة يوسف (ع) لابيه ولذلك نسبوا يوسف إلى اخيهم المتهم بالسرقة لانهما كانا من ام واحدة والمعنى انهم قالوا ان يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لانه كان له اخ وقد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية امهما ونحن مفارقوهما في الام. وفى هذا نوع تبرئة لانفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا
" وما كنا سارقين " لانهم كانوا ينفون به السرقة عن ابناء يعقوب جميعا والا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم فقد سرق اخ له من قبل يناقضه وهو ظاهر على انهم اظهروا
[ 227 ]
بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف واخيه ولعلهم لم يشعروا به وهذا يكشف عن امور مؤسفة كثيرة فيما بينهم. وبهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف انتم شر مكانا كما ان الظاهر ان قوله انتم شر مكانا إلى آخر الاية كالبيان لقوله " فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم " وكما ان قوله ولم يبدها لهم عطف تفسير لقوله فأسرها يوسف في نفسه. والمعنى والله اعلم فأسرها أي اخفى هذه الكلمة التى قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة ولم ينفه ولم يبين حقيقة الحال بل اسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم وكان هناك قائلا يقول كيف اسرها في نفسه فاجيب انه قال انتم شر مكانا واسوء حالا لما في اقوالكم من التناقض وفى نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة واجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الاكرام والاحسان كله والله اعلم بما تصفون انه قد سرق اخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم ولم ينفه. وذكر بعض المفسرين ان معنى قوله انتم شر مكانا الخ انكم اسوء حالا منه لانكم سرقتم اخاكم من ابيكم والله اعلم أسرق اخ له من قبل ام لا. وفيه ان من الجائز ان يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله انتم شر مكانا لكن الكلام فيما تلقاه اخوته من قوله هذا والظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (ع) وهو لا يريد ان يعرفهم نفسه ولا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف الا بما تقدم. وربما ذكر بعضهم ان التى اسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم هي كلمته انتم
شر مكانا فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله " والله اعلم بما تصفون " وهذا بعيد غير مستفاد من السياق. قوله تعالى: " قالوا يا ايها العزيز ان له ابا شيخا كبيرا فخذ احدنا مكانه انا نراك من المحسنين " سياق الايات يدل على انهم انما قالوا هذا القول لما شاهدوا انه استحق الاخذ والاستعباد وذكروا انهم اعطوا اباهم موثقا من الله ان يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم ان يرجعوا إلى ابيهم ولا يكون معهم فعند ذلك عزموا ان يفدوه بواحد منهم ان قبل
[ 228 ]
العزيز وكلموا العزيز في ذلك ان ياخذ أي من شاء منهم ويخلى عن سبيل اخيهم المتهم ليرجعوه إلى ابيه. ومعنى الاية ظاهر وفي اللفظ ترقيق واسترحام واثارة لصفة الفتوة والاحسان من العزيز. قوله تعالى: " قال معاذ الله ان ناخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا إذا لظالمون " رد منه (ع) لسؤالهم ان ياخذ احدهم مكانه ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا " إلى آخر الاية قال في المجمع اليأس قطع الطمع من الامر يقال يئس يياس وايس يأيس لغة واستفعل مثل استيأس واستأيس قال ويئس واستيأس بمعنى مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب. والنجى القوم يتناجون الواحد والجمع فيه سواء قال سبحانه وقربناه نجيا وانما جاز ذلك لانه مصدر وصف به والمناجاة المسارة واصله من النجوة هو المرتفع من الارض فانه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية والنجوى يكون اسما ومصدرا قال سبحانه " واذ هم نجوى " أي يتناجون وقال في المصدر انما النجوى من الشيطان وجمع النجى انجية قال وبرح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه انتهى. والضمير في قوله فلما استيأسوا منه ليوسف ويمكن ان يكون لاخيه والمعنى
فلما استيأسوا أي اخوة يوسف منه أي من يوسف ان يخلى عن سبيل اخيه ولو بأخذ احدهم بد لا منه خلصوا وخرجوا من بين الناس إلى فراغ نجيا يتناجون في امرهم أيرجعون إلى ابيهم وقد اخذ منهم موثقا من الله ان يعيدوا اخاهم إليه ام يقيمون هناك ولا فائدة في اقامتهم ؟ ماذا يصنعون ؟ قال كبيرهم مخاطبا لسائرهم " ألم تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله " الا ترجعوا من سفركم هذا إليه الا باخيكم ومن قبل هذه الواقعة ما فرطتم أي تفريطكم وتقصيركم في امر يوسف عهدتم اباكم ان تحفظوه وتردوه إليه سالما فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم اخبرتم اباكم انه اكله الذئب. " فلن ابرح الارض " أي فإذا كان الشأن هذا الشان لن اتنحى ولن افارق ارض
[ 229 ]
مصر حتى يأذن لى ابى برفعه اليد عن الموثق الذى واثقته به أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين فيجعل لى طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التى سدت لى كل باب وذلك اما بخلاص اخى من يد العزيز من طريق لا احتسبه أو بموتى أو بغير ذلك من سبيل ! ! اما انا فأختار البقاء ههنا واما انتم فارجعوا إلى ابيكم إلى آخر ما ذكر في الايتين التاليتين. قوله تعالى: " ارجعوا إلى ابيكم وقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين " قيل المراد بقوله: " وما شهدنا الا بما علمنا " انا لم نشهد في شهادتنا هذه ان ابنك سرق الا بما علمنا من سرقته وقيل المراد ما شهدنا عند العزيز ان السارق يؤخذ بسرقته ويسترق الا بما علمنا من حكم المسالة قيل وانما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب ما يدرى الرجل ان السارق يؤخذ بسرقته ويسترق ؟ وانما علم ذلك بقولكم واقرب المعنيين إلى السياق أو لهما. وقوله: " وما كنا للغيب حافظين " قيل أي لم نكن نعلم ان ابنك سيسرق فيؤخذ
ويسترق وانما كنا نعتمد على ظاهر الحال ولو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا ولا اقدمنا على الميثاق. والحق ان المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها ومعنى الاية ان ابنك سرق وما شهدنا في جزاء السرقة الا بما علمنا وما كنا نعلم انه سرق السقاية وانه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك قوله تعالى: " واسأل القرية التى كنا فيها والعير التى اقبلنا فيها وانا لصادقون " أي واسال جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك ادنى ريب في انا لم نفرط في امره بل انه سرق فاسترق. فالمراد بالقرية التى كانوا فيها بلدة مصر على الظاهر وبالعير التى اقبلوا فيها القافلة التى كانوا فيها وكان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر والرجوع منها ثم اقبلوا مصاحبين لهم ولذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم وانا لصادقون أي فيما نخبرك من سرقته واسترقاقه لذلك ونكلفك السؤال لازالة الريب من نفسك
[ 230 ]
* * * قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل عسى الله ان ياتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم 83 وتولى عنهم وقال يا اسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم - 84. قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين - 85. قال انما اشكوا بثى وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون - 86 يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون - 87 فلما دخلوا عليه قالوا يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف
لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين - 88 قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه إذ انتم جاهلون - 89 قالواء إنك لانت يوسف قال انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين - 90 قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين - 91 قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
[ 231 ]
وهو ارحم الراحمين - 92 (بيان) الايات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر واخبارهم اياه خبر اخى يوسف وامره برجوعهم ثالثا إلى مصر وتحسسهم من يوسف واخيه إلى ان عرفهم يوسف (ع) نفسه. قوله تعالى: " قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل عسى الله ان يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " في المقام حذف كثير يدل عليه قوله ارجعوا إلى ابيكم فقولوا إلى آخر الايتين والتقدير ولما رجعوا إلى ابيهم وقالوا ما وصاهم به كبيرهم قال ابوهم بل سولت لكم انفسكم امرا الخ. وقوله " قال بل سولت لكم انفسكم امرا حكاية ما اجابهم به يعقوب (ع) ولم يقل (ع) هذا القول تكذيبا لهم فيما اخبروه به وحاشاه ان يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق وتصاحبه شواهد يمكن اختباره بها ولا رماهم بقوله بل سولت لكم انفسكم امر ارميا بالمظنة بل ليس الا انه وجد بفراسة الهية ان هذه الواقعة ترتبط وتتفرع على تسويل نفساني منهم اجمالا وكذلك كان الامر فان الواقعة من اذناب واقعة يوسف وكانت واقعته من تسويل نفساني منهم. ومن هنا يظهر انه (ع) لم ينسب إلى تسويل انفسهم عدم رجوع اخى يوسف
فحسب بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذى توقف بمصر ولم يرجع إليه ويشهد لذلك قوله " عسى الله ان يأتيني بهم جميعا " فجمع في ذلك بين يوسف واخيه وكبير الاخوة فلم يذكر اخا يوسف وحده ولا يوسف واخاه معا فظاهر السياق ان ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبنى على صبره الجميل قبال ما سولت لهم انفسهم امرا. فالمعنى والله اعلم ان هذه الواقعة مما سولت لكم انفسكم كما قلت ذلك في
[ 232 ]
واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل انفسكم عسى الله ان ياتيني بابنائى الثلاثة جميعا. ومن هنا يظهر ان قولهم ان المعنى ما عندي ان الامر على ما تصفونه بل سولت لكم انفسكم امرا فيما اظن ليس في محله. وقوله " عسى الله ان يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم " ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الاشارة إلى ان يوسف حى لم يمت على ما يراه وليس مشربا معنى الدعاء ولو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله انه هو العليم الحكيم بل بمثل قولنا انه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الادعية المنقولة في القرآن الكريم. بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول ان واقعة يوسف السابقة وهذه الواقعة التى اخذت منى ابنين آخرين انما هما لامر ما سولته لكم انفسكم فسا صبر صبرا وارجو به ان ياتيني الله بابنائى جميعا ويتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه انه هو العليم بمورد الاجتباء واتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الامور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغى للانسان ان يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع ولا ان ييأس من روحه ورحمته. والاسمان العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (ع) لاول مرة اول رؤياه فقال ان ربك عليم حكيم ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (ع) ثانيا حيث رفع ابويه على العرش وخروا له سجدا فقال يا ابت هذا تأويل رؤياي إلى ان
قال وهو العليم الحكيم. قوله تعالى: " وتولى عنهم وقال يا اسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " قال الراغب في المفردات الاسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل واحد منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا إلى ان قال وقوله تعالى: " فلما آسفونا " انتقمنا منهم أي اغضبونا قال أبو عبد الله (1) الرضا: ان الله لا ياسف كأسفنا ولكن له اولياء ياسفون ويرضون - فجعل رضاهم رضاه وغضبهم
(1) كذا في النسخة المنقولة عنها والصحيح أبو الحسن. (*)
[ 233 ]
غضبه قال وعلى ذلك قال - من اهان لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة انتهى. وقال الكظم مخرج النفس يقال اخذ بكظمه والكظوم احتباس النفس ويعبر به عن السكوت كقولهم فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت وكظم فلان حبس نفسه قال تعالى: " إذ نادى وهو مكظوم " وكظم الغيظ حبسه قال تعالى: " والكاظمين الغيظ " ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وكظم السقاء شدة بعد ملئه مانعا لنفسه انتهى. وقوله " وابيضت عيناه من الحزن " ابيضاض العين أي سوادها هو العمى وبطلان الابصار وربما يجامع قليل ابصار لكن قوله الاتى: " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه ابى يأت بصيرا " الاية: 93 من السورة يشهد بانه كناية عن ذهاب البصر. ومعنى الاية ثم تولى واعرض يعقوب (ع) عنهم أي عن ابنائه بعد ما خاطبهم بقوله بل سولت لكم انفسكم امرا وقال يا اسفى ويا حزني على يوسف وابيضت عيناه وذهب بصره من الحزن على يوسف فهو كظيم حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشئ. قوله تعالى: " قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من
الهالكين " الحرض والحارض المشرف على الهلاك وقيل هو الذى لا ميت فينسى ولا حى فيرجى والمعنى الاول انسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك والحرض لا يثنى ولا يجمع لانه مصدر. والمعنى نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف وتديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك وظاهر قولهم هذا انهم انما قالوه رقة بحاله ورأفة به ولعلهم انما تفوهوا به تبر ما ببكائه وسأمة من طول نياحه ليوسف وخاصة من جهة انه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من امر يوسف وكان ظاهر بكائه وتأسفه انه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: " انما اشكوا " الخ. قوله تعالى: " قال انما اشكوا بثى وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون " قال في المجمع البث الهم الذى لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه وكل شئ فرقته فقد بثثته ومنه قوله: " وبث فيها من كل دابة انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.
[ 234 ]
والحصر الذى في قوله انما اشكوا الخ من قصر القلب فيكون مفاده انى لست اشكو بثى وحزني اليكم معاشر ولدى واهلى ولو كنت اشكوه اليكم لا نقطع في اقل زمان كما يجرى عليه دأب الناس في بثهم وحزنهم عند المصائب وانما اشكو بثى وحزني إلى الله سبحانه ولا ياخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده ويبرمه ارباب الحوائج ويلحون عليه واعلم من الله ما لا تعلمون فلست ايأس من روحه ولا اقنط من رحمته. وفى قوله " واعلم من الله ما لا تعلمون " اشارة اجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه الا ما يساعد على فهمه المقام كما اشرنا إليه. قوله تعالى: " يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون " قال في المجمع التحسس بالحاء طلب الشئ بالحاسة والتجسس بالجيم نظيره وفي الحديث: لا تحسسوا ولا تجسسوا وقيل
ان معناهما واحد ونسق احدهما على الاخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر " متى ادن " منه ينأ عنه ويبعد. وقيل التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء الاستماع لحديث قوم وسئل ابن عباس عن الفرق بينهما ؟ قال: لا يبعد احدهما عن الاخر التحسس في الخير والتجسس في الشر انتهى. وقوله " ولا تيأسوا من روح الله " الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب ويكنى به عن الحالة التى هي ضد التعب وهى الراحة وذلك ان الشدة التى فيها انقطاع الاسباب وانسداد طرق النجاة تتصور اختناقا وكظما للانسان وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفسا وروحا لقولهم يفرج الهم وينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة باذن الله ومشيته وعلى من يؤمن بالله ان يعتقد ان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا قاهر لمشيته ولا معقب لحكمه وليس له ان ييأس من روح الله ويقنط من رحمته فانه تحديد لقدرته وفي معنى الكفر باحاطته وسعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (ع) " انه لا يياس من روح الله الا القوم الكافرون " وقال حاكيا عن لسان ابراهيم (ع) " ومن يقنط من رحمه ربه الا الضالون " الحجر: 56 وقد عد اليأس من روح الله في الاخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.
[ 235 ]
ومعنى الاية ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم " يا بنى اذهبوا فتحسسوا " من يوسف واخيه " الذى اخذ بمصر وابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما ولا تياسوا من روح الله والفرج الذى يرزقه الله بعد الشدة " انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون " الذين لا يؤمنون بان الله يقدر ان يكشف كل غمة وينفس عن كل كربة قوله تعالى: " فلما دخلوا عليه قالوا يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة " الخ البضاعة المزجاة المتاع القليل وفي الكلام حذف والتقدير فساروا بنى يعقوب
إلى مصر ولما دخلوا على يوسف قالوا الخ. كانت لهم على ما يدل عليه السياق حاجتان إلى العزيز ولا مطمع لهم بحسب ظاهر الاسباب إلى قضائهما واستجابته عليهم فيهما. احداهما ان يبيع منهم الطعام ولا ثمن عندهم يفى بما يريدونه من الطعام على انهم عرفوا بالكذب وسجل عليهم السرقة من قبل وهان امرهم على العزيز لا يرجى منه ان يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الاولى. وثانيتهما ان يخلى عن سبيل اخيهم المأخوذ بالسرقة وقد استيأسوا منه بعد ما كانوا الحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ احدهم مكانه. ولذلك لما حضروا عند يوسف العزيز وكلموه وهم يريدون اخذ الطعام واعتاق اخيهم اوقفوا انفسهم موقف التذلل والخضوع وبالغوا في رقة الكلام استرحاما واستعطافا فذكروا أو لا ما مسهم واهلهم من الضر وسوء الحال ثم ذكروا قلة ما اتوا به من البضاعة ثم سألوه ايفاء الكيل واما حديث اخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه ان يتصدق عليهم وانما يتصدق بالمال والطعام مال واخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا ثم حرضوه بقولهم: " ان الله يجزى المتصدقين " وهو في معنى الدعاء. فمعنى الاية يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر واحاط بنا جميعا المضيقة وسوء الحال وجئنا اليك ببضاعة مزجاة ومتاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير انه نهاية ما في وسعنا فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وكأنهم يريدون به اخاهم أو اياه والطعام ان الله يجزى المتصدقين خيرا.
[ 236 ]
وقد بدؤا القول بخطاب " يا ايها العزيز " وختموه بما في معنى الدعاء واتوا خلاله بذكر سوء حالهم والاعتراف بقلة بضاعتهم وسؤاله ان يتصدق عليهم وهو من امر السؤال والموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته وهم عصبة قد اصطفوا امام
عزيز مصر. وعند ذلك تمت الكلمة الالهية انه سيرفع يوسف واخاه ويضع عنده سائر بنى يعقوب لظلمهم ولذلك لم يلبث يوسف (ع) دون ان اجابهم بقوله " هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه " وعرفهم نفسه وقد كان يمكنه (ع) ان يخبر اباه واخوته مكانه وانه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء ان يوقف اخوته امامه ومعه اخوه المحسود موقف المذلة والمسكنة وهو متك على اريكه العزة. قوله تعالى قال: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه إذ انتم جاهلون " انما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت وأتدرى وأرايت ونحوها وهو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله ووبال ذنبه لكنه (ع) اعقب استفهامه بقوله " إذ انتم جاهلون " وفيه تلقين عذر. فقوله " هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه " مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ ومؤاخذة ليعرفهم من الله عليه وعلى اخيه وهذا من عجيب فتوة يوسف (ع) ويا لها من فتوة. قوله تعالى: " قالواء انك لانت يوسف قال انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا " إلى آخر الاية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على ان الشواهد القطعية قامت على تحقق مضمونها وانما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب. وقد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو اخاهم يوسف ولذلك سألوه بقولهم " ء إنك لانت يوسف " مؤكدا بان واللام وضمير الفصل فأجابهم بقوله انا يوسف وهذا اخى " وانما الحق اخاه بنفسه ولم يسالوا عنه وما كانوا يجهلونه ليخبر عن من الله عليهما وهما معا المحسودان ولذا قال " قد من الله علينا ". ثم اخبر عن سبب المن الالهى بحسب ظاهر الاسباب فقال " انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " وفيه دعوتهم إلى الاحسان وبيان انه يتحقق بالتقوى
[ 237 ]
والصبر. قوله تعالى: " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين " الايثار هو الاختيار والتفضيل والخطأ ضد الصواب والخاطئ والمخطئ من خطا خطا واخطا اخطاء بمعنى واحد ومعنى الاية ظاهر وفيها اعترافهم بالخطأ وتفضيل الله يوسف عليهم. قوله تعالى: " قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين " التثريب التوبيخ والمبالغة في اللوم وتعديد الذنوب وانما قيد نفى التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحه واغماضه عن الانتقام منهم والظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اوتى النبوة والحكم وعلم الاحاديث ومعه اخوه وهم اذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة وان الله آثره عليهم بالرغم من قولهم اول يوم " ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفى ضلال مبين ". ثم دعا لهم واستغفر بقوله " يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين " وهذا دعاء واستغفار منه لاخوته الذين ظلموه جميعا وان كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الاتى " قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " وسيجئ ان شاء الله تعالى. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن ابى بصير قال سمعت ابا جعفر (ع) يحدث قال: لما فقد يعقوب يوسف (ع) اشتد حزنه عليه وبكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن واحتاج حاجة شديدة وتغيرت حالته وكان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين للشتاء والصيف وانه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت. فلما دخلوا على يوسف وذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف ولم يعرفه اخوته لهيبة الملك وعزته فقال لهم هلموا بضاعتكم قبل الرفاق وقال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل واو فهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم ولا تعلموهم بذلك ففعلوا
ثم قال لهم يوسف قد بلغني انه قد كان لكم اخوان من ابيكم فما فعلا ؟ قالوا اما
[ 238 ]
الكبير منهما فان الذئب اكله واما الصغير فخلفناه عند ابيه وهو به ضنين وعليه شفيق قال فانى احب ان تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فان لم تاتونى به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه اباه وانا لفاعلون. فلما رجعوا إلى ابيهم وفتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا يا ابانا ما نبغى ؟ هذه بضاعتنا ردت الينا وكيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فارسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على اخيه من قبل. فلما احتاجوا بعد ستة اشهر بعثهم يعقوب وبعث معهم بضاعة يسيرة وبعث معهم ابن يامين واخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم اجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال هل معكم ابن يامين ؟ قالوا نعم هو في الرحل قال لهم فأتوني به وهو في دار الملك قد خلا وحده فادخلوه عليه فضمه إليه وبكى وقال له انا اخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني اعمل واكتم ما اخبرتك به ولا تحزن ولا تخف. ثم اخرجه إليهم وامر فتيانه ان ياخذوا بضاعتهم ويعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك وارتحل القوم مع الرفقة فمضوا - فلحقهم يوسف وفتيته فنادوا فيهم قال ايتها العير انكم لسارقون قالوا واقبلوا عليهم ماذا تفقدون ؟ قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين ؟ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. قال فبدء بأوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل فقال لهم يوسف ارتحلوا عن بلادنا قالوا يا ايها العزيز ان له
ابا شيخا كبيرا وقد اخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ احدنا مكانه انا نراك من المحسنين ان فعلت قال معاذ الله ان ناخذ الا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم انى لست ابرح الارض حتى ياذن لى ابى أو يحكم الله لى. ومضى اخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم فأين ابن يامين ؟ قالوا ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل اهل القرية والعير حتى يخبروك بذلك فاسترجع واستعبر واشتد حزنه حتى تقوس ظهره
[ 239 ]
وفيه عن ابى حمزة الثمالى عن ابى جعفر (ع) قال سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذى يشرب فيه. اقول وفي بعض الروايات انه كان قدحا من ذهب وكان يكتال به يوسف (ع). وفيه عن ابى بصير عن ابى جعفر (ع) وفي نسخة عن ابى عبد الله (ع) قال: قيل له وانا عنده ان سالم بن حفصة روى عنك انك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج قال ما يريد سالم منى ؟ أ يريد ان اجئ بالملائكة فو الله ما جاء بهم النبيون ولقد قال ابراهيم انى سقيم ووالله ما كان سقيما وما كذب ولقد قال ابراهيم بل فعله كبيرهم وما فعله كبيرهم وما كذب ولقد قال يوسف ايتها العير انكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا وما كذب وفيه عن رجل من اصحابنا عن ابى عبد الله (ع) قال: سالت عن قول الله في يوسف " ايتها العير انكم لسارقون " قال انهم سرقوا يوسف من ابيه ألا ترى انه قال لهم حين قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون ؟ قالوا نفقد صواع الملك ولم يقولوا سرقتم صواع الملك انما عنى انكم سرقتم يوسف من ابيه وفي الكافي باسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لابي عبد الله (ع) انا قد روينا عن ابى جعفر (ع) في قول يوسف - " ايتها العير انكم لسارقون " فقال والله
ما سرقوا وما كذب وقال ابراهيم بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون فقال والله ما فعل وما كذب. قال فقال أبو عبد الله (ع) ما عندكم فيها يا صيقل ؟ قلت ما عندنا فيها الا التسليم قال فقال ان الله احب اثنين وابغض اثنين احب الخطو فيما بين الصفين واحب الكذب في الاصلاح - وابغض الخطو في الطرقات وابغض الكذب في غير الاصلاح ان ابراهيم انما قال بل فعله كبيرهم ارادة الاصلاح ودلالة على انهم لا يفعلون وقال يوسف ارادة الاصلاح. اقول قوله (ع) انه اراد الاصلاح لا ينافى ما في الرواية السابقة انه اراد به سرقهم يوسف من ابيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب والدليل على ذلك قوله
[ 240 ]
(ع) انه اراد الاصلاح ودل على انهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين وللفظ بحسب احدهما وهو الثاني مطابق دون الاخر فافهمه وارجع إلى ما قدمناه في البيان. وفى معنى الاحاديث الثلاثة الاخيرة اخبار اخر مروية في الكافي والمعاني وتفسيري العياشي والقمى. وفي تفسير العياشي عن اسماعيل بن همام قال: قال الرضا (ع): في قول الله تعالى: " ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم " قال كان لاسحاق النبي منطقة يتوارثها الانبياء والاكابر وكانت عند عمة يوسف وكان يوسف عندها وكانت تحبه فبعث إليه ابوه ان ابعثه إلى وارده اليك فبعثت إليه ان دعه عندي الليلة لا شمه ثم ارسله اليك غدوة فلما اصبحت اخذت المنطقة فربطها في حقوه والبسته قميصا فبعثت به إليه وقالت سرقت المنطقة فوجدت عليه وكان إذا سرق احد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فاخذته فكان عندها
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في قوله " ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل " قال سرق يوسف (ع) صنما لجده ابى امه من ذهب وفضة فكسره والقاه في الطريق فعيره بذلك اخوته. اقول والرواية السابقة اقرب إلى الاعتماد وقد رويت بطرق اخرى عن ائمة اهل البيت (ع) ويؤيدها ما روى بغير واحد من طرق اهل البيت وطرق غيرهم: ان السجان قال ليوسف انى لاحبك فقال لا تحبنى فان عمتى احبتني فنسبت إلى السرقة وابى احبني فحسدني اخوتى والقونى في الجب وامرأة العزيز احبتني فألقوني في السجن وفي الكافي باسناده عن ابن ابى عمير عمن ذكره عن ابى عبد الله (ع): في قول الله عزوجل " انا نراك من المحسنين " قال كان يوسف يوسع المجلس ويستقرض المحتاج ويعين الضعيف وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لابي جعفر (ع) ما الصبر الجميل ؟ قال ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى احد من
[ 241 ]
الناس ان ابراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه الراهب حسبه ابراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثم قال مرحبا بخليل الرحمان فقال له يعقوب لست بخليل الرحمان ولكن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم قال له الراهب فما الذى بلغ بك ما ارى من الكبر ؟ قال الهم والحزن والسقم. قال فما جاز عتبة الباب حتى اوحى الله إليه يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول رب لا اعود فأوحى الله إليه انى قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما اصابه من نوائب الدنيا الا انه قال يوما " انما اشكوا بثى وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون "
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من بث لم يصبر ثم قرء " انما اشكوا بثى وحزني إلى الله " اقول ورواه ايضا عن ابن عدى والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي الكافي باسناده عن حنان بن سدير عن ابى جعفر (ع) قال: قلت له اخبرني عن قول يعقوب لبنيه " اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه " انه كان يعلم انه حى وقد فارقهم منذ عشرين سنة ؟ قال نعم قلت كيف علم ؟ قال انه دعا في السحر وقد سأل الله ان يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال وهو ملك الموت فقال له تربال ما حاجتك يا يعقوب ؟ قال اخبرني عن الارواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة ؟ فقال بل اقبضها متفرقة روحا روحا قال فمر بك روح يوسف ؟ قال لا فعند ذلك علم انه حى فعند ذلك قال لولده " اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه ". اقول ورواه في المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن ابيه عنه (ع) وفيه قال يعنى يعقوب لملك الموت اخبرني عن الارواح تقبضها جملة أو تفاريق ؟ قال يقبضها اعواني متفرقة وتعرض علي مجتمعة قال فاسألك بإله ابراهيم واسحاق ويعقوب هل عرض عليك في الارواح روح يوسف ؟ قال لا فعند ذلك علم انه حى وفي الدر المنثور اخرج اسحاق بن راهويه في تفسيره وابن ابى الدنيا في كتاب
[ 242 ]
الفرج بعد الشدة وابن ابى حاتم والطبراني في الاوسط وابو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: اتى جبريل فقال يا يعقوب ان الله يقرؤك السلام ويقول لك - ابشر وليفرح قلبك فو عزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فان احب عبادي الي الانبياء والمساكين وتدرى لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع اخوة يوسف به ما صنعوا ؟ انكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين وهو صائم فلم تطعموه منه شيئا.
فكان يعقوب (ع) إذا اراد الغداء امر مناديا ينادى الا من اراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائما امر مناديا فنادى الا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب وفي المجمع: في قوله تعالى: " فالله خير حافظا " الاية: ورد في الخبر: ان الله سبحانه قال فبعزتي لاردنهما اليك من بعد ما توكلت علي * * * اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه ابى يأت بصيرا واتونى باهلكم اجمعين - 93. ولما فصلت العير قال ابوهم انى لاجد ريح يوسف لو لا ان تفندون - 94. قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم - 95. فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم اقل لكم انى اعلم من الله ما لا تعلمون - 96 قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين - 97 قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور الرحيم - 98 فلما دخلوا على يوسف آوى إليه ابويه وقال ادخلوا مصر
[ 243 ]
ان شاء الله آمنين - 99 ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد احسن بى إذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بينى وبين اخوتى ان ربى لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم - 100 - رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السموات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة توفنى مسلما والحقني بالصالحين - 101 ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ اجمعوا امرهم وهم يمكرون - 102 (بيان) ختام قصة يوسف (ع) وتتضمن الايات امر يوسف اخوته بحمل قميصه إلى ابيه
واتيانهم إليه باهلهم اجمعين ثم دخولهم مصر ولقاؤه ابويه. قوله تعالى: " اذهبوا بقميصي هذا والقوه على وجه ابى يات بصيرا واتونى باهلكم اجمعين " تتمة كلام يوسف (ع) يامر فيه اخوته ان يذهبوا بقميصه إلى ابيه فيلقوه على وجهه ليشفى الله به عينيه وياتى بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريرا لا يبصر.
[ 244 ]
وهذا آخر العنايات البديعة التى اظهرها الله سبحانه في حق يوسف (ع) على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الاسباب فحولها إلى خلاف الجهة التى كانت تجرى إليها حسده اخوته فاستذلوه وغربوه عن مستقره بالقائه في الجب وبيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في اكرم مثوى ثم اقره في اريكة عزة تضرع إليه امامها اخوته بقولهم " يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزى المتصدقين ". ثم احبته امراة العزيز ونسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله وجعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته وكمال عفته ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته وملكه. وجاء اخوته إلى ابيه يوم القوة في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فاخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن ابيه وبكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه وذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه وبالجملة اجتمعت الاسباب على خفضه واراد الله سبحانه رفعه فكان ما اراده الله دون الذى توجهت إليه الاسباب والله غالب على امره. وقوله " وآتوني باهلكم اجمعين " امر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب واهله وبنيه وذراريه جميعا من البدو إلى مصر ونزولهم بها. قوله تعالى: " ولما فصلت العير قال ابوهم انى لاجد ريح يوسف لو لا ان تفندون "
الفصل القطع والانقطاع والتفنيد تفعيل من الفند بفتحتين وهو ضعف الراى والمعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها قال ابوهم يعقوب لمن عنده من بنيه انى لاجد ريح يوسف لو لا ان ترمونى بضعف الراى أي انى لا حس بريحه وارى ان اللقاء قريب ومن حقه ان تذعنوا بما اجده لو لا ان تخطئونى لكن من المحتمل ان تفندونى فلا تذعنوا بقولى. قوله تعالى: " قالوا تالله انك لفى ضلالك القديم " القديم مقابل الجديد والمراد به المتقدم وجودا وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده وهو من سئ حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا " ان ابانا لفى ضلال مبين " وفي ختمها وهو قولهم هذا " تالله انك لفى ضلالك القديم. " والظاهر ان مرادهم بالضلال ههنا هو مرادهم بالضلال هناك وهو المبالغة في حب
[ 245 ]
يوسف وذلك انهم كانوا يرون انهم احق بالحب من يوسف وهم عصبة إليهم تدبير بيته والدفاع عنه لكن اباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة وقدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فاقبل بكله اليهما ونسيهم ثم لما فقد يوسف جزع له ولم يزل يجزع ويبكى حتى ذهبت عيناه وتقوس ظهره. فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين. اما أو لا فلان ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على انهم كانوا موحدين على دين آبائهم ابراهيم واسحاق ويعقوب (ع). واما ثانيا فلان المقام ههنا وكذا في بدء القصة حين قالوا ان ابانا لفى ضلال مبين لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم اباهم فيه وانما يمس امرا عمليا حيويا وهو حب اب لبعض اولاده وتقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعني بالضلال.
قوله تعالى: " فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم اقل لكم انى اعلم من الله ما لا تعلمون " البشير حامل البشارة وكان حامل القميص وقوله " ألم اقل لكم انى اعلم " يشير (ع) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف " انما اشكوا بثى وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون " ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين " القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم يا ابانا ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في امر يوسف واخيه واما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل. قوله تعالى: " قال سوف استغفر لكم ربى انه هو الغفور الرحيم " اخر (ع) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله سوف استغفر لكم ربى ولعله انما اخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم وفى بعض الاخبار انه اخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء وسيجئ ان شاء الله. قوله تعالى: " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه ابويه وقال ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين " في الكلام حذف والتقدير فخرج يعقوب وآله من ارضهم وساروا إلى مصر ولما دخلوا الخ
[ 246 ]
وقوله " آوى إليه ابويه " فسروه بضمهما إليه وقوله وقال ادخلوا مصر الخ ظاهر في ان يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر اكراما وتأدبا وقد ابدع (ع) في قوله " ان شاء الله آمنين " حيث اعطاهم الامن واصدر لهم حكمه على سنة الملوك وقيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على ان المشية الانسانية لا تؤثر اثرها كسائر الاسباب الا إذا وافقت المشية الالهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص وظاهر هذا السياق انه لم يكن لهم الدخول والاستقرار في مصر الا بجواز من ناحية الملك ولذا اعطاهم الا من في مبتدء الامر.
وقد ذكر سبحانه ابويه والمفسرون مختلفون في انهما كانا والديه اباه وامه حقيقة أو انهما يعقوب وزوجه خالة يوسف بالبناء على ان امه ماتت وهو صغير ولا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد احد المحتملين غير ان الظاهر من الابوين هما الحقيقيان. ومعنى الاية ولما دخلوا أي ابواه واخوته واهلهم على يوسف وذلك في خارج مصر آوى وضم إليه ابويه وقال لهم مؤمنا لهم ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين. قوله تعالى: " ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا ابت هذا تأويل رؤياي " إلى آخر الاية العرش هو السرير العالي ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك ويختص به والخرور السقوط على الارض والبدو البادية فان يعقوب كان يسكن البادية. وقوله ورفع ابويه على العرش أي رفع يوسف ابويه على عرش الملك الذى كان يجلس عليه ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق انهما رفعا على العرش بامر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله وخروا له سجدا فان الظاهر ان السجدة انما وقعت لاول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت واطمان بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الالهى المتلالئ من جماله البديع فلم يملكوا انفسهم دون ان خروا له سجدا. وقوله وخروا له سجدا الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له وقول بعضهم ان الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ وقد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم والملائكة قال تعالى
[ 247 ]
: " واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس " طه: 116. والدليل على انها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف ان بين هؤلاء الساجدين يعقوب (ع) وهو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا بالفتح لله لا يشرك به شيئا ويوسف (ع) وهو المسجود له منهم بنص القرآن وهو القائل لصاحبيه في السجن
ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ ولم يردعهم. فليس الا انهم انما اخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم وعبدوا الله بها لا غير كالكعبة التى تؤخذ قبلة فيصلى إليها فيعبد بها الله دون الكعبة ومن المعلوم ان الاية من حيث انها آية لا نفسية لها اصلا فليس المعبود عندها الا الله سبحانه وتعالى وقد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من اجزاء الكتاب. ومن هنا يظهر ان ما ذكروه في توجيه الاية كقول بعضهم ان تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما انها في الاسلام السلام وقول بعضهم ان سنة التعظيم كانت إذ ذاك السجدة ولم ينه عنها لغير الله بعد كما في الاسلام وقول بعضهم كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الا عاجم كل ذلك غير وجيه. قوله تعالى: " قال يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا " إلى آخر الاية لما شاهد (ع) سجدة ابويه واخوته الاحد عشر ذكر الرؤيا التى راى فيها احد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين واخبر بها اباه وهو صغير فأولها له فاشار إلى سجودهم له وقال " يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها أي الرؤيا ربى حقا ". ثم اثنى على ربه شاكرا له فقال " وقد احسن بى إذ اخرجني من السجن " فذكر احسان ربه به في اخراجه من السجن وهو ضراء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء ونعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة والملك. ولم يذكر اخراجه من الجب قبل ذلك لحضور اخوته عنده وكان لا يريد ان يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما وفتوة بل اشار إلى ذلك باحسن لفظ يمكن ان يشار به إليه من غير ان يتضمن طعنا فيهم وشنآنا فقال " وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بينى وبين اخوتى " والنزغ هو الدخول في امر لافساده.
[ 248 ]
والمراد وقد احسن بى من بعد ان افسد الشيطان بينى وبين اخوتى فكان من الامر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بينى وبينكم فساقنى ربى إلى مصر فأقرنى في ارغد عيش وارفع عزة وملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية الي في دار المدنية والحضارة. يعنى انه كانت نوائب نزلت بى اثر افساد الشيطان بينى وبين اخوتى ومما اخصه بالذكر من بينها فراق بينى وبينكم ثم رزية السجن فاحسن بى ربى ودفعها عنى واحدة بعد اخرى ولم يكن من المحن والحوادث العادية بل رزايا صماء وعقودا لا تنحل لكن ربى نفذ فيها بلطفه ونفوذ قدرته فبدلها اسباب حياة ونعمة بعد ما كانت اسباب هلاك وشقاء ولهذه الثلاثة الا خيرة عقب قوله " وقد احسن بى " الخ بقوله ان ربى لطيف لما يشاء. فقوله ان ربى لطيف لما يشاء تعليل لا خراجه من السجن ومجيئهم من البدو ويشير به إلى ما خصه الله به من العناية والمنة وان البلايا التى احاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء وراحة واسباب الذلة والرقية وسائل عزة وملك. واللطيف من اسمائه تعالى يدل على حضوره واحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه والاحاطة به من باطن الاشياء وهو من فروع احاطته تعالى بنفوذ القدرة والعلم قال تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " الملك: 14 والاصل في معناه الصغر والدقة والنفوذ يقال لطف الشئ بالضم يلطف لطافة إذا صغر ودق حتى نفذ في المجاري والثقب الصغار ويكنى به عن الارفاق والملاءمة والاسم اللطف. وقوله " وهو العليم الحكيم تعليل لجميع ما تقدم من قوله " يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا " الخ وقد علل (ع) الكلام وختمه بهذين الاسمين محاذاة لابيه حيث تكلم في رؤياه وقال " وكذلك يجتبيك ربك إلى ان قال إن ربك عليم حكيم " وليس يبعد ان يفيد اللام في قوله العليم الحكيم معنى العهد
فيفيد تصديقه لقول ابيه (ع) والمعنى وهو ذاك العليم الحكيم الذى وصفته لى يوم اولت رؤياي. قوله تعالى: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث " إلى آخر
[ 249 ]
الاية لما اثنى (ع) على ربه وعد ما دفع عنه من الشدائد والنوائب اراد ان يذكر ما خصه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبة الالهية وانقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب ابيه وانصرف عنه وعن غيره ملتفتا إلى ربه وخاطب ربه عز اسمه فقال " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث. " وقوله فاطر السموات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة " اضراب وترق في الثناء ورجوع منه (ع) إلى ذكر اصل الولاية الالهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجليلة كاخراجه من السجن والمجئ باهله من البدو وايتائه من الملك وتعليمه من تأويل الاحاديث فان الله سبحانه رب فيما دق وجل معا ولى في الدنيا والاخرة جميعا. وولايته تعالى اعني كونه قائما كل شئ في ذاته وصفاته وافعاله منشأها ايجاده تعالى اياها جميعا واظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السموات والارض ولذا يتوجه إليه تعالى قلوب اوليائه والمخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذى يفيد وجوده تعالى لذاته وايجاده لغيره قال تعالى: " قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السموات والارض " ابراهيم: 10. ولذا بدء به يوسف (ع) وهو من المخلصين في ذكر ولايته فقال " فاطر السموات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة " أي انى تحت ولايتك التامة من غير ان يكون لى صنع في نفسي واستقلال في ذاتي وصفاتي وافعالي أو املك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور. وقوله: " توفنى مسلما والحقني بالصالحين " لما استغرق (ع) في مقام الذلة قبال رب العزة وشهد بولايته له في الدنيا والاخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه ان يجعله كما
يستدعيه ولايته عليه في الدنيا والاخرة وهو الاسلام ما دام حيا في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الاخرة فان كمال العبد المملوك ان يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا ولا يظهر منه ما يكرهه ولا يرتضيه فيما يرجع إليه من الاعمال الاختيارية وان يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد واختياره وهو سؤاله (ع) الاسلام في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الاخرة وهو الذى منحه الله سبحانه لجده ابراهيم (ع): " ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين
[ 250 ]
إذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين " البقرة: 131. وهذا الاسلام الذى سأله (ع) اقصى درجات الاسلام واعلى مراتبه وهو التسليم المحض لله سبحانه وهو ان لا يرى العبد لنفسه ولا لاثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شئ من نفسه ولا صفاتها ولا اعمالها من ربه وإذا نسب إليه تعالى كان اخلاصه عبده لنفسه. ومما تقدم يظهر ان قوله توفنى مسلما سؤال منه لبقاء الاخلاص واستمرار الاسلام ما دام حيا وبعبارة اخرى ان يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن ان يثبته الله على الاسلام حتى يموت وليس يراد به ان يموت في حال الاسلام ولو لم يكن قبل ذلك مسلما ولا سؤالا للموت وهو مسلم حتى يكون المعنى انى مسلم فتوفنى. ويتبين بذلك فساد ما روى عن عدة من قد ماء المفسرين ان قوله " توفنى مسلما " دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم لم يسال احد من الانبياء الموت من الله ولا تمناه الا يوسف (ع). قوله تعالى: " ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ اجمعوا امرهم وهم يمكرون الاشارة إلى نبأ يوسف (ع) والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وضمير الجمع لاخوة يوسف والاجماع العزم والارادة.
وقوله وما كنت لديهم الخ حال من ضمير الخطاب من اليك وقوله: " نوحيه اليك وما كنت " إلى آخر الاية بيان لقوله ذلك من انباء الغيب والمعنى ان نبأ يوسف من انباء الغيب فانا نوحيه اليك والحال انك ما كنت عند اخوة يوسف إذ عزموا على امرهم وهم يمكرون في امر يوسف (بحث روائي) في تفسير العياشي عن ابى بصير عن ابى جعفر (ع) في حديث طويل قال: قال يوسف لاخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا بقميصي هذا " الذى
[ 251 ]
بلته دموع عينى فألقوه على وجه ابى يأت بصيرا لو قد نشر ريحى واتونى باهلكم اجمعين وردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم وجهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده انى لاجد ريح يوسف لو لا ان تفندون. قال واقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا وسرورا بما رأوا من حال يوسف والملك الذى آتاه الله والعز الذى صاروا إليه في سلطان يوسف وكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة ايام فلما ان جاء البشير القى القميص على وجهه فارتد بصيرا وقال لهم ما فعل ابن يامين ؟ قالوا خلفناه عند اخيه صالحا. قال فحمد الله يعقوب عند ذلك وسجد لربه سجدة الشكر ورجع إليه بصره وتقوم له ظهره وقال لولده تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا باجمعكم فساروا إلى يوسف ومعهم يعقوب وخالة يوسف ياميل فأحثوا السير فرحا وسرورا فساروا تسعة ايام إلى مصر. اقول كون امراة يعقوب التى سارت معه إلى مصر وهى ام بنيامين خالة يوسف لا امه الحقيقية وقعت في عدة الروايات وظاهر الكتاب وبعض الروايات انها كانت ام
يوسف وانه وبنيامين كانا اخوين لام وان لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات. وفي المجمع عن ابى عبد الله (ع): في قول الله عزوجل: " ولما فصلت العير قال ابوهم انى لاجد ريح يوسف لو لا ان تفندون " قال وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر وهو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال. اقول وقد ورد في عدة روايات من طرق العامة والخاصة ان القميص الذى ارسله يوسف إلى يعقوب (ع) كان نازلا من الجنة وانه كان قميص ابراهيم انزله إليه جبريل حين القى في النار فالبسه اياه فكانت عليه بردا وسلاما ثم اورثه اسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة وعلقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى اخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب وهذه اخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الاسناد. ومثلها روايات اخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف وهو يحسبه
[ 252 ]
عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها انه ابن اسحاق ذبيح الله الذى امر الله جده ابراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم وقد تقدم في الجزء السابق من الكتاب ان الذبيح هو اسماعيل دون اسحاق. وفي تفسير العياشي عن نشيط بن ناصح البجلى قال: قلت لابي عبد الله (ع) أكان اخوة يوسف انبياء ؟ قال لا ولا بررة اتقياء وكيف ؟ وهم يقولون لابيهم تالله انك لفى ضلالك القديم. اقول وفي الروايات من طرق اهل السنة وفى بعض الضعاف من روايات الشيعة انهم كانوا انبياء وهذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب والسنة والعقل من عصمة الانبياء (ع) وما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الاسباط انبياء كقوله تعالى: " واوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط " النساء: 163 غير صريح في كون المراد بالاسباط هم اخوة يوسف والاسباط تطلق على جميع الشعوب من بنى
اسرائيل الذين ينتهى نسبهم إلى يعقوب (ع) قال تعالى: " وقطعناهم اثنتى عشر اسباطا امما " الاعراف: 160. وفي الفقيه باسناده عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (ع) في قول يعقوب لبنيه: " سوف استغفر لكم ربى " قال اخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة. اقول وفي هذا المعنى بعض روايات اخر وفي الدر المنثور عن ابن جرير وابى الشيخ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قول اخى يعقوب لبنيه " سوف استغفر لكم ربى " يقول حتى يأتي ليلة الجمعة وفي الكافي باسناده عن الفضل بن ابى قرة عن ابى عبد الله (ع) قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير وقت دعوتم الله فيه الاسحار وتلا هذه الاية في قول يعقوب " سوف استغفر لكم ربى " اخرهم إلى السحر. اقول وروى نظيره في الدر المنثور عن ابى الشيخ وابن مروديه عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل لم اخر يعقوب بنيه في الاستغفار ؟ قال اخرهم إلى السحر لان دعاء السحر مستجاب.
[ 253 ]
وقد تقدم في بيان الايات كلام في وجه التاخير ولقد اقبل يوسف (ع) على اخوته حين عرفوه بالفتوة والكرامة من غير ان يجبههم بادنى ما يسوؤهم ولازم ذلك ان يعفو عنهم ويستغفر لهم بلا مهل ولم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بالقاء القميص عليه ذاك الموقف. وفي تفسير القمى حدثنى محمد بن عيسى: ان يحيى بن اكثم سال موسى بن محمد بن على بن موسى مسائل فعرضها على ابى الحسن وكان احدها اخبرني عن قول الله: " ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا " أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم انبياء ؟. فأجاب أبو الحسن (ع) اما سجود يعقوب وولده ليوسف فانه لم يكن ليوسف
وانما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله وتحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لادم ولم يكن لادم وانما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية لادم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم ألم تر انه يقول في شكره ذلك الوقت رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة توفنى مسلما والحقني بالصالحين الحديث. اقول وقد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الايات وظاهر الحديث ان يوسف ايضا سجد معهم كما سجدوا وقد استدل عليه بقول يوسف في شكره: رب قد آتيتني من الملك الخ وفي دلالته على ذلك ابهام. وقد روى الحديث العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الازدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا (ع): قال لاخيه ان يحيى بن اكثم كتب إليه يساله عن مسائل فاخبرني عن قول الله: " ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا " أسجد يعقوب وولده ليوسف ؟. قال فسالت اخى عن ذلك فقال اما سجود يعقوب وولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم ألا ترى انه يقول في شكر ذلك الوقت: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث " الاية. وما رواه العياشي اوفق بلفظ الاية واسلم من الاشكال مما رواه القمى. وفي تفسير العياشي عن ابن ابى عمير عن بعض اصحابنا عن ابى عبد الله (ع): في
[ 254 ]
قول: " الله ورفع ابويه على العرش " قال العرش السرير وفي قوله وخروا له سجدا قال كان سجودهم ذلك عبادة لله. وفيه عن ابى بصير عن ابى جعفر (ع) في حديث قال: فسار تسعة ايام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق اباه فقبله وبكى ورفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن واكتحل ولبس ثياب العز والملك ثم رجع إليهم وفي نسخة ثم
خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا اعظاما وشكرا لله فعند ذلك قال " يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل إلى قوله بينى وبين اخوتى ". قال ولم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب ولا يضحك ولا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله وجمع بينه وبين يعقوب واخوته. وفي الكافي باسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى ابى الحسن (ع) عنه قال: قلت له جعلت فداك ما اعجب إلى الناس من ياكل الجشب ويلبس الخشن ويخشع فقال أما علمت ان يوسف نبى ابن نبى كان يلبس اقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه وانما احتاجوا إلى قسطه. وانما يحتاج من الامام إلى (ان ظ) إذا قال صدق وإذا وعد انجز وإذا حكم عدل لان الله لا يحرم طعاما ولا شرابا من حلال وحرم الحرام قل أو كثر وقد قال الله: قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي جعفر (ع) كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله وأراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة ؟ قال عاش حولين قلت فمن كان يومئذ الحجة لله في الارض ؟ يعقوب ام يوسف ؟ قال كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى ارض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة. اقول والروايات في قصته (ع) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالايات الكريمة على ان اكثرها لا يخلو من تشوش في المتن وضعف في السند. ومما ورد في بعضها ان الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوى وهو