تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 7
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 7
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 7
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد السابع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
سورة الانعام - مكية وهي مائة وخمس وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) - هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا أجل مسمى عنده ثم انتم تمترون (2) - وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) بيان غرض السوره هو توحيده تعالى بمعناه الاعم أعنى أن للانسان ربا هو رب العالمين
جميعا منه يبدا كل شئ وإليه ينتهى ويعود كل شئ، أرسل رسلا مبشرين ومنذرين يهدى بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد والمعاد والنبوة، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية. وسياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدى إلى نزولها نجوما. وهذا يدل على نزولها جملة واحدة، وأنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذى وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين. وقد اتفق المفسرون والرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روى عن بعضهم أنها مدنية. وهى قوله تعالى: (أتل ما قدروا الله حق قدره) (آيه 91) إلى تمام ثلاث آيات، وقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) (آيه 151) إلى تمام ثلاث آيات.
[ 6 ]
وقيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: (قل تعالوأتل) والتى بعدها. وقيل: نزلت سورة الانعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة، في رجل من اليهود، وهو الذى قال: (ما أنزل الله على بشر من شئ) الايه. وقيل. (إنهاكلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، وهو قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة: الاية. وهذه الاقوال لا دليل على شئ منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق واتصال آيات السورة، وسنبينها بما نستطيعه، وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا عن أبى وعكرمة وقتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة.
قوله تعالى: (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور) افتتح بالثناء على الله وهو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، وذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، وتضمينه العجب منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره والامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ والانذار والتخويف. وقد أشارفى هذاالثناء الموضوع في الايات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التى هي بمنزلة المادة للشريعة، وتنحل إلى نظامات ثلاث: نظام الكون العام وهو الذى تشير إليه الاية الاولى، ونظام الانسان بحسب وجوده، وهو الذى تشتمل عليه الايد الثانية، ونظام العمل الانساني وهو الذى تومئ إليه الاية الثالثة. فالمتحصل من مجموع الايات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذى يعيش فيه الانسان، وبما خلق يكسب. وما في الاية الثالثة: (وهو الله في السماوات وفي الارض، بمنزله الايضاح لمضمون
[ 7 ]
الايتين السابقتين، والتمهيد لبيان علمه بسر الانسان وجهره وما تكسبه نفسه. فقوله: (خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور) إشارة إلى نظام الكون العام الذى عليه تدبر الاشياء على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجارى المحكم إلا عالم الارض الذى يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات الذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شئ من شئ، ويتقلب شئ إلى شئ، ويظهر واحد ويخفى اخر، ويتكون جديد ويفسد قديم، وينتظم من تلاقى هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركه العالميه الكبرى التى تحمل اثقال الاشياء، وتسير بها إلى مستقرها.
والجعل في قوله: (وجعل الظلمات) الخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الاصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، ولعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والارض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة والنور، ولذا خصا باستعمال الجعل. والله أعلم. وقد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فانها عدم النور فيما من شانه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور وبعده بخلاف النور فانه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التى هي عدمية، وتكثيره تصورا بحسب قياسه التصورى إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة. قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات والارض وجعله الظلمات والنور متوحد بالالوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شئ ولا يشاركه، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بان الخلق والتدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الاصنام التى اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم ويسوون به اوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك. وبذلك يظهر وجه الاتيان بثم الدال على التاخير والتراخى فكان المتكلم لما وصف تفرده بالصنع والايجاد وتوحده بالالوهية والربوبية ذكرمزعمة المشركين وأصحاب الاوثان أن هذه الحجارة والاخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب
[ 8 ]
زمانا وكفه عن التكلم ثم جرى في كلامه وأشار إلى وجه سكوته، وأن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون. قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) يشير إلى خلقة العالم الانساني الصغير بعد الاشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذى خلق
الانسان ودبر أمره بضرب الاجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذى بدأ منه خلق نوعه وإن كان بقاء نسله جاريا على سنه الازدواج والوقاع كما قال تعالى: (وبدأخلق الانسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) (السجدة: 8). وبين الاجل المقضى الذى يقارن الموت كما قال تعالى، (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون) (العنكبوت: 57) ومن الممكن أن يراد بالاجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فان القرآن الكريم كانه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الارض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسال العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) (المؤمنون: 114)، وقال ايضا: و (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أوتوا العلم وإلايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (الروم: 56). وقد أبهم أمرالاجل بإتيانه منكرا في قوله: (ثم قضى أجلا) للدلالة على كونه مجهولا للانسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية. قوله تعالى: (وأجل مسمى عنده) تسمية الاجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود والديون ونحو ذلك بذكرالاجل وهو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، وهو الاجل المسمى، قال تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه) (البقره: 282) وهو الاجل بمعنى آخر المدة المضروبة، وكذا قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لات) (العنكبوت: 5) وقال تعالى في قصة موسى وشعيب: (قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى أن قال - قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) (القصص: 28)
وهو الاجل بمعنى تمام المدة المضروبة.
[ 9 ]
والظاهر أن الاجل بمعنى آخرالمدة فرع الاجل بمعنى بمعنى تمام المدة استعمالا أي إنه استعمل كثيرا (الاجل المقضى) ثم حذف الوصف واكتفى بالموصوف فأفاد األاجل معنى الاجل المقضى، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الانسان (اجل) فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، وأصله استيفاء الاجل، انتهى. وكيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالاجل والاجل المسمى هو آخر مدة الحياة لاتمام المدة كما يفيده قوله: (فإن إجل الله لات) الاية. فتبين بذلك أن الاجل اجلان: الاجل على إبهامه، والاجل المسمى عند الله تعالى. وهذا هو الذى لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله (عنده) وقد قال تعالى: (وما عند الله باق) (النحل: 96) وهو الاجل المحتوم الذى لا يتغير ولا يتبدل قال تعالى: (إذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (يونس 49).. فنسبة الاجل المسمى إلى الاجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذى علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البته. والتدبر في الايات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: (لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) يفيد أن الاجل المسمى هو الذى وضع في أم الكتاب، وغير المسمى من الاجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو وإلاثبات، وسيأتى إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الاسباب العامة التى لا تتخلف عن تأثيرها، ولوح المحو والاثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الاسباب الناقصة التى ربما
نسميها بالمقتضيات التى يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها. واعتبر ما ذكر من أمر السبب التام والناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات وتطلع علينا الشمس فتضئ وجه الارض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمرأو أي مانع آخر فتمنع من الاضاءة وأما إذا كانت الشمس فوق الافق ولم يتحقق أي مانع مفروض بين الارض وبينها فإنها تضئ وجه الارض لا محاله.
[ 10 ]
بيان فطلوع الشمس وحده بالنسبه إلى الاضاءة بمنزلة لوح المحو والاثبات، وطلوعها مع حلول وقته وعدم أي حائل مفروض بينها وبين الارض بالنسبة إلى الاضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ. فالتركيب الخاص الذى لبنية هذا الشخص الانساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضى أن يعمر العمر الطبيعي الذى ربما حددوه بمائة أو بمائة وعشرين سنة وهذا هو المكتوب في لوح المحو وإلاثبات مثلا غير أان لجميع أجزاء الكون ارتباطا وتاثيرا في الوجود الانساني فربما تفاعلت الاسباب والموانع التى لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضى الامد الطبيعي، وهو المسمى بالموت الاخترامى. وبهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الاجل المسمى وغير المسمى جميعا، وأن الابهام الذى بحسب الاجل غير المسمى لا ينافى التعين بحسب
الاجل المسمى، وأن الاجل غير المسمى والمسمى ربما توافقا وربما تخالفا والواقع حينئذ هو الاجل المسمى البته. هذا ما يعطيه التدبر في قوله: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) وللمفسرين تفسيرات غريبه للاجلين الواقعين في الاية: منها: أن المراد بالاجل الاول ما بين الخلق والموت والثانى ما بين الموت والبعث، ذكره عدة من الاقدمين وربما روى عن ابن عباس. ومنها: أن الاجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، والثانى أجل الاخرة الذى لا آخر له، ونسب إلى المجاهد والجبائي وغيرهما. ومنها: أن الاجل الاول أجل من مضى، والثانى أجل من بقى من سيأتي ونسب إلى أبى مسلم. ومنها: أن الاجل الاول النوم، والثانى الموت. ومنها: أن المراد بالاجلين واحد، وتقدير الاية الشريفة ثم قضى أجلا وهذا أجل مسمى عنده. ولا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه وأشباهها وسقمها يسوغه
[ 11 ]
الوقت على ضيقه، ولا يسمح بإباحته العمر على قصره. قوله تعالى: (ثم أنتم تمترون) من المرية بمعنى الشك والريب، وقد وقع في الاية التفات من الغيبة إلى الحضور، وكأن الوجه فيه أن الاية الاولى تذكر خلقا وتدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغى لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، وكان يكفى في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الايه الثانيه تذكر الخلق والتدبير الواقعين في الانسان خاصة فكان من الحرى الذى يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب ويلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك امرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم
في امترائكم فيه وهو الذى خلقكم وقضى فيكم أجلا وأجل مسمى عنده ؟. قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الارض) الايتان السابقتان تذكران الخلق والتدبير في العوالم عامة وفي الانسان خاصة، ويكفى ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الاله الواحد الذى لا شريك له في خلقه وتدبيره. لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهه أخرى وشفعاء مختلفه لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة وإله الرزق وإله البر وإله البحر وغير ذلك، وكذا للانواع والاقوام والامم المتشتته كإله السماء وإله هذه الطائفة وإله تلك الطائفة فنفى ذالك بقوله: (وهو الله في اسماوات وفى الارض). فالاية نظيرة، قوله: (وهو الذى في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم) (الزخرف: 84) مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الارض من غير تفاوت أو تحديد، وهى إيضاح لما تقدم وتمهيد لما يتلوها من الكلام. قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) السر والجهر متقابلان وهما وصفان للاعمال، فسرهم ما عملوه سرا وجهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر. وأما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذى يكسبه الانسان بعمله السرى والجهرى من حسنة أو سيئه فالسر والجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الاعمال الخارجية، وما يكسبونه حال روحي معنوى قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية
[ 12 ]
والمعنوية، ولعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكرالعلم في قوله: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. والاية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة والمعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الانسان من عمل سرا أو جهرا، وكان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، وكان إليه زمام التربية والتدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: (إن علينا للهدى) الليل: 12).
وكذا هو تعالى لما كان عالما بالاعمال وبتبعاتها في نفس الانسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28). (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحسن بن على بن أبى حمزة قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سورة الانعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها. أقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام مرسلا. وفي تفسير القمى قال حدثنى أبى عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام قال: نزلت الانعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة. أقول: ورواه في المجمع أيضا عن الحسين بن خالد عنه عليه السلام إلا أنه قال: سبحوا له إلى يوم القيامة. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن سورة
[ 13 ]
الانعام نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه واله فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عزوجل فيها سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث. وفي جوامع الجامع للطبرسي قال: في حديث أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه واله قال:
أنزلت على الانعام جملة واحدة - يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأها صلى عليه اولئك السبعون ألف ملك - بعدد كل آية من الانعام يوما وليلة، أقول: ورواه في الدر المنثور عنه بعدة طرق. وفي الكافي بإسناده عن ابن محبوب عن أبى جعفر الاحول عن سلام بن المستنير عن أبى جعفر عليه السلام قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر وخلق الارض قبل السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النورقبل الظلمة. أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، وأما نسبة الخلق إلى الطاعة والمعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة والمعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، وكيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته وسلطانه ومنعزل عن مشيته وإذنه ؟. ولا دليل على انحصار الخلق في الايجاد والصنع الذى لا واسطه فيه حتى يكون تعالى مستقلا بايجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا إنه أبطل إرادة الانسان العادل أو القاتل، واستقل هو بالعدل والقتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، وقد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الاول من الكتاب. وبنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير والشر إيضا، سواء كانا خيرا وشرا في الامور التكوينية أو في الافعال. وأما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، وكذا الخير قبل الشر فيجرى ايضا في
[ 14 ]
بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم والملكة والعدم يتوقف في تحققه على الملكة ويظهربه أن خلق الحياة قبل الموت. وبذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة والخير والغضب متعلق بالمعصية والشر، والطاعة والخير قبل المعصية والشر. وأما خلق الارض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: (خلق الارض في يومين - ألى أن قال - ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين) (حم السجدة: 12). وأما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: و (الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها) (الشمس: 2) وقد رجحت الابحاث الطبيعية اليوم أن الارض مشتقة من الشمس والقمر مشتق من الارض. وفي تفسير العياشي عن جعفر بن أحمد عن العمركى بن على عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن على بن جعفر عن أبى إبراهيم عليه السلام قال: لكل صلاة وقتان، ووقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الاية: (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) قال: يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل. أقول: وهذا معنى آخر للاية وبناؤه على جعل قوله: (بربهم) متعلقا بقوله (كفروا) دون (يعدلون). وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبى جعفر عليه السلام قال: سألت عن قول الله عزوجل (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف. وفي تفسير العياشي عن حمران قالت سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: (قضى أجلا وأجل مسمى) قال: فقال: هما أجلان، أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، وأجل محتوم.
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدة عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله: (ثم
[ 15 ]
قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: الاجل الذى غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما ا لاجل المسمى فهو الذى ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها. قال: فذلك قول الله: (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). وفيه عن حمران عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (أجلا وأجل مسمى عنده) قال: المسمى ما سمى لملك الموت في تلك الليلة، وهو قال الله (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وهو الذى سمى لملك الموت في ليلة القدر، والاخر له فيه المشية إن شاء قدمه، وإن شاء أخره. أقول: وفي هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والذى يدل عليه من معنى الاجل المسمى وغيره هو الذى تقدمت استفادته من الايات الكريمه. وفي تفسير على بن إبراهيم قال: حدثنى أبى عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الاجل المقضى هو المحتوم الذى قضاه الله وحتمه، والمسمى هو الذى فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير. أقول: وقد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى وفسر كلا من المسمى وغيره بمعنى الاخر. على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الاية فلا كثير ضير في قبولها. وفي تفسير العياشي عن الحصين عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: الاجل الاول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والانبياء، والاجل المسمى عنده هو الذى ستره الله عن الخلائق. أقول: ومضمون الرواية ينافى ما تقدمت من الروايات ظاهرا، ولكن من الممكن
أن يستفاد من قوله: (نبذه) أن المراد أنه تعالى أعطاهم الاصل الذى تستنبط منه الاجال غير المسماة وأما الاجل المسمى فلم يسلط احدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، وإن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لانبيائه ورسله إذا شاء، وذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، وهو مع ذلك يكشف عن شئ منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.
[ 16 ]
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبى جعفر - أظنه محمد بن النعمان - قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: (وهو الله في السماوات وفي الارض) قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته ؟ قال: ويحك إن الاماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وليس علمه بما في الارض بأقل مما في السماء. ولا يبعد منه شئ، والاشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإرادة. * * * وما تأتيهم من آيه من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين - 4. فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون - 5. ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 6. ولو نزلنا عليك كتابافى قرطاس فلمسوه بايديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين - 7. وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون - 8. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون - 9. ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن - 10. قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة
المكذبين - 11.
[ 17 ]
(بيان) الايات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول وتماديهم في تكذيب الحق والاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم وتخويف وإنذار وجواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق الصريح. قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الاعراض عن الايات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الايات من غير تفاوت بين آية وآية لانهم كذبوا بالاصل المقصود الذى هو الحق، وهو قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم). قوله تعالى: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) تخويف وإنذار فإن الذى يستهزؤن به حق، والحق يأبى إلا أن يظهر يوما ويخرج من حد النبا إلى حد العيان قال تعالى: (ويمحوا الله الباطل ويحق الحق بكلماته) ا (لشورى: 24)، وقال: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف: 9) وقال في مثل ضربه: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) (الرعد: 17). ومن المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستوف مساسه المؤمن والكافر والخاضع والمستهزئ، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وإبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) (الصافات: 177). قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) إلى آخر الايه، قال الراغب: القرن القوم المقترنون
في زمن واحد وجمعه قرون انتهى. وقال أيضا: قال تعالى: (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) يرسل السماء عليكم مدرارا) وأصله من الدر - بالفتح - والدرة - بالكسر - أي اللبن، ويستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير وأوصافه فقيل: لله دره ودر درك، ومنه استعير قولهم
[ 18 ]
غسوق درة أي نفاق - بالفتح - انتهى. وفى قوله تعالى: (مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم) التفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله: (ما لم نمكن لكم) أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: (مكنالهم) وإلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، وقد تقدم الكلام في الالتفات الواقع في قوله: (هو الذى خلقكم من طين). وفي قوله: (فأهلكناهم بذنوبهم) دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في البلايا والمحن العامة، وفي هذا المعنى وكذا في معنى دخل الحسنات والطاعات في إفاضات النعم ونزول البركات آيات كثيره. قوله تعالى: (ولوأنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) إلى آخر الايه، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو انزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر والسمع، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغى أن يعبأ باللغو من قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) (الاسراء: 93). وقد نكر الكتاب في قوله: (كتابا في قرطاس) لان هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا، وقيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الايات النازلة على النبي صلى الله عليه واله من منشآت
نفسه من غير أن ينزل به الروح الامين على ما يذكره الله سبحانه. (نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195). قوله تعالى: (وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) قولهم (لو لا أنزل عليه ملك) تحضيض للتعجيز، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه واله بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذى جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم، ذى قوة عند ذى العرش مكين، مطاع ثم أمين) (كورت: 21) إلى غيرها من الايات. فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لاحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه:
[ 19 ]
أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) (حم السجدة: 13) وقال: (قل هو نبأ عظيم - إلى أن قال - إن يوحى إلى إإلا أنما أنا نذير مبين) (ص: 70). ولما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، ولا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا - ولن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، ولا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى بينهم ثم لا ينظرون). على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت كما قال تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) (الفرقان: 22) وهذا هو يوم الموت أو ما هوبعده بدليل
قوله بعده (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) (الفرقان: 24). وقال تعالى بعده - وظاهر السياق أنه يوم آخر -: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) (الفرقان: 26) ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم: (أو تأتى بالله والملائكة قبيلا) (الاسراء: 92). وبالجملة فقوله تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر) الخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم، وعلى هذا ينبغى أن يضم إليه ما وعده الله هذه الامة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الايات من سورة يونس: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعدإن كنتم صادقين، قل لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله لكل إمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) (يونس: 53) وفي هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفى البحث عنها في سورة اخرى إن شاء الله. وقال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
[ 20 ]
(الانفال: 33). فالمتحصل من الاية أنهم يسألون نزول الملك، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لانه لو نزل الملك لقضى بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم، وسيوافيهم ما سألوه فيقضى الله بينهم. ويمكن أن يقرر معنى الاية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضى بينهم وهم لا ينظرون، وهم
لا يريدون ذلك. وثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لاعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي صلى الله عليه وآله أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) ال (فرقان: 7). فإنهم يريدون أن الذى هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق بالمشى في الاسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته وواقعية رسالته. وهذا هو الذى تجيب عنه الاية التالية: (ولو جعلناه ملكا) الخ. قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك، واللبس بالضم التغطية على الحق، وكان المعنى استعارى والاصل واحد. قال الراغب في المفردات: لبس الثواب استتر به وألبسه غيره - إلى أن قال - وأصل اللبس (بضم اللام) ستر الشئ ويقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال: وللبسنا عليهم ما يلبسون وقال: ولا تلبسوا الحق بالباطل، لم تلبسون الحق بالباطل، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، ويقال: في الامر لبسه أي التباس، انتهى.
[ 21 ]
ومعمول يلبسون محذوف، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، ولبس البعض على البعض الاخر. أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما
يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه: (يا قوم أ ليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي افلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه) (الزخرف: 54) وقوله: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (المؤمن: 29). وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم إن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الانسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التى فطر الناس عليها، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، وتغتر بعمله، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته، وعند ذاك يزين له عمله، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (الجاثيه: 23) وقال: (قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف: 104). وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الانسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الانسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر ا لمقطوع وهو غير معقول. على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفه عثرنا على عادات سوء نقضى بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم، ولبس الحق بالباطل على النفس والتلهى باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته. وعلى أي حال فقوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) الخ، الجواب عن
[ 22 ]
مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.
ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للانسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، وسلوك أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك. قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الدهر: 3) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شئ من الطريقين ويلجإ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى) (النجم: 41) فليس للانسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له، قال تعالى: (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب) (الشورى: 20). وبالجملة هذة الدعوة الالهيه لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الانساني من غير اضطرار والجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لانفسهم قبول الدعوة باية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيه فظلت أعناقهم لها خاضعين) (الشعراء: 4).. فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشرى فيمضى الله ذلك ويلبس عليهم كمالبسوا، قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5). فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والاثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشرى، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: لو لا أنزل إليه ملك ليس إلا سؤالا لامر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله:
[ 23 ]
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون). فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الانساني في الدعوة الدينية الالهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الالجاء الذى لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية. وثانيا: أن الذى تدل عليه الاية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الانسانية - الذى ربما يحيله عدة من الباحثين - أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، وتمثل الملائكة الكرام لابراهيم ولوط في صورة الضيفان من الادميين. وجل الايات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكه في الارض يخلفون) (الزخرف: 60) لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الاول، وللبحث ذيل ينبغى أن يطلب من محل آخر. وثالثا: أن قوله تعالى: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) من قبيل قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5) فهو إضلال إلهى لهم بعد ما استحبوا الضلال لانفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه. ورابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض. وخامسا: أن محصل الاية احتجاج عليهم بإنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فأن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشرى وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسالة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشرى الذى هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.
وسادسا: أن في التعبير: (لجعلناه رجلا) ولم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو
[ 24 ]
من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الانسان دون انقلاب هويته إلى هوية الانسان كما قيل. وغالب المفسرين وجهوا الاية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤيه الملك في صورته الاصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو ارسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا. وهذا التوجيه لا يفى باستقامة الجواب، وإن سلمنا أن الانسان العادى لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الاصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) (الفرقان: 22). وذلك أن شهود الملك في صورته الاصلية لو كان محالا على الانسان لم يختلف فيه حال الافراد الانسانية بالجواز والامتناع، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى الله عليه واله راى جبرئيل في صورته الاصلية مرتين، ومن المقدور لله أن يقوى سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الالجاء فهو المحذور الذى يجب أن يدفع بالاية كما تقدم. وكذا مشاهدة الملك في صورة الادميين لا تلازم جواز ا لشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط عليهم السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الادميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم، وكذا أخبر عن مريم انها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليهم السلام في معاينة الملك في صورة الانسان ثم معرفته واليقين بأمره ؟ لولا أن جعل نفوس الناس
جمعيا كنفس أبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة، وفيه محذور الالجاء، فالالجاء هو المحذور الذى لا يبقى معه موضوع الامتحان، وهو الذى يجب دفعه بالاية كما تقدم. قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) إلى آخر الايتين، الحيق الحلول وإلاصابة، وفي مفردات: الراغب: قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال، وقد قرئ: (فأزلهما الشيطان) فازالهما، وعلى هذا ذمه وذامه، انتهى.
[ 25 ]
وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذى كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم عين ما استهزؤا، به وفي الاية الاولى تطييب لنفس النبي صلى الله عليه واله، وإنذار للمشركين، وفي الاية الثانية أمر بالاعتبار وعظة. * * * قل لمن ما في السموات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون - 12. وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم - 13. قل أ غير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إنى أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين - 14. قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم - 15. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين - 16. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير - 17. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير - 18. (بيان) فريق من الايات تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالايتان الاوليان تتضمنان البرهان على المعاد، وبقية الايات وهى خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.
قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والارض قل لله) شروع في البرهنة على المعاد، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والارض جميعا له أن يتصرف فيها كيف
[ 26 ]
شاء وأراد، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهى رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل شئ إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الانسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لان يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما يستحقونه البتة. فقوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والارض) الخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله: (كتب على نفسه الرحمة) يتضمن مقدمة اخرى، وقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) الخ، مقدمة اخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.) فقوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والارض) ألخ، يأمر النبي صلى الله عليه واله أن يسألهم عمن يملك السماوات والارض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، وهو الله سبحانه من غير شك لان غيره حتى الاصنام وأرباب الاصنام التى يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهى خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والارض جميعا. ولكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل والمسئول جميعا والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه، وأمر النبي صلى الله عليه واله أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم. والسؤال عن الخصم، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذى أطعمك وسقاك وكساك ؟ أنا الذى فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر. وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الاطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك
مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك. وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الاخرى وهى قوله: كتب على نفسه الرحمة. قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة) الكتابة هو الاثبات والقضاء الحتم، وإذ كانت الرحمة - وهى إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشئ إلى سعادته التى تليق به -
[ 27 ]
من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب ألى كتابته تعالى، والمعنى: أوجب على نفسه الرحمة وإفاضه النعم وانزال الخير لمن يستحقه. ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى: (كتب الله لاغلبن أنا ورسلي) (المجادلة: 21) وقوله: (فو رب السماء والارض إنه لحق) (الذاريات: 23) وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة. ولازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم. ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم ونون التأكيد وقوله لا ريب فيه. ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون). والحجة التى اقيمت في هذه الاية على المعاد غير ما اقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28) فإن الايتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم لا يليق به تعالى، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشإة اخرى يتميزان فيها بالسعادة
والشقاوة، وهذا غير ما في هذه الاية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة. قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذى يدبر أمره بالليل والنهار، ويجرى نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها. فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربيه تسوق كل جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التى قدرت له، وتكملها روحا وجسما.
[ 28 ]
وكما أن للمسكن عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالانسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان، ويشرب من مائها، ويستنشق من هوائها، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما. والانسان من الاشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من إئتلاف أجزاء بسيطة ومركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاءا بحياة تقوم على شعور فكرى وإرادة يتهيان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار، وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتبانى على اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات، واحترام الاراء والعقائد العامة في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو. وإذا كان الله
سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بايجادها فله ما سكن في الليل والنهار، وهو ا لمالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها من الحوادث والافعال والاقوال، وله النظام الجارى فيها على عجيب سعته فهو السميع لاقوالنا من أصوات وإشارات، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح، والعدل والظلم والاحسان والاساءة وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء. وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه ؟ ونحو وجود هذا النوع من الامور أعنى الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية، وكذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، ولذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية، والصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه. وكيف يمكن أن يملك شئ علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه، ولا يعلم به ؟ (أجد التأمل فيه). والله سبحانه هو الذى أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة
[ 29 ]
والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الانساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، واعتبار السنن ووضع الاعتبارات، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الاسباب خطوة خطوة، ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة. حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، وأسمع الصوت لمخاطبة بإسماعه، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، وفهم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقه ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، وهو في جميع هذه المراحل التى تعجز عن الانعقاد
عليها أنامل العد والاحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب ! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم. وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه تحت مراقبه الاختيار والارادة، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعلة وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهى بما الله أعلم به، ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، والارض قبضته والسموات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، وأخذ موضعه من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجرى فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الاسباب الجارية، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه ؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. ومما تقدم يظهر أن قوله تعالى: (وهو السميع العليم) بمنزلد النتيجة لقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار). والسمع والعلم وإن كان معدودين من صفاته تعالى الذاتية التى هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات وهى التى يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة
[ 30 ]
كالخلق والرزق والاحياء والاماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحى وميت. والاشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهى إن كانت أصواتا سمع ومسموعة له تعالى، وإن كانت أنوار ألوانا بصر ومبصرة له تعالى، والجميع كائنة
ما كانت علم ومعلومة له تعالى، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التى تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى وتقدس لانها لا تعدو مقام الفعل، ولا يدخل في عالم الذات فالاية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلى، فافهم ذلك. والاية أعنى قوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) الخ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالاية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله: (قل لمن ما في السموات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة) لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للاشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالاصوات والاقوال. ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السموات والارض، وتفريع السمع والعلم عليه فقال: (وله ما سكن في الليل والنهار - وهو في معنى قوله: (له ما في السماوات والارض - وهو السميع العليم) فكانت هذه الاية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الاية السابقة. والاية - على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفى - من أرق الايات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة، وأبلغها منطقا. قوله تعالى: (قل أ غير الله أخذ وليا فاطر السموات والارض وهو يطعم) ولا يطعم شروع في الاحتجاج على وحدانيتة تعالى وأن لا شريك له. والذى يتحصل من تاريخ الوثنية واتخاذ الاصنام والالهه أنهم كانوا إنما دانوا بذلك وخضعوا للالهة لاحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذى بالطعام واللباس والمسكن والازواج والاولاد والعشيرة ونحو ذلك، وعمدتها الطعام الذى حاجة الانسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، وقد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذى يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذى يمطر السماء فينبت المرعى والكلاء
[ 31 ]
لدوابهم ويمنع بالخصب لانفسهم، والسبب الذى يدبر أمر السهل والجبل أو يلقى بالمحبة والالفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيها. ثم وجدوا أن قوتهم لا تفى بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلها ثم عبادته. وإما لانهم وجدوا هذا الانسان الاعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره وشرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء، وببلايا ومحن أخرى جزئية لا يحصيها كالامراض والاوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد والشانئ وغير ذلك، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم، والقاصمة بها ظهورهم، والمكدرة لصفوة عيشهم، وهى مخلوقات علوية كارباب الانواع وأرواح الكواكب والاجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم وعذابهم، وعبدوها ليستميلوها بالعبادة ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا ويأمنوا شرورها والمضار النازلة منها إليهم. والاية أعنى قوله: (قل أغير الله أتخذ وليا) الخ، والايات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة وتعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، وينفى عنه كل شريك موضوع. فقوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والارض وهو يطعم ولا يطعم) إشارة إلى الحجة من المسلك الاول، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الاله لانه منعم فيكون عبادته شكرا لانعامه سببا لمزيده. أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه السلام أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه وحده هو الولى للنعمة التى يتنعم بها الانسان وغيره لانه هو الرازق الذى لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم، والدليل عليه أنه تعالى هو الذى فطر السموات والارض
وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأنعم عليها بنعمة التحقق والثبوت، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها ألا هو لابقاء وجودها، ومنها الاطعام للانسان وغيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الانسان وغيره، والاسباب التى تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهى إلى فطره وإيجاده الاشياء والاسباب ومسبباتها
[ 32 ]
جميعا من صنعه. فإليه سبحانه يرجع الرزق الذى من أهم مظاهره عند الانسان الاطعام فيجب أن يعبد الله وحده لانه هو الذى يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره. فظهر بما بيناه أولا: أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولى في قوله: (أغير الله أتخذ وليا) إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالاطعام. وثانيا: أن التعلق بقوله: (فاطر السماوات والارض) إنما هو لبيان سبب انحصار الاطعام به تعالى كما تقدم تقريره، وربما استفيد ذلك من التعريض الذى في قوله: (ولا يطعم) فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى وغيره إلى إطعام أو ما يجرى مجراه. ومن الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه أشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، وإلى فطره ينتهى كل شئ فيجب الخضوع له. ووجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الاخرين وإن كانا أنتجا توحيد الاله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شئ، وهو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الامن من النقمة دونه تعالى وتقدس، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عباده الله لانه الله سبحانه. وثالثا: أن اختصاص الاطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الاطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الانسان.
ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه صلى الله عليه واله أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية، وهو أن الله أمره من طريق الوحى أن يجرى في اتخاذ الاله على الطريق الذى يهدى إليه العقل وهو التوحيد، ونهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: (قل إنى أمرت أن أكون أول من أسلم) ثم قال: (ولا تكونن من المشركين). بقى هنا أمران:
[ 33 ]
أحدهما: أن قوله: (أول من أسلم) إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم صلى الله عليه واله قبل امته، وإن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الاطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبه دون الزمان. وثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهى نوع خضوع وتسليم كان استعمال لفظة الاسلام في المقام أولى من لفظة الايمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، وهو الخضوع. قوله تعالى: (قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) وهذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الالهة، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها ونزول عذابها. وقد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب وأمره وهو عذاب الساعة التى ثقلت في السماوات والارض كما أخذ في الحجة الاولى أحوج ما يحتاج إليه الانسان بحسب بادئ النظر من النعم، وهو الاطعام. وقد قيل: (إن عصيت ربى) دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الاية السابقة: (ولا تكونن من المشركين) من نهيه صلى الله عليه واله عن الشرك فأدت الاية أن من الواجب على عقلا أن أ عبد الله وحده لاومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم، وهذا الذى دل عليه العقل دلنى عليه الوحى من ربى. وبهذا تناظر هذه الاية الاية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده
بالوحى من الله سبحانه فافهم ذلك، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: (عصيت) موضع أشركت. قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) الخ، المعنى ظاهر الاية متممة للحجة المسرودة في الاية السابقة فظاهر الاية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي صلى الله عليه واله الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الاخرة.
[ 34 ]
فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهى لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد ونفى الشريك على غيرك، وتصير الحجة عليك لا على غيرك. فأفاد بقوله: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي صلى الله عليه واله على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصه به صلى الله عليه واله. قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) إلى آخر الاية، قد كانت الحجتان المذكورتان في الايات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الانسان وهو الاطعام وانموذجا مما يخافه وهو عذاب يوم القيامة، وتممتا بهما البيان، ولم تتعرضا لسائر أنواع الضر وأقسام الخير التى يمس الله سبحانه بهما الانسان، والكل من الله عز اسمه. فالاية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله
سبحانه به الانسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، وأن من الخير ما يمس الله به الانسان ولا راد لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شئ، ورجاء الخير يوجب على الانسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا. ولما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الانسان بضر أو بخير إنما يقتضى أن يتخذ معبودا، والخصم لا ينكر ذلك (1). وأما قصر الالوهية والمعبودية فيه تعالى فلا لان ما اتخذوه من الالهة هي أسباب متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الانسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها. دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه ومشيته غير مستقلين بأمر البتة ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا غير ذلك، فما
1 - الخاصة من الوثنية وان كانو يجوزون عبادته تعالى استنادا إلى انه غير محدود الوجوده لا يتعلق به التوجه العبادي لكن العامة منهم ربما عبدوه في عرض سائر الهة كما يظهر من تلبية مشركي مكة في الحج: لبيك لا شريك لك الله شريكا هو لك تملكه وله ملك. (*)
[ 35 ]
يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهى إلى أمره ومشيتة وإذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد. فالايتان جميعا تتممان معنى واحدا، وهو أن ما يصيب الانسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالالوهية، والمتفرد بالمعبودية لا إله غيره، ولا معبود سواه. وقد عبر عن إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: (إن يمسسك) (وإن يمسسك) ليدل به على إن ما يصيب الانسان من ضر أو من خير شئ يسيرمما تحمله القدرة غير المتناهية التى لا
يقوم لها شئ، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود. وكأن قوله تعالى في جانب الخير: (فهو على كل شئ قدير) وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض، وتنكشف به علة قوله: فلا كاشف له إلا هو إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، وكذلك قدرته على كل شئ تقتضي أن لا يقوى شئ على دفع ما يمس به من خير. وتخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي صلى الله عليه واله في هذه الاية نظير التخصيص الواقع في قوله: (قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) ويفيد قوله: (وهو القاهر فوق عباده) من التعميم نظير ما أفاد قوله: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه). قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) القهر هو نوع من الغلبة، وهو أن يظهر شئ على شئ فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الاثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على لنار فيقهرها على الخمود، والنار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته. وإذ كانت الاسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، وهى كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها وبها، يصدق عليها عامة إنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.
[ 36 ]
فالقاهر من الاسماء التى تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره تعالى وقهر غيره فرقا، وهو أن غيره تعالى من الاشياء إنما يقهر بعضها بعضا وهما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال،
وهما معا موجودان طبيعيان يقتضى أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الاخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهى تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه. والله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق والاحاطة على الاطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا احراق جسم وإشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذى أوجده به، قاهر عليه بالخواص والكيفيات التى أعطاها له وعبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التى أوقدها لاحراقه وإشعاله، وهو المالك لجميع ما للنار من ذات وأثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، ووضع الاحتراق والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصى ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته ومشيته لكونها من أفق أعلى. فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شئ شيئا وهما متزاملان. وقد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة وهما هذه الاية وآية (61). وقيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: (فوق عباده) والغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اولى العقل بخلاف الغلبة، ولذا فسره الراغب بالتذليل، والذلة في اولى العقل أظهر، ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد اولى العقل بحسب الاستعمال أو بعناية. والله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق عباده فيما يفعلونه ويؤثرون به من أثر لانه المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم. ولما نسب في الايتين إليه المس بالضر والخير، وقد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الاية: (وهو الحكيم الخبير) فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا وجهلا، الخبير لا يخطئ ولا يغلط كغيره.
[ 37 ]
قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم وأوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ أنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون - 19. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون - 20. (بيان) احتجاج على الوحدانية من طريق الوحى فإن وحدة الاله وانتفاء الشريك عنه وإن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحى الصريح الذى لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له، وإذا فرض حصوله من طريق الوحى الذى لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكئ على التحدي فلا مانع من الاستناد إليه. قوله تعالى: (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم) أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الاشياء من حيث الشهادة، والشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالابصار ونحوه، وأداء ما تحمل كذلك بالاخبار والانباء، وإذ كان التحمل والاداء - وخاصة التحمل - مما يختلف بحسب إدراك المتحملين وبحسب وضوح الخبر الذى تحمله المتحمل، وبحسب قوة المؤدى بيانا وضعفه اختلافا فاحشا. فليس المتحمل الذى يغلب على مزاجه السهو والنسيان أو الغفلة كالذى يحفظ ما يعيه سمعه ويقع عليه بصره، وليس الصاحى كالسكران ولا الخبير الاخصائى بأمر كالأجنبي الاعزل. وإذا كان الامر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شئ
[ 38 ]
شهادة فإنه هو الذى أوجد كل ما دق وجل من الاشياء، وإليه ينتهى كل أمر وخلق، وهو المحيط بكل شئ ومع كل شئ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لا يضل ولا ينسى.
ولكون الامر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال: قل الله أكبر شهادة، كما قيل: (قل لمن ما في السماوات والارض قل لله) (الانعام: 12) أو يقال: سيقولون الله، كما قيل: (قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله) (المؤمنون: 85). على أن قوله: (قل الله شهيد بينى وبينكم) يدل عليه ويسد مسده، وليس من البعيد أن يكون قوله (شهيد) خبرا لمبتدء محذوف هو الضمير العائد إلى الله، والتقدير: (قل الله هو شهيد بينى وبينكم) فتشتمل الجملة على جواب السؤال وعلى ما استؤنف من الكلام. وقوله: (قل الله شهيد بينى وبينكم) على أنه يشتمل على إخباره صلى الله عليه واله بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله: (قل) إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك، وعلى هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته صلى الله عليه واله وصلم وعلى نزول القرآن من عنده كقوله تعالى: (والله يعلم إنك لرسوله) (: المنافقون: 1) أو قوله: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) (النساء: 166) وغير ذلك من الايات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره. وتقيد شهادته تعالى بقوله (بينى وبينكم) يدل على توسط تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي صلى الله عليه واله وقومه، والنبى لم ينعزل عنهم ولم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة والرسالة ودعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحى قد ذكر بعد في قوله: (واوحى إلى هذا القرآن) فالمراد بشهادته تعالى بينه وبينهم شهادته بنبوته، ويؤيده أيضا قوله في الاية التالية: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) على ما سيجئ إن شاء الله. قوله تعالى: (واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) من مقول القول
[ 39 ]
وهو معطوف على قوله: (الله شهيد) الخ، وجعل الانذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية، وهو الاوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء والوعد وإن كان أحد الطريقين في الدعوة، وقد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا الزاميا وانما يورث شوقا ورغبه بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا. ولان دعوة الاسلام إنما هي إلى دين الفطرة، وهو مخزون مكنوز في فطرة الناس وإنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبه الشقوة ونزول السخط الالهى فالاقرب إلى الحكمة والحزم في دعوتهم أن تبدأ بالانذار، ولهذا كله ربما حصر شأن النبي صلى الله عليه اله وفي الانذار كما في قوله: (إن أنت إلا نذير) (الفاطر: 23) وقوله: (وإنما أنا نذير مبين) (العنكبوت: 50). هذا في عامة الناس وأما الخاصة من عباد الله، وهم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار ولا طمعا في جنة فانهم يتلقون من الدعوة بالخوف والرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد وسخط فيخافونها لذلك، ومن الجنة أنها ساحة قرب ورضوان فيشتاقون إليها لذلك. وظاهر قوله: (لانذركم به ومن بلغ) أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش وللعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب وبين من بلغ - والمراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي صلى الله عليه وآله بالدعوة في زمن حياته أو بعده - يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله: (لانذركم به هم) الذين شافههم النبي صلى الله عليه واله بالدعوة ممن تقدم دعاءه على نزول الايه أو قارنه أو تأخر عنه. فقوله: (واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) يدل على عموم رسالته عليه السلام بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، وإن شئت فقل: تدل الاية على كون القرآن الكريم حجة من الله وكتابا له ينطق بالحق على إهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.
وقد قيل: (لانذركم به) ولم يقل: لانذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه وعرف معناه واهتدى إلى مقاصده، أو فسر له لفظه وقرع سمعه بمضامينه
[ 40 ]
فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته وتشملهم مضامينه، وقد دعا صلى الله عليه واله بكتابه إلى مصر والحبشة والروم وإيران ولسانهم غير لسان القرآن، وقد كان فيمن آمن به في حياته وقبل إيمانهم سلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومي وعدة من اليهود ولسانهم عبرى هذا كله مما لا ريب فيه. قوله تعالى: (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد) إلى آخر الاية، لما ذكر شهادة الله وهو أكبر شهادة على رسالته ولم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد، وليس لاحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر: هل يشهدون بتعدد الالهة، وهذا هو الذى يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن واللام، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى. ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال: (قل لا أشهد) أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثم قال: (قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون) وهو شهادة على وحدانيته تعالى، والبراءة مما يدعون له من شركاء. قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) هذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب، وعلمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الانبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وصفه بما لا يعتريه شك ولا يطرأ عليه ريب. فهم بما استحضروا من نعته صلى الله عليه وآله يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال
تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) (الاعراف: 157) وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل) (الفتح: 29)، وقال تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل) (الشعراء: 197). ولما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته ونعوته صلى الله عليه وآله ويستنكفون عن الايمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال: (الذين خسروا
[ 41 ]
أنفسهم فهم لا يؤمنون). وقد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الاية من سورة البقرة (آية 146) وبينا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة وسيأتى تمام الكلام في سورة الاعراف (آية 156) إن شاء الله تعالى. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: قال لى أبو الحسن عليه السلام: ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عزوجل أشئ أم لا شئ ؟ قال: قلت: قد أثبت الله عزوجل نفسه شيئا حيث يقول: (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم) وأقول: إنه شئ لا كالاشياء إذ في نفى الشيئيه عنه نفيه وإبطاله. قال لى: صدقت وأحسنت. قال الرضا عليه السلام: للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفى، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه فمذهب النفى لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لان الله تبارك وتعالى لا يشبهه شئ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه. أقول: المراد بمذهب النفى نفى معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة، وفي معناه إرجاع الصفات الثبوتية إلى نفى ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس
بعاجز، ومعنى العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره عليه السلام من المذهب الثالث. والمراد بمذهب التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره - وليس كمثله شئ - أي أن يثبت له من الصفة معناه المحدود الذى فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا وعلمه كعلمنا، وهكذا، ولو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجبا تعالى عن ذلك. والمراد بمذهب الاثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه وتنفى
[ 42 ]
عنه خصوصيته التى قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة وينفى الحد. وفي تفسير القمى: في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم) وذلك أن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله رسولا أرسله غيرك ؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذى تقول - ذلك في أول ما دعاهم وهم يومئذ بمكة - قالوا: ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه واله: الله شهيد بينى وبينكم. وفي تفسير العياشي عن بكير عن محمد عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله: (لانذركم به ومن بلغ) قال: على عليه السلام ممن بلغ: أقول: ظاهره أن (من بلغ) معطوف على ضمير (كم) ولقد ورد في بعض الروايات أن المراد بمن بلغ هو الامام، ولازمه عطف (من بلغ) على فاعل (لانذركم) المقدر، وظاهر الاية هو الاول. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قول الله عزوجل: (وأوحى إلى هذا القرآن
لانذركم به ومن بلغ) قال: بكل لسان. أقول: قد مر وجه استفادته من الاية. وفي تفسير المنار: أخرج أبو الشيخ عن أبى بن كعب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه واله بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الاسلام ؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرإ: (وأوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل إنهم لم يدعوا. وفي تفسير القمى: إن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: هل تعرفون محمدا في كتابكم ؟ قال: نعم والله نعرفه بالنعت الذى نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان. والذى يحلف به ابن سلام: لانا بمحمد هذا أشد معرفة منى بابنى. * * *
[ 43 ]
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون - 21. ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون - 22. ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين - 23. أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 24. ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين - 25. وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون - 26. ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين - 27. بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون - 28. وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين - 29. - ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون - 30. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم
[ 44 ]
الساعة بغتة قالوايا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون - 31. وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون - 32. (بيان) تعود الايات إلى أصل السياق وهو الحضور فتلتفت إلى النبي صلى الله عليه واله بالخطاب فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد الطاهرة وهى التوحيد والاعتقاد بالنبوة والمعاد، و ذلك قوله تعالى: (ومن أظلم) الخ، وقوله: (ومنهم من يستمع إليك) الخ، وقوله: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) الخ. ثم تبين أن ذلك منهم أشد الظلم وإهلاك لانفسهم وخسران لها، وتبين كيف تنعكس إليهم وتوافيهم هذه المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في الدنيا ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات، ويبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضى أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم، وهو الانحراف والخروج عن الوسط العدل. والظلم كما يكبر ويصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر والصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه وعظم شأنه كان الظلم أكبر وأعظم، ولا أعز قدرا وأكرم ساحة من الله سبحانه ولا من آياته الدالة عليه فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه، ولا يظلم إلا نفسه. وقد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله: (ومن أظلم ممن افترى على
[ 45 ]
الله كذبا أو كذب بآياته) أما افتراء الكذب. عليه تعالى فبإثبات الشريك، له ولا شريك له، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا وابتداعا، وأما تكذيب آياته الدالة عليه فكتب كذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للايات الالهية أو إنكار الدين الحق، ومنه إنكار الصانع أصلا. والاية تنطبق على المشركين، وهم أهل الاوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر امور في الكون، وإليهم ينتهى تدبير شئون العالم مستقلين بذلك، ومن جهة إنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة والمعاد. وربما الحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي صلى الله عليه واله أو الطاهرين من ذريته أو الاولياء الكرام من امته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شئ من حوائج الدنيا أو الاخرة شركا تشمله الاية وما يناظرها من الايات الشريفة. وكأنه خفى عليهم أنه تعالى إثبت الشفاعة إذا قارنت الاذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو آخرة، فقال عز من قائل: (من ذاالذى يشفع عنده إلا بإذنه) (البقره: 255). على أنه تعالى قال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون): (الزخرف: 86) فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق، والقدر المتيقن منهم الانبياء ومنهم النبي صلى الله عليه واله، وقد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله: (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: 41) ونص على علمه حيث قال: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (النحل: 89)، وقال: (نزل به الروح الامين على قلبك) (الشعراء: 194) وهل يعقل نزول الكتاب الذى هو تبيان كل شئ على قلب من غير علم به، أو بعثه تعالى إياه شهيدا وليس بشهيد بالحق ؟ وقال الله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) (البقره: 143)، وقال: (ويتخذ منكم شهداء) (آل عمران:
140) وقال تعالى: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت: 43) فأثبت في هذه الامة شهداء علماء ولا يثبت إلا الحق. وقال تعالى في أهل بيته عليه السلام: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
[ 46 ]
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الاحزاب: 33) فبين أنهم مطهرون بتطهيره، ثم قال: (إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة: 79) فعدهم العلماء بالقرآن الذى هو تبيان كل شئ والمطهرون هم القدر المتيقن من هذه الامة في الشهادة بالحق التى لا سبيل للغو والتأثيم إليها، وقد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب فليراجع. قوله تعالى: (إنه لا يفلح الظالمون) الفلاح والفوز والنجاح والظفر والسعادة ألفاظ قريبة المعنى، ولهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذى هو معنى السعادة تقريبا، قال في المفردات: الفلح: الشق، وقيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح الاكار لذلك والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان دنيوى وأخروى: فالدنيوي الظفر بالسعادات التى تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز و إياه قصد الشاعر بقوله: أفلح بما شئت فقد يدرك * بالضعف وقد يخدع الاريب. وفلاح اخروى، وذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل. انتهى، فمن الممكن أن يقال: إن الفلاح هو السعادة سميت به لان فيها الظفر وإدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب. وهذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله: (قد أفلح المؤمنون) (المؤمنون: 1)، وقوله: (قد أفلح من زكاها) (الشمس: 9)، وقوله، (إنه لا يفلح الكافرون) (المؤمنون: 117) إلى غير ذلك من الموارد. فقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) - وقد أخذ الظلم وصفا - معناه أن الظالمين لا، يدركون بغيتهم التى تشبثوا لاجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدى الظالم إلى ما
يبتغيه من السعادة والظفر بواسطة ظلمه. وذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية ومطلوبا بحسب واقع الامر وخارج الوجود، ويكون حينئذالشئ الذى يطلب هذه البغية والسعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الاسباب والادوات
[ 47 ]
كالانسان الذى من سعادته المطلوبة إن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذى الدقيق الذى، يناسب ذلك، والادوات والاسباب الملائمة له، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالاسباب والادوات المهيأة لذلك، ثم يصفيه ويبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه، وهذا حكم عام جار في جميع الانواع الخارجية التى تناله حواسنا ويسعه استقراؤنا من غير تخلف واختلاف البتة. و على هذا يجرى نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة وسعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه، ولو توصل إليها من غير سببه الذى يإلفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب وبطلان الطريق، وفي عطله وبطلانه فساد جميع ما يرتبط و يتعلق به من الاسباب والعلائق كالانسان الذى فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول والالتقام والهضم فإن ذلك يفضى إلى عطل قوته الغاذية، وفي عطله انحراف قوتيه المنمية والمولدة مثلا جميعا. وقد اقتضت العناية الالهية في هذه الانواع التى تعيش بالشعور والارادة أن تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك بطلان العمل، ولو تكرر ذلك بطلت الذات كالانسان المريد للاكل إذا غلط وحسب السم غذاء أو الطين خبزا ونحو ذلك. وللانسان عقائد وآراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا ويطبق
عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدء والمعاد، والاحكام العملية التى يجعلها مقاييس لاعماله من العبادات والمعاملات. وهذه طرق إلى السعادات الانسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الانسان أدرك بغيته وظفر بسعادته، ولو انحرف عنها إلى غيرها - وهو الظلم - لم يوصله إلى بغيته ولئن أوصله إليه لم يثبت عليه، ولم يدم له ذلك فان سائر الطرق والسبل مربوطة به فتنازعه في ذلك، وتخالفه وتضاده بجميع ما لها من الوسع والطاقة، ثم أجزاء الكون الخارجي الذى هو السبب لانتشاء هذه الاراء والاحكام لا توافقه في عملة، ولا، تزال على هذا الحال حتى تقلب له الامر، وتفسد عليه سعادته، وتنغص عليه عيشته.
[ 48 ]
فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالاثم والقدرة الكاذبة في الحصول على بغية وسعادة من غير طريقه المشروع، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما، أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة، أو إلى دمائهم ونفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصى في شئ من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة وأوصوم أو حج أو غيرها، أو يقأترف شيئا من الذنوب، المتعلقه بذلك كالكذب والفرية والخدعة ونحوها. يأتي بشئ من ذلك وربما أدرك ما قصده، وهو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه، وقد ذهب عن خسران صفقته وخيبة مسعاه في دنياه وآخرته. أما في دنياه فلان ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج والمرج واختلال النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم ولو عم أبطل النظام، ولو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الانساني فالنظام الذى يضمن بقاء النوع الانساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع و، لا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله ونتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على مهل ولن يدوم ظلمه البتة. وأما في الاخرة فلان ظلمه مكتوب في صحيفة عمله، وهو منقوش في لوح نفسه
بما يورد عليها من الاثر ثم هو مجزى به عائش على وتيرته، وإن تبدواما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله. قال الله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل) ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) (البقره: 85)، وقال: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون) (الزمر: 26)، وقال: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) (الحج: 10) إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة.) والايات - كما ترى - تشمل المظالم الاجتماعية والفردية فهى تصدق ما تقدم من
[ 49 ]
البحث، وأشملها مضمونا الايه المبحوث عنها: إنه لا يفلح الظالمون). قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا) إلى آخر الايتين، الظرف متعلق بمقدر والتقدير: واذكر يوم (الخ)، وقد تعلقت العناية في الكلام بقوله: (جميعا) للدلالة على أن العلم والقدرة لا يتخلفان عن أحد منهم، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما وقدرة سيحصيهم ويحشرهم ولا يغادر منهم أحدا. والجملة في مقام بيان قوله: (إنه لا يفلح الظالمون) كأنه لما قيل: (انه لا يفلح الظالمون) سئل فقيل، وكيف ذلك ؟ فقيل: لان الله سيحشرهم ويسألهم عن شركائهم فيضلون عنهم ويفقدونهم فينكرون شركهم ويقسمون لذلك بالله كذبا، ولو أفلح هؤلاء الظالمون في إتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم، ولم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة والشفاعة ونالوا شفاعتهم. وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم) الخ، قيل: المراد بالفتنه الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين، وقيل الكلام على تقدير مضاف والمراد: لم تكن عاقبة افتتانهم بالاوثان إلا أن قالوا (الخ)، وقيل: المراد بالفتنة المعذرة، لكل من الوجوه وجه.
قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة، والمراد أنهم سيكذبون على أنفسهم ويفقدون ما افتروا به، ولو أفلحوا في ظلمهم وسعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك وإنكاره على أنفسهم. أما كذبهم على أنفسهم فلانهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء، وهم كانوا يصرون عليه ويعرضون فيه عن كل حجة واضحة وآية بينة ظلما وعتوا، وهذا كذب منهم على أنفسهم. أما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلان اليوم يوم ينجلى فيه عيانا أن الامر والملك والقوة لله جميعا ليس لغيره من شئ إلا ذله العبودية، والفقر والحاجة من غير أي استقلال قال تعالى (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد
[ 50 ]
العذاب): (البقره: 165)، وقال: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار): (المؤمن: 16) وقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والامر يومئذ لله) (الانفطار: 19). فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الالوهية لله وحده لا شريك له، ويظهر لهم أوثانهم و شركاؤهم وهم لا يملكون ضرا ولا نفعا لانفسهم ولا لغيرهم، ووجدوا الاوصاف التى أثبتوها لهم من الربوبية والشفاعة وغيرهما انما هي لله وحده، وقد كان اشتبه عليهم الامر فتوهموها لغيره وضل عنهم ما كانوا يفترون. فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالو ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) (النحل: 87) وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم له الملك والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن
تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) (الفاطر: 14) وقال تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون، فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين، هنالك تبلوا كل نفس ما اسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (يونس: 30). وبالتدبير في هذه الايات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة والشفاعة وتبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه) (النور: 39). فان قلت: (إن الايات المتعرضة لوصف يوم القيامة - كما تقدم - ظاهرة في بروز الحقائق وخروجها عن مكمن الخفاء والالتباس الذى هو من لوازم النشأة الاولى الدنيوية كما قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) (المؤمن: 16) فأى نفع حينئذ لكذبهم ؟ وكيف يكذبون وما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا ؟ وقد قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) (آل عمران: 30).
[ 51 ]
قلت: كذبهم وحلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة، ومثل الاية قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم) (المجادلة: 18) وليس كذبهم وحلفهم عليه للتوصل به إلى الاغراض الفاسدة وستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فان الاخرة دار جزاء لا دار عمل واكتساب. لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات والمهالك ويجلبوا المنافع إليهم بالايمان الكاذبة والاخبار المزورة خدعة وغرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب، والملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه وذلك كما أن البذى الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه وإن عزم عليه والمستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع، وإن خضع في موقف
المهلكة والذلة أحيانا فإنما يخضع ظاهرا وبلسانه، وأما باطنا وفي قلبه فهو على حاله لم يتغير ولن يتغير البتة. وهذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لانه يوم تبلى فيه السرائر والسريرة المعقودة على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا) (النساء: 42) ونظيرة التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم، وقد قص الله سبحانه ذلك في مواضع كثيرة من كلامه، وأجمله في قوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) (ص: 64) هذا في أهل العذاب وأما أهل المغفرة والجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم ههنا من الصفا والسلامة، قال تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما) (الواقعة: 26) فافهم ذلك. قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) إلى آخر الاية، الاكنة جمع كن بكسر الكاف وهو الغطاء الذى يكن فيه الشئ ويغطى، والوقر هو الثقل في السمع، والاساطير جمع اسطورة بمعنى الكذب والمين على ما نقل عن المبرد، وكأن أصله السطر وهو الصف من الكتابة أو الشجر إو الناس غلب استعماله فيما جمع ونظم ورتب من الاخبار الكاذبة. وكان ظاهر السياق أن يقال: يقولون أن هذا إلا أساطير الاولين، ولعل الاظهار للاشعار بالسبب في هذا الرمى وهو الكفر.
[ 52 ]
قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) ينهون عنه أي عن أتباعه، والنأى الابتعاد، والقصر في قوله: (وإن يهلكون إلا أنفسهم) من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهى عنه والنأى عنه إهلاك له وإبطال للدعوة الالهية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا يشعرون.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) إلى آخر الايتين. بيان لعاقبة جحودهم وإصرارهم على الكفر والاعراض عن آيات الله تعالى. وقوله: (يا ليتنانرد ولا نكذب بايات ربنا) الخ، على قراءة النصب في (نكذب) و (نكون) تمن منهم للرجوع إلى الدنيا والانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من عذاب النار يوم القيامة وهذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله وحلفهم بالله على ذلك كذبا من باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمنى فيما لا سبيل لهم إلى حيازته من الخيرات والمنافع الفائتة عنهم، وخاصة إذا كان فوتها مستندا إلى سوء اختيارهم وقصور تدبيرهم في العمل، ونظيره أيضا ما سيجئ من تحصرهم على ما فرطوا في أمر الساعة. على أن التمنى يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني رجوع الايام الخالية وغير ذلك قال الشاعر: ليت وهل ينفع شيئا ليت * ليت الشباب بوع فاشتريت وقوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) الخ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر أعنى ضمائر (لهم) و (كانوا) و (يخفون) واحد وهو المشركون السابق ذكرهم، وأن المراد بالقبل هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا، والايمان بايات الله، والدخول في جماعة المؤمنين. ولم يبدلهم إلا النار التى وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا اخفوها في الدنيا بالكفر والستر للحق والتغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) (ق: 22).
[ 53 ]
وأما نفس الحق الذى كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من قبل والسياق يأبى أن يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار وهول يوم القيامة باعثا لهم على هذا التمنى. ويشعر بذلك بعض ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله: (وإذا قيل إن وعد
الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (الجاثيه: 33) وقوله: (ولو أن للذين ظلموا ما في الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (الزمر: 48). وقد ذكروا في الاية أعنى قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) وجوها كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال: (وفيه إقوال: الاول أنه أعمالهم السيئة وقبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم، وشهدت بها عليهم جوارحهم. الثاني: أنه أعمالهم التى كانوا يفترون بها ويظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا. الثالث: أنه كفرهم وتكذيبهم الذى أخفوه في الاخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين. الرابع: أنه الحق أو الايمان الذى كانوا يسرونه ويخفونه بإظهار الكفر والتكذيب عنادا للرسول واستكبارا عن الحق، وهذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) ظلما وعلوا). الخامس: أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذى جاءت به الرسل بدا للاتباع الذين كانوا مقلدين لهم، ومنه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا صلى الله عليه واله وصفاته وبشارة أنبيائهم به.
[ 54 ]
السادس: أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من إسرار الكفر وإظهار الايمان والاسلام.
السابع: أنه البعث والجزاء ومنه عذاب جهنم، وأن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به، وهو المعنى الاصلى لمادة الكفر. الثامن: أن في الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا التفصى منه بالرد إلى الدنيا، وترك ما افضى إليه من التكذيب بالايات وعدم الايمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لانه ينقذه من الالام لا لانه محبوب في نفسه، ونحن لا نرى رجحان قول من هذه الاقوال بل الصواب عندنا قول آخر، وهو: التاسع: أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم ولاشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، انتهى، ثم عمم الكلام لرؤساء الكفار وأتباعهم المقلدة وللمنافقين والفساق ممن يقترف الفواحش ويخفيها عن الناس أو يترك الواجبات ويعتذر بأعذار كاذبة ويخفى حقيقة الحال في كلام طويل. وبالرجوع إلى ما قدمناه من الوجه والتامل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه الاقوال من وجوه الخلل فلا نطيل. وقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات الرذيله في نشأة الدنيا فإن الذى بعثهم إلى تمنى الرجوع إلى الدنيا والايمان فيها بآيات الله والدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب يوم القيامة، وهو من مقتضيات نشأة الاخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية ظهور عيان. ولو عادوا إلى الدنيا لزمهم حكم النشأة، وأسدلت عليهم حجب الغيب، ورجعوا إلى اختيارهم، ومعه
هوى النفس ووسوسة الشيطان وقرائح العباد والاستكبار والطغيان فعادواإلى سابق شركهم وعنادهم مع الحق فإن الذى دعاهم وهم في الدنيا إلى
[ 55 ]
مخالفة الحق والتكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا بعد البعث، فحكمه حكمه من غير فرق. وقوله: (وإنهم لكاذبون) أي في قولهم: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الخ، والتمنى وإن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق والكذب إلا أنهم لما قالوا: (نرد ولا نكذب، أي ردنا الله إلى الدنيا ولو ردنا لم نكذب، ولم يقولوا: (نعود ولا نكذب، كان كلامهم مضمنا للمسالة والوعد أعنى مسألة الرد ووعد الايمان والعمل الصالح كما صرح بذلك في قوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (السجدة: 12) وقوله: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعآمل) (الفاطر: 37). وبالجملة قولهم: (يا ليتنا نرد ولا نكذب) الخ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا لا ننكذب بآياتك ونكن من المؤمنين، وبهذا الاعتبار يحتمل الصدق والكذب، ويصح عدهم كاذبين. وربما وجه نسبة الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الامل والتمنى وهو عدم تحققه خارجا كما يقال: كذبك أملك، لمن تمنى ما لا يدرك. وربما قيل: إن المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة الواقع واعتقاد الحق، هو كما ترى. قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) إلى آخر الايتين. ذكر لانكارهم الصريح للحشر وما يستتبعه يوم القيامة من الاشهاد وأخذ الاعتراف بما أنكروه، والوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم ذلك في كلامه غير مرة، وقولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الامور الدنيوية من جلب المنافع إليهم ودفع المضار
والمخاوف عنهم. فقوله: (وقالوا ان هي) الخ، حكاية لانكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، وما نحن بمبعوثين بعد الممات، وقوله: (ولو ترى إذ وقفوا) كالجواب وهو بيان ما يستتبعه قولهم: ان هي إلا، (الخ) للنبى صلى الله عليه وآله في صورة التمنى لمكان قوله:
[ 56 ]
(ولو ترى) وهو أنهم سيصدقون بما جحدوه، ويعترفون بما أنكروه بقولهم: (وما نحن بمبعوثين) إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذى اخبروا به في الدنيا، وهو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في الدنيا. ومن هنا يظهر أن لله سبحانه فسر البعث في قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) بلقاء الله، ويؤيده أيضا قوله في الاية التالية: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة) الخ، حيث بدل الحشر والبعث والقيامة المذكورات في سابق الكلام لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء. وقوله: (أليس هذا) أي أليس البعث الذى أنكرتموه في الدنيا وهو لقاء الله (بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) به وتسترونه. قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) إلى آخر الاية، قال في المجمع: كل شئ أتى فجأه فقد بغت يقال: بغتة الامر يبغته بغتة انتهى، وقال الراغب في المفردات: الحسر كشف الملبس عما عليه يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر، والمحسرة المكنسة - إلى أن قال - والحاسر المعيا لانكشاف قواه - إلى أن قال - والحسرة الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه. انتهى موضع الحاجة. وقال: الوزر (بفتحتين) الملجأ الذى يتلجأ إليه من الجبل، قال: (كلا لا وزر
إلى ربك يومئذ المستقر) والوزر (بالكسر فالسكون) الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل، قال (ليحملوا أوزارهم كاملة) الاية كقوله: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم)، انتهى. والاية تبين تبعة اخرى من تبعات إنكارهم البعث وهو أن الساعة سيفاجئهم فينادون بالحسرة على تفريطهم فيها ويتمثل لهم أوزارهم وذنوبهم وهم يحملونها على ظهورهم وهو أشق احوال الانسان وأردؤها ألا ساء ما يزرون ويحملونه من الثقل أو من الذنب أو من وبال الذنب.
[ 57 ]
والاية أعنى قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) بمنزلة النتيجة المأخوذة من قوله: (وقالوا ان هي إلا حياتنا الدنيا) إلى آخر الايتين، وهى أنهم بتعويضهم راحة الاخرة وروح لقاء الله من إنكار البعث وما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة. قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير) الخ، تتمة للكلام فيه بيان حال الحياتين: الدنيا والاخرة والمقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب ولهو ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة من العقائد الاعتبارية والمقاصد الوهمية كما يدور عليه اللعب فهى لعب، ثم هي شاغلة للانسان عما يهمه من الحياة الاخرى الحقيقية الدائمة فهى لهو، والحياة الاخرة لكونها حقيقية ثابتة فهى خير ولا ينالها إلا المتقون فهى خير لهم. (بحث روائي) وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد - حتى يقول أهل الشرك: (والله ربنا ما كنا مشركين). وفي المجمع في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) الاية: إن المراد: لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا، الخ، قال: وهو المروى عن أبى عبد الله عليهالسلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) الاية، قال:
قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله صليالله عليه واله ويمنعون قريشا، وينأون أي يباعدون عنه ولا يؤمنون. أقول: والرواية تقرب مما روى عن عطاء ومقاتل: أن المراد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه واله فإنه كان ينهى قريشا عن النبي وينآى عن النبي ولا يؤمن به. والسياق يأبى ذلك فإن ظاهر الاية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي صلى الله عليه واله. على أن الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام متظافرة بإيمانه. قال في المجمع: قد ثبت إجماع أهل البيت عليهالسلام بإيمان أبى طالب،
[ 58 ]
وإجماعهم حجة لانهم أحد الثقلين الذين أمر النبي صلى الله عليه واله بالتمسك بهما بقوله: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا. ويدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبى قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه واله - فقال: ألا تركت الشيخ فآتيه ؟ وكان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذى بعثك بالحق لانا كنت بإلاسلام أبى طالب أشد فرحا منى بإسلام أبى ألتمس بذلك قره عينك، فقال صلى الله عليه واله: صدقت. وروى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبى طالب عن النبي صلى الله عليه واله اجتمعوا عليه وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك وتدفع إلينا إبن أخيك الذى فرق جماعتنا، وسفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه، واعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله، وقال: منعنا الرسول رسول المليك * ببيض تلالا كلمع البروق أذود وأحمى رسول المليك * حماية حام عليه شفيق وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيره مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب وقوله من قصيدة: وقالوا لاحمد أنت امرؤ * خلوف اللسان ضعيف السبب ألا إن أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب وقوله في حديث الصحيفة وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله: وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على سخط من قومنا غير معتب
[ 59 ]
وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته: صبرا أبا يعلى على دين أحمد * وكن مظهرا للدين وفقت صابرا فقد سرنى إذ قلت إنك مؤمن * فكن لرسول الله في الله ناصرا وقوله من قصيدة: أقيم على نصر النبي محمد * اقاتل عنه بالقنا والقنابل وقوله يحض النجاشي على نصر النبي صلى الله عليه واله تعلم مليك الحبش أن محمدا * وزير لموسى والمسيح بن مريم أتى بهدى مثل الذى أتيا به * وكل بأمر الله يهدى ويعصم وإنكم تتلونه في كتابكم * بصدق حديث لا حديث المرجم فلا تجعلوا لله ندا واسلموا * وإن طريق الحق ليس بمظلم وقوله في وصيته وقد حضرته الوفاة: أوصى بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وشيخ القوم عباسا
وحمزة الاسد الحامى حقيقته * وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا كونوا فدى لكم أمي وما ولدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا وأمثال هذه الابيات مما هو موجود في قصائده المشهورة ووصاياه وخطبه يطول بها الكتاب، انتهى. والعمدة في مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك، وفي الجانب الاخر إجماع إهل البيت عليهالسلام وبعض الروايات من طريق الجمهور، وأشعاره المنقولة عنه، ولكل امرئ ما اختار. وفى تفسير العياشي عن خالد عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الاصل. بيان وفيه عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه عليه السلام، قال: إن الله قال للماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وقال للماء: كن ملحا أجاجاأخلق
[ 60 ]
منك نارى وأهل معصيتى فأجرى المائين على الطين ثم قبض قبضة بيده وهى يمين فخلقهم خلقا كالذر ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وعليكم طاعتي ؟ قالوا: بلى، فقال للنار: كونى نارا فإذا نارا تأجج (1)، وقال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع، ومنهم من أبطأ في السعي، ومنهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد. ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل اولئك ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الاخرين، ثم قال: لهم قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ، ومنهم من أسرع ومنهم من مر بطرف العين فوقعوا فيها كلها (2)، فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شئ. وقال الاخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من أسرع في السعي، ومنهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الاولى، فذلك قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون). أقول: هذه الرواية والتى قبلها من روايات الذر وسيأتى استيفاء البحث عنها في
سورة الاعراف في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخرج ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى) الاية. ومحصلها أنه كما أن لنظام الثواب والعقاب في الاخرة ارتباطا تاما بنشأة اخرى قبلها وهى نشأة الدنيا من حيث الطاعة والمعصية كذلك للطاعة والمعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة اخرى قبلها رتبه. وهى عالم الذر. فالمراد بقوله في الرواية: فذلك قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا) الخ، أن معنى الاية ولو ردوا من عرصات الحشر إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون من عالم الذر إذ كذبوا الله فيه، وهذا هو المراد بعينه بقوله عليه السلام في الرواية الاولى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الاصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه. وعلى هذا فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الاية غير الوجوه الثلاثة * (اهامش) * 1 - تأجت ظ. 2 - كلهم ظ. (*)
[ 61 ]
المتقدمة في البيان السابق. وفي المجمع عن الاعمش عن أبى صالح عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) الاية، قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا، اه. * * * قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بإيات الله يجحدون - 33. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين - 34. وإن كان كبر عليك
إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الارض أو سلما في السماء فتأتيهم باية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين - 35. إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون - 36. (بيان) تسليه للنبى صلى الله عليه وآله عن هفوات المشركين في أمر دعوته، وتطييب لنفسه بوعد النصر الحتمى، وبيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الانساني فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فالقدرة والمشية الالهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) إلى آخر الاية، (قد) حرف
[ 62 ]
تحقيق في الماضي، وتفيد في المضارع التقليل وربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، وهو المراد في الاية، وحزنه كذا وأحزنه بمعنى واحد، وقد قرئ بكلا الوجهين. وقوله: (فإنهم لا يكذبونك) قرئ بالتشديد من باب التفعيل، وبالتخفيف، والظاهر أن الفاء في قوله: (فإنهم) للتفريع وكأن المعنى قد نعلم إن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغى أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لانك لا تدعو إلا إلينا، وليس لك فيه إلا الرساهة بل هم يظلمون بذلك آياتنا ويجحدونها. فما في هذه الاية مع قوله في آخر الايات: (ثم إليه يرجعون) في معنى قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور) (لقمان: 23) وقوله: (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) (يس: 76) وغير ذلك من الايات النازلة في تسليته صلى الله عليه له وصلم، هذا على قراءة التشديد. وأما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، ولا يبطلون حجتك بحجة وإنما يظلمون آيات الله بجحدها
وإليه مرجعهم. وقوله: (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) كان ظاهر السياق أن يقال: ولكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور وجهل وغير ذلك فليس إلا عتوا وبغيا وطغيانا وسيبعثهم الله ثم إليه يرجعون. ولذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة: (فقيل بآيات الله) ولم يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الالوهية واستعلاء عليه وهو المقام الذى لا يقوم له شئ. وقد قيل في تفسير معنى الاية وجوه أخرى: أحدها: ما عن الاكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، وإنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا. وثانيها: أنهم لا يكذبونك وإنما يكذبوننى فإن تكذيبك راجع إلى ولست
[ 63 ]
مختصا به، وهذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه وإن كان قريبا منه، والوجهان جميعا على قراءة التشديد. وثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء، والوجه ما تقدم. قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا) إلى آخر الاية. هداية له صلى الله عليه وآله إلى سبيل من تقدمه من الانبياء، وهو سبيل الصبر في ذات الله، وقد قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الانعام: 90). وقوله: (حتى أتاهم نصرنا) بيان غاية حسنة لصبرهم، وإشارة إلى الوعد الالهى بالنصر، وفي قوله: (ولا مبدل لكلمات الله) تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد وحتم له، وإشارة إلى ما ذكره بقوله: (كتب الله لاغلبن أنا ورسلي)
(المجادلة: 21)، وقوله: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون) (الصافات: 172). ووقوع المبدل في قوله: (ولا مبدل لكلمات الله) في سياق النفى ينفى أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيتة في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه ويقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم ويغيره بوجه من الوجوه. ومن هنا يظهر أن هذه الكلمات التى أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح المحو والاثبات، فكلمة الله وقوله وكذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذى لا مطمع في تغييره وتبديله، قال تعالى: (قال فالحق والحق أقول) (ص: 84) وقال تعالى: (والله يقول الحق) (الاحزاب: 4)، وقال تعالى: (ألا إن وعد الله حق) (يونس: 55) وقال تعالى: (لا يخلف الله الميعاد) (الزمر: 20) وقد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى وما يرادفها من الالفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى: (منهم من كلم الله) (البقره: 253). وقوله في ذيل الاية: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) تثبيت واستشهاد لقوله:
[ 64 ]
(ولقد كذبت رسل من قبلك) الخ، ويمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكية التى تقص قصص الانبياء كسورة الشعراء ومريم وأمثالهما، وهذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق والمدثر قطعا فتقع سورة الانعام على هذا في الطبقة الثالثة من السورة النازلة بمكة قبل الهجرة، والله أعلم. قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله - فتأتيهم باية) قال الراغب: النفق الطريق النافذ والسرب في الارض النافذ فيه قال: فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الارض، ومنه نافقاء اليربوع، وقد نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق وهو
الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، وعلى ذلك نبه بقوله: إن المنافقين هم الفاسقون أي الخارجون من الشرع، وجعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال: إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار، ونيفق السراويل معروف، انتهى. وقال: السلم ما يتوصل به إلى الامكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شئ رفيع كالسبب، قال تعالى: أم لهم سلم يستمعون به، وقال: أو سلما في السماء، وقال الشاعر: ولو نال أسباب السماء بسلم، انتهى. و جواب الشرط في الاية محذوف للعلم به، والتقدير كما قيل: وإن استطعت أن تبتغى كذا وكذا فافعل. والمراد بالاية في قوله تعالى: (فتأتيهم بأية) الاية التى تضطرهم إلى الايمان فإن الخطاب أعنى قوله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) الخ، إنما ألقى إلى النبي صلى الله عليه واله من طريق القرآن الذى هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته، ويقرب إعجازه من فهمهم وهم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغى أن يكبر ويشق عليك إعراضهم فإن الدار دار الاختيار، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان على مجرى الاختيار، وإنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الايمان وتلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الايمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الايمان والطاعة، ولو شاء الله لامن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس ولا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف إلالهية. وأما ما احتمله بعضهم: أن المراد فتأتيهم بآية هي أفضل من الاية التى أرسلناك
[ 65 ]
بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الاية وخاصة قوله (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) فإنه ظاهر في الاضطرار. ومن هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الايمان فيضطروا
إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الاية الشريفة. لكنه سبحانه فيما يشابه الاية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول منى لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) (السجدة: 13) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله: (قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (ص: 85) فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم إجمعين إلا عباده منهم المخلصين. وقد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم وإبليس: (قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين) (الحجر: 43) وقد نسب ذلك إليهم إبليس ايضا فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة: (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم - إلى أن قال - إنى كفرت بما أشركتمون من قبل) (إبراهيم: 22). فالايات تبين أن المعاصي ومنها الشرك تنتهى إلى غواية الانسان والغواية تنتهى إلى نفس الانسان، ولا ينافى ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الانسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله منه المشية كقوله تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (الانسان: 30)، وقال تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) (التكوير: 29). فمشية الانسان في تحققها وإن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته، وتعرض منه لرحمته، قال تعالى:
[ 66 ]
(ويهدى إليه من أناب) (الرعد: 27) أي انعطف ورجع إليه، وأما الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الارض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته ولا يغشاه برحمته كما قال: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) (البقرة: 26) وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5) وقال: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه) (الاعراف: 176). وبالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار، والايات الالهية لا تنزل الا مع مراعاة الاختيار، ولا يهدى الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته واستعد لهدايته من طريق الاختيار. وبهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال، وهى أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على الايمان وتضطرهم إلى قبول الدعوة الدينيه ينافى أساس الاختيار الذى تبتنى عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصه أن يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى، وتلبسهم الايمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم وحريتهم في العمل. وذلك أنه وإن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافى الناموس العام في عالم الاسباب، ونظام الاستعداد والافاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله وزكى نفسه وقد أفلح من زكاها، ولا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه ودسى نفسه وقد خاب من دساها، وإصابة الضلال هو أن يمنع الانسان الهدى قال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا، كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20) أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه وإن أراد الشر أوتيه أي منع من
الخير، ولو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير وتنكب على الايمان والتقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام وإفساد أمر الاسباب. وتؤيد ما ذكر الاية التالية أعنى قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون)
[ 67 ]
إلى آخر الاية على ما سيجئ من معناها. قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) الاية كالبيان لقوله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) إلى آخر الاية فإن ملخصه إنك لا تستطيع صرفهم عن هذا الاعراض، والحصول على آية تسوقهم إلى الايمان، فبين في هذه الاية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية ويسمعوا دعوة الداعي وهو النبي صلى الله عليه وآله. فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، وإنما يستجيب الذين يسمعون، وصنف منهم أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهرا في صور الاحياء وهؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، وسوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا إبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (السجدة: 12) فالكلام مسوق سوق الكناية، والمراد بالذين يسمعون المؤمنون وبالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين وغيرهم، وقد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة والسمع، ووصف الكفار بالموت والصمم كما قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (الانعام: 122) وقال تعالى: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) (النمل: 81) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وقد تكرر في بعض الابحاث السابقة معنى آخر لهذه الاوصاف التى حملها الجمهور
من المفسرين على الكناية والتشبيه، وأن لها معنى من الحقيقة فليراجع. وفي الاية دلالة على أن الكفار والمشركين سيفهمهم الله الحق ويسمعهم دعوته في الاخرة كما فهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا، فالانسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق عاجلا أو آجلا.
[ 68 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى قال: (وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السللام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله صلى الله عليه واله وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه واله فأنزل الله: (وإن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله -. فقا في الارض)، يقول: سربا. أقول والرواية على ما بها من ضعف وإرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة، وإن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الاشارة بالاية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق. * * * وقالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون - 37. وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون - 38. والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم - 39. قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين - 40. بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون - 41. ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء
[ 69 ]
لعلهم يتضرعون - 42. فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون - 43. فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون - 44. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين - 45. قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون - 46. قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون - 47. وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 48. والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون - 49. قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون - 50. وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون - 51. ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من
[ 70 ]
حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين - 52. وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين - 53. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم - 54.
وكذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين - 55. (بيان) احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد وآية النبوة. قوله تعالى: (وقالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر) إلى آخر الاية، تحضيض منهم على تنزيل الاية بداعي تعجيز النبي صلى الله عليه وآله، ولما صدر هذا القول منهم وبين أيديهم أفضل الايات أعنى القرآن الكريم الذى كان ينزل عليهم سورة سورة وآية آية، ويتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الاية التى كانوا يقترحونها بقولهم: (لو لا نزل عليه آية من ربه هي آية غير القرآن، وأنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم وترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات والتهوسات. وقد حملهم التعصب لالهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا: (لو لا نزل عليه آية من ربه) ولم يقولوا: من ربنا أو من الله ونحوهما إزراء بأمره وتأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه ويدعو إليه حقا فليغر له ربه الذى يدعو إليه ولينصره ولينزل عليه آية تدل على حقية دعواه. والذى بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون لالهتهم استقلالا في الامور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام
[ 71 ]
الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الامر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره، وكذلك إله البر وإله البحر وإله الحب وإله البغض وسائر الالهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الامر بين أعضاده وإن كان هؤلاء شفعاءه وهو رب الارباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفى الوهيتها. وكان يحضهم على هذه المزعمة ويؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلوله لا سبيل له إلى تغيير شئ من النظام الجارى، وخرق العادة المألوفة في عالم الاسباب.
وثانيهما: أن الايات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا واليد البيضاء لموسى وإحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وخلق الطير لعيسى، والقرآن الكريم لمحمد صلى الله عليه وآله وعليهم. لكن الاية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها وإلا نزل عليهم العذاب ولم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح وهود وصالح وغير ذلك، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: (وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) (الانعام 8)، وقوله: وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) (الاسراء: 59). وقد أشير في الاية الكريمة أعنى قوله: (وقالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)، إلى الجهتين جميعا. فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، وكيف يمكن إن يفرض من هو مسمى بإسم (الله) ولا تكون له القدرة المطلقة، وقد بدل في الجواب لفظة (الرب) إلى إسم (الله) للدلالة على برهان الحكم، فان الالوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، والجهل بالمقام الالوهى هو الذى بعثهم إلى اقتراح الاية بداعي التعجيز. على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الاية لا يوافق مصلحتهم، وأن اجتراءهم
[ 72 ]
على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم وقطع دابرهم، والدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام، قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بينى وبينكم والله أعلم بالظالمين) (الانعام ك: 58).
وفي قوله تعالى: (نزل) و (ينزل) مشدديمن التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكى من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، أو تكون لك جنة - إلى أن قال - أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) الايات (الاسراء: 93)، وقوله: (وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) (الفرقان: 21) وقوله: (وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة) (الفرقان: 32). وروى عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف. قوله تعالى: (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) إلى آخر الاية، الدابة كل حيوان يدب على الارض وقد كثر استعماله في الفرس، والدب بالفتح والدبيب هو المشى الخفيف. والطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، وجمعه الطير كالراكب والركب، والامة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، والاصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، والحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء ونحوه من الامور الاجتماعية. والظاهر أن توصيف الطائر بقوله: (يطير بجناحيه) محاذاة لتوصيف الدابة بقوله: (في الارض) فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان إرضى ولا هوائي، مع ما في هذا التوصيف من نفى شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: (يطير بجناحيه).
[ 73 ]
(كلام في المجتمعات الحيوانية) والخطاب في الاية للناس، وقد ذكر فيها أن الحيوانات أرضيه كانت أو هوائية هي أمم مثال الناس، وليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة وعدد فإن الامة
لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطرارى أو اختياري يقصده أفراده، ولا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى وسائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك وإن صحح الحكم بمماثلتها الانسان لكن قوله في ذيل الاية: (ثم إلى ربهم يحشرون) يدل على أن المراد بالممائلة ليس مجرد التشابه في الغذاء السفاد والاواء بل هناك جهة اشتراك اخرى تجعلها كالانسان في ملاك الحشر إلى الله، وليس ملاك الحشر إلى الله في إلانسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التى تخد للانسان خدا إلى سعادته وشقائه، فإن الفرد من الانسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء وأوفق النكاح وأنضر المسكن ولا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم والفجور أو أن يحيط به جماع المحن والشدائد والبلايا وهو سعيد في حياته مبتهج بكمال الانسانية ونور العبودية. بل حياة الانسان الشعورية وإن شئت فقل: الفطرة الانسانية وما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للانسان سنة مشروعة من الاعتقاد والعمل إن أخذ بها وجرى عليها ووافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا والاخرة، وإن استن بها وحده سعد بها في الاخرة أو في الدنيا والاخرة معا، وإن لم يعمل بها وتخلف عن الاخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا والاخرة. وهذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير والطاعة، والزجر عن الشر والمعصية، وإن شئت قلت: الدعوة إلى العدل والاستقامة، والنهى عن الظلم والانحراف عن الحق فإن الانسان بفطرته السليمة يستحسن امورا هي العدل في نفسه أو غيره، ويستقبح امورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الالهى يؤيدها ويشرح له تفاصيلها. وهذا محصل ما تبين لنا في كثير من الابحاث السابقة وكثير من الايات القرآنية
[ 74 ]
تفيد ذلك وتؤيده كقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس: 10)، وقوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقره: 213). والامعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التى تزامل الانسان في كثير من شئون الحياة، وأحوال نوع منها في مسير حياتها وتعيشها يدلنا على أن لها كالانسان عقائد وآراء فردية واجتماعية تبنى عليها حركاتها وسكناتها في ابتغاء البقاء نظيرة ما يبنى الانسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد والاراء. فالواحد منا يشتهى الغذاء والنكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأى أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه، وأن يتزوج وأن ينسل وهكذا، وأن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر وهكذا فيتحرك ويسكن على طبق ما اتخد له هذه الاراء اللائحة لنفسه من الطريق. كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التى يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء والسفاد والمأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه وما يرتفع به حاجته، وآراء وعقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع ودفع المضار كما في الانسان، وربما عثرنا فيها من أنواع الحيل والمكائد للحصول على الصيد والنجاة من العدو من الطرق الاجتماعية والفردية ما لم يتنبه إليه الانسان إلا بعد طى قرون وأحقاب من عمره النوعى. وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل والنحل والارضة على عجائب من آثار المدنية والاجتماع، ودقائق من الصنعة ولطائف من السنن
والسياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الامم ذوى الحضارة والمدنية من الانسان. وقد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان والتفكر في خلقها وأعمالها عامة كقوله
[ 75 ]
تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) (جاثيه: 4) ودعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالانعام والطير والنحل والنمل. وهذه الاراء والعقائد التى نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة ومقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الاحكام الباعثة والزاجرة لم تخل عن استحسان امور واستقباح امور، ولم تخل عن معنى العدل أو الظلم. وهو الذى يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس والفرس وبين الكبش والكبش وبين الديك والديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب ولين العريكة. وكذا يؤيده جزئيات اخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد وغير ذلك مما نجدها بين الافراد من نوع وقد وجدنا نظائرها بين أفراد الانسان، ووجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن والقبح في الافعال، والعدل والظلم في الاعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الانسان الاخروية، وملاكا لحشره ومحاسبة أعماله والجزاء عليها بنعمة أو نقمة اخروية. وببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما ان للانسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الانسان ملاكا للحشر ويستدل به عليه كما في قوله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28) بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء والارض وما بينهما بطلانا لفعله وصيرورته لعبا أو جزافا كما في الاية السابقة على هذه الاية: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) (ص: 27). فهل للحيوان غير الانسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للانسان حشرا إليه ؟ ثم
إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الانسان فيحاسب على أعماله وتوزن وينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا ؟ وهل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل وإنزال إلاحكام ؟ وهل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان ؟.
[ 76 ]
هذه وجوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف: أما السؤال لاول (هل للحيوان غيرالانسان حشر ؟) فقوله تعالى في الاية: (ثم إلى ربهم يحشرون) يتكفل الجواب عنه، ويقرب منه قوله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) (كورت: 5). بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات والارض والشمس والقمر والنجوم والجن والحجارة والاصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله، والذهب والفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة. وأما السؤال الثاني، وهو أنه هل يماثل حشره حشر الانسان فيبعث وتحضر أعماله ويحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الافراد وسوقهم إلى أمر بالازعاج، وأما مثل السماء والارض وما يشابههما من شمس وقمر وحجارة وغيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: (يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) (ابراهيم: 48) وقوله: (والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) (الزمر: 67) وقوله: (وجمع الشمس والقمر) (القيامة: 9) وقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) (الانبياء: 99). على ان الملاك الذى يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (السجدة: 25) وقوله: (ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون) (آل عمران: 55) وغير ذلك من الايات. ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: (أنا من المجرمين منتقمون) (السجدة: 22) وقوله: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام، يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) (ابراهيم: 48) وهذان الوصفان أعنى الاحسان والظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.
[ 77 ]
ويؤيده ظاهر قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) (النحل: 61) فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الالهية كان ذلك لانه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الانسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لان يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الاية خصوص الانسان. ولا يلزم من شمول الاخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوى الانسان في الشعور والارادة ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الانسان في نفسياته وروحياته، والضرورة تدفع ذلك، والاثار البارزة منها ومن الانسان تبطله. وذلك أن مجرد الاشتراك في الاخذ والانتقام والحساب والاجر بين الانسان وغيره لا يقضى بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضى الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الانسان أنفسهم أن يجرى حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد. على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الانسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذى حكى عن نملة سليمان بقوله: (حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) (النمل: 18) وما حكاه من قول هدهد
له عليه السلام في قصة غيبته عنه: (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) إلى آخر الايات (النمل: 24) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الايات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها. وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لانواع الحيوان المختلفة من عجائب الاحوال التى لا تكاد تظهر إلا من موجود ذى إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.
[ 78 ]
وأما السؤال الثالث والرابع أعنى أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه ووحى ينزل عليه ؟ وهل هذاالرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه ؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائده فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، والكلام الالهى على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شئ من ذلك، ولا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي والائمة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم ما يعتمد عليه في ذلك. فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الانساني فيها مادة الدين الالهى ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الانسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الانسان للحشر والجزاء، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الانسان - وتؤيده الايات القرآنية الناطقة بتسخير الاشياء للانسان وأفضليته من عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الانسانية ولا كلف بدقائق التكاليف الالهية التى كلف بها الانسان.
* * * ولنرجع إلى متن الاية فقوله تعالى: (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) يدل على أن المجتمعات الحيوانية التى توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعيه شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور والارادة كالانسان. وليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعنى مقاصد التغذى والنمو وتوليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدى الشعور والارادة. وربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الانسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار. ولذلك يعد أفعال الحيوان كافعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الاقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الاسد إذا رأى فريسته، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب
[ 79 ]
كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الانسان. لكن التأمل في معنى الاختيار والحالات النفسية التى يتوسل بها الانسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والارادة الذين يتم بهما فعل الانسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الانسان مثلا لانه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، ولذلك جهزته العناية الالهية بالشعور والارادة فهو يميز بشعوره الحى ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الامور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى ازيد من وجدانه وحصول العلم به أراده من فوره وفعله وتصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، وأما ما كان من الامور غير بين النفع
موسوما بنقص من الاسباب أو محفوفا بشئ من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به. فهذه الامور هي التى يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جة ما معها من النواقص والموانع والتروى فيها ليميز بذلك أنما هل هي من قبيل النافع أو الضار ؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الارادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينه النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، وذلك كالانسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لان يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أومسموم أو مشتمل على مواد مضرة ؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه ؟ وحينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه. وإن لم يشك في أمره وكان بينا عنده من أول الامر أنه طيب صالح للتغذي أراده إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا. فمحصل حديث الاختيار أن الانسان إذا لم يتميز عنده بعض الامور التى يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروى والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب ة
[ 80 ]
وأما لو تميز من أول الامر أراده ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالانسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروى إلا لرفع الموانع عن الحكم. ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الانسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوى اختلاف شديد في مبادى اختيارهم أعنى الصفات الروحية والاحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهى الانهماك
فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفى عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الابى عن الضيم الموت الاحمر وأى زجر بدنى أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لاى مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور واه، ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بإمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن إعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر. وهذا الاختلاف الفاحش في مبادى الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الافعال الاختيارية هو الذى بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الانساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الامر والنهى والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذورا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذى يأتي به الانسان المتوسط من المبادى والاسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم. فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الدينى أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الامر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك. والامعان فيما تقدم يعطى أن يجزم بأن الحيوان غير الانسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار
[ 81 ]
وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الاهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافه أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في
أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الانسان المتوسط. وإذا صح أن الحيوان غير الانسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الانعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به. وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) جملة معترضة، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، لفظ (من شئ) بيان للفرط الذى يقع التفريط به، والمعنى لا يوجد شئ تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل. والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذى يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شئ مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الاممية المماثلة لنظام الانسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبنى عليها خلقه الانواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه الانواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال. فالاية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20)، وقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم) (هود: 56). وإن كان هو القرآن الكريم وقد سما الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدى إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التى لا غنى عن بيانها في الارشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في
[ 82 ]
بيان كل ما يتوقف على معرفته سعاده الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (النحل: 89). ومما يجب إن يعرفه الناس في سبيل تفقه إمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر وهو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الاممى في الدنيا، وأن ذلك هو الذى يجدونه بين أنفسهم ويجدونه بين سائر الانواع الحيوانية، ويترتب عليه دون ذلك فوائد اخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام العام الجارى في العالم، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للانسان وما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الانسان ثم الانسان. وقد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الايات المودعة في وجوده أبلغ الندب، وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الانسانية وهو اليقين بالله سبحانه حيث قال: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) (الجاثيه: 4)، والايات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم. ومن الممكن أن يشار في الاية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شئ، أما في كتاب التكوين فإنه يقضى ويقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالانواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الاممية الاجتماعية ما هيأه للانسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، وأما في كتابه الذى هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك، ومن ذلك أنه لم يفرط في أمر الامم الحيوانية، وبين في هذه الاية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التى جعلتهم امما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالانسان. وقوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم
الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الانسانية كذلك، ولذلك أرجع الضمير المستعمل في اولى الشعور والعقل، فقال: (إلى ربهم يحشرون) إشارة إلى
[ 83 ]
أن أصل الملاك وهو المر الذى يدور عليه الرضا والسخط والاثابة والمؤاخذة موجودفيهم. وقد وقع في الاية التفات من الغيبة إلى الغيبة باالنسبة إليه تعالى، والتدبر فيها يعطى أن الصل في السياق الغيبة وإنما تحول السياق في قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا باالنبى صلى الله عليه واله فلما فرع منه رجع إلى أصل السياق. ومن عجيب ما قيل في الاية استدل بعضهم بها على التناسخ وهو أن تتعلق نفس النسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذى رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار ببدن ثعلب، ونفس المفسد الحقود ببدن الذئب، ونفس من يتبع سقطات الناس ولا تزال تنتقل من بدن وتعذيب بذالك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيله، وإن كانت سعيدة تعلقت الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد النسان ومعنى الاية على هذه: مامن حيوان من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات. وقد ظهر مما تقدم أن الاية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الاية: (ثم إلى ربهم يحشرون) لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الاقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها والبحث عن صحتها وسقمها. ومن عجيب ما قيل فيها أيضا: أن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت والبعث. أما الاول فينفيه ظاهر قوله: (إلى ربهم) إذ لا معنى للموت إلى الله، وأما الثاني فهو من لالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، ولا أن في الاية ما يستوجبه.
قوله تعالى: (والذين كذبوا باياتنا صم وبكم في الظلمات) إلى آخر الاية يريد تعالى أن المكذبين لاياته محرومون من نعمة السمع والتكلم والبصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق وأن يستجيبوا له، ولبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق ويشهدوا بالتوحيد والرسالة، ولاحاطة
[ 84 ]
الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا. وفي قوله تعالى: (من يشاء الله يضلله) الخ، دلالة على أن هذا الصمم والبكم والوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: (وما يضل به إلا الفاسقين) (البقره: 26). فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الامر بالعكس وعلى هذا فالمراد بالاضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات والمراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته. وبالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعى الله بلسانه ويتبصر بالحق ببصره، وأن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشإ الله يضلله ولا يشاء إلا إضلال من يستحقه ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ولا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته. وقد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم والبكم والعمى وما يشابه ذلك من الصفات، وقد عنى في الاية بنكتة اخرى، وهى ما يفيده الوصل والفصل في قوله: (صم وبكم في الظلمات) حيث ذكر الصمم وهو من أوصافهم ثم ذكر البكم وعطفه عليه وهو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات ولم يعطفها وهى صفة ثالثة، وبالجملة وصل بعض الصفات وفصل بعضها، وقد اتى في مثل الاية بحسب المعنى بالفصل أعنى قوله في المنافقين: (صم بكم عمى) (البقره: 18)،
وفي آية اخرى يماثلها بالعطف وهى قوله في الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) (البقره: 7). ولعل النكتة في الاية التى نحن فيها أعنى قوله: (صم وبكم في الظلمات)، الاشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، والبكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد وبطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم وبغيهم بكم
[ 85 ]
لا تنطلق إلسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق والشهادة بها، والطائفتان جميعا تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، ولا يسع غيرهما أن يبصرهما بشئ من الاشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الاشارة. ويؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الايات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الايات السابقة: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) (آية: 26)، وكذا قوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (آية: 37). هذا في الاية التى نحن فيها، وأما آية المنافقين: (صم بكم عمى)، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، وأما آية الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: (وقالوا قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) (حم السجدة: 5) وربما وجهت الاية بغير ذلك من الوجوه. قوله تعالى: (قل إرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة) إلى آخر الايتين لفظ (أرأيتكم) بهمزة الاستفهام وصيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية وضمير الجمع المخاطب، أخذه أهل الادب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات: ويجرى
(أرأيت) مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف ويترك التاء على حالته في التثنية والجمع والتأنيث، ويسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: (أرأيتك هذا الذى) قل أرأيتكم، انتهى. وفي الاية تجديد احتجاج على المشركين، وإقامة حجة على بطلان شركهم من وجه، وهو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الانسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه. ثم تسألهم أنه من الذى تدعونه وتتوجهون إليه بالمسأله إن كنتم صادقين ؟ أغير الله تدعون من أصنامكم وأوثانكم التى سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون ؟ وهيهات أن تدعوا غيره وأنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالاحكام الكونية مثلكم لا
[ 86 ]
ينفعكم دعاؤها شيئا. بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لان الانسان إذا أحاطت به البلية وهزهزته الهزاهز ينسى كل شئ دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية، والرافع الذى يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم وتدعون من يرفعها من دونهم وهو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، وليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة ولا مضطرا إلى الكشف إذا دعى بل هو القادر على كل شئ في كل حال. فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذى لا ينساه الانسان وإن نسى كل شئ إلا نفسه ويضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها. فمعنى الاية (قل) يا محمد (أرأيتكم) أخبروني (إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة) فرض إتيان عذاب من الله ولا ينكرونه، وفرض إتيان الساعة ولم يعبأ بإنكارهم
لظهوره (أغير الله تدعون) لكشفه، وقد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا ويوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الانسان (إن كنتم صادقين) وجئتم بالنصفة (بل إياه) الله سبحانه دون غيره من أصنامكم (تدعون فيكشف ما تدعون إليه) من العذاب (إن شاء) أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، وليس بمجبر ولا مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية (وتنسون ما تشركون) من الاصنام والاوثان على ما في غريزة الانسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شئ بنفسه، ولا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله والحال هذه بدعاء الله سبحانه ونسيانه الاصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره ولا معبود سواه. وبما تقدم من تقرير معنى الاية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة، وكذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الاية، والمطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عزاسمه دون الاصنام، وأما أصل الدعاء عند الشدائد والمصائب، وأن للانسان توجها جبليا عند ما تطل عليه البلية ويتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة اخرى
[ 87 ]
غير هذه الحجة، والمطلوب بهذه الحجة - وهى التى في هذه الاية - التوحيد وبتلك الحجة، إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، وإن تلازم المطلوبان. وثانيا: أن تقييد قوله: (فيكشف ما تدعون إليه)، بقوله: (إن شاء) لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التى لا ريب فيها، فإن قضاءه الحتم لامر من الامور وإن كان يحتمه ويوجبه لكنه لا يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، وما لم يقض به، و مثل الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود وأمر محتوم إن يشأ يأت به وإن لم يشأ لم يأت به وإن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما ووعده وعدا جزما والله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك. وله سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه وإن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال: (وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) (البقره: 186)
ووعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: (ادعوني أستجب لكم) (المؤمن: 60) فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة وإن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء، وتجرى على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه. ومن هنا يظهر فساد ما استشكل على الاية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة أن الساعة لا ريب فيها ولا محيص عن وقوعها وأن عذاب الاستئصال لا مرد له، وقد قال تعالى: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (المؤمن: 50). وجه الفساد أن الاية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء وأنه قادر على كل شئ، وأما أنه يشاء كل شئ ويفعل كل شئ فلا دلالة فيها على ذلك ولا ريب أن قضاءه الحتمى بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء وإن كان لا يخلف الميعاد ولا ينقض ما أراد. وأما قوله تعالى: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابهاو تخفيفه عنهم، ومن المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم وفصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الالوهية أن يرجع
[ 88 ]
إليه الخلق على حسب أعمالهم، فلمثل هذه الادعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة معناها، وأما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقه ويتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة كما هو ظاهر قوله: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) الاية، فإن ذلك لا يرد البتة والدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا ولو حين الدعاء كما قال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) (العنكبوت: 65). فما في قوله: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) دعاء منهم وهم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء وإن كان من الجائز أن يفارقهم في
دار العمل بالتوبة والايمان. فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم - كما حكى الله - والله ربنا ما كنا مشركين، ولا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا ورسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر، ونظير أكلهم وشربهم وخصامهم في النار، ولا غنى لهم في شئ من ذلك، كما قال تعالى: (تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع) (الغاشيه: 7)، وقال تعالى: (ثم أنكم أيها الضالون المكذبون لاكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) (الواقعة: 55)، وقال تعالى: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) (ص: 64)، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم. وما قبل الاية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته وهو قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (المؤمن: 50)، فان مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم، والدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء ومسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة. وثالثا: أن النسيان في قوله: (وتنسون ما تشركون) حقيقة معناه على ما هو)
[ 89 ]
المشهود من حال الانسان عند ما تغشاه الشدائد والخطوب إذ يشتغل بنفسه وينسى كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: (وتنسون ما تشركون تعرضون عنها إعراض من نسى الشئ عنه. وإن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمه النسيان، وقد
استعمل في القرآن النسيان بمعنى الاعراض عن الشئ وعدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) (الجاثيه: 34) إلى غير ذلك من الايات. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) البأساء والبأس والبؤس هو الشدة والمكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب ونحوه والبأس والبأساء في غيره كالفقر والجدب والقحط ونحوها، والضر والضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم وجهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض ونقص بدنى أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، ولعل المقصود من الجمع بين البأساء والضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب والسيل والزلزلة، وما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف والفقر ورثاثة الحال. والضراعة هي المذلة والتضرع التذلل والمراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل عليهم من نوازل الشدة والرزية. والله سبحانه يذكر لنبيه صلى الله عليه وآله في هذه الاية وما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في الامم التى من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه والتضرع وإخلاص الانابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة والمحن ويأخذهم بالبأساء والضراء ولكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع ولا يضطرهم إلى الابتهال والاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، ويلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية وعن الاخلاد إلى الاسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم، وأنساهم ذلك ذكر الله. فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شئ وصب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم واغتروا واستقلوا بأنفسهم من دون الله
[ 90 ]
أخذهم الله بغتة ومن حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما عندهم من الاسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. وهذه السنة سنه الاستدراج والمكر الذى لخصها الله تعالى في قوله: (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) (الاعراف: 183). وبالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الاية والتدبر في سياقها يظهر أن الاية لا تنافى سائر الايات الناطقة بأن الانسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته وجبلته إلى الاقرار به والتوجه إليه عند الانقطاع عن الاسباب الكونية كما قال تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) (لقمان: 32). وذلك أن الاية لا تريد من البأساء والضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة والمهابة مبلغا يذهلون به عن كل سبب وينسون به كل وسيلة عادية، ومن الدليل على ذلك قوله في الاية: (لعلهم يتضرعون) إذ (لعل) كلمة رجاء ولا رجاء مع الالجاء والاضطرار، وكذا قوله تعالى: (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) فإن ظاهره إنهم اغتروا بذلك وتوسلوا في رفع البأساء والضراء إلى أعمالهم التى عملوها بأيديهم ودبروها بتدا بيرهم للغلبة على موانع الحياة وأضداد العيش فاشتغلوا بالاسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله سبحانه والاعتصام به، كقوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) (المؤمن: 84)، فالاية الاولى - كما ترى - تحكى عنهم نظير ما تحكيه الاية التى نحن فيها من الاعراض عن التضرع والاغترار بالاعمال والاية الثانية تحكى ما تحكيه الايات الاخرى من التوحيد في حال الاضطرار. ومن هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الاية كون الامم السابقة
مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الاية: أقسم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، وأشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق،
[ 91 ]
وينسون ما اتخذوه من الاولياء والانداد، وأما تلك الامم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى. ولازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الاوهام الشاغلة والانقطاع عن الاسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، وقد قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (الروم: 30) فأفاد أن دين التوحيد فطرى، وأن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير وأيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الانسان عند انقطاعه عن الاسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة. على أن الاقرار بالاله الواحد عند الشدة والانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا ولا يختلف في ذلك الانسان الاولى وإنسان اليوم البتة. قوله تعالى: (فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم) الخ، (لو لا) للتحضيض أو للنفي، وعلى أي حال تفيد في المقام فائدة النفى بدليل قوله: (ولكن قست قلوبهم) وقسوة القلب مقابل لينه، وهو كون الانسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير. والمعنى: فلم يتضرعوا حين مجئ البأس ولم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه، وتلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه و أخلدوا إلى الاسباب الظاهرة التى كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم. قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ) الخ، المراد
بفتح أبواب كل شئ إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التى يتنافس فيها الناس لتمتع من مزايا الحياة من المال والبنين وصحة الابدان والرفاهية والخصب والامن والطول والقوه، كل ذلك توفيرا من غير تقتير ومنع كما أن خزانه المال إذا أعطى منها أحد بقدر وميزان فتح بابها فاعطى ما أريد ثم سد، وأما إذا أريد الاعطاء من غير تقدير فتح بابها ولم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام.
[ 92 ]
على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات والنعم وأما السيئات والنقم فإنما تتحقق بالمنع ويناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (فاطر: 2). ومبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الابلاس الحزن المعترض من شدة اليأس - إلى أن قال - ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته، انتهى. وعلى هذا المعنى المناسب لقوله: (فإذا هم مبلسون أي خامدون منقطعوا الحجة. ومعنى الاية أنهم لمانسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم وفرحوا بما اوتوا منها أخذناهم فجأه فانخمدت أنفاسهم ولا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك. قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) دبر الشئ مقابل قبله وهما الجزءان: المقدم والمؤخر من الشئ، ولذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين، وربما توسع فيهما فاطلقا على ما يلى الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشئ، وقد اشتق منهما الافعال بحسب المناسبة نحو أقبل وأدبر وقبل ودبر وتقبل وتدبر واستقبل واستدبر، ومن ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشئ ويليه من ورائه، ويقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، ويطلق
الدابر بهذا المعنى على أثر الشئ كدابر الانسان على أخلافه وسائر آثاره، فقوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) أي أن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا ولا أثرا أو أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: (فهل ترى لهم من باقية (الحاقه: 8). ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (دابر القوم الذين ظلموا) دون أن يقال: دابرهم للدلالة على سبب الحكم وهو الظم الذى أفنى جمعهم وقطع دابرهم، وهو مع ذالك يمهد السبيل إلى إيراد قوله: (والحمد لله رب العالمين). ومن هذه الاية بما تشتمل على وصفهم بالظلم وعلى حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم والسوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لانهم القوم الذين ظلموا، وأنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لانه لم يأت في تدبير
[ 93 ]
أمرهم إلا بما تقتضية الحكمة البالغة، ولم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزى والسوء على الكافرين، وأن الحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) إلى آخر الاية، أخذ السمع والابصار هو سلب قوتي السمع والابصار وهو الاصمام والاعماء. والختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شئ من خارج حتى تتفكر في أمرها، وتميز الواجب من الاعمال من غير: والخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية وهو صلاحية التعقل وإلا كان جنونا وخبلا. وإذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه ولا يبصرون آياته الداله على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شئ من واردات السمع والبصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الاله تعالى وحدته.
وملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه وذلك أن القول بالشركاء لاثبات الشفاعة، وهى أن تشفع وتتوسط في جلب المنافع ودفع المضار، وإذ كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم فعل ذلك ولم يعارضه أحد من شركائكم لانها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، ولو فعل ذلك وسلب ما سلب لم يقدر حد منها أن يأتيكم به لانها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق والايجاد. وإذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى الوهيتها فليس الاله إلا من يوجد ويعدم ويتصرف في الكون كيف شاء، وإنما اضطرت الفطرة الانسانية إلى الاقرار بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدأ حوادث الخير والشر التى تشاهدها في الوجود، وإذ كان شئ لا يضر ولا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول. وليس لانسان صحيح العقل والتمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية
[ 94 ]
أو فلزية عملته يد الانسان وصنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالايجاد والاعدام وكذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه عبدا مربوبا. والحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الالوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع والايجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف والتعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، والواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا ومبدأ لا واسطة وشفيعا وإن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدا وإلها.
ولذا كانت الاسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الالة والاداة كسببية الاكل للشبع والشرب للرى والوالدين للولد والقلم للكتابة والمشى لانطواء المسافة وهكذا. وقوله: (انظر كيف نصرف الايات ثم هم يصدفون) تصريف الايات تحويلها إلى نحو أفهامهم، والصدوف الاعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشئ. قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) إلى آخر الاية، الجهرة الظهور التام الذى لا يقبل الارتياب ولذا قابلت البغتة التى هي إتيان الشئ فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه وغشيانه فلا يترك له مجال التحذر. وهذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم، ولا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم م بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة الالهية وتكذيبهم بآيات الله تعالى. وذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه ويدمره من جزاء إجرامه ولا إجرام إلا مع ظلم، فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا ما يدل عليه الاية ثم بين الايتين التاليتين أنهم هم الظالمون. قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين إلى آخر الايتين يبين بالايتين أنهم هم الظالمون، ولا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.
[ 95 ]
ولذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي صلى الله عليه وآله ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر وجئ بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة والكبرياء. فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة
الاتين بالعذاب نخبرك أن أرسالنا الرسل إنما هو للتبشير والانذار فمن آمن وأصلح فلا عليه، ومن كذب بآياتنا فهو الذى يمسه عذابنا لفسقه وخروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم ؟. وقد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الايمان والاصلاح والفسق ومعنى نفى الخوف والحزن عن المؤمنين، قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك) لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لامسكتم خشية الانفاق) (: الاسراء: 100) وخزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن أثره، قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له) الاية، (فاطر: 2) وهى فائضة الوجود التى تفيض من عنده تعالى على الاشياء من وجود ها وآثار وجودها، وقد بين قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس: 82) أن مصدر هذا الاثر الفائض هو قوله، وهو كلمة (كن) الصادرة عن مقام العظمة والكبرياء، وهذا هو الذى يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21). فالمراد بخزائن الله هو المقاالذى يعطى بالصدور عنه ما أريد من شئ من غير أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل وسماحة، وهذا مما يختص بالله سبحانه، وأما غيره كائنا ما كان ومن كان فهو محدود وما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل، وما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، وإرضاء أي طالب، وإجابة أي سؤال. وأما قوله: (ولا أعلم الغيب) فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحى، وذلك أنه تعالى يثبت الوحى في ذيل الاية بقوله: (إن اتبع إلا ما يوحى إلى)، وقد
[ 96 ]
بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) (الجن: 26)، وكقوله بعد
سرد قصة يوسف وذلك: (من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) (يوسف: 102)، وقوله في قصة مريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصون) (آل عمران: 44)، وقوله بعد قصة نوح: (تلك من انباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا (هود: 49). فالمراد بنفى علم الغيب نفى أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للانسان بحسب العاده إلى العلم به من خفيات الامور كائنة ما كانت. وأما قوله: (ولا أقول لكم إنى ملك) فهو كناية عن نفى آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل وشرب ونكاح وما يلحق بذلك، وقد عبر عنه في مواضع اخرى بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى) (الكهف: 110)، وإنما عبر عن ذلك ههنا بنفى الملكية دو إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه صلى الله عليه وآله السلام بمثل قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق) (الفرقان: 7). ومن هنا يظهر أن الاية بما في سياقها من النفى وبعد النفى - كأنها ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي صلى الله عليه السلام من سؤال الايات المعجزة والاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) (الفرقان: 8)، وقوله: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف إلى أن قال - قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) (الاسراء: 93)، وقوله: (فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو)
(الاسراء: 51)، وكقوله چ (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) (الاعراف: 187).
[ 97 ]
فمعنى قوله: (قل لا أقول لكم) الخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الانسان حتى تبكتونى بإلزامى بما تقترحونه على فلم أدع أنى أملك خزائن الالوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف، ولا ادعيت أنى أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت إستار الغيوب كقيام الساعة ولا ادعيت أنى ملك حتى تعيبونى وتبطلوا قولى بأكل الطعام والمشى في الاسواق للكسب. قوله تعالى: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولى: إنى رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله ولا أنى أعلم الغيب ولا أنى ملك بل أن الله يوحى إلى بما يوحى. ولم يثبته في صورة الدعوى بل قال: (إن أتبع) الخ، ليدل على كونه مامورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له الا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا ولا كذا ولا كذا قيل له: فإذا كان كذلك وكنت بشرا مثلنا وعاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا ؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلى أن أبشركم وانذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد. والدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: (قل لا يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون) فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أنى وإن ساويتكم في البشرية والعجز لكن ذلك لا يمنعنى عن دعوتكم إلى اتباعى فإن ربى جعلني على بصيرة بما أوحى إلى دونكم فأنا وأنتم كالبصير والاعمى ولا يستويان في الحكم وإن كانا متساويين في الانسانية فإن التفكر في أمرهما يهدى الانسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الاعمى، والعالم يجب أن يتبعه الجاهل.
قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) إلى آخر الاية الضمير في (به) راجع إلى القرآن وقد دل عليه قوله في الاية السابقة: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) وقوله: (ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) حال والعامل فيه يخافون أو يحشرون.
[ 98 ]
والمراد بالخوف معناه المعروف دون العلم وما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر من السياق، والامر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافى عموم الانذار لهم ولغيرهم كما يدل عليه قوله في الايات السابقة: (وأوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) (آية: 19) بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا لنفوسهم على القبول ومقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الامر بالانذار بهم ووصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم وتحريضا له أن لا يسامح في أمرهم ولا يضعهم موضع غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لان موقفهم أقرب من الحق وإيمانهم أرجى فالاية بضميمة سائر آيات الامر بالانذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة ولا سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. وقوله: (ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع) نفى مطلق لولاية غير الله وشفاعته فيقيده الايات الاخر المقيدة كقوله: (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه: (البقره: 255) وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الانبياء: 28) وقوله: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (الزخرف: 86). وإنما لم يستثن في الاية لان الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الاوثان وشفاعتها، ولم يكونوا يقولون بذلك بالاذن والجعل فإن الولاية والشفاعة عن إذن يحتاج القول به إلى العلم، به والعلم إلى الوحى والنبوة، وهم لم يكونوا قائلين بالنبوة، وأما الذى أثبتوه من الولاية والشفاعة فكأنه أمر متهئ لاوليائهم وشركائهم بالضرورة
من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه بالطبع وإن لم يأذن به الله سبحانه، وإن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا إضطراريا في التصرف في ما دونها. وبالجملة قيل: (ما لهم من دونه ولى ولا شفيع) ولم يقل: إلا بإذنه لان المشركين إنما قالوا إن الاوثان أولياء وشفعاء من غير تقييد فنفى ما ذكروه من الولى والشفيع من دون الله محاذاة بالنفى لاثباتهم، وأما الاستثناء فهو وإن كان صحيحا كما وقع في مواضع من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض ههنا. وقد تبين مما تقدم أن الاية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار
[ 99 ]
خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين وغيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنأ فإن الخوف من شئ يتحقق بمجرد احتمال وجوده وإن لم يوقن بتحققه. وقد اختلفت أنظار المفسرين في الاية فمن قائل: إن الاية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر، وأنهم هم الذين عنوا في الاية التالية: (بقوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) ومن قائل إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق. ومن قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، وإنما خص هؤلاء المعترفون بالامر بالانذار مع أن وجوب الانذار عام لجميع الخلق لان الحجة أوجب عليهم لاعترافهم بالمعاد. لكن الاية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، ولا يتوقف الخوف من الشئ على العلم بتحققه ولا الاعتراف بوجوده بل الشك - وهو الاحتمال المتساوي طرفاه - والمظنة وهى الادراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم وهو ظاهر.
فالاية إنما تحرض النبي صلى الله عليه وآله على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة كان لان بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر وإقامة المحاسبة على السيئة والحسنة والمجازاة عليهما، وأدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه، وكلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف وقوى التأثير حتى يتلبس باليقين وينتفى احتمال الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام. قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إلى آخر الاية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الاية التالية: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) الخ، أن المشركين من قومه صلى الله عليه واله اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه الله تعالى في هذة الاية عن ذلك. وذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الامم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين استكبارا وتعززا، وقد حكى الله تعالى ذلك
[ 100 ]
عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته عليه السلام حجاجا يشبه ما في هذه الايات من الحجاج قال تعالى: (فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون - إلى أن قال - وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم - إلى أن قال - ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين) (هود: 31). والتطبيق بين هذه الايات والايات التى نحن فيها يقضى أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ويريدون وجهه هم المؤمنين، وإنما ذكر دعائهم بالغداة والعشي وهو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى وليوضح
ما سيذكره من قوله: (أليس الله بأعلم بالشاكرين). وقوله: (يريدون وجهه) أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته: أصل الوجه الجارحة قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وتغشى وجوههم النار، ولما كان الوجه أول ما يستقبلك وأشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شئ وفي أشرفه ومبدئه فقيل: وجه كذا ووجه النهار، وربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام، قيل: ذاته، وقيل: أراد بالوجه ههنا التوجه إلى الله بالاعمال الصالحة. وقال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شئ هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله، إنما نطعمكم لوجه الله، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته ويعنى بذلك كل شئ هالك إلا هو وكذا في أخواته، وروى أنه قيل ذلك لابي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذى يؤتى منه ومعناه: كل شئ من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله، وعلى هذا الايات الاخر، وعلى هذا قوله: يريدون وجهه، يريدون وجه الله، انتهى. أقول: أما الانتقال الاستعمالى من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشئ غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الالفاظ في معانيها لكن النظر
[ 101 ]
الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشئ أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشئ من ظواهر نفسه من صفاته وأسمائه، وهى التى تتعلق بها المعرفة فانا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة. فإنا إنما ننال معرفة الاشياء أولا بأدوات الحس التى لا تنال إلا الصفات من أشكال وتخاطيط وكيفيات وغير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لاعراضها وأوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها
ويحفظها ففى الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشئ الذى نسبته إلى أوصاف زيد وخواصه كنسبتنا إلى أوصافنا وخواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس والنسبة. وإذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكرى إلا من طريق أوصافها وآثارها بضرب من القياس والنسبة فالامر في الله سبحانه ولا حد لذاته ولا نهاية لوجوده أوضح وأبين، ولا يقع العلم على شئ إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الاحاطة العلمية به، تعالى قال: (وعنت الوجوه للحى القيوم) (طه: 111) وقال: (و لا يحيطون به علما) (طه: 110). لكن وجه الشئ لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعنى ما ينتهى إليه الاشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشئ الذى يحد الاشارة كالوجه بالنسبة إلى الانسان يستقبل غيره به، وبهذه العناية تصير الاعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الاعمال الطالحة وجه للشيطان وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: (يريدون وجه الله) و قوله: (إنما نطعمكم لوجه الله) وغير ذلك، وكذا الصفات التى يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التى نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الاشعار أو الدلالة قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) (الرحمن: 27) فإن ظاهر الاية أن قوله: (ذو الجلال والاكرام نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.
[ 102 ]
وإذا صح أن ناحيته تعالى جهته ووجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه وصفاته وكدينه، وكالاعمال الصالحة وكذا كل من يحل في ساحة قربه كالانبياء والملائكة والشهداء وكل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.
وبذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: (وما عند الله باق) (النحل: 96)، وقوله: (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) (الانبياء: 19)، وقوله: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه) (الاعراف: 206)، وقوله فيمن يقتل في سبيل الله: (بل أحياء عند ربهم يرزقون) (آل عمران: 169)، وقوله: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) (الحجر: 21)، فالايات تدل بانضمام الاية الاولى إليهن أن هذه الامور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك والبوار إليها، ثم قال تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) (القصص: 88) فدل الحصر الذى في الاية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه وبعبارة اخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه وناحيته. وثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) (المائدة: 2)، وقوله: (إبتغاء رحمة من ربك) (الاسراء: 28)، وقوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة: 35) فكل ذلك وجهه تعالى لان صفات فعله تعالى كالرحمة والمرضاة والفضل ونحو ذلك من وجهه، وكذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم، وقال تعالى: (لا ابتغاء وجه الله) (البقرة: 272). وقوله: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) الحساب هو استعمال العدد بالجمع والطرح ونحو ذلك، ولما كان تمحيص الاعمال وتقديرها لتوفية الاجر أو أخذ النتيجة ونحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمى ذلك حسابا للاعمال. وإذ كان حساب الاعمال لتوفية الجزاء، والجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى إى في عهدته وكفايته كما قال: (إن حسابهم إلا على ربى) (الشعراء: 113)، وقال: (ثم إن علينا حسابهم) (الغاشيه: 26) وعكس في قوله: (إن الله كان على كل شئ حسيبا) (النساء: 86) للدلالة على سلطانه تعالى وهيمنته على كل شئ. وعلى هذا فالمراد من نفى كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفى أن يكون هو
[ 103 ]
الذى يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم وكره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا واستعلاء عليهم طردهم، وعلى هذا فكل من الجملتين: (ما عليك) الخ، (وما عليهم) الخ، مقصودة في الكلام مستقلة. وربما أمكن أن يستفاد من قوله: (ما عليك من حسابهم من شئ) نفى أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله وذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه، فالمعنى ليس شئ من ثقل أعمالهم عليك، وعلى هذا فاستتباعه بقوله: (وما من حسابك عليهم من شئ) - ولا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال وتأكيد مطابقة الكلام، ومن الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين أعنى قوله: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) كناية عن نفى الارتباط بين النبي صلى الله عليه والله وبينهم من حيث الحساب. وربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الاعمال والمراد: ليس عليك حساب رزقهم، وإنما الله يرزقهم وعليه حساب رزقهم، وقوله: (وما من حسابك عليهم) الخ، جئ به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، والوجهان وإن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الاول. وقوله: (فتطردهم فتكون من الظالمين) الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضى أن يفرع قوله: (فتكون من الظالمين)، على قوله في أول الاية: (ولا تطرد الذين) الخ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع والمتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله: (فتكون من الظالمين) بنحو الاتصال ويرتفع اللبس. فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشئ على نفسه فإن ملخصه: ولا
تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، وذلك أن إعادة الطرد ثانيا لايصال الفرع أعنى قوله: (فتكون من الظالمين) إلى أصله كما عرفت. قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا) إلى آخر الاية، الفتنة هي
[ 104 ]
الامتحان، والسياق يدل على أن الاستفهام في قوله: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) للتهكم والاستهزاء، ومعلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه من المجتمع، ولم يكن ذلك إلا لفقرهم ومسكنتهم وانحطاط قدرهم عند الاقوياء والكبرياء منهم. فاالله سبحانه يخبرنبيه أن هذه التفاوت إنما هو محنة إاهية يمتحن بها الناس ليميزبه الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران والاستكبار في الفقراء المؤمنين: أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصيف بما عندالمستن بها من الشرافة والخمسة، وكذا العمل يوزن بما لعمله من الون الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء والاذلا، والعبيد يستذلها الغنياء والاعزة، والعمل الذى أتى به مسكين أو الكلام الذى تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتنى به أولوا الطول والقوة. فانتحال الفقراء والاجراء والعبد باالدين، واعتناء النبي بهم وتقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين وأنه دون أن يلتفت إليه من يعتنى بأمره من الشرفاء والاعزة. وقوله تعالى: (أو ليس الله بأعلم بالشاكرين) جواب عن استهزائهم المبنى على استبعاد، بقولهم: (أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا) ومحصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم ولذالك قدم هؤلاء لمنه وأخرهم فكفني سبحانه عن ذالك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعنته أي إنهم شاكرون، ومن المسلم أن المنعم إنما يمن وبنعم على من يشكر نعمته وقد سمى الله تعالى توحيده ونفى الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قوله يوسف عليه السلام:
ما كنا لنا أن نشرك بالله من شئ ذالك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (يوسف: 38). فالاية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة والعزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال وبنين وجاه، ولا قدر لها عند الله ولا كرامة، انماالامر يدور مدار صفة الشكر والنعمة بالحقيقة هي الولاية الالهية. قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) إلى آخر الآية،
[ 105 ]
قد تقدم معنى السلام، والمراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، والاصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم وإن كان بحسب الحقيقة متعديا وأصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل. والاية ظاهرة اإلتصال بالاية التى قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه صلى الله عليه وآله - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم ويسلم عليهم ويبشر من تاب منهم عن سيئه توبة نصوحا بمغفرة الله ورحمته فتطيب بذلك نفوسهم ويسكن طيش قلوبهم. ويتبين بذلك أولا: أن الاية - وهى من آيات التوبة - إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي والسيئات دون الكفر والشرك بدليل قوله: (من عمل منكم) أي المؤمنين بآيات الله. وثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود والعناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه وهو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا واستعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب. وثالثا: أن تقييد قوله: (تاب) بقوله: (وأصلح) للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه واللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذى تطهر منه التائب الراجع، وليست التوبة قول: (أتوب إلى الله) قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، وقد قال تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه يحاسبكم به الله) (البقرة: 284). ورابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور والرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه وإن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر ولا تؤثر أثرها لا إذا عمل بعض عباده سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح. وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: (إنما التوبة على الله) إلى آخر الايتين (النساء: 17) في الجزء الرابع من الكتاب ماله تعلق بالمقام. قوله تعالى: (وكذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين) تفصيل الايات بقرينة المقام شرح المعارف الالهية وتخليصها من الابهام والاندماج، وقوله: (ولتستبين
[ 106 ]
سبيل المجرمين) اللام فيه للغاية، وهو معطوف على مقدر طوى عن ذكره تعظيما وتفخيما لامره وهو شائع في كلامه تعالى، كقوله: (وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا) (آل عمران: 140)، وقوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) (الاية: 75). فالمعنى: وكذلك نشرح ونميز المعارف الالهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرء عليها من الابهام لاغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين يتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا، وعلى هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التى يسلكها المجرمون قبال الايات الناطقة بتوحيد الله سبحانه والمعارف الحقة التى تتعلق به وهى سبيل الجحود والعناد والاعراض عن الايات وكفران النعمة. وربما قيل. إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التى تسلك في المجرمين، وهى سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالاخرة، وسوء الحساب وأليم العقاب في الاخرة، والمعنى الاول أوفق بسياق الايات المسرودة في السورة. (بحث روائي) في الكافي بإسناده فيه رفع عن الرضا عليه السلام قال: إن الله عزوجل لم يقبض
نبينا حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شئ بين فيه الحلال والحرام والحدود والاحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، وقال عزوجل: ما فرطنا في الكتاب من شئ. وفي تفسير القمى حدثنى أحمد بن محمد قال حدثنى جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم) يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير (في الظلمات) يعنى ظلمات الكفر (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) وهو رد على قدرية هذه الامة يحشرهم الله يوم القيامة من (1) الصابئين والنصارى والمجوس فيقولون (ربنا ما كنا
(1) مع ظ. (*)
[ 107 ]
مشركين)، يقول الله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون). قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا إن لكل أمه مجوسا - ومجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة إليهم ولهم. قال في البرهان عند نقل الحديث: وفي نسخة اخرى من تفسير على بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: إلا إن لكل أمة مجوسا، ومجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست لهم ولا عليهم، وفي نسخه ثالثة، يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست إليهم ولا لهم، انتهى. أقول: مسألة القدر من المسائل التى وقع الكلام فيها في الصدر الاول فأنكر القدر - وهو أن لارادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم وأثبتوا المشية والقدرة المستقلتين للانسان في فعله وأنه هو الخالق له المستقل به، وسموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (القدرية مجوس هده الامة،) وانطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للاعمال خالقا هو الانسان ولغيرها خالقا هو الله
سبحانه وهو قول الثنوية وهم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، وخالق للشر. وهناك روايات أخر عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أئمة أهل بيته عليهم السلام تفسر الرواية بالمعنى الذى تقدم، وتثبت أن هناك قدرا وأن لله مشيه في أفعال عباده كما يثبته القرآن. وقد أول المعتزلة وهم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر، وهم كالمجوس في إسنادهم الخير والشر كله إلى خالق غير الانسان، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك، وسيجئ استيفاؤه إن شاء الله تعالى. ومما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، والقول بأنه ليست المشية والقدرة للانسان ولا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفى القدر يلازم القول باستقلال الانسان بالمشية والاستطاعة، والقول بالقدر يلازم القول بنفى استقلاله بالمشية والقدرة. وعلى هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، وقولهم: إن المشية والقدرة ليست لهم ولا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، وقد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله (لا قدر) وغير الباقي. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم وابن المنذر والطبراني في
[ 108 ]
الكبير وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إذا رأيت الله يعطى العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شئ. الاية والاية التى بعدها. وفيه اخرج ابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله تبارك وتعالى إذا اراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا اراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغته فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. وفيه أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود خفنى على كل حال،
وأخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك. أقول: قوله: لا أصرعك نهى يفيد التحذير، وقوله: ثم لا أنظر (الخ) منصوب للتفريع على النهى. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) الاية، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وإصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله: قل لهم يا محمد أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون أي لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا فأما العذاب الاليم الذى فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين. أقول الرواية على ضعفها تنافى ما استفاض أن سورة الانعام نزلت بمكة دفعة. على أن الاية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذى تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن. وفي المجمع: في قوله تعالى: وأنذر به الذين يخافون الاية قال: قال الصادق عليه السلام: أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم. أقول: وظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: (من دونه) إلى القرآن، وهو معنى صحيح وإن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمى إماما. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن
[ 109 ]
مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملا من قريش على النبي صلى الله عليه وآله وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فانزل فيهم القرآن: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) الخ. أقول: ورواه في المجمع عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدى بن خيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبى طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الاعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لا تباعنا إياه وتصديقه. فذكر ذلك أبو طالب للنبى صلى الله عليه وآله فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون قولهم ؟ وما تصيرون إليه من أمرهم ؟ فأنزل الله: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم - إلى قوله - أليس الله بأعلم بالشاكرين). قال: وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبى حذيفة وصبحا مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعودو المقداد بن عمرو - وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبى مرثد وأشباههم. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا) الاية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) الاية. وفيه أخرج ابن أبى شيبة وابن ماجة وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وابن جرير وابن المنذر وأبن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الاقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزارى فوجدا النبي صلى الله عليه وآله قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب ستأتيك فنستحيى أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الاعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم
[ 110 ]
عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، ونحن قعود في ناحية.
إذ نزل جبرئيل بهذه الاية: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - إلى قوله - فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الاية. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقعد معنا بعدفإذا بلغ الساعة التى يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. أقول: ورواه في المجمع عن سلمان وخباب وفي معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر، والرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الانعام دفعة ثم التأمل في سياق الايات لا يبقى ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الايات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله فعدوا القصة سببا لنزول الاية لا بمعنى أن الاية إنما نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى ان الاية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: ولا تطرد الذين يدعون الاية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الاية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها. وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الايات بمعنى القصص والحوادث الواقعة. في زمنه صلى الله عليه وآله مما لها مناسبة ما مع مضامين الايات الكريمة من غير أن تكون للاية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الاحاديث والتوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الايات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن
تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لاسباب النزول وخاصة في أمثال هذه السورة من السور التى نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط
[ 111 ]
للايات بالوقائع التى كانت في زمنه صلى الله عليه وآله. ولا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع والدس في هذه الروايات والضعف الذى فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها. وقد روى في الدر المنثورعن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاجرأن الاية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي صلى الله عليه وآله الضعفاء من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة، ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة وفي مكة قبل الهجرة. وفي تفسير العياشي عن أبى عمرو الزبيري عن أبى عبد الله عليه السلام قال: رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ومنقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم، ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله توابا رحيما. وفي تفسير البرهان روى عن ابن عباس في قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الاية نزلت في على وحمزة وزيد. أقول: وفي عدة من الروايات أن الايات السابقة نزلت في أعداء آل البيت عليهم السلام والظاهر أنها جميعا من قبيل الجرى والتطبيق أو الاخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول ولذلك طوينا عن إيرادها، والله أعلم. * * * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم
قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين - 56. قل إنى على بينة من ربى و كذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين - 57. قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بينى
[ 112 ]
وبينكم والله أعلم بالظالمين - 58. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقه إلا يعلمها ولا حبه في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين - 59. وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون - 60. وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون - 61. ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهوأسرع الحاسبين - 62. قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين - 63. قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون - 64. قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون - 65. وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل - 66. لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون - 67. وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين - 68.
[ 113 ]
وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم
يتقون - 69. وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون - 70. قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذى استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين - 71. وأن أقيموا الصلوة واتقوه وهو الذى إليه تحشرون - 72. وهو الذى خلق السموات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير - 73. (بيان) الايات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد وما يرتبط به من المعارف في النبوة والمعاد، وهى ذات سياق متصل متسق. قوله تعالى: (قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) إلى آخر الاية. أمر بأن خبرهم بورود النهى عليه عن عبادة شركائهم هو نهى عن عبادتهم بنوع من الكناية
[ 114 ]
ثم أشار إلى ملاك النهى عنها بقوله: (قل لا أتبع أهواءكم) وهو أن عبادتهم اتباه للهوى وقد نهى عنه ثم أشار بقوله: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى وهو الضلال والخروج عن جماعة المهتدين وهم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه، وعرفوا بذلك، فاتباع الهوى ينافى استقرار صفة الاهتداء في نفس الانسان، ويمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به. وقد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهى أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، وهو
أن في عبادتها اتباعا للهوى، وفي اتباع الهوى الضلال والخروج عن صف المهتدين بالهداية الالهية. قوله تعالى: (قل إنى على بينة من ربى وكذبتم به) إلى آخر الاية. البينة هو الدلالة الواضحة من البيان وهو الوضوح، والاصل في معنى هذه المادة هو انعزال شئ عن شئ وانفصاله عنه بحيث لا يتصلان ولا يختلطان، ومنه البين والبون والبينونة وغير ذلك، قد سميت البينة بينة لان الحق يبين بها عن الباطل فيتضح ويسهل الوقوف عليه من غير تعب ومؤنه. والمراد بمرجع الضمير في قوله: (وكذبتم به) هو القرآن وظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التى هو صلى الله عليه وآله عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى، ويؤيده قوله بعده: (ما عندي ما تستعجلون به) الخ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذاالذيل: أن الذى أيد الله به رسالتي من البينات وهو القرآن تكذبون، به والذى تقترحونه على وتستعجلون به من الايات ليس في اختياري ولا مفوضا أمره إلى فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أنى أوتيت ما لا تريدون وأنتم تريدون ما لم أوت. فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله: (وكذبتم به) راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن، وأن قوله: (ما عندي ما تستعجلون به) أريد به نفى التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الانسان عليه وخاصة في باب الاعطاء والانفاق أن يكون ما يعطيه وينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه وتحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله: (ما عندي) نفى التسلط والقدرة من باب نفى الملزوم بنفى اللازم. وقوله: (إن الحكم إلا لله) الخ، بيان لسبب النفى، ولذلك جئ فيه بالنفى
[ 115 ]
والاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفى على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شئ قط وأنه إلى الله سبحانه فحسب.
(كلام في معنى الحكم وانه لله وحده) مادة الحكم تدل على نوع من الاتقان يتلائم به أجزاء وينسد به خلله وفرجه فلا يتجزى إلى الاجزاء ولا يتلاشى إلى الابعاض حتى يضعف أثره وينكسر سورته، وإلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالاحكام والتحكيم والحكمة والحكومة وغير ذلك. وقد تنبه الانسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية والحقوق الدائرة بين الناس فإن الموالى والرؤساء إذا أمروا بشئ فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين ويقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل وتقييدا لا يسعهم معه الانطلاق، وكذلك مالك سلعة كذا، أو ذو حق في أمر كذا كأن بينه وبين سلعته أو الامر الذى فيه نوعا من الالتيام والاتصال الذى يمنع أن يتخلل غيره بينه وبين سلعته بالتصرف أو بينه وبين مورد حقه فيقصر عنه يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الاحكام وضعف هذا الاتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضى الذى رفعت إليه القضية الملك أو الحق لاحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد فتور، وقوة إحكاما بعد ضعف ووهن، وقوله: ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع والمشاجرة، ولا يتخلل غير المالك وذى الحق بين الملك والحق، وبين ذيهما، وبالجملة الامر في أمره والقاضى في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الامر والقضاء يحكمانه بها ويرفعان به وهنا وفتورا، وهو الذى يسمى الحكم. فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الامور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الامور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه، وقدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا وأغصانا وتورق وتثمر وكون النطفة تتبدل جسما ذا حياة وحس وهكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه وقضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم وهو إثبات شئ لشئ أو إثبات شئ عند شئ.
ونظرية التوحيد التى يبنى عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة
[ 116 ]
التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الانتساب مختلفا باختلاف الاشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة، بنسب مختلفه، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشية والرزق والحسن إلى غير ذلك، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذى هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، وقد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله: (إن الحكم إلا لله) (الانعام: 57 يوسف: 67) وقوله تعالى: (ألا له الحكم) (الانعام: 62) وقوله: (له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم) (القصص: 70) وقوله تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه ويعارض مشيته، وقوله: (فالحكم لله العلى الكبير) (المؤمن: 12) إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى. ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: (إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) (يوسف: 40) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الايات غير انه تعالى ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) (المائدة: 95) وقوله لداود عليه السلام: (إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق) (ص: 26) وقوله للنبى صلى الله عليه وآ له: (إن احكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 49) وقوله: (فاحكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48) وقوله: (يحكم بها النبيون) (المائدة: 44) إلى غير ذلك من الايات وضمها إلى القبيل الاول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالاصالة واولا لا يستقل به احد غيره، ويوجد لغيره بإذنه وثانيا، ولذلك عد تعالى نفسه احكم الحاكمين وخيرهم لما انه لازم الاصالة والاستقلال والاولية فقال: (ا ليس الله بأحكم الحاكمين) (التين: 8) وقال
(وهو خير الحاكمين) (الاعراف: 87). والايات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن ونحوه - كما ترى - تختص بالحكم الوضعي الاعتباري، وأما الحكم التكويني فلا يوجد فيها - على ما اذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره وإن كانت معاني عامة الصفات والافعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه ونحوه كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق والاحياء والمشية وغير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
[ 117 ]
ولعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لاشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذى لا مسوغ لنسبته إلى هذه الاسباب المتوسطه كما ان القضاء والامر التكوينيين كذلك، ونظيرتها في ذلك الفاظ البديع والبارئ والفاطر والفاظ أخر يجرى مجراها في الاشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، وإنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية. * * * ولنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الاية فقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله) أريد بالحكم فيه القضاء التكويني، والجملة تعليل للنفي في قوله: (ما عندي ما تستعجلون به) والمعنى - على ما يعطيه السياق - أن الحكم لله وحده وليس إلى ان اقضي بينى وبينكم، وهو الذى تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون على من الاية. وعلى هذا فقوله: (ما عندي ما تستعجلون به) مستعمل استعمال الكناية كأنهم بإقتراحهم إتيان آية اخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه صلى الله عليه وآله أن يقضى بينه وبينهم ولعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول والصلة في الاية التالية حيث يقول تعالى: (قل لو ان عندي ما تستعجلون به) وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو ان عندي ذلك، وذلك أنه أريد بقوله: (ما تستعجلون به) في الاية الاولى لازم الاية وهو القضاء بينه وبينهم على ما جرت به السنة الالهية، وفي الاية الثانية نفس الاية، ومن المحتمل أيضا أن
يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الاية الاولى، والاية بالتكنية في الاية الثانية. وقوله: (يقص الحق وهو خير الفاصلين) قرأ عاصم ونافع وابن كثير من السبعة بالقاف والصاد المهملة من القص وهو قطع شئ وفصله من شئ ومنه قوله تعالى: (وقالت لاخته قصيه) (القصص: 11)، وقرأ الباقون بالقاف والضاد المعجمة من القضاء، وقد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى: (فما تغن النذر) (القمر: 5) ولكن من القراءتين وجه، ومآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق وفصله من الباطل لازم القضاء والحكم بالحق وإن كان قوله: (وهو خير الفاصلين) أنسب مع القص بمعنى الفصل. وأما أخذ قوله (يقص الحق) من القص بمعنى الاخبار عن الشئ أو بمعنى تتبع الاثر على ما احتمله بعض المفسرين فيما لا يلائم المورد:
[ 118 ]
أما الاول فلان الله سبحانه وإن قص في كلامه كثيرا قصص الانبياء وأممهم غير ان المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له وتوصيفه تعالى به. وأما الثاني فلان محصل معناه ان سنته تعالى أن يتبع الحق ويقتفى اثره في تدبير مملكته وتنظيم امور خليقته، والله سبحانه وإن كان لا يحكم إلا الحق ولا يقضى إلا الحق إلا ان أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع والاقتفاء إليه تعالى وقد قال تعالى فيما قال: (الحق من ربك) (آل عمران: 60) ولم يقل: الحق مع ربك، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد والتأيد والايهام إلى الضعف. (كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى) فعله وحكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك ان الشئ انما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الاعيان من غير ان يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالانسان الذى هو احد الموجودات الخارجية والارض التى يعيش عليها والنبات والحيوانات
التى يغتذى، بها والخبر انما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن ادراكنا والحكم والقضاء انما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الامر بشئ أو قضى القاضى بشئ فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وأفق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، ويكون حقا نسبيا إذا وأفق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي. فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو إجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لان نظام الكون يهدى الاشياء إلى سعادتها وخيرها، وقد قضى على الانسان ان يعيش اجتماعيا، وقضى على كل مجتمع مركب من اجزاء ان يتلائم اجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا، ولا يفسد طرف منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، ويتوزع ذلك بين اجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، ويطابقها الامر بالعدل والنهى عن الظلم فكل منهما حكم حق، ولا يطابقها الامر بالظلم والنهى عن العدل فهما من الباطل، والتوحيد حق لانه يهدى إلى سعادة الانسان في حياته الحقيقيه، والشرك باطل لانه يجر الانسان إلى شقاء مهلك وعذاب خالد. وكذلك القضاء بين متخاصمين انما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى
[ 119 ]
فيه المصلحة الانسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو امة خاصة، والمصلحة الحقيقية - كما - عرفت - مأخوذه من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا. فقد تبين ان الحق ايا ما كان انما هو مأخوذ من الكون الخارجي والنظام المنبسط عليه والسنة الجارية فيه، ولا ريب ان الكون والوجود مع ما له من النظام والسنن والنواميس فعله سبحانه منه يبتدئ وبه يقوم، واليه ينتهى، فالحق ايا ما كان والمصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله ويقتفيان اثره، ويثبتان بالاستناد إليه لا انه تعالى يتبع الحق في فعله ويقفو اثره فهو تعالى حق بذاته وكل ما سواه حق به.
ونحن معاشر الادميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع حوائج حياتنا، وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التى نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدنا وأدى ذلك إلى الاذعان بقوانين جارية وأحكام عامة، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الانسانية وموافقتها السعادة المطلوبة. وأدى ذلك إلى الاذعان بأن للمصالح والمفاسد ثبوتا واقعيا وظروفا من التحقق منحازا عن العالمين: - الذهن والخارج - منعزلا عن الدارين: - العلم والعين - وهى تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة والمخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الامر ظهرت فيها المصلحة وانتهت إلى السعادة، وإذا خالفتها وطابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر وشر، وهذا النحو من الثبوت ثبوت واقعى غير قابل للزوال والتغير فللمصالح والمفاسد الواقعية وكذا لما معها من الصفات الداعيه إلى الفعل والترك كالحسن والقبح وكذا للاحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل والترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعى يتأبى عن الفناء والبطلان، ويمتنع عن التغير والتبدل وهى حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، والعقل ينال هذه الامور النفس الامرية كما ينال سائر الامور الكونية. ثم لما وجدوا ان الاحكام والشرائع الالهية لا تفارق الاحكام والقوانين الانسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم، وكذا افعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الاحكام الالهية والافعال المنسوبة إلى الله سبحانه كافعالنا في الانطباق
[ 120 ]
على المصالح الواقعية والاتصاف بصفة الحسن، فالمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى وحكومة على احكامه وخاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الامور بصير بمصالح عباده. وهذا كله من إفراط الرأى، وقد عرفت مما تقدم ان هذه احكام وعلوم اعتبارية
غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها وجعلها الحوائج الطبيعية وضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع، ولا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع والاعتبار يميز بها الانسان ما ينفعه من الاعمال مما يضره، وما يصلح شأنه مما يفسده، وما يسعده مما يشقيه. وقد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الاسلام إلى تقابل عجيب بالافراط والتفريط في هذا المقام فطائفة - وهم المفوضة - أثبتوا مصالح ومفاسد نفس أمرية وحسنا وقبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا ازليا أبديا غير متغير ولا متبدل وهى حاكمة على الله سبحانه بالايجاب والتحريم، مؤثرة في أفعاله تكوينا وتشريعا بالحظر والترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه، وابطلوا أطلاق ملكه. وطائفة - وهم المجبرة - نفت ذلك كله، وأصرت على ان الحسن في الشئ إنما هو تعلق الامر به، والقبح تعلق النهى به، ولا غرض ولا غاية في تكوين ولا تشريع، وأن الانسان لا يملك من فعله شيئا ولا قدرة قبل الفعل عليه كما ان الطائفة الاولى ذهبت إلى ان الفعل مخلوق للانسان وأن الله سبحانه لا يملك من فعل الانسان شيئا ولا تتعلق به قدرته. والقولان - كما ترى - إفراط وتفريط فلا هذا ولا ذاك بل حقيقة الامر أن هذه ونظائرها أمور اعتبارية وضعية لها اصل حقيقي وهوان الانسان - ونظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على قدره في مسيره الحيوى الذى لا يريد به إلا ابقاء الحياة ونيل السعادة ناقص محتاج يرفع جهات نقصه وحاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور والارادة فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله والامور التى تتعلق بها اعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته والتجنب عن شقائه بأوصاف الامور الخارجية من حسن وقبح ووجوب وحرمة وجواز وملك وحق وغير ذلك، ويجرى فيها نواميس الاسباب والمسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة وخاصة، ويعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذى يعتقده للامور الحقيقية حتى يتم
له بذلك امر حياته الاجتماعية.
[ 121 ]
فترانا نعتقد أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل، والظلم قبيح شأئه كما ان الميتة المنتنة كذلك، وان المال لنا كما ان اعضاءنا لنا، والعمل الكذائي واجب كما ان الاثار واجبة لعللها التامة، وعلى هذا القياس، ولذلك ترى أن هذه الاراء تختلف بين الاقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون وتجد طائفة تلغى من الاحكام ما تعتبره أخرى، وتلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها مايستشنعه غيرها، وربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمه واحدة على نسق الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي ومساسه بلوازم الحياة، هذا في المقاصد التى تختلف في المجتمعات، وأما المقاصد العامة التى لا يختلف فيه اثنان كاصل الاجتماع والعدل والظلم ونحو ذلك فما لها من وصف الحسن والقبح والوجوب والحرمة وغيرها لا تختلف البتة ولا يختلف فيه، هذا فيما يرجع إلينا. والله سبحانه لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف الحقيقية المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن نفكر فيما يرجع إلى معارفه، ونتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر ونتلقى ما عندنا من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا، وعدنا عبادا مربوبين، وذكرنا أن له دينا مؤلفا من عقائد أصلية وقوانين عملية تستعقب ثوابا وعقابا وأن في اتباعه صلاح حالنا، وحسن عاقبتنا، وسعاده جدنا على نحو المسلك الذى نسلكه في آرائنا الاجتماعية. فهناك عقائد أصليه يجب علينا أن نعتقد بها ونلزمها، وهناك وظائف عملية وقوانين إلهية في العبادات والمعاملات والسياسات يجب علينا أن نعمل بها ونراعيها كما أن الامر في جميع المجتمعات الانسانية على ذلك. وهذا هو الذى يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث
عن المعارف الاجتماعية اعتقادية أو عملية، وأن نستند في المعارف الدينية من الاراء العقلية، والقضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار لعباده من الوظائف والتكاليف إلا ما فيه المصلحة التى تصلح شأنهم في دنياهم وآخرتهم، ولا يأمر إلا بالحسن الجميل، ولا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذى فيه فساد دين أو دنيا، ولا يفعل إلا ما يؤثره العقل، ولا يترك إلا ما ينبغى أن يترك. إلا أنه تعالى ذكرنا مع ذلك بأمرين:
[ 122 ]
أحدهما: أن الأمر في نفسه أعظم من ذلك وأعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة من مواد الاراء الاجتماعية وهى في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع، ولا ترقى إلى عالم السماء كما قال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في ام الكتاب لدينا لعلى حكيم) (الزخرف: 4) وقال في مثل ضربه: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل) الاية (الرعد: 17) وقال صلى الله عليه وآله: إنا معاشر الانبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنه. وليس معنى هذا البحث نفى الحسن والمصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى اثبات ما يقابله حتى يستتبع ذلك اثبات القبح والمفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي كأفعال الصبيان تعالى عن ذالك كما أن نفى البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب اثبات العمى له أو سقوطه عن مرتبة الادراك بل تنزيه عن النقص. وثانيهما: أن جهات الحسن ومزايا المصالح وان كانت تعلل بها أفعاله تعالى وشرائع أحكامه وتبين بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الاحكام والاعمال العقلائية إلا أن بين البابين فرقا وهو أنها في جانبنا حاكمة على الارادة مؤثره في الاختيار فنحن بما أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى اقتراف
العمل وإذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه وحكمنا به وأجريناه في مجتمعنا مثلا. وليست هذه الوجوه والعلل أعنى جهات الحسن والمصلحة إلا معاني أخذناها من سنة التكوين والوجود الخارجي الذى هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في اختيار الاعمال الحسنة ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا وتنطبق أعمالنا على سنة التكوين وتقع في صراط الحقيقة، فهذه الجهات والمصالح معان منتزعة من خارج الاعيان متفرعة عليه، وأعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها، والكلام في أحكامنا المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا. وأما فعله تعالى فهو نفس الكون الخارجي والوجود العينى الذى كنا ننتزع منه وجوه الحسن والمصلحة وكانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها، وكذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع لا أنها
[ 123 ]
تتبع الواقع فأفهم ذلك. فقد تبين: أن جهات الحسن والمصلحة وما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله تعالى وأحكامه، وفي أفعالنا وأحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا وأحكامنا حاكمة مؤثرة، وإن شئت قلت دواع وعلل غائية، وبالنسبة إلى أفعاله وأحكامه تعالى لازمة غير منفكة وإن شئت قلت: فوائد مطردة، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل ونحكم ما نحكم لانا نريد به تحصيل الخير والسعادة وتملك ما لا نملكه بعد، وهو تعالى يفعل ما يفعل ويحكم ما يحكم لانه الله، ويترتب على فعله ما يترتب على فعلنا من الحسن والمصلحة، وأفعالنا مسؤول عنها معللة بغاياتها ومصالحها، وأفعاله غير مسؤول عنها ولا معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها ونعوتها اللازمة ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فافهم ذلك.
وهذا هو الذى يهدى إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (الانبياء: 23) وقوله: (له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم) (القصص: 70) وقوله: (ويفعل الله ما يشاء) إبراهيم: 27) وقوله: (والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41). ولو كان فعله تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة محسنة ولم يكن له ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة، وقوله: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الاعراف: 28) وقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الانفال: 24) وغير ذلك من الايات التى تعلل الاحكام بوجوه الحسن والمصلحة. قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بينى وبينكم) إلى آخر الاية، أي لو قدرت على ما تقترحونه على من الاية والحال أنها بحيث إذا نزلت على رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه وبين امته لقضى الامر بينى وبينكم، ونجى بذلك أحد المتخاصمين المختلفين وعذب الاخر وأهلك، ولم يعذب بذلك ولا يهلك إلا أنتم لانكم ظالمون والعذاب الالهى إنما يأخذ الظالمين بظلمهم، وهو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه عليه الامر ولا يميز الظالمين من غيرهم فيعذبني دونكم. ففى قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) نوع تكنية وتعليل أي إنكم أنتم المعذبون
[ 124 ]
لانكم ظالمون والعذاب الالهى لا يعدو الظالمين إلى غيرهم وفي الجملة إشارة إلى ما تقدم من قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلاالقوم الظالمون) (آية: 47). قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) إلى آخر الاية. ذكروا في وجه اتصال الاية بما قبلها أن الاية السابقة لما ختمت بقوله: (والله أعلم بالظالمين) زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها
إلا هو، ويعلم كل دقيق وجليل. وهذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذى يدل عليه قوله: (لا يعلمها إلا هو) فالاولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الايتين السابقتين أعنى قوله: (قل إنى على بينة من ربى - إلى قوله - والله أعلم بالظالمين) حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الاية وما يستتبعه من الحكم الفصل والقضاء بينه وبينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، ولا يغلط في حكمه الفصل وتعذيب الظالمين لانه أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، وعالم بكل ما جل ودق لا يضل ولا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: (وعنده مفاتح الغيب) الاية فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب وشمول علمه كل شئ، ثم تمم البيان بالايات الثلاث التى تتلوها. وبذلك تصير الايات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصه هود وقومه: (قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما ارسلت به) (الاحقاف: 23). ثم نقول: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الخزينة، وربما احتمل أن يكون جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده ما قرئ شاذا: (وعنده مفاتيح الغيب) ومآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى الاول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه وخزائن رحمته - وذلك في سبعة مواضع - ولم يذكر لها مفاتيح في شئ من كلامه قال تعالى: (أم عندهم خزائن ربك) (الطور: 37) وقال: (لاأقول لكم عندي خزائن الله) (الانعام: 50) وقال: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) (الحجر: 21) وقال: (ولله خزائن السماوات والارض)
[ 125 ]
(المنافقون: 7) وقال: (أم عندهم خزائن رحمة ربك) (ص: 9) فالاقرب أن يكون
المراد بمفاتح الغيب خزائنه. وكيف كان فقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لان خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، وإما لان مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التى يتوصل بها إلى فتحها والتصرف فيها. وصدر الاية وإن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبئ عن شمول علمه تعالى بكل شئ أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب ويابس لا يختص بما يكون غيبا وهو ظاهر فالاية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب وشهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، وذيلها ينبئ عن علمه بكل شئ أعم من الغيب والشهادة. ومن جهة اخرى صدر الاية يتعرض للغيوب التى هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء وأقفال الابهام، وقد ذكر الله سبحانه في قوله: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) أن التى في خزائن الغيب عنده من الاشياء امور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الاشياء، ولا يحصرها الاقدار المعهودة، ولا شك انها انما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد والقدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود ومقدر، وأما التى في خزائن الغيب من الاشياء فهى قبل النزول في منزل الشهود والهبوط إلى مهبط الحد والقدر، وبالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الاية. فالامور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها وحدوثها موجودة عند الله ثابته في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر وإن لم نستطع أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب وخزائنه الاشياء قبل حدوثها واستقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، ولعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ
ما عندنا من الامور الزمانية المشهودة المعهودة، ولنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق. وأما الاشياء بعد تلبسها بلباس التحقق والوجود ونزولها في منزلها بالحد والقدر
[ 126 ]
فالذي في داخل حدودها وأقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب ويرجع إلى الغيب المطلق، وأما هي مع ما لها من الحد والقدر فهى التى من شأنها أن يقع عليها شهودنا ويتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة وعند ما نجهل بها تصير غيبا، ومن الحرى أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لان هذا الوصف الذى يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، وكذا الاضواء والالوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر، ومن الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، والمسموعات التى ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه وغيب بالنسبة إلى البصر، ومحسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذى يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسى. والتى عدها تعالى في الايه بقوله: (ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبه في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس) من هذا الغيب النسبى فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا ولا أن يكون مشهودة لنا فهى من الغيب النسبى. وقد دلت الاية على ان هذه الامور في كتاب مبين فما هو الذى منها في كتاب مبين ؟ أهو هذه الاشياء من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبهافقط ؟ وبعبارة أخرى: الكتاب المبين أهو هذا الكون المشتمل على اعيان هذه الاشياء لا يغيب عنه شئ منها وإن غاب بعضها عن بعض ام هو امر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الاشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من اهل العالم فيكون ما في الكتاب من
الغيب المطلق. وبلفظ آخر الاشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الاية أهى واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التى عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف والرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين ؟. لكن قوله تعالى: (ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها) (الحديد: 22) يدل على ان نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذى يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، ويقرب منه قوله تعالى
[ 127 ]
(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين) (يونس: 61) وقوله: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا في كتاب مبين) (سبا: 3) وقوله: (قال فما بال القرون الاولى، قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52) إلى غيرذلك من الايات. فالكتاب المبين أيا ما كان هو شئ غير هذه الخارجيات من الاشياء بنحو من المغايرة، وهو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها وانقضائها كالبرنامجات المكتوبة للاعمال التى تشتمل على مشخصات الاعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع. على أن هذا الموجودات والحوادث التى في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة والايات تدل على عدم جواز التغير والفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) وقوله: (في لوح محفوظ) (البروج: 22) وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) (ق: 4) فالايات - كما ترى - تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث وخصوصيات
الاشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه ولا يتسرب إليه أي تغير وفساد. ومن هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب وخزائن الاشياء التى عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح والخزائن بأنها غير مقدرة ولا محدودة، وإن القدر إنما يلحق الاشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذى هو مستوى الشهادة، ووصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الاشياء وحدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التى عند الله سبحانه، وإنما هو شئ مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الاشياء ويحفظها بعد نزولها من الخزائن وقبل بلوغها منزل التحقق وبعد التحقق والانقضاء. ويشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الاشياء والحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، وأما الغيب المطلق الذى لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه والمفاتح التى عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الايات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى: (في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة: 79).
[ 128 ]
فما من شئ مما خلقه الله سبحانه إلا وله في خزائن الغيب أصل يستمد منه، وما من شئ مما خلقه الله إلا والكتاب المبين يحصيه قبل وجوده وعنده وبعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، ومن هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين - في عين أنه كتاب محض - ليس من قبيل الالواح والاوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت وكيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شئ في مدى الابد. فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الالهية التى تشتمل على الاشياء قبل تفريغهافى قالب الاقدار، وهى تشتمل على غيب كل شئ على حد ما يدل
عليه قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21). وثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الاشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين وتقدير للاشياء إلا أنه موجود قبل الاشياء ومعها وبعدها، وهو المشتمل على علمه تعالى بالاشياء علما لا سبيل للضلال والنسيان إليه، ولذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الاشياء وتحققها الخارجي الذى لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع وهو الذى يقال: إن الشئ لا يتغير عما وقع عليه. وبالجملة هذا الكتاب يحصى جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من غير أن ان يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الاشياء من حيث تقدرها وتحددها، ووراء ذلك ألواح وكتب تقبل التغيير والتبديل، وتحتمل المحو والاثبات كما يدل عليه قوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب) فإن المحو والاثبات - وخاصة إذا قوبلا بام الكتاب - إنما يكونان في الكتاب. وعند ذلك يتضح اتصال الاية أعنى قوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) إلى آخر الاية بما قبلها من الايات فإن محصل الايتين السابقتين أن الذى تقترحونه على من الايات القاضية بينى وبينكم ليس في مقدرتي، ولا الحكم الحق راجع إلى بل هو عند ربى في علمه وقدرته ولو كان ذلك إلى لقضى بينى وبينكم وأخذكم العذاب الذى لا يأخذ إلا الظالمين لان الله يعلم أنكم أنتم الظالمون وهو العالم الذى لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف والتسلط على ما يريده ويقضيه من آية قاضية فلان مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا
[ 129 ]
هو، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلانه يعلم ما في البر والبحر ويعلم كل دقيق وجليل، والكل في كتاب مبين. فقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) راجع إلى الغيب المطلق الذى لا سبيل لغيره تعالى إليه، وقوله: (لا يعلمها) (الخ) حال وهو) يدل على أن مفاتح الغيب من
قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذى نتعارفه فإن الذى يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الاشياء بعد وجودها وتقدرها بأقدارها ومفاتح الغيب - كما تبين - علم بالاشياء وهى غير موجودة ولا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم. وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر) تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض وربما يغيب بعضه عن بعض، وإنما قدم ما في البر لانه اعرف عند المخاطبين من الناس. وقوله: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) اختص بالذكر لانه مما يستصعب الانسان حصول العلم به لان الكثرة البالغة التى في أوراق الاشجار تعجز الانسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرا عليه من الاحوال، ويتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط. وقوله: (ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس) الخ، معطوفات على قوله: (من ورقة) على ظاهر السياق، والمراد بظلمات الارض بطونها المظلمة التى تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو ويفسد ما يفسد فالمعنى: ولا تسقط من حبة في بطون الارض المظلمة ولا يسقط من رطب ولا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، وعلى هذا فقوله: (إلا في كتاب مبين) بدل من قوله: (إلا يعلمها) سد مسده، وتقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين. وتوصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شئ على حقيقة ما هو عليه من غير إن يطرا عليه إبهام التغير والتبدل وسترة الخفاء في شئ من نعوته، وإن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لان الكتاب في الحقيقة هو المكتوب، والمكتوب هو المحكى عنه، وإذا كان ظاهرا لا سترة عليه ولاخفاء فيه فالكتاب كذلك.
[ 130 ]
قوله تعالى: (وهو الذى يتوفاك بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) التوفى أخذ الشئ بتمامه، ويستعمله الله سبحانه في كلامه بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما في قوله في الاية التالية: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا). قد عد الانامة توفيا كما عد الاماتة توفيا على حد قوله: (الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت في منامها) (الزمر: 42) لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في البدن كما أن البعث بمعنى الايقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الاحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع، وفي تقييد التوفى بالليل كالبعث بالنهار جرى على الغالب من أن الناس ينامون بالليل ويستيقظون بالنهار. وفي قوله تعالى (يتوفاكم) دلالة على أن الروح تمام حقيقة الانسان الذى يعبر عنه بأنا لا كما ربما يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الانسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة له، وأوضح منه دلالة قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون، قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) (السجدة: 11) فإن استبعاد الكفار مبنى على أن حقيقة الانسان هو البدن الذى يتلاشى ويفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الارض، والجواب مبنى على كون حقيقته هو الروح (النفس) واذ كان ملك الموت يتوفاه ويقبضه فلا يفوت منه شئ. وقوله: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) الجرح هو الفعل بالجارحة والمراد به الكسب أي يعلم ما كسبتم بالنهار، والانسب أن يكون الواو حالية والجمله حالا من فاعل يتوفاكم، ويتصل حينئذ قوله: (ثم يبعثكم فيه) بقوله: (وهو الذى يتوفاكم) الخ، من غير تخلل معنى أجنبي فإن الايتين في مقام شرح وقوع التدبير الالهى بالانسان في حياته الدنيا وعند الموت وبعده حتى يرد إلى ربه، والاصل العمدة من جمل الايتين المسرودة لبيان هذا المعنى قوله تعالى: (وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه - أي في النهار - ليقضى أجل مسمى ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) فهذا هو الاصل في المقصود، وما وراء ذلك مقصود بالتبع، والمعنى وهو الذى يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار، ثم يبعثكم في النهار الخ. قوله تعالى: (ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى) الخ. سمى الايقاظ والتنبيه بعثا محاذاة لتسمية الانامة توفيا وجعل الغرض من البعث قضاء الاجل المسمى وهو الوقت
[ 131 ]
المعلوم عند الله الذى لا يتخطاه حياة الانسان الدنيوية كما قال: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (الاعراف: 34). وإنما جعل قضاء الاجل المسمى غاية لانه تعالى أسرع الحاسبين، ولو لا تحقق قضاء سابق لاخذهم بسيئات أعمالهم ووبال آثامهم، كما قال: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) (الشورى: 14) والقضاء السابق هو الذى يشتمل عليه قوله تعالى في قصة هبوط آدم عليه السلام: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (الاعراف: 24). فالمعنى أن الله يتوفاكم بالليل والحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار من السيئات وغيرها لكن لا يمسك أرواحكم ليديم عليها الموت بل يبعثكم في النهار بعد التوفى لتقضى آجالكم المسماة ثم إليه مرجعكم بنزول الموت والحشر فينبئكم بما كنتم تعملون. قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) قد تقدم الكلام فيه في تفسير الاية 17 من السورة. قوله تعالى: (ويرسل عليكم حفظه) الخ، اطلاق إرسال الحفظة من غير تقييد لا في الارسال ولا في الحفظة ثم جعله مغيا بمجئ الموت لا يخلو عن دلالة على أن هؤلاء الحفظة المرسلين شأنهم حفظ الانسان من كل بلية تتوجه إليه ومصيبة تتوخاه، وآفة تقصده فإن النشأة التى نحن فيها نشأة التفاعل والتزاحم، ما فيه من شئ إلا وهو مبتلى بمزاحمة غيره من شئ من جميع الجهات لان كلا من أجزاء هذا العالم الطبيعي بصدد الاستكمال واستزادة
سهمه من الوجود، ولا يزيد في شئ إلا وينقص بنسبته من غيره فالاشياء دائما في حال التنازع، والتغلب ومن أجزائه الانسان الذى تركيب وجوده ألطف التراكيب الموجودة فيه وأدقها فيما نعلم فرقباؤه في الوجود أكثر وأعداؤه في الحياة أخطر فأرسل الله إليه من الملائكة حفظة تحفظه من طوارق الحدثان وعوادى البلايا والمصائب ولا يزالون يحفظونه من الهلاك حتى إذا جاء أجله خلوا بينه وبين البلية فأهلكته على ما في الروايات. أما ما ذكره في قوله: (إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون) (الانفطار: 12) فإنما يريد به الحفظة على الاعمال غير أن بعضهم أخذ الايات مفسرة لهذه الاية، والاية وإن لم تأب هذا المعنى كل الاباء لكن قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت)
[ 132 ]
إلى آخر الاية، كما تقدم يؤيد المعنى الاول. وقوله: (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) الظاهر أن المراد من التفريط هو التساهل والتسامح في إنفاذ الامر الالهى بالتوفى فإن الله سبحانه وصف ملائكته بأنهم يفعلون ما يؤمرون، وذكر أن كل أمة رهن أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فالملائكة المتصدون لامر التوفى لا يقصرون عن الحد الواجب المحدود المكشوف لهم من موت فلان في الساعة الفلانية على الشرائط الكذائية فهم لا يسامحون في توفى من أمروا بتوفيه ولا مقدار ذرة فهم لا يفرطون. وهل هذه الرسل هم الرسل المذكورون أولا حتى تكون الحفظة هم الموكلين على التوفى ؟ الاية ساكتة عن ذلك إلا ما فيها من إشعار ضعيف بالوحدة غير أن هؤلاء الرسل المأمورين بالتوفى كائنين من كانوا هم من أعوان ملك الموت لقوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) (السجدة: 11). ونسبة التوفى إلى هؤلاء الرسل ثم إلى ملك الموت في الاية المحكية آنفا ثم إلى الله سبحانه في قوله: (الله يتوفى الانفس) (الزمر: 42) من قبيل التفنن في مراتب النسب
فالله سبحانه ينتهى إليه كل أمر وهو المالك المتصرف على الاطلاق، ولملك الموت التوسل إلى ما يفعله من قبض الارواح بأعوانه الذين هم أسباب الفعل ووسائله وأدواته كالخط الذى يخط القلم و ورائه اليد ووراءهما الانسان الكاتب. قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) إشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه بالبعث بعد الموت، وتوصيفه تعالى بأنه مولاهم الحق للدلالة على علة جميع ما تقدم من تصرفاته تعالى بالانامة والايقاظ والتدبير والاماتة والبعث، وفيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق المولوية له تعالى، فالمولى هو الذى يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء، وإذ كان له تعالى حقيقة الملك، وكان هو المتصرف بالايجاد والتدبير والارجاع فهو المولى الحق الذى يثبت له معنى المولوية ثبوتا لا زوال له بوجه البتة. والحق من أسماء الله الحسنى لثبوته تعالى بذاته وصفاته ثبوتا لا يقبل الزوال ويمتنع عن التغير والانتقال والضمير في (ردوا) راجع إلى الاحاد الذى يومئ إليه سابق الكلام من قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) فإن حكم الموت يعم كل واحد ويجتمع به آحادهم
[ 133 ]
نفس الجماعة، ومن هنا يظهر أن قوله: (ثم ردوا) ليس من قبيل الالتفات من الخطاب السابق إلى الغيبة. قوله تعالى: (ألا له الحكم) الخ، لما بين تعالى اختصاصه بمفاتح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذى فيه كل شئ، وتدبيره لامر خلقه من لدن وجدوا إلى أن يرجعوا إليه تبين أن الحكم إليه لا إلى غيره، وهو الذى ذكره فيما مر من قوله: (إن الحكم إلا لله) أعلن نتيجة بيانه فقال (ألا له الحكم) ليكون منبها لهم مماغفلوا عنه. وكذلك قوله: (وهو أسرع الحاسبين) نتيجة أخرى لسابق البيان فإنه تبين به أنه تعالى لا يؤخر حساب أعمال الناس عن الوقت الصالح، له وإنما يتأخر ما يتأخر ليدرك الاجل الذى أجل له.
قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه) إلى آخر الاية كأن المراد بالتنجية من ظلمات البر والبحر هو التخليص من الشدائد التى يبتلى بها الانسان في خلال الاسفار إذا ضرب في الارض أو ركب البحر كالبرد الشديد والامطار والثلوج وقطاع الطريق والطوفان ونحو ذلك، وأشق ما يكون ذلك على الانسان في الظلمات من ليل أو سحاب أو ريح تثير عجاج الارض فيزيد في اضطراب الانسان وحيرته وضلالة طريق الاحتيال لدفعه، ولذلك علقت التنجية على الظلمات، وكان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجى الانسان من الشدائد التى يبتلى بها في أسفاره في البر والبحر فاضيفت الشدائد إلى البر والبحر بعناية الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر والبحر لان للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه المكاره، ثم حذفت الشدائد وأقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل: ينجيكم من ظلمات البر والبحر. وإنما خصت الظلمات بالذكر وإن كان المنجى من كل مكروه وغم هو الله سبحانه كما يذكره في الاية التالية لان أسفار البر والبحر معروف عند الانسان بالعناء والوعثاء والكريهة. والتضرع إظهار الضراعة وهو الذل والخضوع على ما ذكره الراغب، ولذلك قوبل بالخفية وهو الخفاء والاستتار فالتضرع والخفية في الدعاء هما الاعلان والاسرار فيه، والانسان إذا نزلت به المصيبة يبتدئ فيدعو للنجاة بالاسرار والمناجاة ثم إذا اشتدت به ولاح بعض آثار اليأس والانقطاع من الاسباب لا يبالى بمن حوله ممن يطلع على ذلته واستكانته فيدعو بالتضرع والمناداة ففى ذكر التضرع والخفية إشارة إلى أنه تعالى هو المنجى من مصائب البر والبحر شديدتها ويسيرتها.
[ 134 ]
وفي قوله: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) إشارة إلى أن الانسان يضيف في هذه الحالة التى يدعو لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه ووعدا يعده به أن لو كشف الله عنه ليكونن من الشاكرين ويرجع عن سابق كفره.
وأصل هذه العدة مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الانسان بعضهم مع بعض فإن الواحد منا إذا أعيته المذاهب وأحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو واستغاث لكشف ما به من كرب إلى أحد الاقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه ويقوى باعث عزيمته وفتوته، وذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن الاعمال الاجتماعية التى تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطى فيها الانسان شيئا ويأخذ شيئا لان الحاجة محيطة بالانسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع عائد إلى نفسه، ومثله سائر أجزاء الكون. لكن الله سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا إلا ليعود نفعه إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الانسان له بوعد الشكر والطاعة في دعائه الفطري هو أن الانسان إذا نزلت به النازلة، وانقطعت عنه الاسباب وغابت عن مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذى يقدر على كشف ما به من غم، وأنه الذى يدبر أمره منذ خلقه ويدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما مفرطا في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم ورفع الحاجة من قبله تعالى لماكسبت يداه من السيئات، وحملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر والطاعة ليصحح ذلك استحقاقه لاستجابة دعائه وكشف ضره. ولذلك نجده أنه إذا نجى مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه ووعده من الشكر كما قال تعالى في ذيل الاية التالية: (ثم أنتم تشركون). قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) قال الراغب في مفرداته: الكرب الغم الشديد، قال تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) والكربة كالغمة، وأصل ذلك من كرب الارض بسكون الراء وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك وقيل في مثل: الكراب على البقر وليس ذلك من قولهم: الكلاب على البقر، في شئ، ويجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب، وقولهم: إناء
كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من المل ء، أو من الكرب (بفتحتين) وهو عقد غليظ في رشا الدلو، وقد يوصف الغم بأنه عقد على القلب يقال: أكربت الدلو، انتهى.
[ 135 ]
وقد أضيف في هذه الاية كل كرب إلى ظلمات البر والبحر ليعم الجميع فإن إنسانا ما لا يخلو في مدى حياته من شئ من الكروب والغموم فألمسألة والدعاء عام فيهم سواء أعلنوا به أو أسروا. فملخص المراد بالاية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر والبحر وغيرها إذا انقطعتم عن الاسباب الظاهرة وأعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الانسانية أن الله سبحانه هو ربكم لا رب سواه وتجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم وإثم والشاهد على ذلك أنكم تدعونه حينئذ تضرعا وخفية، وتعدونه أن تشكروه بعد ذلك ولا تكفروا به إن أنجاكم لكنكم بعد الانجاء تنقضون ميثاقكم الذى واثقتموه به وتستمرون على سابق كفركم، ففى الايتين احتجاج على المشركين وتوبيخ لهم على حنث اليمين وخلف الوعد. قوله تعالى: (قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم) إلى آخر الاية، قال الراغب في المفردات، أصل البعث اثارة الشئ وتوجيهه يقال: بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته وسيرته، وقوله عزوجل: والموتى يبعثهم الله أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة - إلى ان قال - فالبعث ضربان: بشرى كبعث البعير وبعث الانسان في حاجة، والهى وذلك ضربان: أحدهما: ايجاد الاعيان والاجناس الانواع عن ليس وذلك يختص به الباري تعالى ولم يقدر عليه احد، والثانى إحياء الموتى وقد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى عليه السلام وأمثاله، انتهى. و بالجملة في لفظه شئ من معنى الاقامة والانهاض، وبهذه العناية يستعمل في التوجيه والارسال لان التوجيه إلى حاجة والارسال نحو قوم يكون بعد سكون وخمود غالبا، وعلى هذا فبعث العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه إن يتوجه إليهم ويقع بهم،
وإنما يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالايمان والطاعة، وللكلام تتمة سنوافيك. وقال في المجمع: لبست عليهم الامر ألبسه إذا لم أبينه وخلطت بعضه ببعض ولبست الثوب ألبسه، واللبس اختلاط الامر واختلاط الكلام، ولابست الامر خالطته، والشيع الفرق، وكل فرقة شيعه على حدة، وشيعة فلان تبعته، والتشيع الاتباع على وجه التدين والولاء، انتهى. وعلى هذا فالمراد بقوله: (أو يلبسكم شيعا) أن يضرب البعض بالبعض ويخلط
[ 136 ]
حال كونهم شيعا وفرقا مختلفة. فقوله: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت، والقدرة على الشئ لا تستلزم فعله، وهو أعنى إثبات القدرة على الفعل الذى هو العذاب كاف في الاخافة، والانذار لكن المقام يعطى أن المراد ليس هو إثبات مجرد القدرة بل لهم استحقاق لمثل هذا العذاب، وفي العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم يجتمعوا على الايمان بالله وآياته كما مر من استفاد ذلك من معنى البعث، ويؤيده قوله بعد: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) فإنه تهديد صريح. على أنه تعالى يهدد هذه الامة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه كقوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) الايات (يونس: 47 - 53) وقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، وتقطعوا أمرهم بينهم) إلى آخر الايات (الانبياء: 93 - 97) وقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا - إلى أن قال - ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) إلى آخر الايات (الروم آ: 30 - 45).
وقد قيل: إن المراد بالعذاب الذى من فوقهم هو الصيحة والحجارة والطوفان والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط، وبالذي من تحت أرجلهم الخسف كما فعل بقارون، وقيل: إن المراد بما من فوقهم العذاب الاتى من قبل كبارهم أو سلاطينهم الجبابرة وبما من تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء، وقيل: المراد بما من فوق وبما من تحت الاسلحة النارية القتالة التى اخترعها البشر أخيرا من الطيارات والمناطد التى تقذف القنابل المحرقة والمخربة وغيرها ومراكب تحت البحر المغرفة للسفائن والباخرات فإن الانذار إنما وقع في كلامه تعالى وهو أعلم بما كان سيحدث في مملكته. والحق أن اللفظ مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة وقد وقع بعد النزول ما ينطبق عليه اللفظ، والمحتد الاصلى لهذه الوقائع الذى مهد لها الطريق هو اختلاف الكلمة والتفرق الذى بدأت به الامة وجبهت به النبي صلى الله عليه وآله فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق على كلمة الحق، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم.
[ 137 ]
قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) ظاهره أنه أريد به التحزبات التى نشأت بعد النبي صلى الله عليه وآله، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست لباس العصبية والحمية الجاهلية واستتبعت حروبا ومقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل حرمة ويطرده بمزعمته من حرمة الدين وبيضة الاسلام. وعلى هذافقوله: (أو يلبسكم شيعا ويذيق) الخ، عذاب واحد لا عذابان وإن أمكن بوجه عد كل من إلقاء التفرق في الكلمة وإذاقه البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه فللتفرقة بين الامة أثر سوء آخر وهو طرو الضعف ونفاد القوة وتبعض القدرة لكن المأخوذ في الاية المعدود عذابا أعنى قوله: (ويذيق بعضكم) الخ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق، ولا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة في الكلام، على أن العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه. فبالجملة معنى الاية: قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع
تحت لواء التوحيد واستماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه أن يأخذكم بها وهو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه ولا ملاذ تلوذون به وهو العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا وفرقا مختلفين متنازعين ومتحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه: أنظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) قوم النبي صلى الله عليه وآله هم قريش أو مضر أو عامة العرب والمستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد أخر ان المراد بقومه صلى الله عليه وآله هم العرب كقوله: (ولو نزلناه على بعض الاعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) (الشعراء: 202) وقوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم: 4). وكيف كان فقوله: (وكذب به قومك وهو الحق) بمنزلة التمهيد لتحقيق النبأ الذى يتضمنه الانذار السابق كأنه قيل: يا أيتها الامة اجتمعوا في توحيد ربكم واتفقوا في اتباع كلمة الحق وإلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف
[ 138 ]
وتحزب يستتبع سيفا وسوطا من بعضكم على بعض، ثم خوطب النبي صلى الله عليه وآله فقيل: إن قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه. ومن هنا يظهر أولا: أن الضمير في قوله: (وكذب به) راجع إلى العذاب كما نسبه الالوسى إلى غالب المفسرين، وربما قيل: إنه عائد إلى تصريف الايات أو إلى القرآن وهو بعيد، وليس من البعيد أن يرجع إلى النبأ باعتبار ما تشتمل عليه الاية السابقة. وثانيا: أن هذا الخبر أاعنى قوله: (وكذب به قومك وهو الحق) بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق لنبأ موعود كأنه قيل: يجب على أمتك
أن يجتمعوا على الايمان بالله وآياته ويكونوا على تحرز وتحذر من أن يتسرب إليهم الكفر بالله وآياته ويدب فيهم اختلاف حتى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل: إن قومك من بين جميع امتك ومن عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه وكذبوا النبأ فانثلم بذلك الامر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين للنبى صلى الله عليه وآله أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الاعراب خاصة وهم قومه صلى الله عليه وآله بل كذبته اليهود وامم من غيرهم في زمانه وبعده وكان تكذيبهم واختلافهم جميعا ذا أثر مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر والحال هذه يفيد ما ذكرناه. والبحث التحليلي عن نفسية المجتمع الاسلامي يؤيد هذا الذى استفدناه من الاية فإن ما ابتليت به الامة الاسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم والوهن في قوتهم والتشتت في كلمتهم ينتهى بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات والمشاجرات في الصدر الاول بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة وقبل الهجرة مما لقيه النبي صلى الله عليه وآله من قومه، وما جبهوه به من التكذيب وتسفيه الرأى. وهؤلاء وإن تجمعوا حول راية الدعوة الاسلامية واستظلوا بظلها بعد ما ظهرت كلمة الحق وأنارت مشعلته لكن المجتمع الطيب الدينى لم يضف من خبث النفاق، وقد نطقت آيات جمة من القرآن الكريم بذلك، وكان أهل النفاق لا يستهان بعددهم ومن المحال أن يسلم بنيه المجتمع من سئ أثرهم في نفسية أجزائه ولم يقدر على هضمهم هضما تاما يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي صلى الله عليه وآله، ولم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثم زاد اشتعالا ولم يزل، والجميع يرجع إلى ما بدا منه، وكل الصيد في جوف الفراء.
[ 139 ]
وثالثا: أن قوله تعالى: (قل لست عليكم بوكيل) مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم وقل: إن أمركم غير مفوض إلى ولا محمول على حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، وإنما الذى إلى بحسب مقامي أن أنذركم عذابا شديدا هو كمين لكم.
ومن هنا يظهر أيضا: أن قوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) من مقول القول وتتمة قول النبي صلى الله عليه وآله لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله: (وسوف تعلمون) فإن القوم إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله لا بالنسبة إليه تعالى. وقوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) تصريح بالتهديد وإنباء عن الوقوع الحتمى وقد ظهر مما تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الامة الاسلامية من تفرق الكلمة ونزول الشدة فإن الاعراق تنتهى إليهم وليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه أولهم ويعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا، أبصروا من أنفسهم ذلك أوعموا، قال تعالى: (بل هم في شك يلعبون، فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) (الدخان: 15). تدبر في الايات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله من آيات سورة يونس والانبياء والروم، وفي القرآن الشريف شئ كثير من الايات المنبئة عما سيوافى الامة من وخيم العاقبة ووبال السيئة ثم إدراك العناية الالهية ومن أسوء التقصير إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الايات الكريمة على كثرتها وأهميتها وشدة مساسها بحال الامة وسعادة جدها في دنياها وآخرتها. قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) ذكر الراغب في المفردات أن الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الامور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، انتهى. وهو الدخول في باطل الحديث والتوغل فيه كذكر الايات الحقة والاستهزاء بها والاطالة في ذلك. والمراد بالاعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم والخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة، وتقييد النهى بقوله: (حتى يخوضوا في
[ 140 ]
حديث غيره) للدلالة على أن المنهى عنه ليس مطلق مجالستهم والقعود معهم، ولو كان لغرض حق، وإنما المنهى عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه. ومن هنا يظهر أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم (الخ)، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء بها عنها، والمعنى - والله أعلم وإذا رأيت أهل الخوض والاستهزاء بآيات الله يجرون على خوضهم واستهزائهم بالايات الالهية فأعرض عنهم ولا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم، والكلام وإن وقع في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما يشملهم، وقد وقع في آخر الاية قوله: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين فالخوض في آيات الله ظلم والاية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم، وقد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى: (إنكم إذا مثلهم) (النساء: 140). فقد تبين: أن الاية لا تأمر بالاعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر بالاعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به. والضمير في قوله: (غيره) راجع إلى الحديث الذى يخاض فيه في آيات الله باعتبار أنه خوض وقد نهى عن الخوض في الاية. قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) و (ما) في قوله: (إما ينسينك) زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل، والنون للتأكيد، والاصل وإن ينسك، والكلام في مقام التأكيد والتشديد للنهى أي حتى لو غفلت عن نهينا بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم ولا تلبث دون أن تقوم عنهم فإن الذين يتقون ليس هم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها. والخطاب في الاية للنبى صلى الله عليه وآله والمقصود غيره من الامة فقد تقدم في البحث عن عصمة الانبياء عليهم السلام ما ينفى وقوع هذا النوع من النسيان - وهو نسيان حكم إلهى ومخالفته
عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره والتمسك به نفسه - عنهم عليهم السلام. ويؤيد ذلك عطف الكلام في الاية التالية إلى المتقين من الامة حيث يقول: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) إلى آخر الاية.
[ 141 ]
وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزا بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) (النساء: 140) فإن المراد في الاية وهى مدنية بالحكم الذى نزل في الكتاب هو ما في هذه الاية من سورة الانعام وهى مكية ولا آية غيرها، وهى تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين، ولازمه أن يكون الخطاب الذى في قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الخ موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله والمقصود به غيره على حد قولهم: إياك أعنى واسمعي يا جارة. قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) إلى آخر الاية. يريد أن الذى يكتسبه هؤلاء الخائضون من الاثم لا يحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون، فإن الانسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس وتصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الانسان فيها فإن للنفس في كل معصية هوى ومن الواجب على المتقى بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياتة فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
ومن هذا البيان يظهر أولا: أن نفى الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله انما هو للايماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به، فالكلام في تقدير قولنا: وما على غير الخائضين من حسابهم من شئ إذا كانوا يتقون الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم التقوى والورع عن محارم الله سبحانه. وثانيا: أن المراد بالتقوى في قوله: (وما على الذين يتقون) التقوى العام وهو الاجتناب والتوقى عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، وفي قوله: لعلهم يتقون) التقوى
[ 142 ]
من خصوص معصية الخوض في آيات الله، أو المراد بالتقوى الاول أصل التقوى وبالثانى تمامه، أو الاول إجمال التقوى والثانى تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد ومنها مورد الخوض في آيات الله، وهيهنا معنى آخر وهو أن يكون المراد بالاول تقوى المؤمنين وبالتقوى الثاني تقوى الخائضين وتقدير الكلام ولكن ذكروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض. وثالثا: أن قوله ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر والتقدير ولكن نذكرهم بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى أو خبر لمبتدا محذوف والتقدير: ولكن هذا الامر ذكرى أو مبتدء لخبر محذوف و التقدير: ولكن عليك ذكراهم وأوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن. قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) إلى آخر الاية، قال الراغب: البسل ضم الشئ ومنعه ولتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه فقيل ه: وباسل ومبتسل الوجه، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل، وقوله تعالى: وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت، أي تحرم الثواب، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر، والبسل هو المنوع منه بالقهر قال عزوجل: (اولئك
الذين أبسلوا بما كسبوا) أي حرموا الثواب، انتهى. وقال في المجمع: يقال: أبسلته بجريرته أي أسلمته، والمستبسل المستسلم الذى يعلم أنه لا يقدر على التخلص - إلى أن قال - قال الاخفش: تبسل أي تجازى، وقيل: تبسل أي ترهن والمعاني متقاربة، انتهى. - والمعنى: (واترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) عد تدينهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعبا وتلهيا بدينهم، وفيه فرض دين حق لهم وهو الذى دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم أن يأخذو ا به أخذ جد ويتحرزوا به عن الخلط والتحريف ولكنهم اتخذوه لعبا ولهوا يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال ويحولونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة إلى صورة. ثم عطف على اتخاذهم الدين لعبا ولهوا قوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) لما بينهما من الملازمة لان الاسترسال في التمتع من لذائذ الحياة المادية والجد في اقتنائها يوجب الاعراض عن الجد في الدين الحق والهزل واللعب به.
[ 143 ]
ثم قال: وذكر به أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة والعقاب، وتلك نفس ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل وتفد كل فدية لا يؤخذ منها لان اليوم يوم الجزاء بالاعمال لا يوم البيع والشرى اولئك الذين أبسلوا ومنعوا من ثواب الله أو أسلموا لعقابه لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. قوله تعالى: (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) احتجاج على المشركين بنحو الاستفهام الانكارى، وإنما ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع و لا تضر لان اتخاذ الالهة - كما تقدم - كان مبنيا على أحد الاساسين: الرجاء و الخوف وإذ كانت الشركاء لا تنفع ولا تضر فلا موجب لدعائها وعبادتها والتقرب منها. قوله تعالى: (ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله - إلى قوله - ائتنا) الاستهواء
طلب الهوى والسقوط، والرد على الاعقاب كناية عن الضلال وترك الهدى فإن لازم الهداية الحقة الوقوع في مستقيم الصراط والشروع في السير فيه فالارتداد على الاعقاب ترك السير في الصراط والعود إلى ما خلف من المسير وهو الضلال، ولذا قال: ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فقيد الرد بكونه بعد الهداية الالهية. ومن عجيب الاستدلال احتجاج بعض بهده الاية أعنى قوله: (نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله الاية وما يجرى مجراها من الايات كقول شعيب عليه السلام على ما حكاه الله تعالى في قصته بقوله: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملكتم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) (الاعراف: 89). فقد احتجوا بها على أن الانبياء ع كانوا قبل البعثة والتلبس بلباس النبوة على الكفر لما في لفظ الرد على الاعقاب بعد إذ هدى الله، والعودة في ملة الشرك بعد إذ نجاهم الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة وهو احتجاج فاسد فإن ذلك تلكم منهم بلسان المجتمع الدينى الذى كانت أفراده على الشرك حتى هداهم الله بواسطة أنبيائه ولسنا نعنى أن غلبة الافراد الذين كانوا على الشرك في أول عهدهم سوغ
[ 144 ]
أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتى يكون تغليبا لشركهم على إيمان نبيهم فإن كلامه الحق لا يحتمل ذلك بل نعنى أن مجتمع الدين الشامل للنبى وأمته يصدق عليه أن افراد انما نجوى من الشرك بعد هداية الله سبحانه إياهم وليس لهم من دونه إلا الضلال أما الامة فإنهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين، وأما أنبياؤهم فإنما اهتداؤهم بالله سبحانه، وليس لهم من أنفسهم لو لا الهداية الالهية إلا الضلال فإن غيره تعالى لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فمن الصادق في حقهم أن ليس لهم أن يرتدوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجاهم الله منه. وبالجملة الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة وإن لم يكن بعض مجتمعهم وهو
النبي الذى فيهم كافرا قبل نبوته فإن الايمان والاهتداء على أي حال لهم من الله سبحانه بعد الحال الذى لهم من أنفسهم وحالهم من انفسهم هو الضلال كما عرفت. على أنك قد عرفت فيما تقدم من البحث المتنوع في عصمة الانبياء أن القرآن الشريف ناص على طهارة ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة وبأكبر الكبائر الذى هو الشرك بالله العظيم. وقوله: (كالذى استهوته الشياطين في الارض حيران) (الخ) تمثيل مثل به حال الانسان المتحير الذى لم يؤت بصيرة في أمره وعزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن طريق وأقومه إلى مقصده، وقد ركبه قبله أصحاب له مهتدون به وبقى متحيرا بين شياطين يدعونه إلى الردى والهلاك، وأصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا على الوصول يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فلا يدرى ما يفعل وهو بين مهبط ومستوى ؟. قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) إلى آخر الاية. إى أن كان الامر دائرا بين دعوة الله سبحانه وهى التى توافق الفطرة وتسمية الفطرة هدى الله، وبين دعوة الشياطين وهى التى فيها الهوى واتخاذ الدين لعبا ولهوا فهدى الله هو الهدى الحقيقي دون غيره. أما أن ما يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شك يعتريه لان حق الهداية هو الذى ينطق به الصنع والايجاد الذى ليس إلا لله ولا نروم شيئا من دين أو اعتقاد إلا لابتغاء مطابقة الواقع والواقع لله فلا يعدوه هداه، وأما أن هدى الله هو الهدى الحقيقي الذى يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانية فظاهر أيضا لان الله سبحانه هو الذى إليه
[ 145 ]
أمرنا كله من جهة مبدئنا ومنتهانا وما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة. وقوله: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) قال في المجمع تقول العرب: أمرتك لتفعل وأمرتك أن تفعل وأمرتك بأن تفعل فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للالصاق والمعنى وقع الامر بهذا الفعل، ومن قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار، ومن قال: أمرتك لتفعل
فالمعنى أمرتك للفعل، وقال الزجاج: التقدير أمرنا كى نسلم. والجملة أعنى قوله: (وأمرنا لنسلم) الخ، عطف تفسير لقوله: (إن هدى الله هو الهدى) فالامر بالاسلام هو مصداق لهدى الله، والمعنى: أمرنا الله لنسلم له وإنما أبهم فاعل الفعل ليكون تمهيدا لوضع قوله: (لرب العالمين) موضع الضمير فيدل به على علة الامر فالمعنى أمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لانه رب العالمين جميعا ليس لها جميعا أو لكل بعض منها - كما تزعمه الوثنية - رب آخر ولا أرباب أخر. وظاهر الاية أن المراد بالاسلام هو تسليم عامة الامور إليه تعالى لا مجرد التشهد بالشهادتين، وهو ظاهر قوله: (إن الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19) كما مر في تفسير الاية. قوله تعالى: (وأن أقيموا الصلاة واتقوه ت) فنن في سرد الكلام بأخذ الامر بمعنى القول والجرى في مجرى هذه العناية كأنه قيل: وقيل لنا: أن أسلموا لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه. وقد أجمل تفاصيل الاعمال الدينية ثانيا في قوله: (واتقوه) غير أنه صريح من بينها باسم الصلاة تعظيما لامرها وإعتناء بشأنها واهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شك فيه. قوله تعالى: (وهو الذى إليه تحشرون) فمن الواجب أن يسلم له ويتقى لان الرجوع إليه، والحساب والجزاء بيده. قوله تعالى: (وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق) إلى آخر الاية. بضعة أسماء وأوصاف له سبحانه مذكورة اريد بذكرها بيان ما تقدم من القول وتعليله فإنه تعالى ذكر أن الهدى هداه ثم فسره نوع تفسير بالاسلام له والصلاة والتقوى وهو تمام الدين ثم بين السبب في كون هداه هو الهدى الذى لا يجوز التجافي عنه وهو أن حشر الجميع إليه
[ 146 ]
ثم بينه أتم بيان بقوله: (وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق) الخ، فهذه أسماء
ونعوت له تعالى لو انتفى واحد منها لم يتم البيان. فقوله: (هو الذى خلق) الخ، يريد به أن الخلقة جميعا فعله وإنما أتى به بالحق لا بالباطل، والفعل إذا لم يكن باطلا لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له فللخلقة غاية وهو الرجوع إليه تعالى وهذا هو إحدى الحجتين اللتين ذكرهما في قوله عز من قائل (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) إلى آخر الايتين (ص: 27) فخلقة السماوات والارض بخلقة حقة تؤدى إلى أن الخلق يحشرون إليه. وقوله: (يوم يقول كن فيكون) السياق يدل على أن المراد بالمقول له هو يوم الحشر وإن كان كل موجود مخلوق على هذه الصفه ة كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس: 82) ويوم ظرف متعلق بالقول والمعنى: يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون، وربما قيل: إن المقول له هو الشئ والتقدير: يوم يقول لشئ كن فيكون، وما ذكرناه أوفق للسياق. وقوله: (قوله الحق) تعليل عللت به الجملة التى قبله، والدليل عليه فصل الجملة، والحق هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت وهو الوجود الخارجي والكون العينى وإذ كان قوله هو فعله و إيجاده كما يدل عليه قوله: (ويوم يقول كن فيكون) فقوله تعالى هو نفس الحق فلا مردله ولا مبدل لكلماته قال تعالى: (والحق أقول) (ص: 84). قوله تعالى: (وله الملك يوينفخ في الصور) يريد به يوم القيامة. قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (المؤمن: 16) والمراد بثبوت الملك له تعالى يوم النفخ مع أن له الملك دائما إنما هو ظهور ذلك بتقطع الاسباب وانبتات الروابط والانساب وقد تقدم شذور من البحث في ذلك فيما تقدم وسيجئ استيفاء البحث عنه وعن معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى. وقوله (عالم الغيب والشهادة) قد تقدم معناه، وهو اسم يتقوم بمعناه الحساب والجزاء، وكذلك الاسمان: الحكيم والخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب والشهادة يعلم ظاهر
الاشياء وباطنها فلا يخفى عليه ظاهر لظهوره ولا باطن لبطونه، وبحكمته يتقن تدبير الخليقة ويميز الواجب من الجزاء كما ينبغى فلا يظلم ولا يجازف، وبخبرته لا يفوت عنه دقيق لدقته ولا جليل لجلالته.
[ 147 ]
فهذه الاسماء والنعوت تبين بأتم البيان أن الجميع محشورون إليه وأن هداه هو الهدى ودين الفطرة الذى أمر به هو الدين الحق فإنه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبه أرادها منه وهو الرجوع إليه، وإذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لان قوله حق لا مرد له، ويظهر اليوم أن الملك له لا سلطنة لشئ غيره على شئ، وعند ذلك يتميز بتمييزه من أطاعه ممن عصاه لانه يعلم كل غيب وشهادة عن حكمة وخبره. وقد بان مما تقدم أولا: أن قوله: (بالحق) أريد به أن خلق السماوات والارض خلق حق أي إن الحق وصفه، وقد تقدم قريبا معنى كون فعله وقوله تعالى حقا، وأما ما قيل: إن المعنى خلق السماوات والارض بالقول الحق فبعيد. وثانيا: أن ظاهر قوله: (ويوم يقول كن فيكون) بدلالة السياق بيان لامر يوم القيامة وإن كان الامر في خلق جميع الاشياء على هذه الطريقة. وثالثا: أن اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله: (وله الملك يوم ينفخ في الصور) للاشارة إلى معنى الاحضار العام الذى هو المناسب لبيان قوله في ذيل الاية السابقة: (وهو الذى إليه تحشرون) فإن الحشر هو إخراج الناس وتسييرهم مجتمعين بنوع من الازعاج، والصور إنما ينفخ فيه لاجتماع إفراد العسكر لامر يهمهم، ولذلك ينفخ الصور أعنى النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون - إلى أن قال - إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون. فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) (يس: 54).
وليس اليوم في الموضعين بمعنى واحد فاليوم الاول اريد به مطلق الظرف كالظرف ليوم القيامة بنو ع من العناية الكلامية كقولنا: يوم خلق الله الحركة وحين خلق الله الايام والليالي وإنما اليوم من فروع الحركة متفرع عليه، والحين هو اليوم والليل، والمراد باليوم الثاني نفس يوم القيامة.
[ 148 ]
(بحث روائي) في الدر المنثورفى قوله تعالى: يقص الحق الاية أخرج الدار قطني في الافراد وابن مردويه عن أبى بن كعب قال: أقرا رسول الله صلى الله عليه وآله رجلا: (يقص الحق وهو خير الفاصلين). وفيه في قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الاية، أخرج أحمد والبخاري وحشيش بن أصرم في الاستقامة وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى تغيض الارحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى. أقول: ولا ينبغى أن تعد الرواية على تقدير صحتها منافية لما تقدم من عموم الاية لان العدد لا مفهوم له، وما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها، وللغيب مصاديق أخر غير الخمس بدلالة من نفس الاية. وفيه أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما من زرع على وجه الارض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان، وذلك قوله تعاله: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. أقول: والرواية على ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الاية ذاك الانطباق. وفي تفسير العياشي عن أبى الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول
الله: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها - إلى قوله - إلا في كتاب مبين، قال: الورقة السقط، والحبة الولد، وظلمات الارض الارحام - والرطب ما يحيى، واليابس ما يغيض، وكل ذلك في كتاب مبين. أقول: ورواه أيضا الكليني والصدوق عن أبى الربيع عنه، والقمى مرسلا والرواية لا تنطبق على ظاهر الاية، ونظيرتها رواية اخرى رواها العياشي عن الحسين بن سعيد عن أبى الحسن عليه السلام. وفى المجمع في قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم)
[ 149 ]
قال: السلاطين الظلمة (ومن تحت أرجلكم) العبيد السوء ومن لا خير فيه قال: وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وقال في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا) قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام،: وقال في قوله: (ويذيق بعضكم بأس بعض) قيل: هو سوء الجوار وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وفي تفسير القمى: وقوله: (يبعث عليكم عذابا من فوقكم) - قال: السلطان الجائر (أو من تحت أرجلكم) قال: السفلة ومن لا خير فيه (أو يلبسكم شيعا) قال: العصبية (ويذيق بعضكم بأس بعض) قال سوء الجوار. قال القمى: وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليهم السلام: في قوله: (هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال: هو الدخان والصيحة (ومن تحت أرجلكم) قال قال: وهو الخسف (أو يلبسكم شيعا) وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض (ويذيق بعضكم بأس بعض) وهو أن يقتل بعضكم بعضا فكل هذا في أهل القبلة يقول الله: انظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن
مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الاية (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه آله: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال: أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) قال هذا أهون أو أيسر. أقول وروى أيضا ما يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر. وفيه: أخرج أحمد والترمذي وحسنه ونعيم بن حماد في الفتن وابن أبى حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبى وقاص عن النبي صلى الله عليه وآله في هذه الاية: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) فقال النبي صلى الله عليهو آله: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد. أقول: وهناك روايات كثيرة مروية من طرق أهل السنة وروايات اخرى من
[ 150 ]
طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن ما أوعده الله في الاية من العذاب النازل من فوقهم ومن تحت أرجلهم أعنى الصيحة والخسف سيقع على هذه الامة، وأما لبسهم شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه. وقد روى السيوطي في الدر المنثور وابن كثير في تفسيره أخبارا كثيره دالة على أنه لما نزلت الاية: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم) إلى آخرها استعاذ النبي صلى الله عليه وآله إلى ربه ودعاه أن لا يعذب أمته بما أوعدهم من أنواع العذاب فأجابه ربه إلى بعضها ولم يجبه إلى بعض آخر وهو أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض. وهذه الروايات - على كثرتها - وإن اشتملت على القوية والضعيفة من حيث أسنادها موهونة جميعا بمخالفتها لظاهر الاية فإن قوله تعالى في الايتين التاليتين: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل، لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) تهديد صريح بالوقوع وقد نزلت الايات - وهى من سورة الانعام - دفعة وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يبلغ ذلك أمته ولو كان هناك بداء برفع البلاء لكان من الواجب أن نجده
في كلامه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس من ذلك أثر بل الامر على خلافه كما تقدم في البيان السابق أن عده من آيات القرآن الكريم تؤيد هذه الايات في مضمونها كالتى في سورة يونس والروم وغيرهما. على أنها تعارض روايات أخر كثيرة من طرق الفريقين دالة على وقوع ذلك ونزوله على الامة في مستقبل الزمان. على أن هذه الروايات - على كثرتها واتفاق كثير منها في إن النبي صلى السلام إنما دعا بهذه المسائل عقيب نزول هذه الاية: (قل هو القادر على أن يبعث) الاية - لا تتفق لا في عدد المسائل ففى بعضها أنها كانت ثلاثا وفي بعضها أنها كانت أربعا، ولا في عدد ما اجيب إليه ففى بعضها أنه كان واحدا وفي بعضها أنه كان اثنين، ولا في نفس المسائل ففى بعضها أنها كانت هي الرجم من السماء والغرق من الارض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها الغرق والسنة وجعل بأسهم بينهم وفي، بعضها أنها السنة العام. وأن يسلط عليهم عدوا من غيرهم وأن يذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أن المسائل هي أن لا يجمع امته على ضلاله وأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن
[ 151 ]
لا يهلكم بالسنين وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن لا يهلكهم بغرق وأن لا يجعل بأسهم بينهم، وفي بعضها أنها أن لا يهلكهم بماأهلك به من قبلهم وأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي بعضها أنها العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم وأن يلبسهم شيعا وأن يذيق بعضهم بأس بعض. على أن في كثير منها أن دعاءه صلى الله عليه وآله كان في حرة بنى معاوية قرية من قرى الانصار بالعالية ولازمه كونه بعد الهجرة وسورة الانعام من السور النازلة بمكة قبل الهجرة دفعة، وفي الروايات اختلافات اخرى تظهر لمن راجعها.
وإن كان ولا بد من أخذ شئ من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله زوى لى الارض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك امتى سيبلغ ما زوى لى منها، وإنى اعطيت الكنزين: الاحمر والابيض، وإنى سألت ربى أن لا يهلك قومي بسنة عامة وأن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فانه لا يرد، وإنى أعطيتك لامتك أن لا اهلكهم بسنة عامة ولا اسلط عليهم عدوا من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبى بعضا. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنى أخاف على امتى الائمة المضلين فإذا وضع السيف في امتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة. فهذه الرواية وما في مضمونها خالية عن غالب الاشكالات السابقة، وليس فيها أن الدعاء كان إثر نزول الاية، وينبغى مع ذلك أن يحمل على أن المراد رفع الهلاك العام والسنة العامة التى تبيد الامة، وإلا فالسنين والمثلات والمقاتل الذريعة التى لقيتها الامة في حروب المغول والصليب وباندلس وغيرها مما لا سبيل إلى إنكارها، وينبغى أيضا أن تحمل على أن الدعاء والمسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة وإلا فالنبى صلى الله عليه وآله أعلم بمقام ربه وأجل قدرا من أن يتلقى هذه الايات بالوحى ثم يراجع ربه في تغيير ما قضى به وأمره بتبليغه وإنذار امته به.
[ 152 ]
وبعد اللتيا والتى فالقرآن الشريف يدل باياته على حاق الامر وهو أن هذا الدين قائم إلى يوم القيامة، وأن الامة لا تبيد عامة، وأن أمثال ما ابتلى الله به الامم السالفة تبتلى بها هذه الامة حذو النعل بالنعل من غير أي اختلاف وتخلف. والروايات المستفيضة المروية عن النبي والائمة من أهل بيته صلى الله عليه وعليهم
القطعية في صدورها ودلالتها ناطقة بذلك. وفي الدر المنثور أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله: (قل لست عليكم بوكيل) قال: نسخ هذه الاية آية السيف: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). أقول: قد عرفت مما تقدم من البيان أن قوله: (قل لست عليكم بوكيل) مسوق تمهيدا للتهديد الذى يتضمنه قوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) وهذا المعنى لا يقبل نسخا. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الاية بإسناده عن عبد الاعلى بن أعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإن الله يقول في كتابه: (إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان - فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين). وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبى جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن على قال: إن أصحاب الاهواء من الذين يخوضون في آيات الله. وفي تفسير العياشي عن ربعى بن عبد الله عمن ذكره عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) قال: الكلام في الله والجدال في القرآن (فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) قال: منه القصاص. أقول: والروايات - كما ترى - تعمم الاية وهو أخذ بالملاك. وفى المجمع: قال أبو جعفر عليه السلام: لما أنزل (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
[ 153 ]
الظالمين) قال المسلمون: كيف نصنع ؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا
وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا. أقول: والرواية - كما ترى - مبنية على إخذ قوله: (ذكرى) مفعولا مطلقا وإرجاع الضميرين في قوله: (لعلهم يتقون) إلى المشركين والتقدير: ولكن ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون، ويبقى على الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وآله يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزاوا فنزلت (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) الاية قال: فجعلوا إذا استهزاوا قام فحذروا وقالوا: لا تستهزئوا فيقوم فذلك قوله: (لعلهم يتقون) أن يخوضوا فتقوم ونزل: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أن تقعد معهم ولكن لا تقعد ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم) نسخ قوله: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) الاية. أقول لو كانت آية مائدة: (وقد نزل عليكم) الاية وهى عين قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون) الاية معنى ناسخة لقوله: (وما على الذين يتقون) الاية فهو أعنى قوله: (وما على الذين يتقون) الاية ناسخ لقوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون) الاية وهو ظاهر، ويأباه نزول السورة دفعة. على أن الذى ذكره من المعنى لا يوجب تنافيا بين الايات الثلاث يؤدى إلى النسخ حتى تكون الثانية ناسخة للاولى ومنسوخة بالثالثة وهو ظاهر. ونظير الرواية ما رواه أيضا في الدر المنثورعن النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) قال: هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها) الاية. وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (قوله الحق وله الملك) الاية عن ابن بابويه
بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عز
[ 154 ]
وجل: (عالم الغيب والشهادة) فقال: (عالم الغيب) ما لم يكن (والشهادة) ما قد كان. أقول: فيه ذكر أعرف مصاديق الغيب والشهادة عندنا، وقد تقدم في البيان المتقدم آنفا وغيره أن للغيب مصاديق أخر. * * * وذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إنى أريك وقومك في ضلال مبين - 74. وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين - 75. فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الافلين - 76. فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين - 77. فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برئ مما تشركون - 78. إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين - 79. وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدين ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون - 80. وكيف أخاف ما
[ 155 ]
أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون - 81. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون - 82. وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم - 83. (بيان) عشر آيات ذكر الله سبحان فيها ما آتاه النبي العظيم ابراهيم ع عليه السلام من الحجة على المشركين بما هداه إلى توحيده وتنزيهه ثم ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرهم من الشرك، وقد سمى بينهم نوحا عليه السلام وهو قبل ابراهيم عليه السلام وسته عشر نبيا من ذرية نوح عليه السلام. والايات في الحقيقة بيان لمصداق كامل من القيام بدين الفطرة والانتهاض لنشر عقيدة التوحيد والتنزيه عن شرك الوثنية وهو الذى انتهض له إبراهيم عليه السلام وحاج له على الوثنية حينما أطبقت الدنيا على الوثنية ظاهرا، ونسوا ما سنه نوح عليه السلام والتابعون له من ذريته الانبياء من طريقة التوحيد فالايات بما تشتمل عليه من تلقين الحجه ة و الهداية إلى دين الفطرة كالتبصر لما تقدمها من الحجج التى لقنها الله: سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله في هذه السورة بقوله: قل كذا وقل كذا فقد كررت لفظة (قل) في هذه السورة الكريمة أربعين مرة نيف وعشرون منها قبل هذه الايات فكأنه قيل: واذكر فيما تقوله لقومك وتحاجهم به من ادلة التوحيد ونفى الشريك بتلقيننا إياك ما قاله إبراهيم لابيه وقومه مما آتيناه من حجتنا على قومه بما كنا نريه من ملكوت السماوات والارض فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم والحكمة وإراءة منه تعالى لملكوته مبنية على اليقين لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل والتصور، ولا تخلو عن التكلف والتعسف الذى لا تهتف به الفطرة الصافية. ولحن كلام ابراهيم عليه السلام فيما حكاه الله سبحانه في هذه الايات إن تدبرنا فيها بأذهان
[ 156 ]
خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات والاثار على اختلافها الفاحش، غير مشوبة بالمشاجرات التى وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الايات بمضامين الروايات ومحتويات التواريخ وما اشتملت عليه التوراة وأخرى تشايعها من الاسرائيليات إلى غير ذلك، وبالجملة لحن كلامه عليه السلام في ما حكى عنه في هذه الايات يشعر إشعارا واضحا بأنه كلام صادر
عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الافكار والاوهام المتنوعة أفرغته في قالب اللفظ فطرته الصافية بما عندها من أوائل التعقل والتفكير ولطائف الشعور والاحساس. فالواقف في موقف النصفة من التدبر في هذه الايات لا يشك أن كلامه المحكى عنه مع قومه أشبه شئ بكلام إنسان أولى فرضى عاش في سرب من أسراب الارض أو كهف من كهوف الجبال لم يعاشر إلا بعض من يقوم بواجب غذائه ولباسه لم يشاهد سماء بزواهر نجومها و كواكبها، والبازغ من قمرها وشمسها، ولم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة وبلاده الوسيعة، واختلاف أفكاره، وتشتت مقاصده ومأربه، وأنواع أديانه ومذاهبه، ثم ساقه الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة، وشاهد أمورا عجيبة لا عهد له بها من أجرام سماوية، وأقطار أرضية، وجماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين نحو مأربهم، ومقاصدهم لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك وساكن، وعامل ومعمول له، وخادم، ومخدوم، وآمر ومأمور، ورئيس ومرؤوس منكب على الكسب والعمل، ومتزهد متعبد يعبد الاله. فبهته عجيب ما يراه واستغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن الواحد بعد الواحد مما اجتذبت إليه نفسه، ووقع عليه بصره، وكثر منه إعجابه نظير ما نراه من حال الصبى إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة وزواهرها اللامعة، وعقود كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمة: ما هذه التى اشاهدها وأمتلئ من حبها والاعجاب بها ؟ من الذى علقها هناك من الذى نورها ؟ من الذى صنعها ؟. غير أن الذى لا نرتاب فيه أن هذا الانسان إنما يبدا في سؤاله من حقائق الاشياء التى يشاهدها ويتعجب منها بالذى يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش والانعزال عن المجتمع وإنما يسأل عن المقاصد والغايات التى لا يقع عليها الحواس. وذلك لان الانسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الاولية فلا ينتقل من المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات، وهذا أمر ظاهر
[ 157 ]
محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان وأهل البدو إذا صادفوا امورا ليس لهم بها عهد فإنهم يبدءون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون عن حقيقته وعن أسبابه وغاياته. والانسان المفروض وهو الانسان الفطري الاولى تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط أسباب المعيشة لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الانسان المدنى الحضرى الذى أحاطت به هذه الاشغال الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد والحصر التى لا فراغ له عنها ولو لحظة، ولذلك كان الانسان المفروض في فراغ من الفكر وخلاء من الذهن، والحوادث الجمة السماوية والارضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد استعدادا للانتقال إلى سببها الذى هو اعلى من الاسباب الطبيعية وهو الذى يتنبه له الانسان الحضرى بعد الفراغ عن إحصاء الاسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه الاسباب لو وجد فراغا، ولذا كان الاسبق إلى ذهن هذا الانسان المفروض هو الانتقال إلى هذا السبب الاعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به والتنسك والعبادة له. ومن الشواهد على هذا الذى ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية والبحث عن اللاهوت في آسيا أكثر رواجا وأغلى قدرا منه في اوروبا، وفي القرى والبلاد الصغيرة أحكم موقعا منه في البلاد العظيمة وعلى هذه النسبة في البلاد العظيمة والسواد الاعظم لما أن المجتمع كلما اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية، وكثرت وتراكمت الاشغال الانسانية فلم تدع للانسان فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها وتتوجه إلى البحث عن مبدئها ومعادها. وبالجملة إذا راجعنا قصة إبراهيم عليه السلام ا لمودعة في هذه الايات وما يناظرها من آيات سورة مريم والانبياء والصافات وغيرها وجدنا حاله عليه السلام فيما يحاج به أباه وقومه أشبه شئ بحال الانسان البسيط المفروض نجده يسأل عن الاصنام ويباحث القوم في شأنها ويتكلم في أمر الكوكب والقمر والشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس وخاصة قومه الوثنيون
في الاصنام يقول لابيه وقومه: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) (الانبياء: 52) ويقول لابيه وقومه: (ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون: ا) (شعراء: 74).
[ 158 ]
فهذا كلام من لم ير صنما ولم يشاهد وثنيا يعبد صنما وقد كان عليه السلام في مهد الوثنية وهو بابل كلدان، وقد عاش بينهم برهة من الزمان فهل كان مثل هذا التعبير منه عليه السلام: (ما هذه التماثيل) تحقيرا للاصنام وإيماء إلى أنه لا يضعها الموضع الذى يضعها عليه الناس ولا يقر لها بما أقروا به من القداسة والفضل كأنه لا يعرفها كقول فرعون لموسى عليه السلام. (وما رب العالمين) (الشعراء: 23) وقول كفار مكة للنبى صلى الله عليه وآله فيما حكى الله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) (الانبياء: 36). لكن يبعده أن إبراهيم عليه السلام ما كان يستعمل في خطاب أبيه آزر إلا جميل الادب حتى إذا طرده أبوه وهدده بالرجم قال له إبراهيم: (سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا) (مريم: 47). فمن المستبعد أن يلقى إليه أول ما يواجهه من الكلام ما يتضمن تحقير شأن آلهته المقدسة عنده في لحن التشويه والاهانة فيثير به عصبيته ونزعته الوثنية، وقد نهى الله سبحانه في هذالمله التى هي ملة إبراهيم حنيفا عن سب آلهة المشركين لئلا يثير ذلك منهم ميواجهون المسلمين بمثله قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبو الله عدوا بغير علم) (الانعام: 108). ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ مما حاج به أباه آزر وقومه في أمر الاصنام يشتغل بأربابها وهى الكوكب والقمر والشمس فيقول لما رأى كوكبا: (هذا ربى) ثم يقول
لما رأى القمر بازغا: (هذا ربى) ثم يقول لما رأى الشمس بازغه: (هذا ربى هذا أكبر) وهذه التعبيرات أيضا تعبير من كأنه لم ير كوكبا ولا قمرا ولا شمسا، وأوضح التعبيرات دلالة على هذا المعنى قوله عليه السلام في الشمس: هذا ربى هذا أكبر فإن هذا كلام من لا يعرف ما هي الشمس وما هما القمر والكوكب غير أنه يجد الناس يخضعون لها ويعبدونها ويقربون لها القرابين كما يرويه التاريخ عن أهل بابل، وهذا كما إذا رأيت شبح إنسان لا تدرى أرجل هو أو إمراة تسأل وتقول: من هذا ؟ تريد الشخص لانك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان فيقال: امرأة فلان أو هو فلان وإذا رأيت شبحا لا تدرى إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول ما هذا ؟ تريد الشبح أو المشار إليه إذ لا
[ 159 ]
علم لك من حاله إلا بأنه شئ جسماني أيا ما كان فيقال لك هذا زيد أو هذه امرأة فلان أو هو شاخص كذا ففى جميع ذلك تراعى - وأنت جاهل بالامر - من شأن أولى العقل وغيره والذكورية والانوثية مقدار ما لك به علم، وأما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن يراعى الحقيقة. فظاهر قوله عليه السلام: هذا ربى وقوله: (هذا ربى هذا أكبر) أنه ما كان يعرف من حال الشمس إلا أنه شئ طالع أكبر من القمر والكوكب يقصده الناس بالعبادة والنسك والاشارة إلى مثل هذا المعلوم إنما هو بلفظة (هذا) بلا ريب، وأما أنها شمس أي جرم أو صفحة نورانية تدبر العالم الارضى بضوئها وترسم الليل والنهار بسيرها بحسب ظاهر الحس أو أنه قمر أو كوكب يطلع كل ليلة من أفق الشرق ويغيب فيما يقابله من الغرب فلم يكن يعرف ذلك على ما يشعر به هذا الكلام، ولو كان يعرف ذلك لقال في الشمس: هذه ربى هذه أكبر أو قال: إنها ربى إنها أكبر كما راعى هذه النكتة بعد ذلك فيما حاج الملك نمرود وقد كان يعرفها اليوم: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (البقرة: 258) فلم يقل: فأت به من المغرب.
وكما قال لابيه وقومه على ما حكى الله: (ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) (الشعراء: 74) فبدأ يسأل عن معبودهم بلفظة (ما) إذ لا علم له عندئذ بشئ من حاله إلا أنه شئ ثم لما ذكروا الاصنام وهم لا يعتقدون لها شيئا من الشعور والارادة قالوا: (فنظل لها) بالتأنيث، ثم لما سمع الوهيتها منهم ومن الواجب أن يتصف الاله بالنفع والضرر والسمع لدعوة من يدعوه عبر عنها تعبيرا اولى العقل، ثم لما ذكروا له في قصة كسر الاصنام: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) حذاء قوله: (فسألوهم إن كانوا ينطقون) سلب عنها شأن اولى العقل فقال: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (الانبياء: 67). ولا يسعنا أن نتعسف فنقول إنه عليه السلام أراد بقوله: (هذا ربى هذا أكبر) الجرم أو المشار إليه أو انه روعى في ذلك حال لغته التى تكلم بها وهى السريانية ليس يراعى فيها التأنيث كاغلب اللغات العجمية فإن ذلك تحكم، على انه عليه السلام قال للملك في
[ 160 ]
خصوص الشمس بعينها: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (البقره: 258) فلم يحك القرآن ما لهج به بالوصف الذى في لغته فما بال هذا المورد (هذا ربى هذا اكبر) اختص بهذه الحكاية. بيان ونظير السؤال آت في قوله يسأل قومه عن شان الاصنام: (ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون) (الانبياء: 52) وكذا قوله في دعائه: (واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس: (ابراهيم: 36). وكذا لا يسعنا القول بأنه عليه السلام في تذكيره الاشارة إلى الشمس صان الاله عن وصمة الانوثية تعظيما أو أن الكلام من باب إتباع المبتدا للخبر الذى هو مذكر أعنى
قوله: ربى، وقوله: (أكبر) فكل ذلك تحكم لا دليل عليه، وسيجئ تفصيل البحث فيها. والحاصل أن الذى حكاه الله تعالى في هذه الايات وما يناظرها من قول إبراهيم عليه السلام لابيه وقومه في توحيده تعالى ونفى الشريك عنه كلام يدل بسياقه على أنه عليه السلام إنما عاش قبل ذلك في معزل من الجو الذى كان يعيش فيه أبوه وقومه ولم يكن يعرف ما يعرفه معاشر المجتمعين من تفاصيل شئون أجزاء الكون والسنن الاجتماعية الدائرة بين الناس المجتمعين، وأنه كان إذ ذاك في أوائل زمن رشده وتمييزه ترك معزله ولحق بأبيه، ووجد عنده أصناما فسأله عن شأنها فلما أوقفه على ذلك شاجره في الوهيتها وألزمه الحجة، ثم حاج قومه في أمر الاصنام فبكتهم، ثم رجع إلى عبادتهم لارباب الاصنام من الكوكب والقمر والشمس فجاراهم في افتراض ربوبيتها الواحد، منها بعدالواحد ولم يزل يراقب أمرها، وكلما غرب واحد منها رفضه وأبطل ربوبيته وافترض ربوبية غيره مما يعبدونه حتى أتى في يومه وليلته على آخرها على ما هو ظاهر الايات، ثم عاد إلى التوحيد الخالص بقوله: (إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) وكأنه تم له ذلك في يومين وليلة بينهما تقريبا على ما سنبين إن شاء الله تعالى. وكان عليه السلام على بصيرة من أن للعالم خالقا فاطرا للسماوات والارض هو الله وحده لا شريك له في ذلك، وإنما يبحث عن أنه هل للناس ومنهم إبراهيم نفسه رب غير الله هو بعض خلقه كشمس أو قمر أو غيرها يربهم ويدبر أمرهم ويشارك الله في أمره أو
[ 161 ]
أنه لا رب لهم غير الله سبحانه وحده لا شريك له. وفي جميع هذه المراحل التى طواها كان الله سبحانه يمده ويسدده بإراءته ملكوت السماوات والارض وعطف نفسه الشريفة إلى الجهة التى ينتسب منها الاشياء إلى الله سبحانه خلقا وتدبيرا فكان إذا رأى شيئا رآى انتسابه إلى الله وتكوينه وتدبيره بأمره قبل أن
يرى نفسيته وآثار نفسيته كما هو ظاهر سياق: (قوله وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض) الاية، وقوله في ذيل الايات: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) الاية، وقوله: (ولقدآتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) (الانبياء: 51). وقول إبراهيم لابيه فيما حكى الله تعالى: (يا أبت إنى قد جاءني من العلم ما يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم: 43) إلى غير ذلك من الايات. ثم حاج الملك نمرود في دعواه الربوبية على ما كان ذلك من دأب كثير من جبابرة السلف ومن نظائر ذلك نشأت الوثنية وكانت لقومه آلهة كثيرة لها أصنام يعبدونها، وفيهم من كان يعبد أرباب الاصنام كالشمس والقمر والكوكب الذى ذكره القرآن الكريم ولعله الزهرة. هذا ملخص ما يستفاد من الايات الكريمة وسنبحث عن مضامينها تفصيلا بحسب ما نستطيعه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر) القراءات السبع في آزر بالفتح فيكون عطف بيان أو بدلا من أبيه وفي بعض القراءات (آزر) بالضم وظاهره أنه منادى مرفوع بالنداء، والتقدير: يا آزر أتتخذ أصناما آلهة، وقد عد من القراءات (أأزرا) تتخذ مفتتحا بهمزه الاستفهام، وبعده (أزرا) بالنصب مصدر أزر يأزر بمعنى قوى والمعنى: وإذ قال إبراهيم لابيه أتتخذ أصناما للتقوى والاعتضاد. وقد اختلف المفسرون على القراءة الاولى المشهورة والثانية الشاذة في (آزر) أنه اسم علم لابيه أو لقب أريد بمعناه المدح أو الذم بمعنى المعتضد أو بمعنى الاعرج أو المعوج
[ 162 ]
أو غير ذلك ومنشا ذلك ما ورد في عدة روايات أن اسم أبيه (تارح) بالحاء المهملة أو المعجمة ويؤيده ما ضبطه التاريخ من اسم أبيه، وما وقع في التوراة الموجودة أنه عليه السلام
ابن تارخ. كما اختلفوا أن المراد بالاب هو الوالد أو العم أو الجد الامي أو الكبير المطاع ومنشأ ذلك أيضا اختلاف الروايات فمنها ما يتضمن أنه كان والده وأن إبراهيم عليه السلام سيشفع له يوم القيامة ولكن لا يشفع بل يمسخه الله ضبعا منتنا فيتبرا منه إبراهيم، ومنها ما يدل على أنه لم يكن والده، وأن والده كان موحدا غير مشرك، وما يدل على أن آباء النبي صلى الله عليه وآله كانوا جميعا موحدين غير مشركين إلى غير ذلك من الروايات، وقد اختلفت في سائر ما قص من أمر إبراهيم اختلافا عجيبا حتى اشتمل بعضها على نظائر ما ينبسه إليه العهد العتيق مما تنزهه عنه الخلة الالهية والنبوة والرسالة. وقد اطالوا هذا النمط من البحث حتى انجر إلى غايات بعيدة تغيب عندها رسوم البحث التفسيرى الذى يستنطق الايات الكريمة عن مقاصدها عن نظر الباحث، وعلى من يريد الاطلاع على ذلك ان يراجع مفصلات التفاسير وكتب التفسير بالمأثور. والذى يهدى إليه التدبر في الايات المتعرضة لقصصه عليه السلام انه عليه السلام في اول ما عاشر قومه بدأ بشأن رجل يذكر القرآن أنه كان اباه آزر، وقد أصر عليه ان يرفض الاصنام ويتبعه في دين التوحيد فيهديه حتى طرده أبوه عن نفسه وأمره ان يهجره قال تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لابيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا، يا أبت إنى قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا - إلى أن قال - قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا) (مريم: 46) فسلم عليه إبراهيم ووعده أن يستغفر له، ولعله كان طمعا منه في إيمانه وتطميعا له في السعادة والهدى قال تعالى: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا، واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى عسى أن لا أكون بدعاء ربى شقيا) (مريم: 48) والاية الثانية احسن قرينة على أنه عليه السلام إنما وعده أن يستغفر له في الدنيا لا ان يشفع له يوم القيامة وإن بقى كافرا أو بشرط ان
لا يعلم بكفره.
[ 163 ]
ثم حكى الله سبحانه إنجازه عليه السلام لوعده هذا واستغفاره لابيه في قوله: (رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين واجعل لى لسان صدق في الاخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لابي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (الشعراء: 89) وقوله: (إنه كان من الضالين) يدل على أنه عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء لابيه بعد موته أو بعد مفارقته أياه وهجره له لمكان قوله: (كان) وذيل كلامه المحكى في الايات يدل على أنه كان صورة دعاء أتى بها للخروج عن عهدة ما وعده وتعهد له فإنه عليه السلام يقول: اغفر لهذا الضال يوم القيامة ثم يصف يوم القيامة بأنه لا ينفع فيه شئ إلا القلب السليم. وقد كشف الله سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله - وهو في صورة الاعتذار -: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لابيه الا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم) (التوبه: 114) والاية بسياقها تشهد على أن هذا الدعاء إنما صدر منه عليه السلام في الدنيا وكذلك التبرى منه لا أنه سيدعو له ثم يتبرا منه يوم القيامة فإن السياق سياق التكليف التحريمي العام وقد استثنى منه دعاء ابراهيم، وبين أنه كان في الحقيقة وفاء منه عليه السلام بما وعده، ولا معنى لاستثناء ما سيقع مثلا يوم القيامة عن حكم تكليفي مشروع في الدنيا ثم ذكر التبرى يوم القيامة. وبالجملة هو سبحانه يبين دعاء ابراهيم عليه السلام لابيه ثم تبريه منه، وكل ذلك في أوائل عهد ابراهيم ولما يهاجر إلى الارض المقدسة بدليل سؤاله الحق واللحوق بالصالحين وأولادا صالحين كما يستفاد من قوله في الايات السابقة: رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين) الاية وقوله تعالى - ويتضمن التبرى عن أبيه وقومه واستثناء الاستغفار
أيضا - (قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ) (المتحنه: 4). ثم يذكر الله تعالى عزمه عليه السلام على المهاجرة إلى الارض المقدسة وسؤاله أولادا
[ 164 ]
صالحين بقوله: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين، وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين، رب هب لى من الصالحين) (الصافات: 100). ثم يذكر تعالى ذهابه إلى الارض المقدسة ورزقه صالح الاولاد بقوله: (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافله وكلا جعلنا (صالحين) (الانبياء: 72) وقوله: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) (مريم: 49). ثم يذكر تعالى آخر دعائه بمكة وقد وقع في آخر عهده عليه السلام بعد ما هاجر إلى الارض المقدسة وولد له الاولاد وأسكن إسماعيل مكة وعمرت البلدة وبنيت الكعبة، وهو آخر ما حكى من كلامه في القرآن الكريم: (وإذ قال براهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام - إلى أن قال - ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة - إلى أن قال - الحمد الله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء - إلى أن قال - ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (ابراهيم: 41). والاية بما لها من السياق وبما احتف بها من القرائن أحسن شاهد على أن والده الذى دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: (لابيه آزر) فإن الايات كما ترى تنص على أن ابراهيم عليه السلام استغفر له وفاء بوعده ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله،
ولا معنى، لاعادته عليه السلام الدعاء لمن تبرأ منه ولاذ إلى ربه من أن يمسه فأبوه آزر غير والده الصلبى الذى دعا له ولامه معا في آخر دعائه. ومن لطيف الدلالة في هذا الدعاء أعنى دعاءه الاخير ما في قوله: (ولوالدي) حيث عبر بالوالد والوالد لا يطلق إلا على الاب الصلبى وهو الذى يلد ويولد الانسان مع مافى دعائه الاخر: (واغفر لابي إنه كان من الضالين) والايات الاخر المشتملة على ذكر أبيه آزر فإنها تعبر عنه بالاب والاب ربما تطلق على الجد والعم وغيرهما، وقد اشتمل القرآن الكريم على هذا الاطلاق بعينه في قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ابراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (البقرة: 133) فإبراهيم جد
[ 165 ]
يعقوب واسماعيل عمه وقد إطلق على كل منهما الاب، وقوله تعالى فيما يحكى من كلام يوسف عليه السلام: (واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب) (يوسف: 38) فإسحاق جد يوسف وإبراهيم عليه السلام جد ابيه وقد أطلق على كل منهما الاب. فقد تحصل ان آزر الذى تذكره الاية ليس أبا لابراهيم حقيقة وإنما كان معنونا ببعض الاوصاف والعناوين التى تصحح إطلاق الاب عليه، وان يخاطبه إبراهيم عليه السلام بيا أبت، واللغة تسوغ إطلاق الاب على الجد والعم وزوج أم الانسان بعد ابيه وكل من يتولى امور الشخص وكل كبير مطاع، وليس هذا التوسع من خصائص اللغة العربية بل يشاركها فيه وفي أمثاله سائر اللغات كالتوسع في إطلاق الام والعم والاخ والاخت والرأس والعين والفم واليد والعضد والاصبع وغير ذلك مما يهدى إليه ذوق التلطف والتفنن في التفهيم والتفهم. فقد تبين أولا ان لا موجب للاشتغال بما تقدمت الاشارة إليه من الابحاث الروائية والتاريخية والادبية في أبيه ولفظة آزر وانه هل هو اسم علم أو لقب مدح أو ذم أو اسم صنم فلا حاجة إلى شئ من ذلك في الحصول على مراد الاية.
على أن غالب ما أوردوه في هذا الباب تحكم لا دليل عليه مع ما فيه من إفساد ظاهر الاية وإخلال أمر السياق باعتبار التراكيب العجيبة التى ذكروها للجملة (آزر أتتخذ أصناما آلهة) من تقديم و تأخير وحذف وتقدير. وثانيا: أن والده الحقيقي غير آزر لكن القرآن لم يصرح باسمه، وإنما وقع في الروايات ويؤيده ما يوجد في التوراة ان اسمه (تارخ). ومن عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين ان القرآن الكريم كثيرا ما يهمل فيما يذكره من تاريخ الانبياء والامم ويقصه من قصص الماضين أمورا مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ الوقوع ومحله والاوضاع الطبيعية والاجتماعية والسياسية وغيرها المؤثرة في تكون الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع ومنها ما في مورد البحث فإن من العوامل المقومة لمعرفة حقيقة هذه القصة معرفة اسم أبى ابراهيم ونسبه وتاريخ زمن نشوئه ونهضته ودعوته ومهاجرته. وليس ذلك إلا لان القرآن سلك في قصصه المسلك الجيد الذى يهدى إليه فن القصص الحقيقي وهو ان يختار القاص في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته ومقصده إيصالا حسنا، ويمثل المطلوب تمثيلا تاما بالغا من غير ان يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه، ويحصى جميع ما هو من جوهريات القصة كتاريخ الوقوع ومكانه وسائر نعوته
[ 166 ]
اللازمة فمن الجائز ان يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده وهو الهداية إلى السعادة الانسانية قصصا دائرة بين الناس أو بين اهل الكتاب في عصر الدعوة وإن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية كما قيل بذلك في قصة موسى وفتاه وفي قصة الملا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وغير ذلك فالفن القصصى لا يمنع شيئا من ذلك بعد ما ميز القاص ان القصة أبلغ وسيلة واسهل طريقة إلى النيل بمقصده.
وهذا خطأ فان ما ذكره من أمر الفن القصصى حق غير ان ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ ولا صحيفة من صحف القصص التخييلية وإنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نص على انه كلام الله سبحانه، وانه لا يقول إلا الحق، وان ليس بعد الحق إلا الضلال، وانه لا يستعين للحق بباطل، ولا يستمد للهدى بضلال، وأنه كتاب يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وان ما فيه حجة لمن اخذ به وعلى من تركه في آيات جمة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن ان يجوز اشتماله على رأى باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة أو تخييل. لست أريد ان مقتضى الايمان بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ان ينفى عن القرآن ان يشتمل على باطل أو كذب أو خرافة وإن كان ذلك، ولا ان الواجب على كل انسان سليم العقل صحيح الفكر مستقيم الامر أن تخضع نفسه للقرآن بتصديقة ونفى كل خطأ وزلة عنه في وسائل من المعارف توسل بها إلى مقاصده، وفي نفس تلك المقاصد وإن كان كذلك. وإنماأقول: إنه كتاب يدعى لنفسه أنه كلام إلهى موضوع لهداية الناس إلى حقيقه سعادتهم يهدى بالحق ويهدى إلى الحق ومن الواجب على من يفسر كتابا هذا شأنه ويستنطقه في مقاصده ومطالبه ان يفترضه صادقا في حديثه مقتصرا على ما هو الحق الصريح في خبره وكل ما يسوقه من بيان أو يقيمه من برها ن على مقاصده وأغراضه هاديا إلى الصراط الذى لا يتخلله باطل موصلا إلى غاية لا يشوبها شئ من غير جنس الحق ولا يداخلها أي وهن وفتور. وكيف يكون مقصد من المقاصد حقا على الاطلاق وقد تسرب باطل ما إلى طريقه
[ 167 ]
الذى يدعو إليه المقصد ولا يدعو - على ما يراه - إلا إلى حق ؟ وكيف يكون قضية من القضايا قولا فصلا ما هو بالهزل وقد تسرب إلى البيان المنتج لها شئ من المسامحة والمساهلة ؟
وكيف يمكن ان يكون حديث أو نبأ كلاما لله الذى يعلم غيب السماوات والارض وقد دب فيه جهل أو خبط أو خطاء ؟ وهل ينتج النور ظلمة أو الجهل معرفة ؟. فهذا هو المسلك الوحيد الذى لا يحل تعديه في استنطاق القرآن الكريم في مضامين آياته وهو يرى انه كلام حق لا يشوبه باطل في غرضه وطريق غرضه. وأما البحث عن انه هل هو صادق فيما يدعيه لنفسه: أنه كلام الله، وانه محض الحق في طريقه وغايته ؟ وأنه ما ذا يقضى به الكتب المقدسة الاخرى كالعهدين وأوستا وغيرها في قضايا قضى بها القرآن ؟ وأنه ما ذا تهدى إليه الابحاث العلمية الاخر التاريخية أو الطبيعية أو الرياضية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو غيرها ؟ فإنما هذه وأمثالها أبحاث خارجة عن وظيفة التفسير ليس من الجائز ان تخلط به أو يقام بها مقامه. نعم قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (النساء: 82) ينطق بأن هناك شبهات عارضة وأوهاما متسابقة إلى الاذهان تسول لها أن في القرآن اختلافا كان يتراءى من آية أنها تخالف آية، أو ان يستشكل في آية انها بمضمونها تخالف الحق والحقيقه وإذ كان القرآن ينص على انه يهدى إلى الحق فيختلف الايتان بالآخرة، هذه تدل على ان كل ما تنبئ عنه آية فهو حق وهذه بمضمونها تنبئ نبأ غير حق لكن الاية أعنى قوله: (أفلا يتدبرون القرآن) الخ، تصريحا لقول بأن القرآن تكفى بعض آياته لدفع المشكلة عن بعضها الاخر ويكشف جزء منه عما اشتبه على بعض الافهام من حال جزء آخر فعلى الباحث عن مراده ومقصده ان يستعين بالبعض على البعض، ويستشهد بالبعض على البعض، ويستنطق البعض في البعض والقرآن الكريم كتاب دعوة وهداية لا يتخطى عن صراطه ولو خطوة وليس كتاب تاريخ ولا قصة وليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية ولا مسلك الفن القصصى، وليس فيه هوى ذكر الانساب ولا مقدرات الزمان والمكان، ولا مشخصات أخر لا غنى للدرس التاريخي أو القصة التخييلية عن احصائها وتمثيلها.
فأى فائدة دينية في ان ينسب إبراهيم أنه إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاذ بن سام بن نوح ؟ أو ان يقال: انه ولد في أور
[ 168 ]
الكلدانيين حدود سنة ألفين تقريبا قبل الميلاد في عهد فلان الملك الذى ولد في كذا وملك كذا مدة ومات سنة كذا. وسنجمع في ذيل البحث عن آيات القصة جملا من قصة إبراهيم عليه السلام منثورة في القرآن ثم نتبعها بما في التوراة وغيرها من تاريخ حياته وشخصيته فلينظر الباحث المتدبر بعين النصفة ثم ليقض فيما اختاره القرآن منها وحققه ما هو قاض. والقرآن الكريم مع ذلك لم يهمل الواجب في حق العلوم النافعة، ولم يحرم البحث عن العالم وأجزائه السماوية والارضية، ولا منع من استطلاع اخبار الامم الماضية وسنن المجتمعات والقرون الخالية، والاستعانة بها على واجب المعرفة ولازم العلم والايات تمدح العلم أبلغ المدح، وتندب إلى التفكر والتفقه والتذكر كثرة لا حاجة معها إلى إيرادها هيهنا. قوله تعالى: (أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك وقومك في ضلال مبين) قال الراغب في المفردات: الصنم جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين به إلى الله تعالى وجمعه أصنام قال الله تعالى: أتتخذ أصناما آلهة، لاكيدن أصنامكم، انتهى، وما ذكره من اتخاذه من فضه أو نحاس أو خشب إنما هو من باب المثال لا ينحصر فيه اتخاذها بل كان يتخذ من كل ما يمكن أن يمثل به تمثال من أقسام الفلزات والحجارة وغيرها وقد روى أن بنى حنيفة من اليمامة كانوا قد اتخذوا صنما من أقط، وربما كانوا يتخذونه من الطين وربما كان صورة مصورة. وكيف كان فقد كانت الاصنام ربما يمثل بها موضوع اعتقادي غير محسوس كإله السماء والارض وإله العدل، وربما يمثل بها موضوع محسوس كصنم الشمس وصنم القمر، وقد كانت من النوعين جميعا أصنام لقوم إبراهيم عليه السلام على ما تؤيده الاثار المكشوفة
منهم في خرائب بابل وقد كانوا يعبدونها تقربا بها إلى أربابها، وبأربابها إلى الله سبحانه، وهذا انموذج بارز من سفه أحلام البشر أن يخضع أعلى حد الخضوع - وهو خضوع العبد للرب - لمثال مثل به موضوعا يستعظم أمره ويعظمه، وحقيقته منتهى درجة خضوع المصنوع المربوب لصانعه من صانع لمصنوع نفسه كان الواحد منهم يأخذ خشبة فينحت بيده منه صنما ثم ينصبه فيعبده ويتذلل له ويخضع ولذلك جئ بلفظة الاصنام في قوله المحكى: (أتتخذ أصناما آلهة) نكرة ليدل على هوان أمرها وحقارته من جهة أنها مصنوعة
[ 169 ]
لهم مخلوقة بأيديهم كم يشير إليه قوله عليه السلام لقومه فيما حكى الله: (أتعبدون ما تنحتون) (الصافات: 95) ومن جهة أنها فاقدة لاظهر صفات الربوبية وهو العلم والقدرة كما في قوله لابيه: (إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) (مريم: 42). فقوله: (أتخذ أصناما) الخ، معناه: (أتخذ اصناما لاخطر في أمرها آلهة والاله هو الذى في أمره خطر عظيم إنى أراك وقومك في ضلال مبين، وكيف لا يظهر هذا الضلال وهو عبادة وتذلل عبودي من صانع فيه آثار العلم والقدرة لمصنوعه الذى يفقد العلم والقدرة. والذى تشتمل عليه الاية أعنى قوله: (أتتخذ أصناما آلهة) الخ، من الحجاج وإن كان بمنزلة التلخيص لعدة احتجاجات واجه بها ابراهيم عليه السلام أباه وقومه على ما حكى تفصيلها في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أنه أول ما حاج به أباه وقومه فإن الذى حكاه الله سبحانه من محاجته هو حجاجه أباه وحجاجه قومه في أمر الاصنام وحجاجهم في ربوبية الكوكب والقمر والشمس وحجاجه الملك. أما حجاجه في ربوبية الكوكب والقمر والشمس فالايات دالة على كونه بعد الحجاج في أمر الاصنام، والاعتبار والتدبر يعطى أن يكون حجاجه الملك بعد ما ظهر أمره وشاع مخالفته لدين الوثنية والصابئة وكسر الاصنام، وأن يكون مبدء أمره مخالفته
أباه في دينه وهو معه وعنده قبل أن يواجه الناس ويخالفهم في نحلتهم فقد كان أول ما حاج به في التوحيد هو ما حاج به أباه وقومه في أمر الاصنام. قوله تعالى: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض) الخ، ظاهر السياق أن تكون الاشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تضمنته الاية السابقة: (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك) الخ، أنه عليه السلام ارى الحق في ذلك، فالمعنى: على هذا المثال من الاراءة نرى إبراهيم ملك السماوات والارض. وبمعونة هذه الاشارة ودلالة قوله في الاية التالية: (فلما جن عليه الليل) الدالة على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله: (نرى) لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) (القصص: 5).
[ 170 ]
فالمعنى: أنا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والارض فبعثه ذلك أن حاج أباه وقومه في أمر الاصنام وكشف له ضلالهم، وكنا نمده بهذه العناية والموهبة وهى إراءة الملكوت وكان على هذه الحال حتى جن عليه الليل وراى كوكبا. وبذلك يظهر أن ما يتراءى من بعضهم: أن قوله: (وكذلك نرى) الخ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده، وكذا قول بعضهم: إن إراءة الملكوت أول ما ظهر من أمرها في إبراهيم عليه السلام أنه لما جن عليه الليل راى كوكبا الخ، فاسد لا ينبغى أن يصار إليه. وأما ملكوت السماوات والارض فالملكوت هو الملك مصدر كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد من حيث المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان والجبر أو الجبران. والمعنى الذى يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوى بعينه من غير تفاوت كسائر الالفاظ المستعملة في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق وذلك ان الملك والملكوت
وهو نوع من السلطنة إنما هو فيما عندنامعنى افتراضى اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة الاجتماعية إلى نظم الاعمال والافراد نظما يؤدى إلى الامن والعدل والقوه الاجتماعيات وهو في نفسه يقبل النقل والهبة والغصب والتغلب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات الانسانية. وهذا المعنى على أنه وضعي اعتباري وإن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة أن الحكم الحق في المجتمع البشرى لله سبحانه كما قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) (الانعام: 57) وقال: (له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم) (القصص: 70) لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال والانتقال كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه وبصره وسائر قواه وأفعاله بحيث إن سمعه إنما يسمع وبصره إنما يبصربتبع إرادته وحكمه لا بتبع إراردة غيره من الاناسى وحكمه وهذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال والانتقال كما عرفت فالانسان يملك قوى نفسه وأفعال نفسه وهى جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه ولا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر
[ 171 ]
بإذن من الانسان الذى يبصر بها وكذا السمع يسمع بإذن منه، ولو لا الانسان لم يكن بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولى الامر، ولو لم تكن هذه القوإ المدبرإ التى تتوحد عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع، ولو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف ولا نفذ منه ذلك، ولا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذى إليه تكوين الاعيان وتدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه ولا في توابع نفسه من قوى وأفعال، ولا استقلال له لا منفردا ولا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد. قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) (آل عمران: 26) وقال تعالى (لله ملك
السماوات والارض) (المائدة: 120) وقال تعالى: (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير، الذى خلق الموت والحياة - إلى أن قال - الذى خلق سبع سماوات طباقا) (الملك: 3) والايات - كما ترى - تعلل الملك بالخلق فكون وجود الاشياء منه وانتساب الاشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه وهو بمعنى ملكه الذى لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا يغنى عنه تعالى وينصب غيره مقامه. وهذا هو الذى يفسر به معنى الملكوت في قوله: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ) (يس: 83) فالاية الثانية) تبين أن ملكوت كل شئ هو كلمة كن الذى يقوله الحق سبحانه له، وقوله فعله، وهو إيجاده له. فقد تبين أن الملكوت هو وجود الاشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به، وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختص به سبحانه وحده، فالربوبية التى هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضا ولا تمليكا انتقاليا. ولذلك كان النظر في ملكوت الاشياء يهدى الانسان إلى التوحيد هداية قطعية كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون) (الاعراف: 185)
[ 172 ]
والاية - كما ترى - تحاذى أول سورة الملك المنقول آنفا. فقد بان أن المراد بإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والارض على ما يعطيه التدبر في سائر الايات المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الاشياء من جهة استناد وجودها إليه، وإذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس لشئ منها أن يرب غيره ويتولى تدبير النظام وإداء الامور فالاصنام تماثيل عملها الانسان وسماها اسماء لم ينزل الله عليها من سلطان، وما هذا شأنه لا يرب الانسان ولا
يملكه وقد عملته يد الانسان، والاجرام العلوية كالكوكب والقمر والشمس تتحول عليها الحال فتغيب عن الانسان بعد حضورها، وما هذا شأنه لا يكون له الملك وتولى التدبير تكوينا كما سيجئ بيانه. قوله تعالى: (وليكون من الموقنين) اللام للتعليل، والجملة معطوفة على أخرى محذوفة والتقدير: ليكون كذا وكذا وليكون من الموقنين. واليقين هو العلم الذى لا يشوبه شك بوجه من الوجوه، ولعل المراد به ان يكون على يقين بآيات الله على حد ما في قوله: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24) وينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا. وفي معنى ذلك ما أنزله في خصوص النبي صلى الله عليه وآله قال: (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا) (الاسراء: 1) وقال: (ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (النجم: 18) وأما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجله تعالى ان يتعلق به شك أو يحيط به علم وإنما يسلمه تسليما. وقد ذكر في كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى إنكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله: (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم) (التكاثر: 6) وقوله: (كلا إن كتاب الابرار لفى عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون) (المطففين: 21). قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) إلى آخر الاية قال الراغب في المفردات: أصل الجن (بفتح الجيم) ستر الشئ عن الحاسة يقال: جنه الليل
[ 173 ]
وأجنه وجن عليه: فجنه ستره، وأجنه جعل له ما يجنه كقولك: قبرته وأقبرته وسقيته وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه قال عزوجل: فلما جن عليه الليل رأى
كوكبا، انتهى فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل بغروب الشمس. وقوله: (فلما جن عليه الليل) تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الاصنام بما يرتبطان بقوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض) ومحصل المعنى على ذلك أنا كنا نريه الملكوت مالاشياء فأبطل الوهية الاصنام إذ ذاك، ودامت عليه الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال كذا وكذا. وقوله: (رأى كوكبا) كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة الاخبار والتحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب وأنه أي كوكب كان من السيارات أو الثوابت لان الذى أخذه في الحجاج يجرى في أي كوكب من الكواكب يطلع ويغرب لا أن إبراهيم عليه السلام أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير ان يمتاز بأى مميز مفروض: أما أولا فلان اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب لا تحصى كثره فقال: (هذا ربى: إنه رأى كوكبا قال هذا ربى، وأما ثانيا فلان ظاهر الايات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذى أشار إليه وقال فيه ما قال، والصابئون ما كانوا يعبدون أي كوكب ولا يحترمون إلا السيارات. والذى يؤيده الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة، وذلك لان الصابئين ما كانوا يحترمون وينسبون حوادث العالم الارضى إلا إلى سبعة من الاجرام العلوية التى كانوا يسمونها بالسيارات السبع: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل وإنما كان اهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت وينسبون الحوادث إليها، ونظيرهم في ذلك بعض أرباب الطلسمات ووثنية العرب وغيرهم. فالظاهر ان الكوكب كان أحد السبعة والقمر والشمس مذكوران بعد، وعطارد مما لا يرى إلا شاذا لضيق مداره فقد كان احد الاربعة: الزهرة، والمريخ والمشترى، وزحل، والزهرة من بينها هي الكوكبة الوحيدة التى يمنعها ضيق مدارها ان تبتعد من الشمس أكثر من سبع واربعين درجة، ولذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل طلوعها وتسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد
[ 174 ]
طلوعها، واحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث إلا قليلا في أول الليل دون ان تغيب، وإذا كانت على هذا الوضع والليلة من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى كليلة ثمانى عشرة وتسع عشرة والعشرين فإنها تجامع بغروبها طلوع القمر فترى أن الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الافق الغربي ثم تغرب بعد ساعة أو ساعتين مضتا من غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير. وهذه الخصوصية من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها وفي غيرها كالمشترى والمريخ وزحل أمر اتفاقى ربما يقع في أوضاع خاصه لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا ان الكوكب كان هو الزهرة. على ان الزهرة أجمل الكواكب الدرية وأبهجها وأضواها أول ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جن الليل وعكوف الظلام على الافاق يجلب إليها. وهذا أحسن ما يمكن ان تنطبق عليه الاية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله: فلما جن عليه الليل راى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل - إلى ان قال - فلما رأى القمر بازغا (الخ) حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب وبزوغ القمر. ويتأيد هذا الذى ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة اهل البيت عليه السلام ان الكوكب كان هو الزهرة. وعلى هذا فقد كان عليه السلام رأى الزهرة والقوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع وصلاة وقربان، كانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها، والليلة من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى جن عليه الليل فرأى الزهرة في الافق الغربي حتى أفلت فرأى القمر بازغا بعده. وقوله تعالى: (قال هذا ربى) المراد بالرب هو مالك الاشياء المربوبين، المدبر لامرهم لا الذى فطر السماوات والارض وأوجد كل شئ بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله
سبحانه الذى ليس بجسم ولا جسماني ولا يحويه مكان ولا يقع عليه إشارة، والذى يظهر مما حكى من كلام إبراهيم مع قومه في أمر الاصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم بالله وآياته ما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية، قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه: (يا أبت إنى قد جاءني من
[ 175 ]
العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) إلى آخر الايات (مريم: 43) على ان الوثنيين والصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الايجاد يكافئ بوجوده وجوده تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له ولا أقل مفتقر الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإلهة الحسن وإله العدل وإله الخصب أو تدبير بعض الخليقة كاله الانسان أو إله القبيله أو إله يخص بعض الملوك والاشراف وقد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة وأخبارهم المروية، والموجودون منهم اليوم على هذه الطريقة فقوله عليه السلام بالاشارة إلى الكوكب: (هذا ربى) أراد به إثبات أنه رب يدبر الامر لا إله فاطر مبدع. وعليه يدل ما حكى عنه في آخر الايات المبحوث عنها: (قال يا قوم إنى برئ مما تشركون، إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى. فالذي يعطيه ظاهر الايات أنه عليه السلام سلم أن لجميع الاشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في الفطر والايجاد وهو الله تعالى، وأن للانسان ربا يدبر أمره لا محالة، وإنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر للامر أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الايجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه وفوض إليه أمر التدبير. وفي إثر ذلك ما كان منه عليه السلام من افتراض الكوكب الذى كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس والنظر في أمر كل منها هل يصلح لان يتولى أمر التدبير وإدارة شئون الناس ؟. وهذا الافتراض والنظر وإن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن
النتيجة فرع يتأخر طبعا عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به عليه السلام فإن الايات كما استفدناه فيما تقديم تقص أول أمر إبراهيم والانسان في أول زمن يأخذ بالتمييز ويصلح لتعلق التكليف الالهى بالنظر في أمر التوحيد وسائر المعارف الاصلية كاللوح الخالى عن النقش والكتابة غير مشغول بنقش مخالف فإذا أخذ في الطلب وشرع يثبت شيئا وينفى شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد الحق والايمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة
[ 176 ]
والعلم التام بالحق. ومن ضروريات حياة الانسان أن يمر عليه لحظه هي أول لحظه ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب والنظر، وهذه سنة عامة في الحياة الانسانية المتدرجة من النقض إلى الكمال لا يختلف فيها انسان وانسان، وإن أمكن أن يظهر من بعض الافراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم والعلم قبل المتعارف من سن التمييز والبلوغ كمايحكيه القرآن عن المسيح ويحيى عليه السلام فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية وما كل انسان على هذا النعت ولا كل نبى فعل به ذلك. وبالجملة ليس الانسان من أول ماينفخ فيه الروح الانساني واجدا لشرائط التكليف بالاعتقاد الحق أو العمل الصالح، وإنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط فيكلف بالطلب والنظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز والبلوغ وبعد التمييز والبلوغ وهو الزمان الذى يصلح لان يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله فيه، وبين الزمانين الصالح لاشغاله بالاعتقاد وغير الصالح له لا محالة زمان متخلل يتوجه إليه فيه التكليف بالطلب والنظر، وهو الفصل الذى يبحث فيه عن واجب الاعتقاد بما تهدى إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة
ومع الصانع أخرى، ويفرض الصانع وحده مرة ومع الشريك أخرى وهكذا ثم ينظر ما ذا تؤيده الاثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده ؟ فيأخذ بذاك ويترك هذا. فهو ما لم يتم له الاستدلال غير قاطع بشئ ولا بان على شئ وإنما هو مفترض ومقدر لما افترضه وقدره. وعلى هذا فقول ابراهيم عليه السلام في الكوكب: (هذا ربى) وكذا قوله الاتى في القمر والشمس ليس من القطع والبناء اللذين يعدان من الشرك، وإنما هو افتراض أمر للنظر إلى الاثار التى تثبته وتؤيده، ومن الدليل على ذلك ما في الايات من الظهور في أنه عليه السلام كان على حاله الترقب والانتظار، فهذا وجه. ولكن الذى يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه: يا أبت إنى
[ 177 ]
قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا) (مريم: 47) أنه عليه السلام كان على علم بحقيقة الامر وأن الذى يتولى تدبير أمره ويحفى عليه ويبالغ في إكرامه هو الله سبحاه دون غيره. وعلى هذا فقوله: (هذا ربى) جار مجرى التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم ومجاراتهم وتسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، وهذا الطريق من الاحتجاج أجلب لانصاف الخصم، وأمنع لثوران عصبيته وحميته، واصلح لاسماع الحجة. قوله تعالى: (فلما أفل قال لا أحب الافلين) الافول الغروب وفيه أبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الافول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع
عليه ولا يستقيم تدبير كونى مع الانقطاع. على ان الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب وهو يؤدى إلى حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذى كان الحب لاجله، وما يشاهد من ان الانسان يحب كثيرا الجمال المعجل والزينة الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير ان يلتفت إلى فنائه وزواله فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الاحوال كهذه الزخارف المزوقه التى تحيا وتموت وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين، وهذا وجه برهانى وان كان ربما يتخيل انه بيان خطابي أو شعرى فافهم ذلك. وعلى أي حال فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بعروض الافول له إما بال 0 تكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لافوله لان المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا يحب شيئا أن يعبده وقد ورد في المروى عن الصادق عليه السلام: (هل الدين إلا الحب ؟) وقد بينا ذلك فيما تقدم. وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب وإنما ذكر الافول ليوجه به عدم حبه له المنافى للربوبية لان الربوبية والالوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزى
[ 178 ]
الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، وهذا الوجه هو الظاهر يتكئ عليه سياق الاحتجاج في الاية. ففى الكلام أولا إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية. وثانيا أنه أخذ في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه وبين القمر والشمس ثم ساق الاحتجاج وكرر ما احتج به في الكوكب في القمر والشمس أيضا، وذلك إما لكونه عليه السلام لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر والشمس وأنهما يطلعان ويغربان كالكوكب كما تقدمت الاشارة إليه، وإما لكون القوم المخاطبين في كل من المراحل
الثلاث غير الاخرين. وثالثا أنه اختار للنفي وصف أولى العقل حيث قال: (لا أحب الافلين) وكأنه للاشارة إلى أن غير أولى الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يومى إليه في قوله المحكى: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) (مريم: 42) وقوله الاخر: (إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) (الشعراء: 74) فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد وهياكل غير عاقلة ولا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها وقدرتها وهو يعبر بلفظ أولى العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفه العقل. قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى) إلى آخر الاية، البزوغ هو الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله: (فلما رأى) الخ، على اتصال القضية بما قبلها، وقوله: (هذا ربى) على سبيل الافتراض أو المجاراة والمماشاة والتسليم نظير ما تقدم في الاية السابقة. وأما قوله بعد أفول القمر: (لئن لم يهدنى ربى لا كونن من القوم الضالين) فهو موضوع وضع الكناية فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب ولما غرب القمر ظهرعندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب: (لا احب الافلين) فقوله: (لئن لم يهدنى ربى) الخ، إشارة إلى ان الوضع الذى ذكره في القمر بقوله: (هذا ربى) كان ضلالا لو دام وأصر عليه كان أحد اولئك الضالين القائلين بربوبيته والوجه في كونه ضلالا ما قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في
[ 179 ]
مورده وكل مورد يشابهه. وفي الكلام إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما أن قوله في الاية التالية بعد ذكر أمر الشمس: (يا قوم إنى برئ مما تشركون) لا يخلو عن
الدلالة على مثله. وثانيا: أنه عليه السلام كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الالهية مترقبا لما يفيض ربه عليه من النظر الصحيح والرأى اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما لو حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على الوضع والتسليم لبيان الفساد، وقد تقدم الوجهان آنفا. وثالثا: أنه عليه السلام كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته وسائر اموره، وإنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه: أهو الذى فطر السماوات والارض بعينه أو بعض من خلقه، وإذ بان له ان الكوكب والقمر لا يصلحان الربوبية لا فولها توقع أن يهديه ربه إلى نفسه ويخلصه من ضلال الضالين. قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر) الكلام في دلالة اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان قوله: (فلما) وكون قوله: (هذا ربى) مسوقا للافتراض أو التسليم كما تقدم في الاية السابقة. وقد كان تكرر قوله: (هذا ربى) في القمر لما رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب، ولذلك ضم قوله: (هذا أكبر) إلى قوله (هذا ربى) في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة الاعتذار للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطاء افتراضه مرة بعد مرة. وقد تقدمت الاشارة إلى أن إشارتة إلى الشمس بلفظة (هذا) تشعر بأنه عليه السلام ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدناأنه جرم سماوي يطلع ويغرب بحسب ظاهر الحس في كل يوم وليلة، وإليها تستند النهار والليل والفصول الاربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها. فإن الاتيان في الاشارة بلفظ المذكر هو الذى يستريح إليه من لا يميز المشار إليه في نوعه كما تقول فيمن لاح لك شبحه وأنت لا تدرى أرجل أم امرأة: من هذا ؟ ونظيره ما يقال في شبح لا يدرى أمن أولى العقل هو أولا: ما هذا ؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم
عليه السلام أول ما خرج من مختفى أخفى فيه إلى أبيه، وقومه ولم يكن عهد مشاهد الدنيا
[ 180 ]
الخارجة والمجتمع البشرى فرأى جرما هو كوكب وجرما هو القمر وجرما هو الشمس، وكلما شاهد واحدا منها - ولم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا - قال: هذا ربى، على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت. ويؤيده بعض التأييد قوله: (فلما أفل قال لا احب الافلين) فإن فيه إشعارا بأنه عليه السلام مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن الفرض باطل وأنه ليس برب، ولو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض ربوبيته كما فعل ذلك في أمر الاصنام على ما يدل عليه قوله لابيه: (أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك وقومك في ضلال مبين) وقوله أيضا: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا). وإن أمكن أن يقال: إنه أراد بتأخير قوله: (لا احب الافلين) إلى أن يافل أن يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالاصنام حيث جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم أن يريهم عجز الاصنام وكونها أجسادا ميتة لا تدفع عن أنفسها الضر والشر. وللمفسرين في تذكير الاشارة في قوله: (هذا ربى هذا أكبر) مسالك من التوجية مختلفه: فمنهم من قال: تذكير الاشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي أي هذا المشار إليه أو هذا الجرم النير ربى وهو أكبر. وفيه أنه لا ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التى تصحح هذا التأويل، ولا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة، ولو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد على نكته لجاز تذكير كل مؤنث قياسي وسماعى في إرجاع الضمير والاشارة إليه بتأويل الشخص ونحوه وفي ذلك نسخ اللغة قطعا. ومنهم من قال: إنه من قبيل إتباع المبتدء للخبر في تذكيره فإن الرب وأكبر مذكران فاتبع اسم الاشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن
قالوا) الاية فاتبع المذكر للمؤنث. وفيه أنهم كانوا يرون من الالهة إناثا كما يثبتون ذكورا ويسمون الانثى من الالهة إلهة وربة وبنت الله وزوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان التأنيث، وأن يقال: هذه ربتى أو إلهتى، فالكلام في تذكير الخبر في قوله: (هذا ربى) كالكلام في تذكير المبتدء ولا معنى حينئذ لحديث الاتباع.
[ 181 ]
وكذا قوله: (هذا أكبر) الخبر فيه من صيغ التفضيل وحكم صيغة التفضيل إذا وقعت خبرا أن يجاء بأفعل ويستوى فيه المذكر والمؤنث يقال زيد أفضل من عمر وليلى أجمل من سلمى، وما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذى يجرى فيه الاتباع. ومنهم من قال: إن تذكير الاشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية صونا للاله عن وصمة التأنث. وفيه: أنهم كانوا يعدون الانوثية من النواقص التى يجب أن ينزه عنها الاله وقد كان لاهل بابل أنفسهم آلهة أنثى كالالهة (نينو) إلهة الامهات الخالفة، والالهة (نين كاراشا) ابنة الاله (آنو) والالهة (مالكات) زوجة الاله (شاماش) والالهة (زاربانيت) إلهة الرضاع، والالهة (آنوناكى). وكانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة وتعدهم بنات الله، وقد رووا في تفسير قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا) (النساء: 117) أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا، وكانوا يقولون: أنثى بنى فلان يعنون به الصنم الذى يعبدونه. ومنهم من قال: إن قوم ابراهيم عليه السلام كانوا يعدون الشمس من الذكور وقد أثبتوا لها زوجة يسمونها (انونيت) فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم. وفيه: أن اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا. على أن قوله عليه السلام للملك: (فأت بها من المغرب) (البقرة: 258) وهو يريد الشمس
ينافى ذلك. ومنهم من قال: إن ابراهيم عليه السلام كان يتكلم باللغة السريانية وهى لغة قومه، ولا يفرق فيها في الضمائر وأسماء الاشارة بالتذكير والتأنيث بل الجميع على صفة التذكير، وقد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير. وفيه: منع جواز ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الالفاظ المختلفة باختلاف اللغات بل إنما يجوز ذلك فيما يرجع إلى المعنى الذى لا يؤثر في الخصوصية اللفظية، على أنه تعالى حكى عن ابراهيم عليه السلام احتجاجات كثيرة وأدعية وافرة في القرآن وفيها موارد كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث ؟ حتى أن قوله فيما يحاج به ملك بابل: (إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال أنا
[ 182 ]
أحيى وأميت قال ابراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر) (البقرة: 258) ويتضمن ذكر الشمس وتأنيث الضمير العائد إليها. ومن عجيب ما أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين وأصر عليه: أن إبراهيم عليه السلام وكذا إسماعيل وهاجر كانوا يتكلمون باللغة ا 0 لعربية القديمة، وأنها كانت لغة قومه، قال ما ملخصه: أنه ثبت عند علماء الاثار القديمة، أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حموربى الذى كان معاصرا لابراهيم عليه السلام عربي وحموربى هذا ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلى، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشرة من كل شئ، قال: ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن إبراهيم أسكن إسماعيل ابنه عليهما السلام مع أمه هاجر المصرية في الواد الذى بنيت فيه مكة بعد ذلك، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، وأن إبراهيم عليه السلام كان يزورهما، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله الحرام ونشرا دين الاسلام في
البلاد العربية، وفي الحديث: أن إبراهيم عليه السلام جاء مكة ليزور ابنه وقد خرج إلى الصيد فكلم زوجته وكانت جرهمية فلم يرتض أمرها ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده فكلم زوجته الاخرى فدعته إلى النزول وغسل رأسه فارتضى أمرها ودعا لها، وكل ذلك يدل على أنه كان يتكلم بالعربية، هذا ملخص ما ذكره. وفيه: أن مجاورة عرب الجزيرة مصر وكلدان واختلاطهم بهم أو استعمارهم واستيلاؤهم عليهم لا يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية، وقد كانت لغة مصر قبطية ولغة كلدان والاشوريين سريانية، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء وألفاظ من لغة بعضهم في لغة بعض كما بوجد في القرآن الكريم أمثال القسطاس والاستبرق وغيرهما وهى من الدخيل. وأما ما ذكره من أمر حموربى ومعاصرته لابراهيم عليه السلام فلا يطابق ما هو الصحيح من تاريخه ويؤيده الاثار المكشوفة من خرائب بابل والنصب المستخرجة التى كتبت فيها شريعته التى وضعها وأجراها في مملكته وهى أقدم القوانين المدونة في العالم على ما بلغنا، وقد ذكر بعضهم أن أيام ملكه كانت بين (1728) ق م و (1686) ق
[ 183 ]
م، وذكر آخرون: أنه تملك بابل سنة (2232 2287) ق م (1) وكان ابراهيم عليه السلام يعيش في حدود سنة (2000) ق م، وحموربى هذا وثنى، وقد استمد فيما وجد من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعدة من الالهة لبقاء شريعته وعمل الناس بها وتدمير من أراد نسخها أو مخالفتها (2). وأما ما ذكره من حديث إسكانه ابنه وأم ولده بتهامة وبناء بيت الله الحرام ونشر دين الله وتفاهمه مع العرب فشئ من ذلك لا يدل على كونه عليه السلام متكلما باللغة العربية وهو ظاهر.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قوله: (فلما رأى الشمس بازغه) الخ - كما سمعت - يدل على اتصال ما بعد (فلما) بما قبله وهو قوله: (فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين) فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى عليه السلام الشمس بازغه، وهذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في العرض الشمالي الذى كانت فيه بلاد كلدان حين يطول الليالى وخاصة إذا كان القمر في شئ من البروج الجنوبية كالقوس والجدى فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر في النصف الاخير من الشهر القمرى قبل طلوع الشمس، وقد تقدم سابقا في قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الافلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى) أن ظاهر الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة كانت من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى، وكان الكوكب هي الزهرة شاهدها أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها وطلوع القمر من ناحية المشرق. فيتحصل من الايات أن إبراهيم عليه السلام حاج قومه في أمر الاصنام يوم حاجهم واشتغل بهم يومه ذلك حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة وقوم يعبدونها فجاراهم في ربوبيتها وأخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم
(1) - سيأتي ذكر الاختلاف في تعيين عهد ملكه في ذيل ما ننقله من التوراة من قصص ابراهيم عليه السلام. (2) - راجع في ذالك كتاب (شريعة حموربى) تأليف صاحب الفضيلة الدكتور عبد الرحمن الكيالى وسائر ما ألف في هذا الشان. (*)
[ 184 ]
به وتبرأ من ربوبيتها، ثم رأى القمر بازغا وهناك قوم يعبدونه فجاراهم في ربوبيته بقوله: (هذا ربى) وأخذ يراقب ما يحدث به حتى أفل، وكانت الليلة من الليالى الطوال في النصف الثاني من الشهر القمرى ولعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات الجنوبية فلما أفل تبرأ من ربوبيته، وأخذ يستهدى ربه ويستعيذ به من الضلال حتى
طلعت الشمس فرآها بازغة وأكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب والقمر فعاد كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب والقمر وهما مثلها في كونها جرما سماويا نيرا لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو يسلمه من ربوبيتها فقال: (هذا ربى هذا أكبر) وأخذ ينتظر مستقبل الامر حتى أفلت فتبرأ من ربوبيتها وشرك قومه فقال: (يا قوم إنى برئ مما تشركون) ثم أثبت الربوبية لله سبحانه كما كان يثبت الالوهية بمعنى إيجاد السماوات والارض وفطرها له تعالى فقال: (إنى وجهت وجهى - وهو العبودية قبال الربوبية - للذى فطر السماوات والارض حنيفا - غير منحرف من حاق الوسط إلى يمين أو يسار - وما أنا من المشركين - بإشراك شئ من خلقه ومفطوراته له تعالى في العبادة والاسلام -). وقد تقدم أن قوله تعالى في ضمن الايات محفوفا بها: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) يدل على أنه عليه السلام إنما كان يأخذ ما يلقيه من الحجة على أبيه وقومه مما كان يشاهده من ملكوت السماوات والارض، وقد أفاض الله سبحانه اليقين الذى ذكره غاية لاراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة والرؤية. وهذا أوضح شاهد على أن الذى ذكره عليه السلام من الحجة كانت حجة برهانية ترتضع من ثدى اليقين، وقد أورد في ذلك قوله: (لا أحب الافلين) وتقدمت الاشارة إلى تقريره. فتبين من جميع ما تقدم: أولا: أن قوله عليه السلام: (لا أحب الافلين) حجة برهانية يقينية بنى الكلام فيه على عدم حبه للافلين، ومنافاة الافول للربوبية، ويظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه حجة عامية غير برهانية إذ يقول: والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم، ولا
[ 185 ]
يدرى شيئا من أمر عبادتهم، وهذا هو السبب في جعله الافول منافيا للربوبية دون البزوغ والظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا. وقد خفى عليه أولا: أن وضع قوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) بين الايات المتضمنة لحججه عليه السلام أدل دليل على كون حججه مأخوذه من مشهوداته الملكوتية التى هي ملاك يقينه بالله وآياته وكيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية. وخفى عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب وعدمه لا على الافول مضافا إلى أن البناء على الافول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو عليه السلام إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربه وهو لا يحب الافلين فلا يعبدها، ومن المعلوم أن عبادة الانسان لربه إنما هي لانه رب أي لانه يدبر أمر الانسان فيفيض عليه الحياة والرزق والصحة والخصب والامن والقدرة والعلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل جهة، ومن فطريات الانسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه وأن يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لان الانسان يحبه لجلبه المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا. ومن فطريات الانسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة ويصرفه عن التأمل والامعان في جهة فنائه وزواله، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، وردع الناس عن التعلق المفرط بزينتها والانهماك في شهواتها كقوله: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس) (يونس: 24) وقوله ما: (عندكم ينفد وما عند الله باق) (النحل:
96) وقوله: (وما عند الله خير وأبقى) (الشورى: 36). فهو عليه السلام يفيد بقوله: (لا أحب الافلين) أن الذى من شأنه أن يفقده الانسان ويغيب عنه ولا يبقى ولا يثبت له لا يستحق أن يحبه الانسان وتتعلق به نفسه، والرب
[ 186 ]
الذى يعبده الانسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه ويفقد فهذه الاجرام الافلة لا تستحق اسم الربوبية، وهذه - كما ترى - حجة يعرفها العامة والخاصة. وقد خلط ثالثا بين البزوغ والظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبنى عليه فأن من صفات الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذى ذكر في الاية - ولم يبن الحجة عليه - هو البزوغ وهو الطلوع والظهور بعد خفاء المنافى للربوبية فيبقى السؤال: لم بنى الكلام على الافول دون البزوغ ؟ على حاله. وثانيا أن أخذ الافول في الحجة دون البزوغ إنما هو لان البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذى بنى الحجة عليه بخلاف الافول، وبذلك يظهر ما في قول الكشاف في وجه العدول، قال: (فإن قلت: لم احتج عليهم بالافول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ قلت: الاحتجاج بالافول أظهر لانه انتقال مع خفاء واحتجاب) انتهى. فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو بعدم تعلق الحب لا بالافول حتى يوجه العدول إليه من البزوغ بما ذكره. وثالثا: أن الاحتجاج إنما أريد به نفى ربوبية الاجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها للعالم الارضى أو العالم الانساني لا الربوبية بمعنى المقام الذى ينتهى إليه الايجاد والتدبير فإن الوثنية وعبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى، وأنه الله الواحد لا شريك له. ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن الافول إنما أخذ مبدا للبرهان لانه يستلزم
الامكان، وكل ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود، وكذا ما في قول آخرين: إن الافول إنما ينفى الربوبية عن المتصف به لانه حركة، ولا بد لكل حركة من محرك، وينتهى لا محالة إلى محرك غير متحرك وثابت غير متغير بذاته وهو الله عز اسمه. وذلك أنهما وإن كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات وعن المتحركات الربوبية بمعنى العلية الاولى التى ينتهى إليها جميع العلل، وسببية الايجاد والتدبير التى يقف عندها جميع الاسباب، وعبدة الكواكب من الصابئين وغيرهم وإن
[ 187 ]
ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون والفساد متحرك بحركة دائمة غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلوله لامكانها غير مستغنية لا في وجودها ولا في آثار وجودها عن الواجب عز اسمه. فالحجتان نما هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين وعبدة أرباب الانواع وغيرهم من الوثنيين، وإبراهيم عليه السلام انما كان يحاج هؤلاء دون أولئك. على أنك عرفت ان الحجة لم تركب من جهة الافول بل من جهة عدم تعلق الحب بشئ من شأنه الافول والغروب. وأما من دفع ما ذكروه من تقرير الحجة من جهة الامكان أو الحركة بأن تفسير الافول بذلك تفسير للشئ بما يبانه فإن العرب لا يعرفون الافول بمعنى لامكان أو الحدوث وكذلك تفسير الافول بالتغير والحركة غلط كسابقه. فقد خفى عليه أن هؤلاء لا يقولون: إن الافول في الاية بمعنى الامكان أو بمعنى الحركة، وانما يقولون: إن الافول انما احتج به لاستلزامه الامكان أو الحركة والتغير، وأما الافول بمعنى الغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن إستلزامه الامكان أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافى الربوبية كما اعترف
به هذا المورد نفسه. وذلك أن الواجب تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال ويطرأ عليه التغير بالغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور، ولا ينفع القول بأن الغيبة والخفاء فيه تعالى من جهتنا لا من جهته ولاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده وقصور استيلائه فإن غيبة هذه الاجرام السماوية وخاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا حيث إنا أجزاء من الارض التى تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامته هذه الاجرام ومواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها وان كان الخطأ الحسى يخيل لنا غيره. وقد أراد الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه الافول عبارة عن غيبوبة الشئ بعد ظهوره وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول: الافول انما يدل على الحدوث من حيث انه حركة، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا
[ 188 ]
على الحدوث فلم ترك ابراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطوع وعول في اثبات هذا المطلوب على الافول ؟. والجواب: لا شك ان الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذى يحتج به الانبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكى والغبى والعاقل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الافاضل من الخلق، أما دلالة الافول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الافول فكانت دلالة الافول على هذا المقصود أتم. وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الامكان افول وأحسن الكلام ما تحصل
فيه حصة الخواص وحصة الاوساط وحصة العوام: فالخواص يفهمون من الافول الامكان وكل ممكن محتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الامكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: وأن إلى ربك المنتهى. وأما الاوساط فإنهم يفهمون من الافول مطلق الحركة فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الافل إلها بل الاله هو الذى يحتاج إليه ذلك الافل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الافول الغروب، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الافول والغروب فإنه يزول نوره، وينتقص ضوءه، ويذهب سلطانه، ويكون كالمعزول، ومن يكون كذلك لا يصلح للالهية، فهذه الكلمة الواحدة أعنى قوله (لا احب الافلين) كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين. وفيه دقيقة اخرى، وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين، ومذهب أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير، أما إذا كان غربيا وقريبا من الافول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الاله هو الذى لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم ان الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص
[ 189 ]
التأثير عاجز عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين ان للافول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته) انتهى موضع الحاجة من كلامه على طوله. وأنت بالتأمل في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص مختلفة باختلاف النفوس، وتقريره بوجوه شتى لا لفظ الاية يدل عليه، ولا شبة الصابئين
وأصحاب النجوم تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهى القدرة ذا قوة مطلقة، وأنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه من العالم الارضى، وشئ مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية، وكأنه تنبه لهذا الاشكال بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام وأطنب في الخروج من العويصة بما لا يجدى شيئا. على أن الحجة الثانية على ما قرره حجه غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث المتحرك من حيث وصفه وهو التحرك لا من حيث ذاته، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله، والمصير إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة. ورابعا أن ابراهيم عليه السلام إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه يريه ملكوت السماوات والارض، وبحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه وقومه آخذا بالمحسوس المعاين إما لانه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية والارضية اليومية كما تقدمت إلاشارة إليه أو لانه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله (هذا ربى) لما شاهد شيئا من الاجرام الثلاثة لامعا بازغا، وأورد قوله (لا أحب الافلين) أو ما في معناه لما شاهد افولها. وبذلك يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: إن قوله: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) يدل على أنه عليه االسلام كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم يذكر الشمس لينفى ربوبيتها. فإن من المحتمل أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة والوقت لا يسع أزيد مما حاج به أباه وقومه في أمر الاصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار عند قومه حتى إذا تمم الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل، وهناك محتملات أخر
[ 190 ]
كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات والقرابين في أول الطلوع فحسب وقد كان يريد أن
يواجههم فيما يلقيه إليهم. وخامسأ: أن الايات كما قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه وأما الاضلال فلم ينسب إليه تعالى في هذه الايات بل دل قوله: (لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين) بعض الدلالة على أن من شأن الانسان بحسب ما يقتضيه نقص نفسه أن يتصف بالضلال لو لم يهده ربه، وهو الذى يستفاد من قوله تعالى: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منها من أحد أبدا) (والنور: 21) وقوله: (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء) (القصص: 56) إلى غير ذلك من الايات. نعم هناك آيات تنسب إليه تعالى الاضلال لكن أمثال قوله: (وما يضل به إلا الفاسقين) (البقرة: 26) تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى هو الاضلال الواقع بحسب المجازاة دون الاضلال الابتدائي، وقد تقدم البحث في تفسير الاية في الجزء الاول من هذا الكتاب. وسادسا: أنه عليه السلام أخذ في حجته لابطال ربوبية الاجرام الثلاثة أنه لا يحب الافل لافوله وهو أن يفقده الانسان بعد أن يجده فهو الوصف الذى لا يتعلق به الحب المسوغ للعبادة، وإذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التى تسير إلى الزوال والفوت والهلاك والبيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك ووثنية حتى على ما يظهر من بعض الوثنيين من القول بالوهية أرباب الانواع والموجودات النورية التى يذعنون بوجودها وأنها فوق المادة والطبيعة متعالية عن الجسمية والحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما لها من صفاء الجوهر وشرف الوجود مستهلكة تجاه النور القيومى، مستذلة تحت القهر الاحدى، وإذ كان هذه صفة ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر أمرها ويصلح شأنها لا بها. قوله تعالى: (إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض) إلى آخر الاية. ذكر الراغب في المفردات: أن أصل الفطر الشق طولايقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطار قال: هل ترى من فطور أي اختلال ووهى فيه، وذلك قد
يكون على سبيل الفساد، وقد يكون على سبيل الصلاح قال: السماء منفطر به كان وعده مفعولا. وفطرت الشاة حلبتها باصبيعين، وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه
[ 191 ]
الفطرة، وفطر الله الخلق وهو إيجاده الشئ وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الافعال فقوله: فطرة الله التى فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته تعالى، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الايمان وهو المشار إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، انتهى. وذكر أيضا: أن الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال: وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام والاحنف من في رجله ميل، قيل: سمى بذلك على التفاؤل وقيل: بل استعير للميل المجرد، انتهى. لما تبرأ عليه السلام من شركهم وشركائهم بقوله: (يا قوم إنى برئ) الخ، وقد سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه بالشريك حيث قال: (لا أحب الافلين) ثم الايماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال: (لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين) ثم التبرى الصريح من ذلك بقوله: (يا قوم إنى برئ مما تشركون) رجع إلى توحيده التام في الربوبية، وهو إثبات الربوبية والمعبودية للذى فطر السماوات والارض، ونفى الشرك عن نفسه فقال: (إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا). فتوجيه الوجه كناية عن الاقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية والمربوبية أن يتعلق العبد المربوب بربه في قوته وإرادته، ويدعوه ويرجع إليه في جمع أعماله، ولا يكون دعاء ولا رجوع إلا بتوجيه الوجه والاقبال إليه فكنى بتوجيه الوجه عن العبادة التى هي دعاء ورجوع وذكر ربه وهو الله سبحانه الذى وجه وجهه إليه، بنعته الذى يخصه بلا نزاع فيه وهو فطر السماوات والارض، وجاء بالموصول والصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الامر على أحد منهم فقال: للذى فطر السماوات والارض أي إنى أقبلت بعبادتي على من ينتهى
إليه إيجاد كل شئ وإبداعه، وهو الذى يثبته ويثبتونه فوق الجميع. ثم نفى غيره مما يدعونه شريكا بقوله: (حنيفا) أي مائلا إليه عن غيره نافيا للشريك عنه، وأكده بقوله: (وما أنا من المشركين) فأفاد مجموع قوله: (وإنى وجهت) الخ، إثبات المعبودية لله تعالى ونفى الشريك عنه قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة: لا إله الا الله.
[ 192 ]
واللام في قوله: (للذى) للغاية وتفيد معنى إلى، وكثيرا ما تستعمل في الغاية اللام كما تستعمل (إلى) قال: (أسلم وجهه لله) (البقرة: 112) (ومن يسلم وجهه إلى الله) (لقمان: 22). وفي تخصيص فطر السماوات والارض من بين صفاته تعالى الخاصة وكذا من بين الالفاظ الدالة على الخلقة كالباري والخالق والبديع إشارة إلى ما يؤثره ابراهيم عليه السلام من دين الفطرة وقد كرر توصيف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين ابراهيم الحنيف ودين الفطرة أي الدين الذى بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الانسان ونوع وجوده الذى لا يقبل التبدل والتغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التى يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التى يطلبها الشئ حسب تركب وجوده وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا، واقعيا وحاشا أن يسعد الانسان أو أي شئ آخر من الخليقة بأمر ولم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذى أو النكاح أو ترك المعاشرة والاجتماع وقد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك ولم يجهز بما يوافقه. فالدين الحق هو الذى يوافق بنواميسه الفطرة وحاشا ساحة الربوبية أن يهدى الانسان أو أي مخلوق آخر مكلف بالدين - ان كان - إلى غاية سعيدة مسعدة ولا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الاسلام وهو الخضوع لله بحسب ما يهدى إليه ويدل عليه صنعه وإيجاده.
قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان). قسم تعالى حججه عليه السلام إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاج الناس، وثانيهما ما بدأ به الناس فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم، وهذا الذى تعرض له في الاية وما بعده هو القسم الثاني. لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (ولا أخاف ما تشركون به) فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف وقد تقدم وسيجئ أن الذى بعثهم إلى اتخاذ الالهة وعبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها وقهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الارضى، أو رجاء البركة والسعادة
[ 193 ]
منها، وأشد الامرين تأثيرا في نفوسهم هو الامر الاول أعنى الخوف وذلك أن الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة والسعادة المادية ملك أنفسهم إما مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الاموال واكتساب المقام والجاه أو مما ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه. فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الالهى يتأثرون من الوعد والبشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد والانذار، ولذلك بعينه نرى أن القرآن يذكر الانذار من وظائف الانبياء أكثر من ذكر التبشير، وكلا الامرين من وظائفهم والطرق التى يستعملونها في الدعوة الدينية. وبالجملة اختار قوم إبراهيم عليه السلام في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الالهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الالهة وسخطها ووعظوه بسلوك سبيلهم ولزوم طريقهم في التقرب بالالهة ورفض القول بربوبية الله سبحانه، وإثباته في المقام الذى أثبتوه فيه وهو أنه الذى ينتهى إليه الكل فحسب.
ولما وجد عليه السلام كلامهم ينحل إلى جزأين: الردع عن القول بربوبية الله سبحانه والتحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى للجهة الاولى عن الثانية كما سيجئ. وما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله: (أتحاجوني في الله وقد هدان) أي إنى واقع في أمر مفروغ عنه ومهتد بهداية ربى حيث آتانى العلم بما أرانى من ملكوت السماوات والارض وألهمنى بذلك حجة أنفى بها ربوبية غيره من الاصنام والكواكب، وأنى لا أستغنى عن رب يدبر أمرى فأنتج لى أنه هو الرب وحده لا شريك له، وإذ هداني إليه فأنا في غنى عن الاصغاء إلى حجتكم والبحث عن الربوبية ثانيا فإن البحث إنما ينفع الطالب ولا طلب بعد الوصول إلى الغاية. هذا ما يعطيه ظاهر الاية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر بالتدبر وهو أن قوله: (وقد هدان) استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن
[ 194 ]
الاستدلال وتقريره: أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفى ربوبية غيره وإثبات ربوبيتة، ونفس هدايته دليل على أنه رب ولا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من جملة التدبير فهى شأن من هو رب، ولو لم يكن الله سبحانه هو ربى لم يكن ليهدينى ولا قام بها إلى الذى هو الرب لكن الله هو هداني فهو ربى. ولم يكن لهم أن يقولوا: إن الذى علمك ما علمت وألهمك الحجة هو بعض آلهتنا لان الشئ لا يهدى إلى ما يضره ويميت ذكره ويفسد أمره فاهتداؤه عليه السلام إلى نفى ربوبيتها لا يصح أن ينسب إليها، هذا. ولكن كان لهم أن يقولوا أو أنهم قالوا: إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهرا وسخطا أبعدك عن القول بربوبيتها ولقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك وعلة نفسك نظير ما شافهت به عاد هودا عليه السلام لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه واحتج
عليهم بأن الله هو الذى يجب أن يرجى ويخاف، وأن آلهتهم لا تنفع ولا تضر فردوا عليه بأن بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود عليه السلام: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين، قالوا يا هود - إلى أن قال - إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله وأشهدوا إنى برئ مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون - (هود: 55). فقوله عليه السلام: (ولا أخاف ما تشركون به) الخ، ينفى هذه الشبهة وكما أنه ينفى هذه الشبهة فإنه حجة تامة تنفى ربوبية شركائهم. ومحصله: أنكم تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم ورفض القول بربوبية ربى بما تخافوننى من ان تمسني شركاؤكم بسوء، وترهبوننى بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، وإنى لا أخاف ما تشركون به لانها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا ولا ضرا وإذ لم اخفها سقطت حجتكم وارتفعت شبهتكم. ولو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لانها لا تقدر على شئ بل كان من صنع ربى وكان هو الذى شاء ان اخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلا آخر على ربوبيته وآية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له
[ 195 ]
لا دليلا على ربوبية شركائكم وحجة توجب عبادتها. والدليل على ان ذلك من ربى أنه وسع كل شئ علما فهو يعلم كل ما يحدث ويجرى من خير وشر في مملكته التى أوجدها لغايات صحيحة متقنة، وكيف يمكن ان يعلم في ملكه بشئ ينفع أو يضر فيسكت ولا يستقبله بأحد امرين: إما المنع أو الاذن ؟. فلو حصل في نفسي شئ من الخوف لكان بمشية من الله وإذن على ما يليق بساحة قدسه، وكان ذلك من التدبير الدال على ربوبيته ونفى ربوبية غيره أفلا تتذكرون وترجعون
إلى ما تدركونه بعقولكم وتهدى إليه فطرتكم. فهذا وجه في تقرير الحجة المودعة في قوله: (ولا اخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون) وعلى ذلك فقوله: (ولا أخاف ما تشركون به) كالمتمم للحجة في قوله: (أتحاجوني في الله وقد هدان) وهو مع ذلك حجة تامة في نفسه لابطال ربوبية شركائهم بعدم الخوف منها، وقوله: (إلا أن يشاء ربى شيئا) كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على وجوب عبادتها بالخوف ولا خوف في نفسي، ولو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربى لا على ربوبية شركائكم فإنه عن مشية من ربى، قوله: (وسع ربى كل شئ علما) وتعليل لكون الخوف المفروض مستندا إلى مشية ربه فإن فاطر السماوات والارض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلا بإذن منه فهو الذى يدبر امره ويقوم بربوبيته، وقوله: (إفلا تتذكرون) استفهام توبيخي وإشارة إلى أن الحجة فطرية، هذا. وللمفسرين في الاية أقوال: أما قوله تعالى: (قال أتحاجوني في الله وقد هدان) فقد أورد اكثرهم فيه الوجه الاول من الوجهين اللذين قدمناهما، ومحصله أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غنى عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه ولا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة ولازمه ان كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج. وأما قوله تعالى: (لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا) فقد ذكروا في الصدر قريبا مما قدمناه، وأما الاستثناء فقيل: معناه إلا ان يغلب ربى هذه الاصنام التى تخوفونني بها فيحييها ويقدرها فتضر وتنفع فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا
[ 196 ]
على حدوثهاو على توحيد الله سبحانه، وبعبارة اخرى: المعنى أنى لا اخافها في حال من الحالات إلا أن يشاء ربى ان تحيا هؤلاء الشركاء فتضر وتنفع فأخافها واذ ذاك كانت الربوبية
لله وتبين حدوث شركائكم. وهذا الوجه وإن كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع والضر إلى الشركاء لو كانت أحياء - مع ان بعضها احياء عندهم كالملائكة وارباب الانواع وبعضها يضر وينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الالهى في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك نفعا ولا ضررا إلا الله سبحانه. وكذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم امر لا يضر اهل الاوثان فإنهم كما عرفت لا ينكرون كون الاصنام ولا أربابها معلولة لله مخلوقة له، والقول بالقدم الزمانى في بعضها لا ينافى إمكانها ولا معلوليتها عندهم. وقيل: إن معنى الاستثناء انى لا اخاف شركاءكم واستثنى من عموم الخوف في الاوقات أن يشاء ربى ان يعذبنى ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء، وبعبارة اخرى الجملة استثناء من معنى أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله: (ولا أخاف) الخ، على نفى الخوف من شركائهم، وقوله: (إلا ان يشاء) الخ، استثناء من كل خوف فالتقدير: لا أخاف ما تشركون به ولا شيئا آخر إلا من ان يشاء ربى شيئا اكرهه ابتداء أو جزاء فإنى اخافه، ووجه التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان. وأما قوله: (وسع ربى كل شئ علما) فقد قيل. إنه ثناء منه عليه السلام لربه بعد إتمام الحجة. وقيل: إنه تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا ولا تشعر، ويرد عليه أن التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى ؟ العلم والاشكال جار في الوجه السابق. وقيل: إنه لما استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله: (وسع ربى كل شئ علما) أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة. وفيه أن الانسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم ولا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم
كما في أغلب الموارد.
[ 197 ]
وقيل: إنه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى إصابته بسوء تكون سببه الاصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله، وفيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم. وقيل: معناه أن علم ربى وسع كل شئ وأحاط به ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن ان يكون لشئ من المخلوقات التى تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في صفاته، ولا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة ولا غيرها وإنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شئ فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع أوالعطاء أو المنع. قال هذا القائل: اخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفى الشفاعة الشركية بمثل قوله: (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء). قال: وهذا أرجح الوجوه، وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، انتهى ملخصا. ومحصله ان قوله: (وسع ربى كل شئ علما) بيان وتعليل لعموم نفى الخوف من الالهة وغيرها كأنه قال: لا اخاف ضر شئ من آلهتكم وغيرها من المخلوقات فإن ربى يعلم كل شئ فيتمه بمشيئته وينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون لها تأثير في افعاله تعالى وشفاعة. وأنت تعلم أن نفى هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة والمشيئة - والمشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته ومشيئته إطلاق، والشاهد عليه نفس كلامه الذى قرر فيه الوجه
بالعلم والمشيئة والقدرة جميعا. وبالجملة هذا الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها وإنما يتم بها وباطلاق القدرة والمشيئة، وقد ذكرت في الاية سعة العلم وحدها. وأما ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالايات المذكورة مسوقة لاثبات الشفاعة بمعنى التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم إنه
[ 198 ]
يفسر القرآن بالقرآن، وكيف لا ؟ والطمع في إرتفاع الاسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه، والقرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية ويبنى على أصل العلية والمعلولية العام، وقد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في الاجزاء السابقة من الكتاب. قوله تعالى: (و كيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) الخ، ثم كر عليه السلام عليهم بحجه أخرى تثبت المناقضة بين قولهم وفعلهم و بعبارة اخرى: حالهم يكذب مقالهم ومحصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه، وأنتم أنفسكم لا تخافون من يجب ان يخاف منه فأنا أولى بالامن منكم إن عصيتكم ولم أئتمر بأمركم. أما كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلان الاصنام و 3 أربابها لا دليل على كونها مستقلة بالضر والنفع حتى توجب الخوف منها، وأما كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنكم انفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية ولم ينزل الله في ذلك عليكم برهانا يمكن أن يعتمد عليه فان الصنع والايجاد لله سبحانه فله الملك وله الحكم فلو كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبين لنا ذلك ويكشف عن وجه الحقيقة فيه، والطريق فيه أن يقارنه بعلائم وآيات تدل على أن له شركة في كذا وكذا، وذلك إما وحى أو برهان يتكئ على آثار خارجية، وشئ من ذلك غير موجود. وعلى هذا التقرير فقوله تعالى: (ما أشركتم) مقيد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيد به قوله: (أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) وإنما ذكر هذا القيد عند ذكر
عدم خوفهم من شركهم لان الحجة إلى ذكره هناك أحوج وهو ظاهر. وقوله: (فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون) من تتمة الحجة، والمجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوته عليهالسلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب وهم أنفسهم لا يخافون فيما يجب. وبالبيان السابق يظهر ان وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض استدعاه نوع الحجة التى وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان ان يأمر الله باتخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادعيتم، في جواب من يخوفنا
[ 199 ]
من موضوع خرافي يدعى أنه ربما ينفع ويضر، ولنا ان نبدل قولنا ذلك لو اردنا التكلم بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلا، والكلام بحسب التحليل المنطقي يؤول إلى قياس استثنائي استثنى فيها نقيض المقدم في الشرطية لانتاج نقيض التالى نحوا من قولنا: لو كان الله نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها في محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله، ومن المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله: (لم ينزل به عليكم سلطانا) للتهكم، أو للاشارة إلى ان هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به (المؤمنون: 117) إلى غير ذلك من التحملات. والباء في قوله: (لم ينزل به) للمعية أو السببية وقد كنى عليه السلام عنهم وعن نفسه بالفريقين ولم يقل: أنا وانتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية وتهييج العصبية كما قيل، وليدل على تفرقهما وشقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الاصول وأم المعارف الحقيقية بحيث لا ياتلفان بعد ذلك في شئ. قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) سألهم في الاية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالامن حيث قال: (فأى
الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون) ثم اجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان والجواب الذى هذا شأنه لا باس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير ان ينتظر المسؤول فإن المسؤول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد، وقد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الاصنام: (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) (الانبياء: 65). هذا ما يقتضيه سياق الكلام ان تكون الاية من كلام إبراهيم عليه السلام ومقولة لقوله، وأما كونها من كلام قومه وجوابا محكيا عنهم وكذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فمما لا يساعد عليه السياق البتة. وكيف كان فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة اسنادات متعددة في جمل اسمية وهى ما في قوله: (لهم الامن) جملة اسمية هي خبر لقوله: (أولئك) والمجموع جملة اسمية
[ 200 ]
هي خبر لقوله: (الذين آمنوا) الخ، والمجموع جملة اسمية، وكذلك ما عطف على قوله: (لهم الامن) من قوله: (وهم مهتدون) فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا ولم يستروا إيمانهم بظلم بالامن والاهتداء ولا ريب. ولا ريب ان الاية تدل على أن خاصة الامن والاهتداء من آثار الايمان مشروطا بان لا يلبس بظلم، واللبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات: أصل اللبس - بفتح اللام - الستر، فهو استعارة قصد فيها الاشارة إالى أن هذا الظلم لا يبطل أصل الايمان فإنه فطرى لا يقبل البطلان من رأس، وانما يغطى عليه ويفسد أثره ولا يدعه يؤثر أثره الصحيح. والظلم وهو الخروج عن وسط العدل وإن كان في الاية نكرة واقعة في سياق النفى ولازمه العموم وعدم اقتران الايمان بشئ مما يصدق عليه الظلم على الاطلاق لكن السياق حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الايمان وبروزه باثاره الحسنة المطلوبة كان
ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذى يؤثر أثرا سيئا في الايمان دون الظلم الذى لا اثر له فيه. وذلك ان الظلم وان كان المظنون ان أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي وهو التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الامن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون أو سنة جارية ظلما بل كل ذنب ومعصية لخطاب مولوى ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما وإن كان عن سهو أو نسيان أو جهل وإن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف وعقابه على ما أتى به بل يعدون من خالف النصيحة والامر الارشادي ولو اشتبه عليه الامر وأخطا في مخالفته من غير تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه ولو من غير عمد عد ظالما لنفسه وإن كان ظلما من غير شعور، والملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله. وبالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثرأثرا سيئا في الايمان فإن أصنافه التى لا تتضمن ذنبا ومعصية ولا مخالفة مولوية كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في
[ 201 ]
الايمان الذى شأنه التقريب من السعادة والفلاح الحقيقي والفوز برضى الرب سبحانه وهو ظاهر فتأثير الايمان أثره لا يشترط بعدم شئ من ذلك. فقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن) معناه اشتراط الايمان في إعطائه الامن من كل ذنب ومعصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هيهنا دقيقة وهى ان الذنب الاختياري - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الافهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم وليس بها
عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك والتوحيد مثلا وهو الذى يرى أن للعالم صانعا هو الذى فطر أجزائها وشق أرجائها وأمسك أرضها وسمائها، ويرى أنه نفسه وغيره مخلوقون مربوبون، مدبرون وان الحياة الانسانية الحقيقية إنما تسعد بالايمان به والخضوع له فالظلم اللائح لهذا الانسان هو الشرك بالله والايمان بغيره بالربوبية كالاصنام والكواكب وغيرها على ما يثبته إبراهيم عليه السلام بقوله: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم اشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) فالايمان الذى يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الانسان انما يشترط في إعطاءه الامن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك ومعصيته. ومن طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم وقتل النفس المحترمة والزنا وشرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، وقد وعده الله ان يكفر عنه السيئات والمعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (النساء: 31) وفساد أثر هذا الايمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي وإن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الاخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله وإما بشفاعة ونحوها. ومن تزود هذا الزاد من التقوى وحصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسؤولا باصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات وترك المستحبات والتوغل في المباحات، وفوق ذلك المعاصي في مستوى الاخلاق الكريمة والملكات الربانية ووراء ذلك الذنوب التى تعترض سبيل الحب، وتحف بساط القرب، فالايمان في كل من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به ويدفع عنه الشقاء إذا عرى عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.
[ 202 ]
فلقوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الايمان وإذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق
الظلم المنفى على ظلم الشرك فحسب والامن الذى يعطيه هذا الايمان هو الامن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد والعذاب المخلد، والاية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الامن والاهتداء إنما يترتب على الايمان بشرط انتفاء جميع انحاء الظلم الذى يلبسه ويستر أثره بالمعنى الذى تقدم بيانه. وأما الايمان المذكور في الاية ففيه إطلاق والمراد به الايمان بالربوبية الصالح للتقيد بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أفاد الايمان بربوبية الله سبحانه ورفض غيره من شركائهم فإن ابراهيم عليه السلام ذكر فيما تحكى عنه الاية السابقة أن قولهم بربوبية شركائهم وإيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله ولا سلطان وأنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا ويستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها لانها لا تضر ولا تنفع، وأما هو عليه السلام فقد خاف وآمن بمن هو فاطره وهو المتصرف بالهداية والمدبر الذى له في كل أمر إرادة ومشية لسعة علمه، ثم سألهم: أي الفريقين أحق بالامن والناجح بالايمان بالرب، ولكل من الفريقين إيمان بالرب، وإن اختلفا من جهة الرب، والذى آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل، ومؤمن برب لا دليل على ربوبيته بل الدليل على خلافه. ومن هنا يظهر أن المراد بالايمان في قوله: (الذين آمنوا) مطلق الايمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) يتعين في الايمان بالله سبحانه الذى هو حق الايمان فافهم. فقد اتضح بما تقدم أولا: أن المراد بالايمان هو الايمان بالربوبية دون الايمان بوجود صانع العالم خلافا لمنكري وجوده. وثانيا: أن الظلم في الاية مطلق ما يضرالايمان ويفسده من المعاصي، وكذا المراد بالامن مطلق الامن من شقاء المعاصي والذنوب، وبالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها وإن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة.
وثالثا: أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الايمان.
[ 203 ]
قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الاية: إن الامن في الاية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الايمان يكون المعنى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لانفسهم لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية أو دنيوية ولا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء والعجماوات اولئك لهم الامن من عقاب الله تعالى الدينى على ارتكاب المعاصي والمنكرات، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الاسباب بالمسببات كالفقر والاسقام والامراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الاخرة ما دون الشرك به. قال: وهذا المعنى في تفسير الاية صحيح في نفسه، ويترتب عليه أن الامن المطلق من الخوف من عقاب الله الدينى والدنيوى أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لاحد من المكلفين دع خوف الهيبة والاجلال الذى يمتاز به اهل الكمال. قال: وأما معنى الاية على فرض عدم الاطلاق فهو أن الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك بالله اولئك لهم الامن دون غيرهم من العقاب الدينى المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء. قال: وظاهر الاية هو العموم واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روى: أن الاية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ فأخبرهم صلى الله عليه وآله: أن المراد به الشرك، وربما أشعر بذلك السياق وكون الموضوع هو الايمان، انتهى ملخصا. وفيه مواقع للاشكال فأولا: أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى العموم فإن الذى فهموه من الظلم هو ما يساوى المعصية والذى
قرره هو أعم من ذلك. وثانيا: أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شئ ثم حكم بصحة تفسير الاية به أجنبي عن مدلول الاية فإن الاية في مقام بيان أن الامن والاهتداء من آثار الايمان ولكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره ويفسد أثره، وهذا الظلم إنما هو المعصية بوجه، وأما ما لا يعد معصية كاكل الغذاء المضر بصحة
[ 204 ]
البدن خطاء فمن المعلوم انه لا يفسد اثر الايمان من الامن والاهتداء، وليس المراد بالاية بيان آثار الظلم أيا ما كانت ولو مع قطع النظر عن الايمان فإنه تعالى قال: (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم) فجعل الايمان هو الموضوع وقيده بعدم الظلم وجعل اثره الامن والاهتداء، ولم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الاية مسرودة لبيان آثاره. فالاية سيقت لبيان الاثارالتى تترتب على الايمان الصحيح، وأما الظلم بما له من العرض العريض وما له من الاثر المترتب عليه فالاية غير متعرضة لذلك البتة، فقوله: (وهذا المعنى في تفسير الاية صحيح في نفسه) فاسد البتة. وثالثا: أن قوله: (ويترتب عليه ان الامن المطلق لا يصح لاحد من المكلفين) صريح في أن الاية لا مصداق لها بالنظر إلى الاطلاق الذى قرره، ولازمه سقوط الكلام عن الفائدة، وأى فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا ؟. ورابعا أن الذى اختاره في معنى الاية أن المراد به هو الظلم الخاص وهو الشرك ليس بمستقيم فإن الاية من جهة عموم لفظها وإن دلت على وجوب كون الايمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر اثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص، وأما راده المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة وهو ظاهر. واما ما اشار إليه من قوله صلى الله عليه وآله: (إنما هو الشرك) فليس بصريح في ان
الشرك مراد لفظي من الاية وإنما هو الانطباق، وسيجئ البحث عن الحديث في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) الخ، في الاشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم وتعظيم لامرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها. وأما قوله: (نرفع درجات من نشاء) فالدرجات - كما قيل - هي مراقى السلم ثم توسع فيها فاطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم والايمان والكرامة والجاة
[ 205 ]
وغير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية وفضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم والتقوى وغير الكسبية كالنبوة والرسالة والرزق وغيرها. والدرجات لكونها نكرة في سياق الايجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر ألى خصوص المورد هو درجات العلم والهداية فقد رفع الله ابراهيم عليه السلام بهدايته وإراءته ملكوت السماوات والارض وإيتائه اليقين والحجة القاطعة، والجميع من العلم، وقد قال تعالى في درجات العلم: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة: 11). ثم ختم الاية بقوله: (إن ربك حكيم عليم) لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى وعلم كما أن الحجج التى آتاها رسول الله صلى الله عليه وآله المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته وعلمه تعالى، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي صلى الله عليه وآله وتثبيت المعارف المذكورة فيه. (بحث روائي) في العيون: حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشى رضى الله عنه قال: حدثنا
أبى عن حمدان بن سليمان النيشابوري عن على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك أن الانبياء معصومون ؟ قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله عزوجل في ابراهيم: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى). فقال الرضا عليه السلام: أن ابراهيم وقع إلى ثلاثه أصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس وذلك حين خرج من السرب الذى أخفى فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال: هذا ربى على الانكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قال: لا أحب الافلين لان الافول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربى على الانكار والاستخبار فلما أفل قال: لئن لم يهدنى ربى
[ 206 ]
لاكونن من القوم الضالين، فلما اأبح رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى هذا أكبر من الزهرة والقمر على الانكار والاستخبار لا على الاخبار والاقرار فلما أفلت قال للاصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس: يا قوم إنى برئ مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين. وإنما أراد ابراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أن العبادة لا يحق - لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما يحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والارض، وكان ما احتج به على قومه مما إلهمه الله عزوجل وآتاه كما قال عزوجل: وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه. فقال المأمون: لله درك يا بن رسول الله. أقول وتأييد الرواية بمضمونها عدة من الامور التى استفدناها من سياق الايات الكريمة ظاهر، وسيأتى أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات، وأما ما في الرواية من كون قول ابراهيم عليه السلام: (هذا ربى) واقعا على سبيل الانكار والاستخبار دون الاخبار والاقرار فوجه من الوجوه التى تقدمت في تفسير الايات أورده عليه السلام في قطع حجة
المأمون، ولا ينافى صحة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي. وكذا قوله: (لان الافول من صفات المحدث) الخ، ليس بظاهر في أن الحجة مأخوذه من الافول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم الحب وملاكه كون الافول من صفات المحدث التى لا ينبغى أن يتعلق بها حب فافهم. وفي كمال الدين: ابى وابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: كان أبو ابراهيم منجما لنمرود ابن كنعان، وكان نمرود لا يصدر إلا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من الليالى فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتى هذه عجبا فقال له نمرود: ما هو ؟ فقال: رأيت مولودا يولد في ارضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به فعجب من ذلك نمرود وقال: هل حمل به النساء ؟ فقال: لا، وكان فيما أوتى من العلم أنه سيحرق بالنار، ولم يكن أوتى ان الله سينجيه. قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك إمرأة إلا جعلت بالمدينة حتى لا يخلص إليهن الرجال، قال: وباشر أبو ابراهيم امرأته فحملت به فظن انه صاحبه فأرسل إلى
[ 207 ]
نساء من القوابل - لا يكون في ا لبطن شئ إلا علمنا به فنظرنا إلى أم ابراهيم فألزم الله تبارك وتعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئا في بطنها. فلما وضعت أم ابراهيم اراد ابوه ان يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله ولا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب لبنا، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمة، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث.
ثم إن أمه قالت لابيه: لو أذنت لى أن أذهب إلى ذلك الصبى فأراه فعلت قال: ففعل (1) فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم وإذا عيناه تزهران كأنهما سراجان فأخذته وضمته إلى صدرها وأرضعته ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبى فقالت: قد واريته في التراب. فمكثت تعتل فتخرج في الحاجة، وتذهب إلى إبراهيم فتضمه إليها اصل لازم وترضعه ثم تنصرف فلما تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه، وصنعت كما كانت تصنع فلما أرادت الانصراف أخذ ثوبها فقالت له: مالك ؟ فقال: اذهبي بى معك فقالت له: حتى استأمر أباك فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لامره - حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، وأظهر الله قدرته فيه. أقول: وروى في قصص الانبياءعن الصدوق عن أبيه وابن الوليد ثم ساق السند إلى ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود وكان لا يصدر إلا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتى عجبا قال: ما هو ؟ قال: إن مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، وكان تارخ وقع على أم ابراهيم فحملت ثم ساق الحديث إلى آخره. وقد حمل وحدة السند في الحديثين، ووحدة المضمون إلا في إبى ابراهيم صاحب
(1) - أي فعل الاذن أي أذن لها. (*)
[ 208 ]
البحار أن قال: الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه، وإنما غيره ليستقيم على أصول الامامية، انتهى. ثم حمل الرواية ما في مضمونها من الروايات الدالة على أن آزر الوثني كان والدا لابراهيم صلبيا على التقية. وقد روى مثل المضمون السابق القمى في تفسيره والعياشي في تفسيره وروى من طرق أهل السنة عن مجاهد، ورواه الطبري في تاريخه والثعلبي في قصص الانبياء عن
عامة السلف وأهل العلم. وكيف كان فالذي ينبغى أن يقال: أن علماء الحديث والاثار كأنهم مجمعون على أن ابراهيم عليه السلام كان في بادى عمره قد أخفى في سرب خوفا من أن يقتله الملك نمرود، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه وقومه في أمر الاصنام والكوكب والقمر والشمس وحاج الملك في دعواه الربوبية، وقد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد ه ذا المعنى. وأما أبو ابراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - وآزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الاعرج وصفه به ابراهيم. وذكروا أن هذا المشرك الذى سماه القرآن أبا ابراهيم وذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبى ووالده الحقيقي ووافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث والكلام من أهل السنة، وخالفهم جمع منهم، والشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض المحدثين حيث أو دعوا تلك الاخبار كتبهم، وعمدة ما احتج به القائلون بأن آزر المشرك لم يكن والد ابراهيم، وإنما كان عمه أو جده لامه الاخبار الواردة من طرق الفريقين في أن آباء النبي صلى الله عليه وآله كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك، وقد طالت المشاجرة بين الفريقين. أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيرى وإن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده واستنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك فقد تقدم أن الايات دالة على أن آزر المشرك الذى يذكره الله تعالى في هذه الايات من سورة الانعام لم يكن والدا حقيقيا لابراهيم عليه السلام.
[ 209 ]
فالروايات الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، ولا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية ان صح الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: وكذلك نرى إبراهيم الاية قال: حدثنى أبى عن
إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كشط له عن الارض ومن عليها، وعن السماء ومن عليها، والملك الذى يحملها، والعرش ومن عليه، وفعل ذلك برسوله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام. أقول وروى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان وأبى بصير عن الصادق عليه السلام وبطريق عن عبد الرحيم عن الباقر عليه السلام ورواه العياشي عن زرارة وأبى بصير عن الصادق عليه السلام وعن زرارة وعبد الرحيم القصير عن الباقر عليه السلام ورواه في الدر المنثورعن ابن عباس ومجاهد والسدى من مفسري السلف، وسيأتى في الكلام على العرش حديث على عليه السلام المروى في الكافي في معنى العرش وفيه قال: والذين يحملون العرش ومن حوله - هم العلماء الذين حملهم الله علمه قال: وهو الملكوت الذى أراه الله اصفياءه، وأراه خليله عليه السلام فقال: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين الحديث. وفي الحديث تفسير سائر الاخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت وتأييد لما قدمناه في البيان السابق، وسيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الاعراف إن شاء الله تعالى. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: لما رأى ملكوت السماوات والارض التفت فرأى رجلا يزنى فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: أن دعوتك مجابه فلا تدع على عبادي فأنى لو شئت لم أخلقهم إنى خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني ولا يشرك بى شيئا، وعبد يعبد غيرى فلن يفوتنى، وعبد يعبد غيرى فاخرج من صلبه من يعبدني.
[ 210 ]
أقول: والرواية مستفيضة ورواه في الكافي مسندا عن أبى بصير عنه عليه السلام ورواه الصدوق في العلل عنه عليه السلام والطبرسي في الاحتجاج عن العسكري عليه السلام ورواه في الدر المنثورعن ابن مردويه عن على عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن أبى الشيخ وابن مردويه والبيهقي
في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عدة من المفسرين موقوفا. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: في إبراهيم إذ رأى كوكبا قال: إنما كان طالبا لربه ولم يبلغ كفرا، وإنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته. وفي تفسير القمى قال: وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول إبراهيم: (هذا ربى) هل أشرك في قوله: هذا ربى ؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وإنما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك. أقول و: ويقابل الذى هو طالب من تم له البيان وقامت له الحجة الواضحة فهو غير طالب، وليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك. وفي تفسير العياشي عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيابة يسال أبا عبد الله عليه السلام عن قول إبراهيم: (هذا ربى) وأنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه، وهو من غيره شرك. وفيه عن محمد بن حمران قال: سالت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله - فيما أخبر عن إبراهيم: (هذا ربى) قال: لم يبلغ به شيئا، اراد غير الذى قال. أقول: المراد به ظاهرا أنه أراد به أن قوله: (هذا ربى) لا يتعدى مفهوم نفسه وليس له وراء ذلك معنى يحكى عنه أي إنه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الاشارة إليه. في الدر المنثورفى قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الاية، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والدار قطني في الافراد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الاية: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه ؟
[ 211 ]
قال: إنه ليس الذى تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) ؟ إنما هو الشرك. أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. وفي الحديث دلالة على أن سورة الانعام نزلت بعد سورة لقمان، وقد تقدم أن كون المراد هو الشرك إنما هو الانطباق بحسب المورد والشرك ذنب لا تتعلق به مغفره أصلا بخلاف غيره كائنا ما كان، والدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروات. وفيه أخرج أحد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فانتهى الينا فسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أين أقبلت ؟ فقال: من أهلى و ولدى وعشيرتي أريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علمني ما الايمان ؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال: قد أقررت. ثم ان بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى ووقع الرجل على هامته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا من الذين عملوا قليلا وأجروا كثيرا، هذا من الذين قال الله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) إنى رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة فعلمت أن الرجل مات جائعا. أقول: ورواه أيضا عن الحكيم الترمذي وابن ابى حاتم عن ابن عباس نحوه، ورواه العياشي في تفسيره عن جابر الجعفي عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وآله مثله. وفيه أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمى ان رجلا سال عنها النبي صلى الله عليه وآله فسكت حتى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلا قليلا حتى قاتل فاستشهد فقال النبي صلى الله عليه وآله هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وفيه أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن على بن ابى طالب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: نزلت هذه الاية في إبراهيم وأصحابه خاصة ليس في هذه الامة.
أقول: والرواية لا توافق بظاهرها الاصول الكلية المستخرجة من لكتاب والسنة
[ 212 ]
فإن الاية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون امة كالاحكام الفرعية التشريعية التى ربما تختص بزمان دون زمان، وأما الايمان بما له من الاثر على مراتبه، وكذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الاثر في الايمان فإنما ذلك أمر مودع في الفطرة الانسانية لا يختلف باختلاف الازمنة والامم. وقال بعض المفسرين في توجيه الحديث: لعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الاخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، ولعل سبب هذا - أن صح - ان الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الاحوال الشخصية والادبية وغيرها. وقد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذى كان في عهد إبراهيم وباركه وإخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده اسماعيل لا في قومه الكلدانيين وأما هذه الامة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصى على قدرها لانهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على اقامتها، انتهى. وفي كلامه من التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف وسبع مائة قبل المسيح، وإبراهيم كان يعيش على رأس الالفين قبل المسيح تقريبا كما ذكره. وحمورابى هذا وإن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين وضعها وعمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء وإنفاذ وهى أقدم القوانين المدنية الموضوعة على ما قيل إلا أنه كان وثنيا، وقد استمد بعدة من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الاثار المكشوفة في خرائب بابل، والالهة التى ذكرها
في بيانه الموضوع في ختام القانون، وشكرها في أن آتته الملك العظيم ووفقته لبسط العدل ووضع الشريعة واستعان بها واستمد منها في حفظ شريعته عن الزوال والتحريف هي (ميروداخ) إله الالهة، وأى إله القانون والعدل والاله (زماما) والاله (إشتار) إله الحرب و (شاماش) الاله القاضى في السماء والارض و (سين) إله السماوات، و (حاداد) إله الخصب و (نيرغال) إله النصر و (بل) إله القدر والالهة (بيلتيس) والالهة (نينو)
[ 213 ]
والاله (ساجيلا) والذى ذكره من أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية المدنية (الخ) يكذبه أن هذا يحكى عن لسان إبراهيم عليه السلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم ويذكر أن الله أوحى إليه فعل الخيرات وإيتاء الزكاة كما في سورة الانبياء، وأنه شرع الحج وأباح لحوم الانعام كما في سورة الحج، وكان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، وكان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الانعام وغيرها، ومن شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج ووردت الاخبار أنه عليه السلام شرع الحنيفية وهى عشر خصال: خمس في الرأس وخمس في البدن ومنها الختنة، وكان يحيى بالسلام كما في سورة هود ومريم. وقد قال الله تعالى: ملة أبيكم إبراهيم) (الحج: 78) وقال: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا) (البقرة: 135) فوصف هذا الدين على ما له من الاصول والفروع بأنه ملة إبراهيم عليه السلام، وهذا وإن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الاحكام كان مشرعا في زمن إبراهيم عليه السلام بل الامر بالعكس كما يدل عليه قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى: 13) إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى أصل أو أصول كلية تهدى إليها الفطرة مما ترتضيه وتأمر به أو لا ترتضيه وتنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججا على الشرك وجملا من الاوامر والنواهي الكلية مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله: (قل
إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم، دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (الانعام: 161). ولو كان الامر على ما ذكره أن الله لم يشرع لابراهيم عليه السلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدنى الدائر وهو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوبة من عند الله، وكانت من أجزاء دين ابراهيم عليه السلام بل الدين الاسلامي الذى شرع في القرآن لانه هو ملة ابراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الالهية ونوعا من الكتب السماوية. والحق الذى لا مرية فيه أن الوحى الالهى كان يعلم الانبياء السالفين وأممهم
[ 214 ]
أصولا كلية في المعاش والمعاد كأنواع من العبادة وسننا كلية في الخيرات والشرور يهتدى إلى تشخيصها الانسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة والتجنب عن الظلم والاسراف وإعانة المستكبرين ونحوها، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الذى جهزوا به، والدعوة إلى أخذ الخير والصلاح ورفض الشر والفحشاء والفساد سواء كانت المجتمعات التى دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة والطغاة أو رأفة العدول من السلاطين وسياستهم المنظمة. ولم يشرع تفاصيل الاحكام قبل ظهور الدين الاسلامي إلا في التوراة وفيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى عليه السلام وكانت محفوظة في بنى إسرائيل فقدوها في فتنه بخت نصر التى أفنت جمعهم وخربت هيكلهم ولم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الاسارة إلى بابل فاستعبدوا وأسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل وأعتقهم من الاسر وأجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، وأن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها ونسيت متون معارفها، وقد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين.
ومع هذا الحال كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع حمورابي، والقرآن إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها، وبعد ذلك كله لا مانع من كون بعض القوانين غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة والاحكام الحقة. وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: هو الشرك. وفيه بطريق آخر عن أبى بصير عنه عليه السلام. في الاية قال: بشك. أقول ورواه العياشي أيضا في تفسيره عن أبى بصير عنه عليه االسلام. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول الله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس إيمانه بظلم، ثم قال: اولئك الخوارج وأصحابهم. وفيه عن يعقوب بن شعيب عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال: الضلال وما فوقه.
[ 215 ]
أقول كأن المراد بالضلال في الرواية الشرك الذى هو أصل كل بما ظلم فوقه وما يزيد عليه من المعاصي والمظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي، وبما فوقه الشرك الذى هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال. والروايات - كما ترى - تتفنن في تفسير الظلم في الاية فتارة تفسرها بالشرك وتارة بالشك وتارة بما عليه الخوارج، وفي بعضها: أن منه ولاية أعدائهم، وكل ذلك من شواهد ما قدمنا أن الظلم في الاية مطلق وهو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الافهام. (كلام في قصه ابراهيم عليه الاسلام وشخصيته) وفيه أبحاث مختلفه قرآنية واخرى علمية وتاريخية وغير ذلك.
1 - قصة ابراهيم عليه السلام في القرآن: كان إبراهيم عليه السلام في طفوليته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم ولحق بأبيه فوجده وقومه يعبدون الاصنام فلم يرتض منه ومنهم ذلك وقد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق وإراءة ملكوت كل شئ وبالجملة وبالقول الحق والعمل الصالح. فأخذ يحاج أباه في عبادته الاصنام ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه واتباعه حتى يهديه إلى مستقيم الصراط ويبعده من ولاية الشيطان، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى زبره وطرده عن نفسه وأوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء والرغبة عنها. فتلطف إبراهيم عليه السلام إرفاقا به وحنانا عليه وقد كان ذا خلق كريم وقول مرضى فسلم عليه ووعده أن يستغفر له ويعتزله وقومه وما يعبدون من دون الله (مريم: 41، 48) وقد كان من جانب آخر يحاج القوم في امر الاصنام (الانبياء: 51 - 56، الشعراء: 69 - 77، الصافات: 83 - 87) ويحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس والقمر والكوكب في أمرها حتى ألزمهم الحق وشاع خبره في الانحراف عن الاصنام والالهة (الانعام: 74 82) حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد واعتل هوبالسقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم فدخل بيت الاصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا وعلموا بما حدث بالهتهم وفتشوا عمن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
[ 216 ]
فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أأنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فأسالوهم إن كانوا ينطقون، وقد كان أبقى كبير الاصنام ولم يجذه ووضع الفاس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذى كسر سائر الاصنام. وإنما قال عليه السلام ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك وهم يعلمون أنه جماد
لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتى يعترفوا بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور، ولذلك لما سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم إنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون. قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا وأسعروا فيه جحيما من النار وقد تشارك في أمره الناس جميعا وألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه وسلاما وأبطل كيدهم (الانبياء: 57 - 70، الصافات: 88 - 98) وقد أدخل في خلال هذه الاحوال على الملك، وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت فغالطه الملك وقال: أنا أحيى وأميت كقتل الاسير واطلاقه فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر (البقرة: 258). ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة وقد سمى الله تعالى منهم لوطا ومنهم زوجته التى هاجر بها وقد كان تزوج بها قبل الخروج من الارض إلى الارض المقدسة (1). ثم تبرا هو عليه السلام من معه من المؤمنين من قومهم وتبرأ هو من آزر الذى كان
(1) الدليل على ايمان جمع من قومه به قوله تعالى: (قد كان لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه إذ قالو لقومهم انا براء منكم) (الممتحنة: 4) ولدليل على قبل الخروج إلى الارض المقدسة سواله الوله الصالح من ربه في قوله: (وقال انى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين: 100). (*)
[ 217 ]
يدعوه أبا ولم يكن بوالده الحقيقي (1) وهاجر ومعه زوجته ولوط إلى الارض المقدسة
ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: 4 الانبياء: 71) وبشره الله سبحانه هناك بإسماعيل وباسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقد شاخ وبلغه كبر السن فولد له اسماعيل ثم ولد له إسحاق وبارك الله سبحانه فيه وفي ولديه وأولادهما. ثم إنه عليه السلام بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة وهى واد غير ذى زرع فأسكن فيه ولده اسماعيل وهو صبى ورجع إلى الارض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك واجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك وبنيت بذلك بلدة مكة. وكان عليه السلام ربما يزور إسماعيل في إرض مكة قبل بناء مكة والبيت وبعد ذلك (البقرة: 126، إبراهيم: 35 - 41) ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل وهى أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا (البقرة: 127 - 129، آل عمران: 96 - 97) وأذن في الناس بالحج وشرع نسك الحج (الحج 26: 30). ثم أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين نودى أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفداه الله سبحانه بذبح عظيم (الصافات: 101 - 107). وآخر ما قص القرآن الكريم من قصصه عليه السلام أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة أبراهيم (آية 35 - 41) وآخر ما ذكر فيها قوله عليه السلام: (ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). منزلة إبراهيم عند الله سبحانه وموقفه العبودي: أثنى الله تعالى على إبراهيم عليه السلام في كلامه أجمل ثناء وحمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، وكرر ذكره باسمه في نيف وستين موضعا من كتابه وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئا كثيرا. وهاك جملا من ذلك: أتاه الله رشده من قبل (الانبياء: 51) واصطفاه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصالحين إذ قال
له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (البقرة: 130 - 131) وهو الذى وجه وجهه إلى ربه
(1) وقد تقدم استفادة ذالك من دعائه المنقول في سورة ابراهيم (*).
[ 218 ]
حنيفا وما كان من المشركين (الانعام: 79) وهو الذى اطمأن قلبه بالله وأيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات والارض (البقرة: 260، الانعام: 75). واتخذه الله خليلا (النساء: 125) وجعل رحمته وبركاته عليه وعلى أهل بيته ووصفه بالتوفية (النجم: 37) ومدحه بأنه حليم أواه منيب (هود: 73 - 75) ومدحه أنه كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتاه في الدنيا حسنة وإنه في الاخرة لمن الصالحين النحل: 120 - 122). وكان صديقا نبيا (مريم: 41) وعده الله من عباده المؤمنين ومن المحسنين وسلم عليه (الصافات: 83 - 111) وهو من الذين وصفهم بأنهم أولوا الايدى والابصار وأنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار (ص: 45 - 46). وقد جعله الله للناس إماما (البقرة: 124) وجعله أحد الخمسة أولى العزم الذين آتاهم الكتاب والشريعة (الاحزاب: 7، الشورى: 13، الاعلى: 18 - 19) وآتاه الله العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: 54، الانعام: 74 - 90) الزخرف: 28) وجعل في ذريته النبوة والكتاب (الحديد: 26) وجعل له لسان صدق في الاخرين (الشعراء: 84، مريم: 50) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الالهية ومقامات العبودية ولم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد من الانبياء والرسل المكرمين وكراماتهم ما فصل من نعوته وكراماته عليه السلام. وليراجع في تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به فيما تقدم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به ههنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الابحاث. وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم
بالاسلام كما سماه عليه السلام ونسبه إليه قال تعالى: ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) (الحج: 78) وقال: (قل اننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (الانعام: 161). وجعل الكعبة البيت الحرام الذى بناها قبلة للعالمين وشرع مناسك الحج وهى في حقيقة أعمال ممثلة لقصه إسكانه ابنه وام ولده وتضحية ابنه إسماعيل وما سعى به إلى ربه والتوجه له وتحمل الاذى والمحنة في ذاته كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله تعالى: (وإذ
[ 219 ]
جعلنا البيت مثابة للناس) الاية (البقرة: 125) في الجزء الاول من الكتاب. 3 - أثره المبارك في المجتمع البشرى: ومن مننه عليه السلام السابغه أن دين التوحيد ينتهى إليه أينما كان وعند من كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، وينتهى إلى الكليم موسى بن عمران عليه السلام وينتهى نسبه إلى اسرائيل يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليه السلام، ودين النصرانية وينتهى إلى المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام وهو من ذرية ابراهيم عليه السلام، ودين الاسلام والصادع به هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وينتهى نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن ابراهيم الخليل عليهما السلام، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك، ويشاهد في الاسلام من شرائعه الصلاة والزكاة والحج وإباحة لحوم الانعام والتبرئ من أعداء الله، والسلام، والطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس (1) منها في الرأس وخمس منها في البدن: أما التى في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال وأما التى في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء. والبحث المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشرى كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الاشارة إليه في المباحث المتقدمة، فلابراهيم عليه السلام الايادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.
4 - ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم: قالت التوراة: (وعاش تارح (أبو إبراهيم) سبعين سنة وولد أبرام وناحور وهاران، وهذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام وناحور وهاران، وولد هاران لوطا، ومات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في (أور) الكلدانيين واتخذ أبرام وناحور لانفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام (ساراى) واسم امرأة ناحور ملكه بنت هاران أبى ملكة وأبى بسكة، وكانت ساراى عاقر ا ليس لها ولد وأخذ تارح أبرام ابنه ولوطا بن هاران ابن ابنه، وساراى كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين، ومات تارح في حاران. قالت التوراة: وقال الرب لابرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت
(1) رواهافى مجمع البيان نقلا عن تفسير القمى. (*)
[ 220 ]
أبيك إلى الارض التى أريك فأجعلك أمة عظيمة واباركك واعظم اسمك وتكون بركة وابارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، ويتبارك فيك جميع قبائل الارض، فذهب أبرام كما قال له الرب، وذهب معه لوط، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران فأخذ أبرام ساراى امرأته ولوطا ابن أخيه وكل مقتنياتهما التى اقتنيا والنفوس التى امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان. واجتاز أبرام في أرض إلى مكان (شكيم) إلى (بلوطه مورة) وكان الكنعانيون حينئذ في الارض، وظهر الرب لابرام وقال: لنسلك اعطى هذه الارض فبنى هناك مذبحا للرب الذى ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي (بيت إيل) ونصبت خيمته وله (بيت إيل) من المغرب و (عاى) من المشرق فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب، ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب. وحدث جوع في الارض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك - لان الجوع في الارض
كان شديدا، وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته: إنى قد علمت أنك أمراة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلوننى ويستبقونك، قولى: إنك اختى ليكون لى خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل أبرام إلى مصرأن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون فاخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيرا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء واتن وجمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراى امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام وقال: ما هذا الذى صنعت لى ؟ لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك ؟ لما ذا قلت: هي اختى أخذتها لتكون زوجتى ؟ والان هو ذا امرأتك خذها واذهب، فأوصى عليه رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له. ثم ذكرت التورات: أن أبرام خرج من مصر ومعه سارى ولوط ومعهم الاغنام والخدم والاموال العظيمه ووردوا (بيت أيل) و (عاى) ثم بعد حين تفرق هوو لوط لان الارض ما كانت تسعهما فسكن أبرام كنعان، وكان الكنعانيون والفرزيون ساكنون هناك، ونزل لوط أرض سدوم.
[ 221 ]
ثم ذكرت: أنه في تلك الايام نشبت حرب في أرض سدوم بين (أمرافل) ملك شنعار ومعه انهزاما فاحشا وهربوا من الارض بعد ما قتل من قتل منهم ونهبت أموالهم وسبيت نسائهم وزررايهم، وكان فيمن أسر لوط وجميع أهله ونهبت أمواله قالت التوراة: فأتى من نجى وأخبر أبرام العبراني وكان ساكنا عند (بلوطات ممري) الامورى أخاه سى جر غلمانه المترنين والدان بيته ثلاث مائة وثمانية عشر وتبعهم إلى (دان) وانقسم عليهم هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى (حوبة) التى عن شمال دمشق واسترجع كل الاموال واسترجع لوطا أخاه أيضا وأملا كه والنساء أيضا والشعب. فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة (كدر لعومر) والملوك الذين معه الى عمق (شوى) الذي هو عمق الملك، وملكي (1) (شاليم) أخرج خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى وباركه وقال: مبارك أبرام من الله العلى مالك السماوات
والارض ومبارك الله العلى الذى أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشرا من كل شئ. وقال ملك سدوم لابرام: أعطني النفوس، وأما ألاملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدى إلى الرب الاله العلى ملك السماء والارض لا آخذن لا خيطا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول: أناأغنيت أبرام ليس لى غير الذى أكله الغلمان وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معى (عابر) و (أسلول) و (ممرا) فهم يأخذون نصيبهم. إلى أن قالت: وأما ساراى فلم تلد له وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لابرام: هو ذا الرب قد امسكني عن الولادة ادخل على جاريتي لعلى ارزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراى فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لاقامة أبرام في أرض كنعان وأعطتها لابرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت. ثم ذكرت: أن هاجر لما حبلت حقرت ساراى واستكبرت عليها فشكت ساراى
(1) اسم لاحد الملوك المعاصر له عليه السلام. (*)
[ 222 ]
ذلك إلى أبرام ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيدتها وأخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا وتدعو اسمه إسماعيل لان الرب قد سمع لمذلتها، وأنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضادونه، وولدت هاجر لابرام ولدا وسماه أبرام إسماعيل وكان أبرام ابن ست وسبعين سنة لمات ولدت هاجر اسماعيل لابرام. قالت التوراة: ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لابرام وقال له: أنا الله القدير سرأمامى وكن كاملا فأجعل عهدي بينى وبينك وأكثرك كثيرا جدا فسقط أبرام على وجهه وتكلم الله معه قائلا أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الامم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك ابراهيم لانى أجعلك أبا لجمهور من الامم وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك امما وملوك منك يخرجون، واقيم عهدي بينى وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا لاكون إلها لك ولنسلك من بعدك
وأعطى لك ولنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا واكون إلههم. ثم ذكرت: أن الرب جعل في ذلك عهدا بينه وبين إبراهيم ونسله أن يختتن هو وكل من معه ويختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وختن ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة وسائر الذكور من بنيه وعبيده قالت التوراة: وقال الله لابراهيم: ساراى إمرأتك لا تدعو اسمها ساراى بل اسمها سارة وأباركها وأعطيت أيضا منها ابنا، وأباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه: وهل يولد لابن مائة سنة ؟ هل تلد سارة وهى بنت تسعين سنة ؟. وقال إبراهيم لله: ليت اسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة إمرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، أثنا عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة، ولكن عهدي اقيمه مع إسحاق الذى تلده سارة في هذا الوقت في السنة الاتية، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم. ثم ذكرت قصة نزول الرب مع الملكين لاهلاك أهل سدوم قوم لوط وأنهم وردوا على إبراهيم فضافهم وأكلوا من الطعام الذى عمله لهم من عجل قتله والزبد واللبن اللذين
[ 223 ]
قدمهما إليهم ثم بشروه وبشروا سارة بإسحاق وذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه وكان بعده هلاك قوم لوط. ثم ذكرت أن إبراهيم انتقل إلى أرض (حرار) وتغرب فيها وأظهر لملكه (أبى مالك) أن سارة اخته فأخذها الملك منه فعاتبها الرب في المنام فأحضر إبراهيم وعاتبه على قوله أنها اختى فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل واعترف أنه في الحقيقة اخته من أبيه دون امه تزوج بها فرد إليه سارة وأعطاهما مالا جزيلا (نظير ما قص في فرعون). قالت التورات: وافتقد الرب سارة كما قال وفعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت سارة وولدت لابراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذى تكلم الله عنه ودعا إبراهيم اسم
ابنه الذى ولدته له سارة إسحاق، وختن إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الله، وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، وقالت سارة: فقد صنع إلى الله ضحكا كل من يسمع يضحك لى، وقالت من قال لابراهيم: سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق. ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذى ولدته لابراهيم يمزح فقالت لابراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحاق فقبح الكلام جدا في عينى ابراهيم لسبب ابنه فقال الله لابراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه بإسحاق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لانه نسلك. فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعا أياهما على كتفها والولد - وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر سبع ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الاشجار ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لانها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: ما لك يا هاجر ؟ لا تخافى لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي واحملي الغلام وشدي يدك به لانى سأجعله امة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملات القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في
[ 224 ]
البرية، وكان ينمو رامى قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له امه زوجة من أرض مصر (1). قالت التوراة: وحدث بعد هذه الامور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الذى تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذى أقول لك، فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق معه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب إلى
الموضع الذى قال له الله، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: إجلسا أنتما هينها مع الحمار، أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ونرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه وأخذ بيده النار والسكين فذهبا كلاهما معا، وكلم إسحاق أباه إبراهيم وقال له: يا أبى فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة ؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معا. فلما أتيا إلى الموضع الذى قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين لذبح ابنه فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم ! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا لانى الان علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى فرفع ابراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب ابراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه فدعا ابراهيم اسم ذلك الموضع (يهوه برأه) حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب (برى)، ونادى ملاك الرب ابراهيم ثانية من السماء وقال: بذاتى أقسمت يقول الرب: إنى من أجل أنك فعلت هذا الامر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا - كنجوم السماء وكالرمل الذى على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك في نسلك جميع أمم الارض من أجل أنك سمعت لقولي ثم رجع ابراهيم إلى غلاميه فقاموا وذهبوا معا إلى بئر سبع وسكن ابراهيم في بئر سبع.
[ 225 ]
ثم ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثم موت سارة وهى بنت مائة وسبع وعشرين في حبرون، ثم ازدواج ابراهيم بعدها بقطورة وإيلادها عدة من البنين، ثم موت ابراهيم وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن ابنيه اسحاق وإسماعيل إياه
في غار (مكفيلة) وهو مشهد الخليل اليوم. فهذه خلاصة قصص ابراهيم عليه السلام وتاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين الاصحاح الحادى عشر - الاصحاح الخامس والعشرون) وعلى الباحث الناقد أن يطبق ما ورد منه فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه. 5 - الذى تشتمل عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها والتناقض بين أطرافها مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت به أيدى التحريف. فمن عمدة ما فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره وحجاجاته قومه وما قاساه منهم من المحن والاذايا، وهى طلائع بارقة لماعة من تاريخه عليه السلام. ومن ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرفة وجعله حرما آمنا وتشريعه الحج، ولا يرتاب أي باحث دينى ولا ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذى لا يزال قائما على قواعده منذ أربعه آلاف سنة من أعظم الايات الالهية التى تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه وآياته، وتستحفظ كلمة الحق دهرا طويلا، وهو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا وهدى للعالمين. وليس إهمال ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة ومؤلفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة ؟ وإحصاء ما بناه من المذابح ومذبح بناه بأرض شكيم، وآخر بشرقي بيت إيل و، آخر بجبل الرب. ثم الذى وصفوا به النبي الكريم اسماعيل: أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس ويضادونه، ولم يكن له من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضره أبيه نما رامى قوس ! يريدون ليطفئوا نور الله بافواههم والله متم نوره. ومن ذلك: ما نسبته إليه مما لا يلائم مقام النبوة ولا روح التقوى والفتوة
[ 226 ]
كقولها: إن ملكى صادق ملك (شاليم) اخرج إليه خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى وباركه (1). ومن ذلك قولها: أن ابراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة اخته ووصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها: قولى: إنك اختى ليكون لى خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك، وأظهر تارة اخرى لابي مالك ملك حرار أنها اخته، فأخذها للزوجية فرعون تارة، وأبى مالك اخرى، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله: (إنها اختى) مرة بأنها اختى في الدين، واخرى أنها ابنة أبى من غير امى فصارت لى زوجة. وأيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (وحاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لامثال فرعون وأبى مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهى ذات بعل وينال هو بذلك جزيل العطاء ويستدرهما بما عندهما من الخير !. على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبى مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو اكثر، والعادة تقضى أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها ووضاءة جمالها، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا. وربماوجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففى صحيحي البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لم يكذب ابراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات
(1) - ربما وجهوا ان ملكى صادق هذا كاهن الرب هو (امراقل) ملك شنعار النذكور في اول القصة وهو (حمورابي) الملك صاحب الشريعة الذى هو احد السلالة الاولى من ملوك بابل، وقد اختلف في تاريخ ملكه اختلافا شديدا لا ينطبق اكثر ما قيل فيه زمان حياة ابراهيم وهو (200) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الاسلام انه تملك بابل سنة 2287 - 2232 ق م وفى شريعة حمورابي نقلا عن اقدم شرائع العالم للاستاذ ف. ادوارد ان سنى ملكه 2205 - 2167 ق. م، وفى قاموس اعلام الشرق والغرب انه تولى سلطنة بابل سن 17278 - 1686 ق. م وفى قاموس الكتاب المقدس اته تولاها سنة
1975 - 1920 ق م. واوضح ما ينافى هذا الحدث ان الذى اكتشفو من النصب في خرائب بابل وعليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين، ويدل على كون حمورابي من الوثنيين، ولا يستقيم عليه ان يكون كاهنا للرب. (*)
[ 227 ]
اثنتين في ذات الله: قوله (إنى سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبنى عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختى فإنك اختى في الاسلام فإنى لا أعلم في الارض مسلما غيرك وغيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها ان تكون إلا لك فأرسل إليها فاتى بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك ان بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله ان يطلق يدى ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت اشد من القبضتين (1) الاوليين فقال: ادعى الله ان يطلق يدى فلك الله ان لا أضرك ففعلت فاطلقت يده ودعا الذى جاء بها فقال له إنك إنما اتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من ارضى واعطها هاجر. قال فأقبلت تمشى فلما رآها ابراهيم عليه السلام انصرف وقال لها: مهيم فقالت: خيرا كف الله يد الفاجر واخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك امكم يا بنى ماء السماء. وفي صحيح البخاري بطرق كثيرة عن انس وابى هريرة، وفي صحيح مسلم عن ابى هريرة و حذيفة، وفي مسند احمد عن انس وابن عباس واخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبراني عن عبادة بن الصامت وابن ابى شيبة عن سلمان، والترمذي عن ابى هريرة، وابو عوانة عن حذيفة عن ابى بكر حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وآله يوم القيامة، وهو حديث طويل فيه ان اهل الموقف يأتون الانبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، وكلما اتوا نبيا وسألوه
الشفاعة، ردهم إلى من بعده واعتذر بشئ من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث: انهم يأتون إبراهيم عليه السلام يطلبون منه ان يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هناكم إنى كذبت ثلاث كذبات: قوله (انى سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله لامرأته (اخبريه انى اخوك). والاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما ان الاقاويل الثلاث التى وصفت فيهما انها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات والمعاريض البديعي كما ربما يلوح من بعض الفاظ الحديث كالذى ورد في
(1) - كذا في الاصل المنقول عنه وكأن فيع سقطا. (*)
[ 228 ]
بعض طرقه من قول النبي صلى الله عليه وآله: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله) وكذا قوله صلى الله عليه وآله: (مامنها كذبة إلا ماحل (1) بها عن دين الله) فما بال ابراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر الشفاعة ويعتذر بها عنها ؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنه في ذات الله وحسناته في الدين لو جاز لنبى من الانبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الانبياء عليهم السلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم وأحاديثهم من أصلها. على أن هذا النوع من الاخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله عليه السلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس: هذا ربى وهذا ربى أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى. على أن قوله عليه السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله: (فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم) لا يظهر بشئ من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله عليه السلام كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الاصنام. وكذا قوله عليه السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الاصنام المكسورة بقولهم: (ءأنت
فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذى لا شعور فيه ولا إرادة له: (بل فعله كبيرهم هذا) ثم أردفه بقوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لالزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم اف لكم ولما تعبدون من دون الله) (الانبياء: 67). ولو كان المراد أن الاقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل 2 من الكلام في منزلة إبراهيم عليه السلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.
(1) أي جادل.
[ 229 ]
وليت شعرى كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: (واذكر الكتاب ابراهيم إنه كان صديقا نبيا) (مريم 41) على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب ؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك). وأما الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليه السلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس ساحته، ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل عليه السلام ما في الكافي عن على عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثار (1) وكان أبوه من أهلها، وكانت ام ابراهيم وام لوط عليهما السلام وسارة وورقة - وفي نسخة رقبة - اختين وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.
وكان إبراهيم عليه السلام في شبيبته على الفطرة التى فطر الله عزوجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهى ابنة خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع - حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه. وإن إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنام نمروذ وأمر به نمروذ فأوثق وعمل له حيرا (2) وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليه السلام سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمروذ خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالى فإن حقى عليكم أن تردوا على ما ذهب من عمرى في بلادكم، واختصموا إلى قاضى نمروذ فقضى على إبراهيم عليه السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمروذ أن يردوا على إبراهيم عليه السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، وأخبر بذلك نمرود
(1) - كانت قرية من أعمال الكوفة وضبطه الجزرى كوئى. (2) - الحير مخفف الحاير وهو الجائط.
[ 230 ]
فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقى في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطا عليهما السلام معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة، وقال لهم: إنى ذاهب إلى ربى سيهدين يعنى إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته وماله وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الاغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له (عزارة) فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه - فلما انتهى إلى
العاشر ومعه التابوت قال العاشر لابراهيم عليه السلام: افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطى عشرة ولا نفتحة. قال: فأبى العاشر إلا فتحه قال: وغصب (1) إبراهيم عليه السلام: على فتحه فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك ؟ قال إبراهيم عليه السلام: هي حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ فقال ابراهيم عليه السلام الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست ادعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك. قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه السلام: إنى لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه فحملوا إبراهيم عليه السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له إبراهيم عليه السلام: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معى. قال: فغصب الملك إبراهيم عليه السلام على فتحة فلماا رأى سارة لم سملك حلمه سقهه أن مد يده إلسها فأعرض إبراهيم عليه السلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم: إن إلهك هو الذى فعل بى هذا ؟ فقال له: معم إن إلهى غيور يكره الحرام، هو الذى ما إردته من الحرام فقال له له الملك: ف ع إلك يرد على يدى فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيم عليه السلام: إلهى رد إليه يده لكيف عن حرمتي. قال: فرد الله عزوجل إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة
(1) بالمعجمة فالمهملة بقال: غصبه على كذا أي قهره. (*)
[ 231 ]
منه، وقال: اللهم احبس يده ولم تصل إليها. فقال الملك لابراهيم عليه السلام: إن إلهك لغيور وإم ك لغيور فدع إلهك يرد إلى
يدى فإنه إن فعل لم أعد فقال ابراهيم عليه السلام: أسأله ذالك على إنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال ابراهيم عليه السلام: اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك من الغيرة ما رأى الاية في يده عظم ابراهيم عليه السلام وهاب و أكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت ولكن لى إليك حاجة فقال ابراهيم عليه السلام: ما هي ؟ فقال له: أحب أن تأذن لى أن اخدمها قبطيه ة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن ابراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة وهى هاجر م اسماعيل عليه السلام. فسار ابراهيم عليه السلام بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشى خلف أبراهيم عليه السلام إعظاما لابراهيم وهيبة له فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشى وهو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الارض برة أو فاجرة فوقف ابراهيم عليه السلام قال للملك: امض فإن إلهى أوحى إلى الساعة أن أعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامى وأمشى خلفك إحلالا لك فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال ابراهيم عليه السلام نعم فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم وأنك ترغبني في دينك. قال: وودعه الملك فسار ابراهيم عليه السلام حتى نزل بأعلى الشامات، وخلف لوطا عليه السلام في أدنى الشامات. ثم أن ابراهيم عليه السلام لما أبطأ عليا لولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع ابراهيم عليه السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت اسماعيل عليه السلام. ومن ذلك ما ذكرته أعنى التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل عليهما السلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة وتشريع عمل الحج الحاكى لما جرى عليه وعلى امه من المحنة والمشقة في ذات الله، وقد اشتمل على الطواف والسعى والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق عليهما السلام. وقد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو
[ 232 ]
إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل 44: فكلم الله ابراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان اسماعيل ابن سبع سنين الفصل 44 آية 11 - 12. وأما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الاصنام وإلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) (الصافات: 113). والمتدبر في الايات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف ان الذبيح هو الذى ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) وأن البشارة الاخرى التى ذكرها أخيرا بقوله (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) غير البشارة الاولى، والذى بشر به في الثانية وهو إسحاق عليه السلام غير الذى بشر به في الاولى وأردفها بذكر قصة التضحية به. وأما الروايات فالتى وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، والتى رويت من طرق أهل السنة والجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليهما السلام غير أنك عرفت أن الصنف الاولى هو الذى يوافق الكتاب.
قال الطبري في تاريخه: اختلف السلف من علماء امة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في الذى امر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو اسماعيل ابن ابراهيم. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التى رويت عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الاخرى.
[ 233 ]
إلى أن قال: وأما الدلالة من القرآن التى قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجتة سارة قال: (إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين) وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له ام اسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عزوجل الخبر عن إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا ابراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي. ولا نعلم في كتاب الله عزوجل تبشيرا لابراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله: (وأمراتة قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) وقوله: فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم). ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير ابراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) نظير ما في سائرسور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة. وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمربذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، وذلك أن الله تعالى إنما أمر ابراهيم بذبح اسحاق بعد إدراك اسحاق السعي وجائز أن يكون
يعقوب ولد له قبل أن يؤمرأبوه بذبحه. وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه. وليت شعرى كيف خفى عليه أن ابراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام وعنده سارة ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: (رب هب لى من الصالحين) فسأل ربه الولد، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: (رب هب لى) ولم يقل: رب هب لى من سارة. وأما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب
[ 234 ]
أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجئ من الكلام عليه في سائر الموارد التى أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الايات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم عليه السلام قبل اسحاق بولد له آخر وليس إلا اسماعيل، وقد اتفق الرواة والنقلة وأهل التاريخ أن اسماعيل ولد لابراهيم قبل اسحاق عليهم السلام جميعا. ومن ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر اسماعيل فإنها تصرح أن اسماعيل ولد لابراهيم عليهم السلام قبل أن يولد له اسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما وان ابراهيم عليه السلام طرده وامه هاجر بعد تولد اسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذى حملته هاجر وعطش اسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء، ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة ان اسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها والتأمل فيها، وهذا هو الذى يوافق المأثور من أخبارنا. 6 - القرآن الكريم يعتنى أبلغ الاعتناء بقصة ابراهيم عليه السلام من جهة نفسه ومن
جهة ابنيه الكريمين اسماعيل واسحاق وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق وشعب إسرائيل، ولا يلتفت إلى اسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره ويحقر شأنه، ومع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لابراهيم عليه السلام أن نسلك الباقي هومن إسحاق، وتارة اخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب اسماعيل وسيجعله امة كبيرة، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضاده الناس قد نشأ رامى قوس مطرودا عن بيت ابيه، وتاره تذكر ان الله معه. وبالتأمل فيما تقدم من قصته عليه السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز. الاشكال الاول ما ذكره بعض المستشرقين (1) ان القرآن في سوره المكية لا
(1) نقله النجار في قصص الانبياء عن المستشرق هجرونييه والمستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الاسلامية.
[ 235 ]
يتعرض لشأن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة وصلته بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية. لكن السور المدينة كالبقرة والحج وغيرهما تذكر ابراهيم واسماعيل متصلين اتصال الابوة والبنوة وأبوين للعرب مشرعين لها دين الاسلام بانيين للكعبة البيت الحرام. وسر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لابي العرب ابراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الاسلام بانيا لبيتهم المقدس الذى في مكه لما أن
هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا. وقد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التى نسبها إلى الكتاب العزيز الذى له شهرته العالمية التى لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد ان القرآن الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها. غير أن الايات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينيه، وكان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشؤونهم والابانة عن التشديد في قهم لا محالة في الايات النازلة في تضاعيف السور المدينة كتفاصيل الاحكام المشرعة التى أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث. وأما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال اسماعيل بإبراهيم عليهما السلام وبناء الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة ابراهيم وهى مكية فيما حكاه من دعاء ابراهيم عليه السلام: (وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام - إلى أن قال - ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئده من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون - إلى ان قال - الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء) (ابراهيم: 39). وقد مر نظيره في الايات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
[ 236 ]
وأما ما ذكراه من يهودية ابراهيم عليه السلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - إلى ان قال - ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران 67). الاشكال الثاني: أن الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض
ابراهيم عليه السلام لالهتهم بقوله: ((فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) إلى آخر الايات إنما كانوا بمدينة حران التى هاجر إليها ابراهيم عليه السلام من بابل أو من (اور) ولازمه ان يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الاصنام وكسره الاصنام ودخوله النار، ولا يلائم ذلك ما هو ظاهر الايات أن قصة الحجاج مع عبدة الاصنام والكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه. أقول: وهذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذى تقدم إيراده في بيان الايات لا على أصل الكتاب. ومع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التى ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الاديان الشائعة المعروفة كالصابئية التى كانت يؤمئذ من الاديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها. وأما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها بنيت على اسماء الكواكب وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ ارض بابل وما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل المسيح، وفي نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن الخليل ابراهيم عليه السلام. وقد تقدم فيما نقلناه من كتاب الاثار الباقية لابي ريحان البيرونى (1): أن يوذاسف ظهر عند مضى سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى
(1) في بحث تاريخي في ذيل الاية 62 من سورة البقره.
[ 237 ]
ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضى
ثلاثين سنة من ملك بشتاسف. وساق الكلام إلى أن قال: وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الانوار، ومن آثارهم القبة التى فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، وكان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدى اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الاسلام وأهله فاتخذو ها مسجدا. وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر البلخى في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنها منسوبة إلى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: وقرية اخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة. ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة، انتهى. وذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية وأن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الالهة. قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عزوجل جسم، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكتة احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى ان اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عزوجل وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والاشكال، ومنها على صورة الانسان وعلى خلافها من الصور يعبدونها، وقربوا لها القرابين، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالبارى تعالى وقربها منه. فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الاعصار حتى نبههم بعض حكمائهم
على أن الافلاك والكواكب أقرب الاجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة، وأن
[ 238 ]
الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجرى به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا. فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، وكل صنف منهم يعظم كوكبا منها، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للاخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الاصنام تحركت لهم الاجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، وبنوا لكل صنم بيتا وهيكلا مفردا، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب. وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الاعصار لانه بيت زحل، وأن زحل تولاه لان زحل من شأنه البقاء والثبوت، فما كان له فغير زائل ولا داثر، وعن التعظيم غير حائل وذكروا امورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها. ولما طال عليهم العهد عبدوا الاصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا، وكان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهى بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان. فتنبأ وزعم أنه رسول الله، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه، وأتى أرض فارس، وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، وقيل: ذلك في ملك جم، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.
وقد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، والاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم، وجدد يوذاسف عند الناس عبادة الاصنام والسجود لها لشبه ذكرها، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع. وذكرذووا الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم
[ 239 ]
النار ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لان النور عنده أفضل من الظلمة، وجعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الاشياء تقربا إلى الله بذلك. ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهى سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، وبيت على جبل مارس بإصفهان، وبيت مندوسان ببلاد الهند، وبيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، وبيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، وبيت بأعالى بلاد الصين على اسم العلة الاولى. واليونان والروم القديم والصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذى بتونس للروم الذى على اسم الزهرة ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين (1) هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الاولى وهيكل العقل. قال: ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة، وهيكل الصورة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل، وهيكل زحل مسدس، وهيكل المشترى مثلث، وهيكل المريخ مربع مستطيل، وهيكل الشمس مربع، وهيكل عطارد مثلث الشكل، وهيكل الزهر. مثلث في جوف مربع مستطيل، وهيكل القمر مثمن الشكل، وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها، انتهى. وقريب منه ما في الملل والنحل للشهرستاني. وقد تبين مما نقلناه أولا: أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للالهة وأرباب الانواع
كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب والشمس والقمر، وكانت عندهم هياكل على أسمائها، ومن الممكن أن يكون حجاج إبراهيم عليه السلام في أمر الكواكب والقمر والشمس، مع الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة اور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا. على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم: أن إبراهيم عليه السلام حاج أباه وقومه وتحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم وهجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الارض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الارض المقدسة، والذى ضبطه كتب
(1) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقا لاشتهار حران بهذا الدين.
[ 240 ]
التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الارض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهرلمن تدبر تاريخ الطبري وغيره. على ان بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات وخابور، وهو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم (1). نعم ذكر المسعودي ان الذى بقى من هياكلهم - الصابئة - المعظمة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف (بمغليتيا) وهو هيكل آزر أبى إبراهيم الخليل عليه السلام عندهم، وللقوم في آزر وابنة إبراهيم كلام كثير، انتهى. ولا حجة في قولهم على شئ. وثانيا: أنه كما اأ الوثنية ربما كانت تعبد الشمس والقمر والكواكب كذلك الصابئة كانت تبنى بيوتا وهياكل لعبادة غير الكواكب والقمر والشمس كالعلة الاولى والعقل والنفس وغيرها كالوثنية وتتقرب إليها مثلهم وقد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض وأن آخر الابراج وهو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، وليس في القبة شئ من التماثيل والاصنام، ولا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم
الناس أن الله هو اختارها للخدمة ووظفها للملازمة. انتهى (2). ولعله كان للعلة الاولى المنزهة عن الهيئات والاشكال وإن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي. وقد ثبت أن فلا سفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانية والاشكال والاوضاع المادية ويصفونة بما يليق به من الصفات غير أنهم كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقى ذلك، أو لمقاصد وأغراض سياسية توجب كتمان الحق.
(1) ذكره في قاموس الكتاب المقدس في (حران). (2) تاريخ هيرودوتوس اليونانى المؤلف في حدود 500 ق. م.
[ 241 ]
* * * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين - 84. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين - 85. وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين - 86. ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم - 87. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون - 88. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين - 89. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا اسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين - 90. (بيان) اتصال الايات بما قبلها واضح لا يحتاج بعض الامتنان عليه وعلى من عد معه من الانبياء كما هو ظاهر قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقوله: (و كذلك نجزى المحسنين) وقوله: (وكلا فضلنا على العالمين) إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والايادي الجميلة الالهية التى يتعقبها التوحيد
الفطري والاهتداء بالهداية الالهية.
[ 242 ]
فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التى تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدى إليه الفطرة التى فطر الناس عليها، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليه السلام بالنسبة إلى الايات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام. وفي سياق الايات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الالهية من أن تضيع بالاهواء الشيطانية، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: (ووهبنا له) الخ. وقوله: (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته) الخ، وقوله: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وقوله فان يكفر بها هؤلاء الخ. وفي طى الايات بيان ما تمتاز به الهداية الالهية من غيرها من الخصائص وهى الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجئ من البيان إن شاء الله. قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) إسحاق هو ابن ابراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق عليهما السلام، وقوله: (كلاهدينا) قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الالهة تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا انها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب. كما قيل. قوله تعالى: (ونوحا هدينا من قبل) فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم عليه السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليه السلام. قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وكذلك نجزى المحسنين)
الضمير في (ذريته) راجع إلى نوح ظاهرا لانه المرجع القريب لفظا، ولان في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس، على ما قيل. وربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم عليه السلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهما السلام من الذرية تغليبا قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) (العنكبوت: 27) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الاية
[ 243 ]
دون الباقين، وأما قوله: (وزكريا) الخ، وقوله: (وإسماعيل) الخ، فمعطوفان على قوله: ومن (ذريته) لا على قوله: (داود) الخ، وهو بعيد من السياق. وأما قوله: (وكذلك نجزى المحسنين) فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الالهية المذكورة، وإليها الاشارة بقوله (كذلك) والاتيان بلفظ الاشارة البعيدة لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: (كذلك يضرب الله الامثال) (الرعد: 17) والمعنى نجزى المحسنين على هذا المثال. قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) تقدم الكلام في معنى الاحسان والصلاح فيما سلف من المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح عليهما السلام وهو إنما يتصل به من جهة أمة ه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم يعتبرأولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة، وقد تقدم استفادة نظير ذلك من آية الارث وآية محرمات النكاح، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن ابراهيم أخو إسحاق عليهم السلام وقوله: (اليسع) بفتحتين كأسد وقرئ (الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بنى إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل عليهما السلام كما في قوله: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) (ص: 48) ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه.
وأما قوله: (وكلا فضلنا على العالمين) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمى زمانهم لما أن الهداية الخاصة الالهية أخذتهم بلا واسطة، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الالهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية الالهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، وقد شملت المذكورين من الانبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهى.
[ 244 ]
وبالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الالهية التى لا واسطة فيها، والانبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالائمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات) (البقرة: 124) في الجزء الاول من الكتاب فلا يفضل عليهم الانبياء عليه السلام من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة اخرى غير جهة الهداية. ومن هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالاية على أن الانبياء أفضل من الملائكة ليس في محله. ويظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الالهية الخاصة التى أخذتهم من غير توسط أحد، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم وأهل الكتاب والحكم والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الاية. واعلم أن الذى وقع في الايات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الانبياء بأسمائهم - وهم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذى بينهم لا بحسب الزمان وهو
ظاهر، ولا بحسب الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى عليه السلام، وهم أفضل من باقى المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر. وقد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الايات الثلاث بين الانبياء المسمين فيها - وهم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم. فالقسم الاول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك والامارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف، وكان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، وقد ابتليا بالضراء فصبرا وبالسراء فشكرا، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم يكونا ملكين.
[ 245 ]
فكل زوجين من هذه الازواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف، وهما من موسى وهارون، أو الترتيب من حيث الفضل الدينى فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من أيوب ويوسف، وهما أفضل من داود وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في السراء. والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا، والاعراض عن لذائذها، والرغبة عن زينتها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لان هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا على الاطلاق.
والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الاول ولا من المبالغة من الاعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا. وفي تفسير الرازي ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي، ويرد على ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به وهو غير مستقيم فإن إسماعيل عليه السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني أن شاء الله من الصابرين - إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين) (الصافات: 108) وهذا من الخصائص الفاخرة التى اختص الله بها إسماعيل عليه السلام، وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله وترك عليه في الاخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا. وكذلك يونس النبي عليه السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه وهو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. وأما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم عليهما السلام حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى
[ 246 ]
أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته. وأما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصى إلياس وقد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وقد ابتلى الله قومه بالسنة والقحط العظيم. فالاحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الاسماء المعدودة في الاية بأن يقال: إن الطائفة الاولى المذكورين - وهم ستة - اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة، والطائفة
الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا والاعراض عن زخارفها، والطائفة الثالثة - وهم أربعة - أولوا خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشئ من المميزات. والله أعلم. ثم إن الذى ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف، وتفضيلهما على داود وسليمان بما ذكره من الوجه، وكذا جعله الصلاح بعنى الزهد والاحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه. قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بابوة أو بنوة أو اخوة. قوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها (جواب) قال الله تعالى: وجفان كالجواب، ومنه استعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شئ، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عزوجل: فاجتباه ربه. قال: واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد، وذلك للانبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى: وكذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، وقال عزوجل: يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب، انتهى.
[ 247 ]
والذى ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الاصلى بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذى يعطيه سياق الايات إن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الاصلى وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة
فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا. وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الالهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الالهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الاحوال، ولا بحسب الازمان، ولا بحسب الاجزاء، ولا بحسب الاشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد. وذلك أن صراطهم الذى هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الاجمال والتفصيل وقلة استعداد الامم وكثرته، والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التى تهدى إليه البنية الانسانية بحسب نوع الخلقة التى أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الانسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضى بتبدل أصول الشعور والارادة الانسانيين فحواس الانسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدء القضاء والحكم الذى فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الاصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الاراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذى يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة. فلا يزال الانسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء العاقبة وأن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل. قال تعال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) فالدين الحنيف
[ 248 ]
الالهى الذى هو قيم على المجتمع الانساني هو الذى تهدى إليه الفطرة وتميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والاخلاق والاعمال. وهذا أمر لا يتغير ولا يتبدل لانه مبنى على الفطرة التكوينية التى لا سبيل للتغير والتبدل إليها فلا يختلف بحسب الاحوال والازمان بأن يدعو إلى السعادة الانسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الاجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الاخر بتناقض أو تضاد أو أي شئ آخر يؤدى إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدى التوحيد الذى يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الانسانية. ولا بحسب الاشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم، ولا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالاجمال والتفصيل بحسب اختلاف أعصار الانسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19)، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيمو الدين ولا تتفرقوا فيه، (الشورى: 13). ولا بحسب المقصد والغاية فإنه التوحيد الذى يؤول إليه شتات المعارف الدينية والاخلاق الفاضلة والاحكام الشرعية قال تعالى: (وهديناهم إلى صراط مستقيم) وقد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) (الحمد) لننوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة - والاستقامة في الشئ كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته - فالصراط الذى هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهات وولا حال من الاحوال لما أنه صراط مبنى على الفطرة كما أن الفطرة الانسانية وهى نوع خلقته وكونه لا تختلف من الاحوال لما أنه صراط مبنى
على الفطرة الانانية وهى نوع خلقته إنسانية والاهتداء إلى مقاصد الانسان التكوينية. فهؤلاء المهديون إلى مستقين الصراط في أمن إلهى من خطرات السير وعثرات
[ 249 ]
الطريق إذا كان الصراط الذى يسلكونه والمسير الذى يضربونه فيه لا اختلاف فيه بالهداية والاضلال والحق والباطل والسعادة واشقاوة بل هو مؤتلف الاجزاء ومتساوى الاحوال يقوم على الحق ويؤدى إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، ولا يورده إلى ظلم وشقاء ومعصية قال تعالى: (الذين آمنو ولم يلبسو إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) (الانعام 82). قوله تعالى: (ذالك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) إلى آخر الاية. تعالى أن الذى ذكره من صفة الهداية التى هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذى يهدى به من يشاء من عباده فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، والهدى إنما يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى وهم الانبياء المكرمون عليهم السلام واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى. أما الطريق الذى يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، والطرق التى لا تضمن سعادة حياة المجتمع الانساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الانسانية فتلك هي الطرق التى لا مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الاهواء، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، اولئك هم الكافرون حقا) (النساء: 151) وقال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) (البقرة: 85) وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) (القصص: 50) يريد أن الطريق الذى فيه اتباع الهوى إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لان فيه ظلما والله سبحانه لم يجعل الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.
[ 250 ]
وبالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا بالتأدية إليه، وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التى ينقطع معها ملك المعطى (بالكسر) عن عطيته وينتقل إلى المعطى (بالفتح) فيحوزه على أي حال سواء شكرأو كفر. بل هذه العطية الالهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لاحد عليه تعالى ولا أمن له منه إلا بالعبودية محضا، ولذلك ذيل الكلام بقوله: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وإنما ذكر الاشراك لان محط البيان إنما هو التوحيد. قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الاشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم ورفعة مقامهم، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله: (واجتبيناهم وهديناهم) فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الانبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام. والكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الانبياء عليهم السلام نوعا من النسبة يراد به الصحف التى تشتمل على الشرائع ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها
هدى ونور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48). إلى غير ذلك من الايات. والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، وإذا كان ذلك في الامور الاجتماعية والقضايا العملية التى تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال: يجب على الانسان أن يفعل كذا ويحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو احب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما، ولاهل الاجتماع أحكام اأخرنا شئة من نسب أخرى كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية
[ 251 ]
والولاية وغير ذلك. وإذا قصد به المعنى المصدرى أريد به إيجاد الحكم وجعله إما بحسب التشريع والتقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجرى عليها الناس ويعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، وإما بحسب التشخيص والنظر كتشخيص القضاة والحكام في المنازعات والدعاوى أن المال لفلان والحق مع فلان وكتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم وقد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالى والملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية والملك. والظاهر من الحكم في الايه ة بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب والحكم إعطاء شرائع الدين والقضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدة من الايات كقوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا) (المائدة: 44) وقوله: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) (النساء: 105) وقوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) (الانبياء: 78) وقوله:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (ص: 26) إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة، وإن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين) (الشعراء: 83) لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الاعم. وأما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) الاية (البقرة: 21) أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية وهى الانباء المتعلقة بما وراء الحس والمحسوس كوحدانيته تعالى والملائكة واليوم الاخر. وعد هذه الكرامات الثلاث التى أكرم الله سبحانه بها سلسلة الانبياء عليهم السلام أعنى الكتاب والحكم والنبوة في سياق الايات الواصفة لهداه تعالى يدل على أنها من آثار هداية الله وبها يتم العلم بالله تعالى وآياته فكأنه قيل: تلك الهداية التى جمعنا عليها الانبياء عليهم السلام وفضلناهم بها على العالمين هي التى توردهم صراطا مستقيما وتعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، وتسددهم وتنصبهم للحكم بين الناس، تنبهم أنباء الغيب.
[ 252 ]
(كلام في معنى الكتاب في القرآن) الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التى تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما (1) لكن لما كان الاعتبار في استعمال الاسماء إنما هو بالاغراض التى أوقعت التسمية لاجلها أباح ذلك التوسع في إطلاق الاسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، والغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الانسان كلما راجعه، وهذا المعنى لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الانسان إذا حفظه كتاب وإذا أملاه عن حفظه كتاب وإن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطه بالقلم المعهود. وعلى هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحى الملقى
إلى النبي وخاصه إذا كان مشتملا على عزيمة وشريعة وكذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث والوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك) (ص: 29) وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (الحديد: 22) وقال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرا كتابك) (الاسراء: 14). وفي هذه الاقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلالكل شئ) (الاعراف: 145) وقوله: (وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه) (الاعراف: 150) وقوله: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) (الاعراف: 154) (2). القسم الاول: الكتب المنزلة على الانبياء عليهم السلام وهى المشتملة على شرائع الدين - كما تقدم آنفا - وقد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح عليه السلام في قوله: وأنزل معهم الكتاب بالحق) (البقرة: 213) وكتاب إبراهيم وموسى عليهما السلام قال: (صحف
(1) ولعل اطلاق الكتاب على غير ما خطته اليد بالقلم من قبيل التوسع. (2) فان ظاهر الايات أنها كانت على طريق التخط يط. (*)
[ 253 ]
إبراهيم وموسى) (الاعلى: 19) وكتاب عيسى وهو الانجيل قال: (وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور) (المائدة: 46) وكتاب محمد صلى الله عليه وآله قال ؟ (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) (الحجر: 1) وقال: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة) (البينة: 3) وقال: (في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدى سفرة، كرام بررة) (عبس: 16) وقال: (نزل به الروح الامين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195). القسم الثاني: الكتب التى تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص بكل نفس إنسانية كالذى يشير إليه قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
ونخرج له يوم القيامة كتابا) (الاسراء: 13) وقوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) (آل عمران: 30) إلى غير ذلك من الايات، ومنها: ما يضبط أعمال الامة كالذى يدل عليه قوله: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) (الجاثيه: 28) ومنها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (الجاثية: 29) لو كان الخطاب فيه لجميع الناس. لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخربحسب انقسام الناس إلى طائفتي الابرار والفجار وهو الذى يذكره في قوله: (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفى عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون) (المطففين: 21). القسم الثالث: الكتب التى تضبط تفاصيل نظام الوجود والحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شئ كالذى يشير إليه قوله تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (يونس: 61) وقوله: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (يس: 12) وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) (ق: 4) وقوله: (لكل أجل كتاب) (الرعد: 38) ومن الاجال الاجل المسمى الذى لا سبيل للتغير إليه وقوله: (وما كان نفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (آل عمران: 146).
[ 254 ]
ولعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث والموجودات، وكتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الايتان الاخيرتان وسائر الايات الكريمة التى تشاكلهما. ومنها: الكتب التى يتطرق إليها التغيير ويداخلها المحو والاثبات كما يدل عليه قوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) واستيفاء البحث
عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذى يناسبه من الكتاب والله المستعان. (كلام في معنى الحكم في القرآن) الاصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، وبذلك سمى الحكم المولوي حكما لما أن الامر يمنع به المأمور عن الاطلاق في الارادة والعمل ويلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، وكذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة والمشاجرة أو يفسد بالتعدي والجور، وكذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، والاحكام والاستحكام يشعران عن حال في الشئ يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الامر الأجنبي في داخله، والاحكام يقابل بوجه التفصيل الذى هو جعل الشئ فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه وتوحدها قال تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (هود: 1) وإلى ذلك يعود معنى المحكم الذى يقابل المتشابه. قال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعا لاصلاح، ومنه سميت اللجام حكمة الدابة (بفتحتين) فقيل: حكمته، وحكمت الدابة منعتها بالحكمة، وأحكمتها جعلت لها حكمة، وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها قال الشاعر: (أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم). انتهى. والحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودى وهو الايجاد الذى يساوق الوجود الحقيقي والواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى: (والله والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41).