تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 5
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 5
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 5
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الخامس منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة بسم الله الرحمن الرحيم
[ 5 ]
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) - اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من
عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) - من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)) بيان الآيات متصلة بما قبلها وهى جميعا ذات سياق واحد وهذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الايمان وفيها عظة وتذكير بفناء الدنيا وبقاء نعم الاخرة وبيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات والسيئات.
[ 6 ]
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم إلى قوله أو أشد خشية) كف الايدى كناية عن الامساك عن القتال لكون القتل الذى يقع فيه من عمل الايدى وهذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدى الكفار وبغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك ولا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك وإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ليشتد عظم الدين ويقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه ولولا ذلك لانفسخ هيكل الدين، وانهدمت أركانه وتلاشت أجزاؤه. ففى الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار ولا يصبرون على الامساك وتحمل الاذى حين لم يكن لهم من العدة والقوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو وهم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية. قوله تعالى: (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) ظاهره أنه عطف على قوله
(إذا فريق منهم) وخاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع (يخشون الناس) إلى الماضي (قالوا) فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقون للقتال، ويستصعبون الصبر فامرو بكف أيديهم. ومن الجائز أن يكون قولهم ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فان القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع. وتوصيف الاجل الذى هو أجل الموت حتف الانف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل والعيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا وأجلا قريبا فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، ويعجل لهم الموت ؟ وهذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التى هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضى سريعا ويعفى أثره، ودونه الحياة الآخرة التى هي الحياة الباقية الحقيقية فهى خير، ولذلك أجيب عنهم بقوله (قل) (الخ).
[ 7 ]
قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) (الخ) أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد والقتل في سبيل الله تعالى ومحصله أنهم ينبغى أن يكونوا متقين في إيمانهم والحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة والآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التى هي خير على متاع الدنيا القليل لانهم مؤمنون وعلى صراط التقوى ولا يبقى لهم إلا أن يخافو أن يحيف الله عليهم ويظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير وليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.
وقد ظهر بهذا البيان أن قوله (لمن اتقى) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم ودعوى انطباقه على المورد والتقدير - والله أعلم - والاخرة خير لكم لانكم ينبغى أن تكونوا لايمانكم أهل تقوى والتقوى سبب للفوز بخير الاخرة فقوله (لمن اتقى) كالكناية التى فيها تعريض. قوله تعالى: (أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) البروج جمع برج وهو البناء المعمول على الحصون، ويستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به وعنه وأصل معناه الظهور ومنه التبرج بالزينة ونحوها والتشييد الرفع وأصله من الشيد وهو الجص لانه يحكم البناء ويرفعه ويزينه فالبروج المشيدة الابنية المحكمة المرتفعة التى على الحصون يأوى إليها الانسان من كل عدو قادم. والكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه وجعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره ومحصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه ولو لجأتم منه إلى أي ملجأ محكم متين فلا ينبغى لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال ولم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت وفاته إدراككم فإن أجل الله لات. قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) (إلى آخر الاية) جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الامر فيما يصيب الانسان من حسنة وسيئة. واتصال السياق يقضى بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم ولا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال
[ 8 ]
كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) وهو مأثور عن سائر الامم في خصوص أنبيائهم وهذه الامة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الامم وقد قال تعالى: (تشابهت قلوبهم) (البقرة: 118) وهم مع ذلك أشبه الامم ببنى إسرائيل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه) وقد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين. وقد تمحل في الايات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود والمنافقين وأنت ترى أن السياق يدفعه. وكيف كان فالاية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة والسيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه وقد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى وهو الحسنة وقسما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو السيئة فهذه الحسنات والسيئات هي الحوادث التى كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ في ترفيع مباني الدين ونشر دعوته وصيته بالجهاد فهى الفتح والظفر والغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب والمغازى والقتل والجرح والبلوى في غير ذلك وإسنادهم السيئات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأى ورداءة التدبير إليه. فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بقوله (قل كل من عند الله فانها حوادث ونوازل ينظمها ناظم النظام الكونى وهو الله وحده لا شريك له إذ الاشياء إنما تنقاد في وجودها وبقائها وجميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن. ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم وخمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة وفهمها فقال: (فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثا). قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الامر صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم ووجه وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين حقيقة ما يصيبه من حسنة
أو سيئة لذاك الشأن وليس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التى هي من الاحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات ولا أقل بين جميع الافراد من الانسان
[ 9 ]
من مؤمن أو كافر أو صالح أو طالح ونبى أو من دونه. فالحسنات وهى الامور التى يستحسنها الانسان بالطبع كالعافية والنعمة والامن والرفاهية كل ذلك من الله سبحانه والسيئات وهى الامور التى تسوء الانسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة كل ذلك يعود إلى الانسان لا إليه سبحانه فالاية قريبة مضمونا من قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) الانفال: 53) ولا ينافى ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلى آخر إليه تعالى كما سيجئ بيانه. قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ وشأنك الرسالة لا شأن لك سواها وليس لك من الامر شئ حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمذ أو تجر إلى الناس السيئات وتدفع عنهم الحسنات وفيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات (هذه من عندك تشأما به صلى الله عليه وآله وسلم ثم أيد ذلك بقوله (وكفى بالله شهيدا.) قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله) استئناف فيه تأكيد وتثبيت لقوله في الاية السابقة وأرسلناك للناس رسولا) وبمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما إنت رسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا.
ومن هنا يظهر أن قوله من يطع الرسول من قبيل وضع الصفه موضع الموصوف للاشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وعلى هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله وأرسلناك إلى الغيبة في قوله (من يطع الرسول) ثم إلى الخطاب في قوله فما أرسلناك). (كلام في استناد الحسنات والسيئات إليه تعالى) يشبه أن يكون الانسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في ابناء نوعه الذى هو اعتدال الخلقة وتناسب نسب الاعضاء وخاصة في الوجه ثم
[ 10 ]
في سائر الامور المحسوسة من الطبيعيات ويرجع بالاخرة إلى موافقة الشئ لما يقصد من نوعه طبعا. فحسن وجه الانسان كون كل من العين والحاجب والاذن والانف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغى أن يركب في نفسه عليها وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه، ويسمى كون الشئ على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي. ثم عمم ذلك إلى الافعال والمعاني الاعتبارية والعناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع وهو سعادة الحياة الانسانية أو التمتع من الحياة، وعدم ملاءمتها فالعدل حسن، والاحسان إلى مستحقه حسن، والتعليم والتربية والنصح وما أشبه ذلك في مواردها حسنات والظلم والعدوان وما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الاول لسعادة الانسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه وعدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك وهذا القسم من الحسن وما يقابله تابع للفعل الذى يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الافعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع
وغرضه كذلك كالعدل، ومنها ما قبحه كذلك كالظلم. ومن الافعال ما يختلف حاله بحسب الاحوال والاوقات والامكنة أو المجتمعات فالضحك والدعابة حسن عند الخلان لا عند الاعاظم وفي محافل السرور دون المآتم، ودون المساجد والمعابد والزنا وشرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين. ولا تصغ إلى قول من يقول: أن الحسن والقبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات ولا دوام ولا كلية ويستدل على ذلك في مثل العدل والظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شئ معين فالجلد للزاني عدل في الاسلام وليس كذلك عند الغربيين، وهكذا. وذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الامر، واشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، ولا كلام لنا مع من هذامبلغ فهمه.
[ 11 ]
والانسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا ولا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل ويسمى ظالما، ولا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه وللكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه. ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التى تستقبل الانسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل وهى الحوادث الفردية أو الاجتماعية التى منها ما يوافق آمال الانسان ويلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء وتسمى حسنات ومنها ما ينافى ذلك كالبلايا والمحن من فقر أو مرض أو ذلة أو أسارة ونحو ذلك وتسمى سيئات.
فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة والسيئة يتصف بهما الامور أو الافعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن والقبح وصفان إضافيان وإن كانت الاضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة وفى بعضها متغيرة كبذل المال الذى هو حسن بالنسبة إلى مستحقه وسيئ بالنسبة إلى غير المستحق. وأن الحسن أمر ثبوتى دائما والمساءة والقبح معنى عدمي وهو فقدان الامر صفة الملاءمة والموافقة المذكورة وإلا فمتن الشئ أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة وعدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا. فالزلزلة والسيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لاعدائهم وهما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم وكل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الارض أو الفجار العتاة وهو بعينه ضراء إذا نزل بالامة المؤمنة الصالحة. وأكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا وهو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضى منه لفقدانه امتثال النهى الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه أو امتثال الامر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله والمباشرة بين الرجل والمرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا وسيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الالهى فالحسنات عناوين وجودية في الامور والافعال والسيئات عناوين عدمية فيهما ومتن الشئ المتصف بالحسن والسوء واحد.
[ 12 ]
والذى يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشئ ما خلا الله - عز اسمه مخلوق لله قال تعالى: (الله خالق كل شئ) (الزمر: 62) وقال تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) (الفرقان - 2). والآيتان تثبتان الخلقة في كل شئ ثم قال تعالى: الذى أحسن كل شئ خلقة) (السجدة: 7) فأثبت الحسن لكل مخلوق وهو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.
فكل شئ له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة والوجود والتأمل في معنى الحسن (على ما تقدم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشئ وملاءمته للغرض المطلوب والغاية المقصودة منه و أجزاء الوجود وأبعاض هذا النظام الكونى متلائمة متوافقة وحاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه ويبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذى يبهت العقل ويحير الفكرة وقد قال تعالى: (هو الله الواحد القهار) (الزمر: 4) وقال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الانعام: 18) وقال تعالى: (وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا) (فاطر: 44) فهو تعالى لا يقهره شئ ولا يعجزه شئ في ما يريده من خلقه ويشاؤه في عباده. فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى وكذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى وإن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة وهذا هو الذى يفيده قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) (النساء: 78) وقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) إلى غيرذلك من الآيات. وأما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الانسان إلى نفس الانسان بقوله تعالى في هذه السورة ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك: الآية (النساء: 79) وقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30) وقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
[ 13 ]
الرعد: 11) وقوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) وغيرها من الآيات. وتوضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات امورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الاشياء التى تتضرر بها فيرجع الامر بالاخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الاشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه وتشتاق إليه بحسب طباعها فإمساك الجود هذا هو الذى يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الاشياء المتضررة كما يوضحه كل الايضاح قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) (فاطر: 2). ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة والنقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه وما يمكنه إن يستوفيه من ذلك قال تعالى فيما ضربه من المثل: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (الرعد: 17) وقال: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) فهو تعالى إنما يعطى على قدر ما يستحقه الشئ وعلى ما يعلم من حاله قال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14). ومن المعلوم أن النعمة والنقمة والبلاء والرخاء بالنسبة إلى كل شئ ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) فإنما يولى كل شئ ويطلب وجهته الخاصة به وغايته التى تناسب حاله. ومن هنا يمكنك أن تحدس أن السراء والضراء والنعمة والبلاء بالنسبة إلى هذا الانسان الذى يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهى به بحسن السلوك وعدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل. والقرآن الكريم يصدق هذا الحدس قال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة
والاعمال الصالحة دخل في النعمة التى خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته وقال: (وما إصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (الشورى: 30) فلاعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل ويصيبهم من المصائب والله يعفو عن كثير منها.
[ 14 ]
وقال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الآية النساء: 79). وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نسى الحقيقة الباهرة التى أبانها بقوله: (الله خالق كل شئ) (الزمر - 62) و قوله: الذى أحسن كل شئ خلقه) (السجدة: 7) فعد كل شئ مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه وقد قال: وما كان ربك نسيا) (مريم: 64) وقال: لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52) فمعنى قوله (ما أصابك من حسنة) (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك حسنة - فمن الله وما أصابك من سيئة فهى سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيئ واستدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر. والآية كما تقدم وإن كانت خصت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب لكن المعنى عام للجميع وبعبارة أخرى هذه (الآية) كالآيتين الاخريين ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الآية وما أصابكم من مصيبة (الآية) متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردى فإن للمجتمع الانساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك. فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده ويؤاخذ
متأخروهم بسيئآت المتقدمين والاموات بسيئات الاحياء والفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب وهكذا وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا وقد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه وأصيب المسلمون بما أصيبوا وهو صلى الله عليه وآله وسلم نبى معصوم إن أسند ما أصيب به الى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدى مجتمعة وهو فيهم وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات. وكذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق وأما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.
[ 15 ]
نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء) (الاعراف: 96) وقوله وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24) وقوله وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) (الانبياء - 86) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. إلا أن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية ولا يهتدى إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه - 50) وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) ويتبين بهاتين الايتين وما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه وهو أن الانسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه فالحسنات
كلها لله والسيئات للانسان وبه يظهر معنى قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الاية). فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له والخلق والحسن لا ينفكان، وله الحسنات بما أنها خيرات وبيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه ولا ينسب إليه شئ من السيئآت فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق وإنما السيئة فقدان الانسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدى الناس وأما الحسنة والسيئة بمعنى الطاعة والمعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) في الجزء الاول من هذا الكتاب. وأنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام وجدت من شتات القول ومختلف الآراء والاهواء وأقسام الاشكالات ما يبهتك وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاى ة للمتدبر في كلامه تعالى وعليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض وتفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة والسيئة والنعمة والنقمة والفرق بين شخصية المجتمع والفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.
[ 16 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الآية) أخرج النسائي وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبى الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم) (الآية) وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان أناس من أصحاب النبي (ص) وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين وذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك فنهاهم نبى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لم أمر بذلك فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتل كره القوم ذلك، وصنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) وفي تفسير العياشي عن صفوان بن يحيى عن أبى الحسن عليه السلام قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذى تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلى فريضتي وبنعمتي قويت على معصيتى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنى أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منى، وذاك أنى لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون. أقول: وقد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الاول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) وتقدم البحث عنها هناك. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبى عبد الله عليه السلام البلاء وما يخص الله به المؤمن فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس بلاء في الدنيا ؟ فقال: النبيون ثم الامثل فالامثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله: فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه
[ 17 ]
أقول: ومن الروايات المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وفيه أيضا بعدة طرق عنهما عليهما السلام: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا (1)
وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه. وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام قال: إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمى الطبيب المريض وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب. وفي العلل عن على بن الحسين عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ولو كان المؤمن على جبل لقيض الله عزوجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك. وفي كتاب التمحيص عن الصادق عليه السلام قال: لا تزال الهموم والغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا. وعنه عليه السلام قال: لا يمضى على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه. وفي النهج قال عليه السلام: لو أحبنى جبل لتهافت. وقال عليه السلام: من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا. أقول: قال ابن أبى الحديد في شرحه: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت (انتهى). واعلم أن الاخبار في هذه المعاني كثيرة، وهى تؤيد ما قدمناه من البيان. وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر والخطيب عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من اصحابه فقال: يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول الله إليكم ؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعنى فقد أطاع الله ؟ قالوا: بلى
(1) الغث هو الغمس (*)
[ 18 ]
نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، وأن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم وإن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين. أقول: قوله: صلى الله عليه وآله وسلم: وإن صلوا (إلخ) كناية عن وجوب كمال الاتباع. * * * ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا - 81. افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا - 82. وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا - 83. فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - 84. (بيان) الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين، وفائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا واستبصروا. قوله تعالى. (ويقولون طاعة) (إلخ) (طاعة) مرفوع على الخبرية على ما قيل والتقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة والبروز الظهور والخروج والتبييت من البيتوتة، ومعناه إحكام الامر وتدبيره ليلا، والضمير في (تقول) راجع إلى (طائفة) أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى - والله أعلم -: ويقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به وقالوا لك، أو غير ما
[ 19 ]
قلته أنت لهم، وهو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أمر الله رسوله بالاعراض عنهم والتوكل في الامر والعزيمة فقال: (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) ولا دليل في الآية يدل على كون المحكى عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الامر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك. قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الآية تحضيض في صورة الاستفهام. التدبر هو أخذ الشئ بعد الشئ وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الاول أعنى التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة وإن كان ذلك لا ينفى المعنى الثاني أيضا. فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها ومدينتها، ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها، فالآيات يصدق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفى بعضها بعضا أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد بكون البعض أحكم بيانا وأشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله وليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف، وذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية - ولا سيما الانسان الذى يرتاب أهل الريب أنه من كلامه - كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الاطراف، متفاوت
الحالات. ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس وأن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من راى أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذى فيه شئ من الامتداد الوجودى كالكتاب يكتبه الكاتب، والشعر يقوله الشاعر، والخطبة يخطبها الخطيب، وهكذا يوجد عند الامعان آخره خيرا من أوله، وبعضه أفضل من بعض.
[ 20 ]
فالواحد من الانسان لا يسلم في نفسه وما يأتي به من العمل من الاختلاف، وليس هو بالواحد والاثنين من التفاوت والتناقض بل الاختلاف الكثير، وهذا ناموس كلى جار في الانسان وما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول والتكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته وأحواله. ومن هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: (اختلافا كثيرا) فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا، وكان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذى في كل ما هو من عند غير الله، وليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير. وبالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالانسانية من معارف المبدأ والمعاد والخلق والايجاد، ثم الفضائل العامة الانسانية، ثم القوانين الاجتماعية والفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق ولا جليل، ثم القصص والعبر والمواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، وبآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا وعشرين سنة على اختلاف الاحوال من ليل ونهار، ومن حضر وسفر، ومن حرب وسلم، ومن ضراء وسراء، ومن شدة ورخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، ولا في معارفة العالية وحكمه السامية، ولا في قوانينه الاجتماعية والفردية،
بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه وأصوله، يعود تفاصيل شرائعه وحكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، وينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن. والانسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضى بشعوره الحى، وقضائه الجبلى أن المتكلم بهذا الكلام ليس، ممن يحكم فيه مرور الايام والتحول والتكامل العاملان في الاكوان بل هو الله الواحد القهار. وقد تبين من الآية (أولا): أن القرآن مما يناله الفهم العادى. و (ثانيا): أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا. و (ثالثا): أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا ولا إبطالا ولا تكميلا ولا تهذيبا، ولا أي حاكم يحكم عليه أبدا، وذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول والتغير بالضرورة، وإذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف
[ 21 ]
فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك، ولازم ذلك أن الشريعة الاسلامية مستمرة إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) الاذاعة هي النشر والاشاعة، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الاذاعة، وفي قوله في ذيل الآية (ولو لا فضل الله) (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الاذاعة، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقى وحده بلا ناصر. ويظهر به أن الامر الذى جاءهم من الامن أو الخوف كان بعض الاراجيف التى كانت تأتى بها أيدى الكفار ورسلهم المبعوثون لايجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الاخبار لاخزاء المؤمنين.
فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، والآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران - 175). الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - وهو محنة أحد - إلى الخروج إلى الكفار، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخوفونهم جمع المشركين. ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، وتعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله إن كانوا مؤمنين. والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعنى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التى يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله (فلما كتب عليهم القتال) (الآية) وقوله (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) (الآية) وقوله (وإن تصبهم حسنة
[ 22 ]
(الآية) وقوله (ويقولون طاعة) (الآية) ثم يجرى على هذا المجرى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية). قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) لم يذكر ههنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (الآية) (النساء: 59) لان الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله.
وأما الرد المذكور هيهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولاولى الامر منهم لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه، وصدقه أو كذبه. فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى (ليعلم الله من يخافه بالغيب) (المائدة: 94) وقوله (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) (العنكبوت: 11.) والاستنباط استخراج القول من حال الابهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة وأصله من النبط (محركة) وهو أول ما يخرج من ماء البئر، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول وأولى الامر بمعنى أنهم يحققون الامر فيحصلون على الحق والصدق وأن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعملون حق الامر وصدقه بإنباء الرسول وأولى الامر لهم. فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولى الامر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولى الامر أي إذا استصوبه المسؤولون ورأوه موافقا للصلاح، وإن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين. وأما أولوا الامر في قوله: واولو الامر منهم (فالمراد بهم هو المراد بأولى الامر في قوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (النساء: 59) على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الاقوال في ذلك ترجع إلى خمسة، غير أن الذى استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية. أما القول بأن أولى الامر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الامارة على
[ 23 ]
سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأما أمثال ما هو مورد الآية وهو الاخلال في الامن وايجاد الخوف والوحشة العامة التى كان يتوسل إليها المشركون
ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الاخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لامراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الاخبار. واما القول بأن اولى الامر هم العلماء فعدم مناسبته للآية اظهر، إذ العلماء - وهم يومئذ المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في اصول الدين - انما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك، ومورد قوله (وإذا جاءهم امر من الامن أو الخوف) هي الاخبار التى لها اعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما افضى قبولها أو ردها اوالاهمال فيها من المفاسد الحيوية والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن ان لا يستصلح بأى مصلح آخر، أو يبطل مساعي امة في طريق سعادتها، أو يذهب بسوددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والاسر عليهم، واى خبرة للعلماء من حيث انهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم ؟ واى رجاء في حل امثال هذه المشكلات بأيديهم ؟ وأما القول بأن أولى الامر هم الخلفاء الراشدون أعنى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عام يشمله وما بعده وعلى الاول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الاربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، وكان لازمه أن تتصدى الاية لبيان ذلك كما في جميع الاحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالاحكام الخاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أثر في الاية من ذلك. وأما القول بأن المراد بأولى الامر أهل الحل والعقد، وهذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الامم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك فإن الامة لم يكن يجرى فيها إلا حكم الله ورسوله، اضطر
إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة وخاصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم. وكيف كان، يرد عليه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله
[ 24 ]
ابن أبى وأصحابه وحديث مشاورته يوم أحد معروف وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله. على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده عبد الرحمن بن عوف وهذه الايات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به وباصحابه أعنى قوله (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الايات) فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له رواه النسائي في صحيحه ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم وقد مرت الرواية في البحث الروائي السابق. وإذا كان الامر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الاية بارجاع الامر ورده إلى مثل هؤلاء. فالمتعين هو الذى رجحناه في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (الاية). قوله تعالى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) قد تقدم أن الاظهر كون الايات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى وبعث أبى سفيان نعيم بن مسعود الاشجعى إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس واخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبأ واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر. وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، ولم
يسلم من ذلك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى (إلا قليلا) فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا. وهذا الذى استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذى يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة. وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شئ منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: ان المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من ايجاب طاعته وطاعة رسوله وأولى الامر منهم، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولوا الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة ومعنى الاية: ولو لا هذا الذى هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، وإرجاع الامر إلى
[ 25 ]
الرسول وإلى أولى الامر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح. وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، وهو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الاية أنه امتنان في أمر ماض منقض. وقيل: ان الاية على ظاهرها والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة زائدين وان كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الالهية وفيه أن الذى يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الاية. وقد قال تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) وقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير الناس: (ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) (الاسراء - 75) وقيل: إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبى صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: المراد بهما الفتح والظفر، فيستقيم الاستثناء لان الاكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الالهية ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم. وقيل الاستثناء إنما هو من قوله: (أذاعوا به)
وقيل: الاستثناء من قوله (الذين يستنبطونه) وقيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ وهو دليل على الجمع والاحاطة فمعنى الاية:: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، وهذا نظير قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) (الاعلى - 7) فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفى النسيان، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر. قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) التكليف من الكلفة بمعنى المشقه لما فيه من تحميل المشقة على المكلف والتنكيل من النكال، وهو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله ولعيتبر به غيره من المكلفين. والفاء في قوله (فقاتل في سبيل الله،) للتفريع والامر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الايات السابقة. وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعنى قوله (لا تكلف إلا نفسك) (الخ) فإن المعنى: فإذا
[ 26 ]
كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك ولا يشق عليك تثاقلهم ومخالفتهم لامر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك وإنما يتوجه اليك تكليف نفسك لا تكليفهم وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. وقوله (لا تكلف ألا نفسك) أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف. وقوله (عسى الله أن يكف) (الخ) قد تقدم أن (عسى) تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن (عسى) من الله حتم. وفي الاية دلالة على
زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالاجابة ويخليهم وشأنهم ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين أطاع من أطاع، وعصى من عصى. (بحث روائي) في الكافي بأسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان الله عير اقواما بالاذاعة في قوله عز وجل: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) فأياكم والاذاعة. وفيه بإسناده عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) وقال (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد أمر الناس إلى أولى الامر منهم الذين أمر بطاعتهم والرد إليهم. أقول: والرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد باولى الامر في الاية الثانية هم المذكورون في الاية الاولى. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبى جعفر عليه السلام في قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم) قال: هم الائمة.
[ 27 ]
أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا عليه السلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، وروى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام في حديث طويل. وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن عليه السلام: في قوله (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال الفضل رسول الله، ورحمته أمير المؤمنين.
وفيه عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام، وحمران عن أبى عبد الله عليه السلام قال: لو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال: فضل الله رسوله ورحمته ولاية الائمه. وفيه عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح عليه السلام قال: الرحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفضل على بن أبى طالب عليه السلام. أقول: والروايات من باب الجرى، والمراد النبوة والولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان إحداهما: سبب مبلغ والاخرى: سبب مجر والرواية الاخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه بالرحمة حيث قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الاية) (الانبياء - 107) وفي الكافي بإسناده عن على بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله ولا بعده، ثم تلا هذه الآية: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك). ثم قال: وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر حسنات. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: قلت لابي عبد الله على السلام قول الناس لعلى عليه السلام: إن كان له حق فما منعه أن يقوم به ؟ قال: فقال إن الله لا يكلف هذا لانسان واحد إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض الؤمنين) فليس هذا إلا للرسول، وقال لغيره: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره. وفيه عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد على السلام قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا
[ 28 ]
قط فقال: (لا، إن كان عنده أعطه، وإن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، ولا كافى
بالسيئة قط، وما لقى سرية مذ نزلت عليه (فقال في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) إلا ولى بنفسه. أقول: وفى هذه المعاني روايات أخر. * * * من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ حسيبا (86) - الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) - فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا اتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) - ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) - إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) - ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة
[ 29 ]
اركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)) بيان الايات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (85 - 91) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الايمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في
قتالهم واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم فمن قائل يرى قتالهم وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالايمان والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم. ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال ويستهل لما في الايات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية اخرى. قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) النصيب والكفل بمعنى واحد ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لاصلاح شأن فلها شئ من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لاجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة وهو قوله تعالى (من يشفع شفاع) (الخ). وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له ويجتنبوها إن كان المشفوع لاجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا فإن في ترك الفساد القليل على حاله وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شئ ويهلك به الحرث والنسل فالاية في معنى النهى عن الشفاعة السيئة وهى شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الارض. قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) أمر بالتحية قبال
[ 30 ]
التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيى بها، غير أن مورد الايات هو تحية السلم والصلح التى تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الايات التالية قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) (الخ) معنى الاية ظاهر، وهى بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الايتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة
الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالاعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده. قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم) (الاية) الفئة الطائفة والاركاس الرد. والاية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعنى قوله (من يشفع شفاعة) (الاية)، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطى لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين وتحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والاغماض عن شجرة الفساد التى تنمو بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الاعمال، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله ؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى. وفي قوله (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (الخ) هو بمنزلة البيان لقوله (والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله) والمعنى: أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا. ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم، وفي قوله (فإن تولوا). دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.
[ 31 ]
قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم) استثنى الله سبحانه من قوله (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) طائفتين: (إحداهما) الذين يصلون (الخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، و (الثانية) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، وقوله (حصرت صدورهم) أي ضاقت. قوله تعالى: (ستجدون آخرين) إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعنى قوله (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) بالشرط المنفى أعنى قوله (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم) (الخ) وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم، ومعنى الاية ظاهر. (كلام في معنى التحية) الامم والاقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقات البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الاشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهى مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم. وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الامم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الدانى للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذى لم
يزل رائجا بين الامم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى ان هذه التحية تبدء من المطيع وتنتهى إلى المطاع، وتشرع من الدانى الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهى من ثمرات الوثنية التى ترتضع من ثدى الاستعباد. والاسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهى إليها،
[ 32 ]
ويتولد منها، ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذى هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض حريته الفطرية الانسانية الموهوبة له فان أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الافراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يؤل إلى أحد هذه الثلاثة. وهذا هو السلام الذى سن الله تعالى إلقائه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (النور - 61) وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غيربيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) (النور - 27) وقد أدب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الانعام - 54) وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (الزخرف - 89). والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هنالك. ثم جاء الله بالاسلام فقصروا على السلام، وأمروا بإفشائه. (انتهى). إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه عليه السلام كثيرا: ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى:
حكاية عنه فيما يحاور أباه: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربى) (مريم - 47) وقال تعالى (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (هود - 69) والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم. ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: (سلام على نوح في العالمين) (الصافات - 79) وقال: (سلام على إبراهيم) (الصافات: 109) وقال: (سلام على موسى وهارون) (الصافات - 120) وقال (سلام على آل ياسين) (الصافات - 130) وقال: (وسلام على المرسلين) (الصافات - 181.
[ 33 ]
وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) (النحل - 32) وقال: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) (الرعد - 24) وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: وتحيتهم فيها سلام) (يونس - 10)، وقال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) (الواقعة - 26). (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى (وإذا حييتم (الاية) قال: ذكر على بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الاية السلام وغيره من البر. وفي الكافي بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السلام تطوع والرد فريضة. وفيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبى عبد الله عليه السلام قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير. وفيه عليه السلام بإسناده عن عيينة (1) عن مصعب عن أبى عبد الله عليه السلام قال: القليل يبدئون الكثير بالسلام، والراكب يبدء الماشي، وأصحاب البغال يبدئون أصحاب
الحمير، وأصحاب الخيل يبدئون أصحاب البغال. وفيه بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة سلم الاقل على الاكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة. أقول: وروى ما يقرب منه في الدر المنثور عن البيهقى عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه بالاسناد عنه عليه السلام قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم،
(1) عنبسة (خ ل) (*)
[ 34 ]
وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبى جعفر عليه السلام وهو في الصلاة فقلت: السلام عليك. فقال: السلام، عليك فقلت: كيف أصبحت ؟ فسكت فلما انصرف قلت: أيرد السلام وهو في الصلاة ؟ قال: نعم، مثل ما قيل له. وفيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إذا سلم عليك الرجل وانت تصلى قال: ترد عليه خفيا كما قال. وفي الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: لا تسلموا على اليهود، لا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الاوثان، ولا على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذى يقذف المحصنات، ولا على المصلى لان المصلى لا يستطيع أن يرد السلام لان التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذى في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه. اقول: والروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والاحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الامن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وادحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم
للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافى مسألة المساواة وانما هو مبنى على وجوب رعاية الحقوق فإن الاسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، واهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعى فضل ذى الفضل، وحق صاحب الحق، وانما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغى على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الانساني. وأما النهى الوارد عن التسليم على بعض الافراد فإنما هو متفرع على النهى عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة: 51) وقال: (لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) (الممتحنة - 1) وقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (هود - 113) إلى غير ذلك من الايات. نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق
[ 35 ]
التسليم عليهم ليحصل به تمام الانس وتمتزج النفوس كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في قوله (فاصفح عنهم وقل سلام) (الزخرف - 89) وكما في قوله يصف المؤمنين (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (الفرقان - 63). وفي تفسير الصافى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك، فقال الرجل: نقصتنى فأين ما قال الله (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) - فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله. اقول: وروى مثله في الدر المنثور عن احمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسى.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام: بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لابينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. اقول: وفيه إشارة إلى ان السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) مأخوذة من حنيفية إبراهيم عليه السلام، وتأييد لما تقدم ان التحية بالسلام من الدين الحنيف. وفيه عن الصادق عليه السلام: ان من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة. وفي الخصال عن امير المؤمنين عليه السلام: إذا عطس احدكم قولوا يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية). وفي المناقب: جاءت جارية للحسن عليه السلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أدبنا الله تعالى فقال: (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) وكان أحسن منها إعتاقها.
[ 36 ]
اقول: والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الاية. وفي المجمع في قوله تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين) الاية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الاية، فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الاسلام ثم رجعوا إلى مكة لانهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا: فقال بعضهم لا نفعل فانهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الاية. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام.
وفي تفسير القمى في قوله تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (الاية) أنها نزلت في أشجع وبنى ضمرة، وهما قبيلتان، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هادن بنى ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلا، إنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد. وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بنى ضمرة، وهم بطن من كنانة، وكانت أشجع بينهم و بين بنى ضمرة حلف بالمراعاة والامان فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بنى ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بنى ضمرة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسيرهم إلى بنى ضمرة تهيا للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التى كانت بينه وبين بنى ضمرة فأنزل الله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). ثم استثنى بأشجع فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح، وقد كانوا قربوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهابوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع، ورئيسها مسعود بن رجيله، وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع، وذلك في شهر ربيع الاول
[ 37 ]
سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيد بن حصين وقال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.
فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم ؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع اسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بينى وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشئ الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم ؟ قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، وفيهم نزلت هذه الاية ((إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). وفي الكافي بإسناده عن الفضل أبى العباس عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) قال: نزلت في بنى مدلج لانهم جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك لرسول الله فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك، قال قلت: كيف صنع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، وإلا قاتلهم. وفي تفسير العياشي عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام (أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) قال: كان أبى يقول: نزلت في بنى مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلى االله عليه وآله وسلم ولم يكونوا مع قومهم قلت: فما صنع بهم ؟ قال: لم يقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال: (وحصرت صدورهم) هو الضيق. وفي المجمع: المروى عن أبى جعفر عليه السلام أنه قال: المراد بقوله تعالى (قوم بينكم وبينهم ميثاق) هو هلال بن عويمر السلمى واثق عن قومه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال في موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك، فنهى الله أن يتعرض
لاحد عهد إليهم.
[ 38 ]
اقول: وقد روى هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس وغيره وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (إلا الذين يصلون إلى قوم) (الاية) قال: نسختها براءة: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). * * * وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما - 92. ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما - 93. يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا - 94. (بيان) قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) الخطأ بفتحتين من غير مد، ومع المد على فعال: خلاف الصواب، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الاية
[ 39 ]
التالية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا). والمراد بالنفى في قوله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا)، نفى الاقتضاء أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الايمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطأ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفى الاقتضاء قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله) (الشورى - 51) وقوله (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) (النمل - 60) وقوله (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس: 74) إلى غير ذلك. والاية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم ان المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك. وقد ذكر جمع من المفسرين: ان الاستثناء في قوله (إلا خطأ) منقطع، قالوا: وإنما لم يحمل قوله (إلا خطأ) على حقيقة الاستثناء لان ذلك يؤدى إلى الامر بقتل الخطأ أو إباحته (انتهى) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدى إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ، أو عدم وضع الحرمة فيه، ولا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل. قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ - إلى قوله - يصدقوا) التحرير جعل المملوك حرا، والرقبة هي العنق شاع إستعمالها في النفس المملوكة مجازا والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، والمعنى: ومن قتل مؤمنا بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية. قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، والقوم العدو هم الكفار المحاربون، والمعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار
محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا. قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق)، الضمير في (كان) يعود إلى
[ 40 ]
المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد، والمعنى: وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق. قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام)، أي من لم يستطع التحرير - لانه هو الاقرب بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين. قوله تعالى: (توبة من الله) (الخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، ويمكن أن يكون قوله (توبة) قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الاية من الكفارة أعنى قوله (فتحرير رقبة) (الخ) والمعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) (البقرة: 179). وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالى بالدية المسلمة. ومن هنا يظهر أن الاسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث. وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الاية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه. قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) التعمد هو القصد إلى الفعل
بعنوانه الذى له، وحيث ان الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن ان يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم انه من الصيد وهو في الواقع انسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الانسان، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصى قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذى يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وان المقتول مؤمن.
[ 41 ]
وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشرك به) (النساء - 48) ان تلك الاية، وكذا قوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر - 53) تصلحان لتقييد هذه الاية فهذه الاية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الضرب هو السير في الارض والمسافرة وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الايمان، وقرئ: (لمن ألقى اليكم السلم) بفتح اللام وهو الاستسلام. والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة، وقوله (فعند الله مغانم كثيرة) جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذى يريدونه لكثرتها وبقائها فهى التى يجب عليكم أن تؤثروها. قوله تعالى: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) (الخ) أي على هذا
الوصف. وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل ان تؤمنوا فمن الله عليكم بالايمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم ان تتبينوا، وفي تكرار الامر بالتبين تأكيد في الحكم. والاية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذى ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر انه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه انما يظهر الايمان خوفا على نفسه، والاية توبخه بأن الاسلام انما يعتبر بالظاهر، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير. وعلى هذا فقوله (تبتغون عرض الحياة الدنيا) موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الايمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالايمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من
[ 42 ]
موجه العذر، وهذا هو الحال الذى كان عليه المؤمنون قبل ايمانهم لا يبتغون الا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالايمان، ومن عليهم بالاسلام كان الواجب عليهم ان يتبينوا فيما يصنعون ولا ينقادوا لاخلاق الجاهلية وما بقى فيهم من اثارتها. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بنى عامر بن لوى يعذب عياش بن أبى ربيعة مع أبى جهل ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر. أقول: وروى هذا المعنى بغيره من الطرق، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين
خرج عياش وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقى حارثا وقد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك. وما اثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء. وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد أن الذى نزلت فيه الاية هو أبو الدرداء كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الاية. وروى في الدر المنثور أيضا عن الرويانى وابن منده وأبى نعيم عن بكر بن حارثة الجهنى أنه هو الذى نزلت فيه الاية لقصة نظيرة قصة أبى الدرداء، والروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق. وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل فإن الله تعالى يقول: (فتحرير رقبة مؤمنة) يعنى بذلك مقرة قد بلغت الحنث (الحديث).
[ 43 ]
وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر عليه السلام: سئل كيف تعرف المؤمنة ؟ قال: على الفطرة. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: في رجل مسلم في أرض الشرك فقتله المسلمون ثم علم به الامام بعد فقال عليه السلام: يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عز وجل: (فإن كان من قوم عدو لكم). اقول: وروى مثله العياشي. وفي قوله (يعتق مكانه) إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الاشارة إليه. وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الاول فإن عليه أن يعيد الصيام وإن صام الشهر الاول وصام من الشهر الثاني شيئا ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضى. اقول: أي يقضى ما بقى عليه كما قيل وقد استفيد من التتابع. وفي الكافي وتفسير العياشي عنه عليه السلام: أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة ؟ فقال: إن كان قتله لايمانه فلا توبة له وإن كان قتله لغضب أو لسبب شئ من أشياء الدنيا فإن توبته أن يقاد منه - وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية وأعتق نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز وجل. وفي التهذيب بإسناده عن أبى السفاتج عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عز وجل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) قال: جزاؤه جهنم إن جازاه. اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وغيره عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الايات وفي باب القتل والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث. وفي المجمع في قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (الاية) قال:
[ 44 ]
نزلت في مقيس بن ضبابة الكنانى وجد أخاه هشاما قتيلا في بنى النجار فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهرى وقال له: قل لبنى النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهرى الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهرى وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك. اقتل الذى معك لتكون نفس بنفس والدية فضل فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ورجع إلى مكة كافرا وأنشد يقول.
قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بنى النجار أرباب فارع فأدركت ثارى وأضطجعت موسدا * وكنت إلى الاوثان أول راجع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا اؤمنه في حل ولا حرم. رواه الضحاك وجماعة من المفسرين (انتهى). اقول: وروى ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. وفي تفسير القمى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) (الاية) أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزاة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الاسلام كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكى في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا كشفت الغطاء عن قلبه ولا ما قال بلسانه قبلت ولا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتخلف عن أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه فأنزل في ذلك (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) (الاية). اقول: وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدى وروى في الدر المنثور روايات كثيرة في سبب نزول الاية في بعضها: أن القصة لمقداد بن الاسود وفي بعضها لابي الدرداء وفي بعضها لمحلم بن جثامة وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول
[ 45 ]
وابهمت القصة إبهاما هذا ولكن حلف أسامة بن زيد واعتذاره إلى على عليه السلام في
تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم. لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما - 95. درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما - 96. إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا - 97. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - 98. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا - 99. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما - 100. (بيان) قوله تعالى: (لا يستوى القاعدون - إلى قوله - وأنفسهم) الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض والمراد بالجهاد بالاموال
[ 46 ]
إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين وبالانفس القتال. وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه. ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولى الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولى الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا: إن الله
سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التى فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم وبالجملة ففى الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة. قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) الجملة في مقام التعليل لقوله (لا يستوى) ولذا لم توصل بعطف ونحوه والدرجة هي المنزلة والدرجات المنزلة بعد المنزلة وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين أو كلا من القاعدين غير أولى الضرر والقاعدين أولى الضرر والمجاهدين الحسنى والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله (لا يستوى - إلى قوله - درجة) أنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من ايمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله (وكلا وعد الله الحسنى). قوله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لاجمال التفضيل المذكور أولا ويفيد مع ذلك فائدة أخرى وهى الاشارة إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذى يتضمنه قوله (وكلا وعد الله الحسنى) فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة. وأمر الاية في سباقها عجيب أما أولا فلانها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله (في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) و (ثانيا) بقوله (بأموالهم وأنفسهم) و (ثالثا) أوردته من
[ 47 ]
غير تقييد. وأما ثانيا: فلانها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة و (ثانيا) انها درجات منه.
أما الاول فلان الكلام في الاية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس وبالسماحة والجود بأعز الاشياء عند الانسان وهو المال وبما هو أعز منه وهو النفس ولذلك قيل أولا: (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ليتبين بذلك الامر كل التبين ويرتفع به اللبس ثم لما قيل: (وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لان اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله (وكلا وعد الله الحسنى) مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفى بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: (المجاهدين بأموالهم وأنفسهم) وأما قوله ثالثا (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا. وأما الثاني فقوله (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) (درجة) منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يتعرض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر وقوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه) كأن لفظة (فضل) فيه مضمنة معنى الاعطاء أو ما يشابهه وقوله (درجات منه) بدل أو عطف بيان لقوله (أجرا عظيما) والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة وهى الاجر العظيم الذى يثاب به المجاهدون. ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا (درجة) وثانيا (درجات منه) وقد ذكر المفسرون للتخلص من الاشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها
من تكلف.
[ 48 ]
منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين اولى الضرر بدرجة وفي ذيل الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير اولى الضرر بدرجات. ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما وبالدرجات في آخر الاية المنازل الاخروية وهى أكثر بالنسبة إلى الدنيا قال تعالى: (وللاخرة أكبر درجات) (أسرى 21). ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة عند الله وهى أمر معنوى وبالدرجات في ذيل الاية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهى حسية، وأنت خيبر بأن هذه الاقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ. والضمير في قوله (منه لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله (ومغفرة ورحمة) بناء على كونه بيانا للدرجات، و المغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى الاجر المذكور قبلا. وقوله (ومغفرة ورحمة) ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهى المنازل من الله سبحانه أياما كانت فهى مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة - وهى الافاضة الالهية للنعمة - تتوقف على إزاله الحاجب ورفع المانع من التلبس بها، وهى المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التى بعدها، والدرجة التى فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الاخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله (مغفرة وأجر عظيم) (المائدة: 9) وقوله (ومغفرة ورزق كريم) (الانفال - 4) وقوله (مغفرة وأجر كبير) (هود: 11) وقوله
(ومغفرة من الله ورضوان) (الحديد - 20) وقوله (واغفر لنا وارحمنا) (البقرة - 286) إلى غير ذلك من الايات. ثم ختم الاية بقوله: (وكان الله غفورا رحيما) ومناسبة الاسمين مع مضمون الاية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها (ومغفرة ورحمة.) قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) لفظ (توفاهم) صيغة ماض أو صيغة مستقبل - والاصل تتوفاهم حذفت إحدى التائين من اللفظ تخفيفا - نظير قوله
[ 49 ]
تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) (النحل - 28). والمراد بالظلم كما تؤيده الاية النظيرة هو ظلمهم لانفسهم بالاعراض عن دين الله وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذى يدل عليه السياق في قوله (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض) إلى آخر الايات الثلاث. وقد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله (لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (الاعراف - 45)، هود: 19) ومحصل الايتين تفسير الظلم بالاعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا، وينطبق على ما يظهر من الاية التى نحن فيها. قوله تعالى: (قالوا فيم كنتم) أي فيما ذا كنتم من الدين، وكلمة (م) هي ما الاستفهامية حذفت عنها الالف تخفيفا. وفي الاية دلالة في الجملة على ما تسميه الاخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا
أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا (الايات) (النحل: 30). قوله تعالى: (قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) كان سؤال الملائكة (فيم كنتم) سؤالا عن الحال الذى كانوا يعيشون فيه من الدين، ولم يكن هؤلاء المسؤولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الارض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الاخذ بشرائع الدين والعمل بها.
[ 50 ]
ولما كان هذا الذى ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الارض التى ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الارض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الارض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم. فقوله (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله (فيم كنتم) ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال. وقد أضافت الملائكة الارض إلى الله، ولا يخلو من أيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الايمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) (الاية.
ووصف الارض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله (فتهاجروا فيها) أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها. ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المسألة بقوله (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان)، الاستثناء منقطع، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذى فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الاية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الالهى ورفع للبس. وقوله (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الالة فهى ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شئ وشئ أو حال للحصول على شئ أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية، وفي الامور المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته. والمعنى لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف
[ 51 ]
المشركين عن أنفسهم، ولا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسى كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمى مكة، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدى المشركين، واستضعافهم لهم بالعذاب والفتنة. (كلام في المستضعف) يتبين بالاية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للانسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه. توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين وكل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الالهى، ثم يستثنى من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف
ثم يعرفهم بما يعمهم وغيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقى معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الاسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالى ونحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفى عنه الحق لشئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك. فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا لا لانه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل. هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الاية الذى هو في معنى عموم العلة، وهو الذي يدل عليه غيرها من الايات كقوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة: 286) فالامر المغفول عنه ليس في وسع الانسان كما أن الممنوع من الامر بما يمتنع معه ليس في وسع الانسان.
[ 52 ]
وهذه الاية أعنى آية البقرة كما ترفع التكليف بإرتفاع الوسع كذلك تعطى ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الانسان، ولا يكون له في امتناع الامر الذى امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو بشئ من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية، واذ كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شئ من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى
اختياره، ولم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة مستكبرا عن الحق جاحدا له فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه. ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شئ له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين (فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) وقوله تعالى (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) (براءة - 106) ورحمته سبقت غضبه. قوله تعالى: (فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم)، هؤلاء وان لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الانسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالانسان لا غنى له في نفسه عن العفو الالهى الذى يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم. وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله (وكان الله عفوا غفورا) اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أو عدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) قال الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام، وأرغمه غيره، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر: إذا رغمت تلك الانوف لم أرضها * ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها فمقابلته بالارضاء مما ينبه على دلالته على الاسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله
[ 53 ]
أنفه، وأرغمه أسخطه وراغمه ساخطه، وتجاهدا على ان يرغم أحدهما الاخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: (يجد في الارض مراغما كثيرا) أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه ان يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت
إليه (انتهى) فالمعنى: ومن يهاجر في سبيل الله، أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما وعملا يجد في الارض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من اقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لارغام المانع واسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته، ويجد سعة في الارض. وقد قال تعالى في سابق الايات: (ألم تكن أرض الله واسعة) ولازم التفريع عليه أن يقال: ومن يهاجر يجد في الارض سعة الا أنه لما زيد قوله (مراغما كثيرا) وهو من لوازم سعة الارض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم. قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) (الخ) المهاجرة إلى الله ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الاسلام التى يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والعمل به. وادراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجأته فان الادراك هو سعى اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، وكذا وقوع الاجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الاجر والثواب له تعالى واخذه ذلك في عهدته، فهناك اجر جميل وثواب جزيل سيوافى به العبد لا محالة، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التى لا يعزها شئ ولا يعجزها شئ ولا يمتنع عليها ما أرادته، ولا تخلف الميعاد. وختم الكلام بقوله (وكان الله غفورا رحيما) تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفية الاجر والثواب. وقد قسم الله سبحانه في هذه الايات المؤمنين أعنى المدعين للايمان من جهة الاقامة في دار الايمان ودار الشرك إلى أقسام، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة وتنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الايمان، والاجتماع هناك، وتقوية
[ 54 ]
المجتمع الاسلامي، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى واعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وأعلام الدين. فطائفة أقامت في دار الاسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وقاعدين غير اولى الضرر، وقاعدين اولى الضرر وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة. وطائفة أقامت في دار الشرك، وهى ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم وساءت مصيرا، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله ورسوله ثم ادركها الموت فقد وقع اجرها على الله. والايات تجرى بمضامينها على المسلمين في جميع الاوقات والازمنة وإن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي (ص) بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة وكانت الارض منقسمة يومئذ إلى أرض الاسلام وهى المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه، وإلى أرض الشرك وهى مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم لردهم عن دينهم. لكن الايات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه، وأن يهجر الارض التى لا علم فيها بمعارف الدين، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الاسلام أو دار شرك فإن الاسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمياتها وصار الدين جنسية، والاسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه. والقرآن الكريم إنما يرتب الاثر على حقيقة الاسلام دون اسمه ويكلف الناس من
العمل ما فيه شئ من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) (النساء: 124) وقال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله
[ 55 ]
واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقره: 62). (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالاسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الاية: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) إلى آخر الاية. قال: فكتب إلى من بقى بمكة من المسلمين بهذه الاية، وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الاية (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) إلى آخر الاية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم (ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) فكتبوا إليهم بذلك ان الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الضحاك في الاية قال هم أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فاصيبوا يوم بدر فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الاية.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الاية قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضهر ونبع الايمان نبع النفاق معه فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله لو لا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ويفعلون ويفعلون لاسلمنا، ولكن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له فلما كان يوم بدر قام المشركون فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبى صلى الله عليه وآله وسلم معهم فقتلت طائفة منهم، وأسرت طائفة.
[ 56 ]
قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (الاية) كلها (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم - أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). ثم عذر الله أهل الصدق فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم) إقامتهم بين ظهرى المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا فقال الله: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم صنيعكم الذى صنعتم خروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل - خرجوا مع المشركين - فأمكن منهم). وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم وابن جرير عن عكرمة في قوله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم - إلى قوله - وساءت مصيرا) قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الاسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبى العاص بن منبه بن الحجاج، وعلى بن امية بن خلف.
قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبى سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الاسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم. اقول: والروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، وهى وإن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن. ومن أهم ما يستفاد منها، وكذا من الايات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة وبعدها. فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة
[ 57 ]
رجل يقال له ضمرة من بنى بكر، وكان مريضا فقال لاهله. أخرجوني من مكة فإنى أجد الحر فقالوا: أين نخرجك ؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الاية (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت). اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا الذى أدركه الموت، ففى بعضها ضمرة بن جندب، وفي بعضها أكثم بن صيفي، وفي بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقى، وفي بعضها ضمرة بن العيص من بنى ليث، وفي بعضها جندع بن ضمرة الجندعى، وفي بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات. وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي. قال الراوى: قلت: فأين
الليثى ؟ قال: هذا قبل الليثى بزمان وهى خاصة عامة. اقول: يعنى أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، والمتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، وليثى، وخالد بن حزام وأما نزول الاية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوى. وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستضعف، فقال: هو الذى لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدى سبيلا إلى الايمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان ومن الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم. اقول: والحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني والصدوق والعياشي بعدة طرق عنه. وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذى لا يسع العباد جهله. قال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم. قلت: جعلت فداك فأحدثك بدينى الذى أنا عليه ؟ فقال: نعم. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله تعالى، وأتولاكم، وأبرء من أعدائكم ومن ركب رقابكم، وتأمر عليكم، وظلمكم حقكم. فقال: والله ما
[ 58 ]
جهلت شيئا، هو والله الذى نحن عليه. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الامر ؟ فقال: الا المستضعفين. قلت: من هم ؟ قال نساؤكم وأولادكم. ثم قال: أرأيت ام ايمن ؟ فإنى اشهد انها من اهل الجنة، وما كانت تعرف ما انتم عليه. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها والخادم تقول لها: صلى فتصلى لا تدرى الا ما قلت لها، والجليب الذى لا يدرى الا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبى، والصغير، هؤلاء المستضعفون فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع
أن تعينه في شئ تقول: هذا المستضعف ؟ لا، ولا كرامة. وفي المعاني عن سليمان عن الصادق عليه السلام في الاية قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلون، تعف بطونهم وفروجهم، ولا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم إذا كانوا آخذين بالاغصان، وأن يعرفوا اولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته وان عذبهم فبضلالتهم. اقول: قوله (لا يرون أن الحق في غيرنا) يريد صورة النصب أو التقصير المؤدى إليه كما يدل عليه الروايات الاتية. وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف. وفيه وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الاية قال: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، ولا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، وباجتناب المحارم التى نهى الله عنها، ولا ينالون منازل الابرار وفي تفسير القمى عن ضريس الكناسى عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها - فمن كان له عمل صالح، ولم يظهر منه عداوة فإنه يخدله خد إلى الجنة التى خلقها الله بالمغرب فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه
[ 59 ]
بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة، واما إلى النار فهؤلاء الموقوفون لامر الله. قال وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والاطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم. فأما النصاب من أهل القبلة فإنه يخدلهم خد إلى النار التى خلقها الله بالمشرق فيدخل
عليه اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم. وفي الخصال عن الصادق عن أبيه عن جده عن على عليه السلام قال: ان للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا - إلى ان قال - وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا اله الا الله، ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت عليهم السلام. وفي المعاني وتفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله (الا المستضعفين) قال: هم أهل الولاية. قلت: أي ولاية ؟ قال: أما انها ليست بولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، وهم المرجون لامر الله عز وجل. اقول: وهو اشارة إلى قوله تعالى (وآخرون مرجون لامر الله اما يعذبهم واما يتوب عليهم) الاية (التوبة - 106) وسيأتى ما يتعلق به من الكلام ان شاء الله. وفي النهج قال عليه السلام: ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه، ووعاها قلبه. وفي الكافي عن الكاظم عليه السلام: أنه سئل عن الضعفاء فكتب عليه السلام: الضعيف من لم ترفع له حجة. ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه سئل: ما تقول في المستضعفين ؟ فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا ؟ وأين المستضعفون ؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهن، وتحدثت به السقاءات في طريق المدينة. وفي المعاني عن عمر بن اسحاق قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام ما حد المستضعف الذى ذكره الله عز وجل ؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه الله عز وجل خلقة ما ينبغى لاحد أن لا يحسن.
[ 60 ]
اقول: وهاهنا روايات اخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، والروايات وان كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى اطلاق الاية على ما قدمناه، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير. وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا - 101 وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا - 102. فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا 103. ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما - 104.
[ 61 ]
(بيان)
الايات تشرع صلاة الخوف والقصر في السفر وتنتهى إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين وابتغائهم، وهى مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد وما لها من مختلف الشؤون. قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) الجناح الاثم والحرج والعدول، والقصر النقص من الصلاة قال في المجمع: في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها وهى لغة القرآن، وقصرتها تقصيرا، أقصرتها اقصارا. والمعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج واثم ان تنقصوا شيئا من الصلاة، ونفى الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافى وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى (أن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة - 158) مع كون الطواف واجبا، وذلك ان المقام مقام التشريع ويكفى فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم وخصوصياته، ونظير الاية بوجه قوله تعالى (وان تصوموا خير لكم) (الاية) (البقرة - 184) قوله تعالى: (ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) الفتنة وان كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من اطلاقها في القرآن في خصوص الكفار والمشركين التعذيب من قتل أو ضرب ونحوهما، وقرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى: ان خفتم ان يعذبوكم بالحملة والقتل. والجملة قيد لقوله (فلا جناح عليكم) وتفيد ان بدء تشريع القصر في الصلاة انما كان عند خوف الفتنة ولا ينافى ذلك ان يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي وان لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، والسنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات. قوله تعالى: (وإذا كنتم فيهم - إلى قوله - وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم)
[ 62 ]
الاية، تذكر كيفية صلاة الخوف، وتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفرضه اماما في صلاة الخوف، وهذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه اوجز واجمل. فالمراد بقوله (اقمت لهم الصلاة) هو الصلاة جماعة، والمراد بقوله (فلتقم طائفة منهم معك) قيامهم في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو الايتمام، وهم المأمورون بأخذ الاسلحة، والمراد بقوله (فإذا سجدوا (الخ) إذا سجدوا واتموا الصلاة ليكون هؤلاء، بعد اتمام سجدتهم من وراء القوم، وكذا المراد بقوله (وليأخذوا حذرهم واسلحتهم) ان تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذرهم واسلحتهم. والمعنى - والله اعلم -: وإذا كنت انت يا رسول الله فيهم والحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك وليأخذوا معهم اسلحتهم، ومن المعلوم ان الطائفة الاخرى يحرسونهم وامتعتهم فإذا سجد المصلون معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم والامتعة ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذ هؤلاء المصلون ايضا كالطائفة الاولى المصلية حذرهم واسلحتهم. وتوصيف الطائفة بالاخرى، وارجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ واخرى لجانب المعنى، كما قيل. وفي قوله تعالى (وليأخذوا حذرهم واسلحتهم) نوع من الاستعارة لطيف، وهو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الاخذ الذى نسب إلى الاسلحة، كما قيل. قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون - إلى قوله - واحدة) في مقام التعليل للحكم المشرع، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (ولا جناح عليكم) إلى آخر الاية. تخفيف آخر وهو انهم ان كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من ان يضعوا
اسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك ان يأخذوا حذرهم، ولا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم. قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) القيام والقعود جمعان أو مصدران، وهما حالان وكذا قوله (وعلى جنوبكم) وهو كناية
[ 63 ]
عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الاحوال. قوله تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (الخ) المراد بالاطمينان الاستقرار، وحيث قوبل به قوله (وإذا ضربتم في الارض) على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الاوطان، وعلى هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك. قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) الكتابة كناية عن الفرض والايجاب كقوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (البقره - 183) والموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ ان الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدى في أوقاتها ونجومها. والظاهر ان الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير باطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، وذلك ان إبقاء لفظ الموقوت على بادى ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله (ان الصلاة) في مقام التعليل لقوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شئ آخر كالصوم إلى الفدية مثلا. قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم)، الوهن الضعف، والابتغاء الطلب، والالم مقابل اللذة، وقوله (وترجون من الله ما لا يرجون) حال من ضمير
الجمع الغائب، والمعنى: أن حال الفريقين في ان كلا منهما يألم واحد، فلستم اسوء حالا من اعدائكم بل انتم أرفه منهم وأسعد حيث ان لكم رجاء الفتح والظفر والمغفرة من ربكم الذى هو وليكم، واما اعدائكم فلا مولى لهم ولا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم، وينشطهم في عملهم. ويسوقهم إلى مبتغاهم، وكان الله عليما بالمصالح، حكيما متقنا في امره ونهيه.
[ 64 ]
(بحث ورائي) في تفسير القمى: نزلت - يعنى آية صلاة الخوف - لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ليستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجبال فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر أذن بلال، وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لاصبناهم فانهم لا يقطعون صلاتهم، ولكن يجئ لهم الان صلاة اخرى هي احب إليهم من ضياء ابصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة اغرنا عليهم فنزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاة الخوف في قوله (وإذا كنت فيهم). وفي المجمع في قوله (ولا جناح عليكم ان كان بكم اذى من مطر) (الاية) انها نزلت والنبى بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: ان لهم صلاة اخرى احب إليهم من هذه - يعنون صلاة العصر - فأنزل الله عليه هذه الاية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، وكان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد (القصة). وفيه: ذكر أبو حمزة - يعنى الثمالى - في تفسيره: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزى محاربا ببنى انمار فهزمهم الله، واحرزوا الذرارى والمال، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا اسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقضى حاجته،
وقد وضع سلاحه فجعل بينه وبين اصحابه الوادي، فإلى ان يفرغ من حاجته، وقد درأ الوادي، والسماء ترش فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اصحابه وجلس في ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له اصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من اصحابه. فقال: قتلني الله ان لم اقتله، وانحدر من الجبل ومعه السيف، ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا وهو قائم على راسه ومعه السيف قد سله من غمده، وقال: يا محمد من يعصمك منى الان فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الله. فانكب عدو الله لوجهه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ سيفه، وقال: يا غورث من يمنعك منى الان ؟ قال. لا احد. قال: اتشهد ان لا اله الا الله، وانى عبد الله ورسوله ؟ قال: لا ولكني اعهد ان لا اقاتلك ابدا، ولا اعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه، فقال
[ 65 ]
له غورث: والله لانت خير منى. قال صلى الله عليه وآله وسلم: انى احق بذلك. وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه ؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لاضربه فما أدرى من زلجنى بين كتفي ؟ فخررت لوجهي، وخر سيفى، وسبقني إليه محمد وأخذه، ولم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وقرء عليهم (إن كان بكم أذى من مطر) الاية كلها. وفي الفقيه بإسناده عن عبد الرحمان بن أبى عبد الله عن الصادق عليه السلام أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه، فكبر وكبروا فقرء وأنصتوا، فركع وركعوا، فسجد وسجدوا، ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو. وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبر وكبروا، وقرء فأنصتوا،
وركع فركعوا، وسجد وسجدوا، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتشهد ثم سلم عليهم فقاموا فقضوا لانفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، وقد قال تعالى لنبيه (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) - إلى قوله - كتابا موقوتا) فهذه صلاة الخوف التى أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الاولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين (الحديث). وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا ؟ قال: نعم، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف. وفي الفقيه بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم. انهما قالا: قلنا لابي جعفر عليه السلام: ما تقول في صلاة السفر ؟ كيف هي ؟ وكم هي ؟ فقال: ان الله عز وجل يقول: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) فصار التقصير في السفر
[ 66 ]
واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا: قلنا: انما قال الله عز وجل: (فليس عليكم جناح) ولم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقال عليه السلام: أو ليس قد قال الله (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض ؟ لان الله عز وجل ذكره في كتابه، وصنعه نبيه، وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره الله تعالى في كتابه. قالا: فقلنا له: فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا ؟ قال: ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وان لم تكن قرئت عليه ولم يكن يعلمها فلا اعادة عليه.
والصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة الا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات (الحديث). وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وأحمد ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة والطحارى وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والنحاس في ناسخة وابن حبان عن يعلى بن امية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: (ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) وقد امن الناس ؟ فقال لى عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وفيه: اخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في سننه عن امية بن خالد بن اسد: انه سأل ابن عمر: ارأيت قصر الصلاة في السفر ؟ انالا نجدها في كتاب الله، انما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن اخى ان الله ارسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولا نعلم شيئا، فانما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: اخرج ابن ابى شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين. وفيه اخرج ابن ابى شيبة واحمد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي
[ 67 ]
عن حارثة بن وهب الخزاعى قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر بمنى اكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين. وفي الكافي بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام قوله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) قال: كتابا ثابتا، وليس أن عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذى يضرك ما لم تضع تلك الاضاعة فإن الله عز وجل يقول. (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا.
اقول: إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهد الوقت كما يدل عليه روايات أخر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام: قال في صلاة المغرب في السفر: لا تترك إن تأخرت ساعة، ثم تصليها إن أحببت أن تصلى العشاء الاخرة، وإن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الهاجرة والعصر جميعا، والمغرب والعشاء الاخرة جميعا، وكان يؤخر ويقدم إن الله تعالى قال: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) إنما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا، وكان أعلم وأخبر وكان كما يقولون، ولو كان خيرا لامر به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة، وأمرهم على أمير المؤمنين عليه السلام فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا وركبانا لقول الله (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فأمر على عليه السلام فصنعوا ذلك. اقول: والروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق والروايات في المعاني السابقة وخاصة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة، جد، وإنما أوردنا انموذجا مما ورد منها. واعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات اخرى تعارض ما تقدم، وهى مع ذلك تتدافع في أنفسها، والنظر فيها وفي سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف خاصة وصلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه. وفي تفسير القمى في قوله (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) (الاية) إنه معطوف على قوله
[ 68 ]
في سورة آل عمران (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). وقد ذكرنا هناك سبب نزول الاية. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك الله ولا
تكن للخائنين خصيما - 105. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما - 106. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما - 107. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا - 108. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا - 109. ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - 110. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما - 111. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - 112. ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما - 113. لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما - 114. ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
[ 69 ]
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا - 115. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا - 116. إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا - 117. لعنه الله وقال لا تخذن من عبادك نصيبا مفروضا - 118. ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا - 119 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا - 120. اولئك مأويهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا - 121. والذين آمنوا وعلموا الصالحات سندخلهم
جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا - 122. ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصير - 123. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا - 124. ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا - 125. ولله ما في السموات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا - 126. (بيان) الذى يفيده التدبر في الايات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في
[ 70 ]
القضاء، والنهى عن أن يميل القاضى في قضائه، والحاكم في حكمه إلى المبطلين، ويجور على المحقين كائنين من كانوا. وذلك بالاشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الايات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية والامر بلزومها ورعايتها، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، وإنما ينفع التلبس به دون التسمى. والظاهر أن هذه القصة هي التى يشير إليها قوله تعالى (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) حيث يدل على أنه كان هناك شئ من المعاصي التى تقبل الرمى كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها، وأنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه، والله عاصمه. والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التى تشير إليها الايات الاول كما في قوله تعالى (ولا تكن للخائنين خصيما) (الاية) وقوله (يستخفون من الناس) (الاية) وقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم) (الخ) فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع
والامانات لكن سياق قوله (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس) كما سيجئ بيانه يعطى أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، وما لبعضهم من المال مسؤول عنه البعض الاخر من حيث رعاية احترامه، والاهتمام بحفظه وحمايته، فتعدى بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لانفسهم. فالتدبر يقرب أن القصذ كأنها سرقذ وقعت من بعضهم ثم رفع الامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرمى بها السارق غيره ممن هو برئ منها، ثم ألح قوم السارق عليه صلى الله عليه وآله وسلم ان يقضى لهم، وبالغوا في أن يغيروه صلى الله عليه وآله وسلم على المتهم البرئ فانزلت الايات وبرأه الله مما قالوا. فالايات أشد انطباقا على ما روى في سبب النزول من قصة سرقة أبى طعمة بن الابيرق، وإن كانت أسباب النزول - كما سمعت مرارا - في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الايات القرآنية. ويستفاد من الايات حجية قضائه صلى الله عليه وآله وسلم، وعصمته وحقائق اخر سيأتي بيانها
[ 71 ]
إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الامور القضائية ورفع الاختلافات بالحكم، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لانزال الكتاب فينطبق مضمون الاية على ما يتضمنه قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (الاية) (البقرة - 213) وقد مر تفصيل القول فيه. فهذه الاية (إنا أنزلنا اليك الكتاب) (الخ) في خصوص موردها نظيرة تلك الاية (كان الناس أمة واحدة) في عمومها، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل
حق الحكم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل الخصومة لا ينفك عن اعمال نظر من القاضى الحاكم واظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالاحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الاحكام وحقوق الناس أمر، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر. فالمراد بالاراءة في قوله (لتحكم بين الناس بما أراك الله) إيجاد الرأى وتعريف الحكم لا تعليم الاحكام والشرائع كما احتمله بعضهم. ومضمون الاية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأى وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم. قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الانشاء كأنه قيل: فحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما. والخصيم هو الذى يدافع عن الدعوى وما في حكمها، وفيه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى. وربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله (ولا تكن للخائنين) على ما تقدمه
[ 72 ]
وهو أمره صلى الله عليه وآله وسلم أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغى منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، وسيجئ لهذا الكلام تتمه. قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الانسان من إمكان هضم الحقوق والميل
إلى الهوى ومغفرة ذلك، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شؤون مختلفة يجمعها جامع الذنب، وهو التباعد من الحق بوجه. فالمعنى - والله أعلم -: ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم واطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس. والدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الايات الكريمة (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) فإن الاية تنص على أنهم لا يضرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم في أمن إلهى من الضرر، والله يعصمه فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور، ولا يتبع الهوى، ومن الجور والميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوى وضعيف، أو صديق وعدو، أو مؤمن وكافر ذمى، أو قريب وبعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذى وبال وتبعه منه، ولا لاشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، ولا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء. وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية، وما يحمد أو يذم عليه من الاعمال لا ما هو الواقع الخارجي، وبعبارة اخرى الايات تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم في أمن من اتباع الهوى، والميل إلى الباطل، وأما أن الذى يحكم ويقضى به بما شرعه من القواعد وقوانين القضاء الظاهرية كقوله (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) ونحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، ومغلوبية المبطل في دعواه، فالايات لا تدل على ذلك أصلا، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدى إلى ذلك قطعا فإنها امارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما، ولا معنى لاستلزام
[ 73 ]
الغالب الدائم وهو ظاهر. ومما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى (واستغفر الله) أنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدفاع والذب عن هذا الخائن المذكور في الاية، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودى. وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، وقد نفى الله سبحانه عنه صلى الله عليه وآله وسلم كل ضرر. (قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)، قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو بعد كل معصية خيانة للنفس كماعد ظلما لها، وقد قال تعالى. (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) (البقرة - 187). ويمكن أن يستفاد من الاية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف، كون تعدى بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لانفسهم. وفي قوله تعالى (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، ويؤكده قوله (أثيما) فإن الاثيم آكد في المعنى من الاثم وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت. على أن قوله (يختانون أنفسهم) لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، وكذا قوله (للخائنين) حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الانفال: 71). فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الاية - بالنظر إلى مورد النزول -: ولا تكن خصيما لهؤلاء، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الاثم، والله لا يحب من كان خوانا أثيما. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الايات في أبى طعمة بن الابيرق. كما سيجئ. ومعنى الاية - مع قطع النظر عن المورد -: ولا تدافع في قضائك عن المصرين على
الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الاثيم، وكما انه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها، وإذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها، وأما
[ 74 ]
من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور ولا ممنوع منه، ولا ينهى عنه قوله (ولا تكن للخائنين خصيما) (الاية.) قوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) وهذا ايضا من الشواهد على ما قدمناه من ان الايات (105 - 126) جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، وهى التى يشير إليها قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) (الاية)، وذلك ان الاستخفاء انما يناسب الاعمال التى يمكن ان يرمى بها الغير كالسرقة وامثال ذلك فيتأيد به ان الذى تشير إليه هذه الاية وما تقدمها من الايات هو الذى يشير إليه قوله (ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به) (الاية). والاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شئ في الارض ولا في السماء فطرفه المقابل له أعنى عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطرارى غير مقدور، وإذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم ولا تعيير كما هو ظاهر الاية. لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء ولذلك قيد قوله (ولا يستخفون من الله) (أولا) بقوله (وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبرى من هذه الخيانة المذمومة، ويبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه، ثم قيده (ثانيا) بقوله (وكان الله بما يعملون محيطا) ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الاحوال ومنها حال الجرم الذى أجرموه، والتقييد بهذين القيدين أعنى قوله (وهو معهم) وقوله (وكان الله) تقييد بالعام بعد الخاص، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم باخرى عامة. قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) (الاية) بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال
عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، ولا قدر لها عند الله، وأما الحياة الاخروية التى لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير امورهم وإصلاح شؤونهم قوله تعالى. (ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه) (الاية) فيه ترغيب وحث لاولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس
[ 75 ]
والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، وبالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، والله أعلم. وهذه الاية والايتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، وهو بيان أمر الاثم الذى يكسبه الانسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الايات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالاية الاولى تبين أن المعصية التى يقترفها الانسان فيتأثر بتبعتها نفسه، وتكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما. والاية الثانية تذكر الانسان أن الاثم الذى يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس بالذى يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمى أو افتراء ونحو ذلك. والاية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الاثم الذى يكسبه الانسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمى به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الاثم. قوله تعالى: (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) قد تقدم أن الاية مرتبطة مضمونا بالاية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والاثم فهذه كالمقدمة لتلك، وعلى هذا فقوله (فإنما يكسبه على نفسه) مسوق لقصر التعيين، وفي الاية عظة لمن يكسب الاثم ثم يرمى به بريئا غيره. والمعنى - والله أعلم -: أنه
يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الاثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، وأنه هو الذى فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، وأنه الذى فعله لا غيره المرمى به، حكيما لا يؤاخذ بالاثم إلا آثمة وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة - 286)، وقال ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الانعام - 164)، وقال: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) (العنكبوت. 12). قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) قال الراغب في المفردات: إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ
[ 76 ]
وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطا الخطأ. وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتاملها. قال: والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمى صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، والسبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطأ غير متجاف عنه، وسبب غير محظور كرمى الصيد، قال تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما) فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها (انتهى).
وأظن أن الخطيئة من الاوصاف التى استغنى عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة والرزية السليقة ونحوها، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره، فالخطيئة هي العمل الذى اختزن واستقر فيه الخطأ، والخطأ الفعل الواقع الذى لا يقصده الانسان كقتل الخطأ، هذا في الاصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغى للانسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية وأثر معصية من مصاديق الخطأ على هذا التوسع، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الانسان (ولا يعد حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغى أن يقصده (ويعد حينئذ معصية أو وبال معصية). لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله (ومن يكسب خطيئة) إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التى هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الاية هي التى تكون عن قصد إلى فعلها وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها. وقد مر في قوله تعالى (قل فيهما إثم) (البقرة - 219) أن الاثم هو العمل الذى يوجب بوباله حرمان الانسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما يصد الانسان عن حيازة الخيرات الحيوية، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الانسان
[ 77 ]
عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة. وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والاثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما) (الاية) يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى والمعنى، - والله أعلم -: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا.
وفي تسمية نسبة العمل السئ إلى الغير رميا - والرمى يستعمل في مورد السهم - وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفترى يفتك بالمتهم البرئ برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه. ومما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الايات الكريمة تارة بالاثم واخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال، فكل واحد من هذه الالفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذى حل فيه. قوله تعالى: (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت) (إلى آخر الاية) السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الايات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) (الاية) وينطبق على قوم أبى طعمة على ما سيجئ. وأما قوله وما يضلون إلا أنفسهم فالمراد به بقرينة قوله بعده (وما يضرونك من شئ) أن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لانه معصية وكل معصية ضلال. ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الاشارة إليه في الكلام على قوله (وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) (آل عمران: 69) في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.
[ 78 ]
وأما قوله (وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك) ففيه نفى إضرارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب) على ان يكون جملة حالية عن الضمير في قوله (يضرونك) وإن كان الاغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة وعلى هذا فالكلام مسوق لنفى
إضرار الناس مطلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في علم أو عمل. قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه انه في مقام التعليل لقوله (وما يضرونك من شئ) أو لمجموع قوله (وما يضلون إلا انفسهم وما يضرونك من شئ) وكيف كان فهذا الانزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الملاك في عصمته. (كلام في معنى العصمة) ظاهر الاية ان الامر الذى تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ وبعبارة اخرى علم مانع عن الضلال، كما ان سائر الاخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير. والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير ان ذلك سبب غالبى كسائر الاسباب الموجودة في هذا العالم المادى الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطأ صونا دائميا من غير تخلف سنة جارية في جميع الاسباب التى نراها ونشاهدها. والوجه في ذلك ان القوى الشعورية المختلفة في الانسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الاخر أو ضعف التفاته إليه كما ان صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية ويجرى على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى،
[ 79 ]
ويختار سفساف الشره، وعلى هذا السبيل سائر الاسباب الشعورية في الانسان وإلا
فالانسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الاسباب ما دام السبب قائما على ساق، ولا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والاسباب، وتغلب بعضها على بعض. ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والادراك لتسرب إليها التخلف، وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والادراكات المتعارفة التى تقبل الاكتساب والتعلم. وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذى خص به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذى يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) (البقرة - 97) وقوله (نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء - 195) أن الانزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة اخرى أن ذلك من قبيل الوحى والتكليم كما يظهر من قوله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الاية) (الشورى - 13) وقوله (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء - 163) وقوله (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) (الانعام - 50)، وقوله (إنما أتبع ما يوحى إلى) (الاعراف - 203). ويستفاد من الايات على اختلافها أن المراد بالانزال هو الوحى وحى الكتاب والحكمة وهو نوع تعليم إلهى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم غير أن الذى يشير إليه بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) ليس هو الذى علمه بوحى الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الاية قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحوادث الواقعة والدعاوى التى ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من
الكتاب والحكمة بشئ وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به. ومن هنا يظهر أن المراد بالانزال والتعليم في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب
[ 80 ]
والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحى ونزول الروح الامين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاخر: التعليم بنوع من الالقاء في القلب والالهام الخفى الالهى من غير إنزال الملك وهذا هو الذى تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى هذا فالمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الاسباب العادية التى تعلم الانسان ما يكتسبه من العلوم. فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الالهية التى نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر انواع العلوم في أنه غير مغلوب لشئ من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا، وقد ورد في الروايات أن للنبى والامام روحا تسمى روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة وهى التى يشير إليها قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (الشورى - 52) بتنزيل الاية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظيره قوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (الانبياء - 73) بناء على ما سيجئ من بيان معنى الاية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الامام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه. وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) هو الوحى النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (الاية) (البقرة - 213) وقد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. والمراد بالحكمة سائر المعارف الالهية النازلة بالوحى، النافعة للدنيا والاخرة، والمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة. وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الاية. فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، والحكمة بما فيه من الاحكام، و (ما لم تكن تعلم) بالاحكام والغيب،
[ 81 ]
وفسر بعضهم الكتاب والحكمة بالقرآن والسنة، و (ما لم تكن تعلم) بالشرائع وأنباء الرسل الاولين وغير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، وقد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد. قوله تعالى: (وكان فضل الله عليك عظيما) امتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) قال الراغب: وناجيته أي ساررته وأصله أن تخلو به في نجوة من الارض (انتهى) فالنجوى المسارة في الحديث، وربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: (وإذ هم نجوى) (الاسراء - 47) أي متناجون. وفي الكلام أعنى قوله (لا خير في كثير من نجواهم) عود إلى ما تقدم من قوله تعالى (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (الاية) بناء على اتصال الايات وقد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لان الحكم المذكور وهو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة وإن لم تكن على نحو التبييت، ونظيره قوله (ومن يشاقق) دون أن يقول: (ومن يناج للمشاقة، لان الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أولا. وظاهر الاستثناء أنه منقطع، والمعنى: لكن من أمر بكذا وكذا فيه ففيما أمر
به شئ من الخير، وقد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا وذلك من قبيل الاستعارة، وقد عد تعالى هذا الخير الذى يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، والمعروف، والاصلاح بين الناس. ولعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، وهو كذلك غالبا. قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله)، تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة والعقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، وعدم الخير فيما ليس بخير منه. ومحصلة أن فاعل النجوى على قسمين: (أحدهما) من يفعل ذلك ابتغاء مراضاة الله، ولا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله،
[ 82 ]
وسوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الاجر، و (ثانيهما) أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول واتخاذ طريق غير طريق المؤمنين وسبيلهم، وجزاؤه الاملاء والاستدراج الالهى ثم إصلاء جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، المشاقة من الشق وهو القطعة المبانة من الشئ فالمشاقة والشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، وهو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته وعدم إطاعته، وعلى هذا فقوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) بيان آخر لمشاقة الرسول، والمراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء - 80). فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الايمان هو الاجتماع على طاعة الله ورسوله - وإن شئت فقل على طاعة رسوله - فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى:
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران - 103) وقد تقدم الكلام في الاية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الانعام - 153) وإذا كان سبيله سبيل التقوى، والمؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (المائدة - 2) والاية - كما ترى - تنهى عن معصية الله وشق عصا الاجتماع الاسلامي، وهو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين. فمعنى الاية أعنى قوله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين)، يعود إلى معنى قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى) (الاية) (المجادلة - 9). وقوله (نوله ما تولى)، أي نجره على ما جرى عليه، ونساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما
[ 83 ]
كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء - 20). وقوله (ونصله جهنم وساءت مصيرا) عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى وإصلاءه جهنم أمر واحد إلهى بعض أجزائه دنيوى وهو توليته ما تولى، وبعضها أخروى وهو إصلاؤه جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (إلى آخر الاية) ظاهر الاية أنها في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة (نوله ما تولى ونصله جهنم)، بناء على اتصال الايات فالاية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، وربما
استفيد ذلك من قوله تعالى (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) (محمد - 34) فإن ظاهر الاية الثالثة أنها تعليل لما في الاية الثانية من الامر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، وهو الشرك. والمقام يعطى أن إلحاق قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) بقوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به) إنما هو لتتميم البيان وإفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعنى مشاقة الرسول، وقد تقدم بعض الكلام في الاية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب. قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا) الاناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل ولان، وأنث المكان أسرع في الانبات وجاد، ففيه معنى الانفعال والتأثر وبذلك سميت الانثى من الحيوان أنثى وقد سميت الاصنام وكل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها - كما قيل - قال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز) (الحج - 74) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) (الفرقان - 3). فالظاهر أن المراد بالانوثة الانفعال المحض الذى هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق
[ 84 ]
عز اسمه، وهذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها، وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بنى فلان إما لتأنيث أسمائها أو لانها كانت جمادات والجمادات تؤنث في اللفظ.
ووجه الاولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله (إن يدعون من دونه إلا إناثا) كثير ملاءمة وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح وبرهما وبوذا. قوله تعالى: (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) المريد هو العارى من كل خير أو مطلق العارى، قال البيضاوى: المارد والمريد الذى لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملامسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، وشجرة مرداء للتى تناثر ورقها (انتهى). والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني) (يس - 61) فيؤول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له. قوله تعالى: (لعنة الله) اللعن هو الابعاد عن الرحمة، وهو وصف ثان للشيطان وبمنزلة التعليل للوصف الاول. قوله تعالى: (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله (فبعزتك لاغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين) (ص - 83) وفي قوله (من عبادك) تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، وهو ربهم يحكم فيهم بما شاء. قوله تعالى: (ولاضلنهم ولامنينهم) (إلى آخر الاية) التبتيل هو الشق وينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها. وهذه الامور المعدودة جميعها ضلال فذكر الاضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة، به يقول: لاضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف المعاصي، ولاغرنهم بالاشتغال بالامال والاماني التى تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم
[ 85 ]
وما يهمهم من أمرهم، ولامرنهم بشق آذان الانعام وتحريم ما أحل الله سبحانه، ولامرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الاخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق. وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم - 30). ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهى طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) ولم يقل: ومن يكن الشيطان له وليا اشعارا بما تشعر به الايات السابقة أن الولى هو الله، ولا ولاية لغيره على شئ وان اتخذ وليا. قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا) ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الاية السابقة (فقد خسر خسرانا مبينا) وأى خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والاماني الموهومة، قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (النور - 39). أما المواعيد فهى الوساوس الشيطانية بلا واسطة، وأما الامانى فهى المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، ولذلك قال: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى. ثم بين عاقبة حالهم بقوله (اولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) أي معدلا ومفرا من (حاص) إذا عدل. ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) (إلى آخر الاية) وفي الايات التفات من سياق التكلم
مع الغير إلى الغيبة، والوجه العام فيه الايماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الاشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذى كان هو الاصل، وذلك في قوله (سندخلهم جنات، وفي ذلك نكتة أخرى، وهى الايماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم.
[ 86 ]
قوله تعالى: (وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، وقوله صدقا. قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب) عود إلى بدء الكلام وبمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، وذلك أنه يتحصل من المحكى من أعمال بعض المؤمنين وأقوالهم وإلحاحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراعى جانبهم، ويعاضدهم ويساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع والمشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه وحقا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب به على الله ورسوله مراعاة جانبهم، وتغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه أتباع أئمة الضلال وحواشي رؤساء الجور وبطائنهم وأذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه ورئيسه في عين أنه يخضع له ويطيعه، ويرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه وتقديمه على غيره تحكما. وكذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) (المائدة - 18)، وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) (البقرة - 135)، وقال تعالى: (قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) (آل عمران - 75). فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، وأتبعهم بأهل الكتاب وسمى هذه المزاعم بالآماني استعارة لانها كالامانى ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الاعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين ولا بأمانى أهل
الكتاب بل الامر يدور مدار العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقدم ذكر السيئة على الحسنة لان عمدة خطأهم كانت فيها. قوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) جئ في الكلام بالفصل من غير وصل لانه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره: إذا لم يكن الدخول في حمى الاسلام والايمان يجر للانسان كل خير، ويحفظ منافعه في الحياة، وكذا اليهودية والنصرانية فما هو السبيل ؟ وإلى ما ذا ينجر حال الانسان ؟ فقيل: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجدله من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات) (الخ).
[ 87 ]
وقوله (من يعمل سوء يجز به) مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذى تقرره الشريعة الاسلامية كالقصاص للجاني، والقطع للسارق، والجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات وغيرها ويشمل الجزاء الاخروي الذى أوعده الله تعالى في كتابه، وبلسان نبيه. وهذا التعميم هو المناسب لمورد الايات الكريمة والمنطبق عليه، وقد ورد في سبب النزول أن الايات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، ورمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضى على المتهم. وقوله (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) يشمل الولى والنصير في صرف الجزاء السئ عنه في الدنيا كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم أو ولى الامر وكالتقرب منهما وكرامة الاسلام والدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، ويشمل الولى والنصير الصارف عنه سوء الجزاء في الاخرة إلا ما تشمله الاية التالية. قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح وهو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء وعمم
فيه من جهة أخرى توجب السعة. فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الاتى بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح ولا عمل للكافر، قال تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) (الانعام - 88)، وقال تعالى: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف - 105). قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات) فأتى بمن التبعيضية، وهو توسعة في الوعد بالجنة، ولو قيل: ومن يعمل الصالحات - والمقام مقام الدقة في الجزاء - أفاد أن الجنة لمن آمن وعمل كل عمل صالح، لكن الفضل الالهى عمم الجزاء الحسن لمن آمن وأتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقى من الصالحات أو أقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء - 116) وقد تقدم تفصيل الكلام في التوبة وفي قوله تعالى: (إنما التوبة على الله) (النساء - 17
[ 88 ]
في الجزء الرابع، وفي الشفاعة في قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) (البقرة - 48) في الجزء الاول من هذا الكتاب. وقال تعالى: (من ذكر أو أنثى فعمم الحكم للذكر والانثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن ولا ثواب لحسناتهن، وما كان يظهر من اليهودية والنصرانية أن الكرامة والعزة للرجال، وأن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الاجر والمثوبة والعرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله (من ذكر أو أنثى). ولعل هذا هو السر في تعقيب قوله (فاولئك يدخلون الجنة) بقوله (ولا يظلمون نقيرا) لتدل الجملة الاولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم
أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (آل عمران - 195). قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) إلى آخر الاية) كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لاسلام المسلم أو لايمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه وبالجملة إذا كان الايمان بالله وآياته لا يعدل شيئا ويستوى وجوده وعدمه فما هو كرامة الاسلام ؟ وما هي مزية الايمان ؟. فاجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه على ذى لب وهو قوله (ومن أحسن دينا)، حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الانسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذى له ما في السماوات وما في الارض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذى هو أول من أسلم وجهه لله محسنا، واتبع الملة الحنيفية خليلا. لكن لا ينبغى أن يتوهم أن الخلة الالهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق وباطل التى يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك ومحيط غير محاط بخلاف الموالى والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض،
[ 89 ]
ويحكمون على طائفة بالاعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم. ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله (ومن أحسن قولا) (الخ) بقوله (ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا). (بحث روائي) في تفسير القمى: إن سبب نزولها (يعنى قوله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب)
الايات) أن قوما من الانصار من بنى أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، وبشر، ومبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان - وكان قتادة بدريا - وأخرجوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا. فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمى، وأخذوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا، وهم أهل بيت سوء، وكان معهم في الرأى رجل مؤمن يقال له: (لبيد بن سهل) فقالوا بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال: يا بنى أبيرق أترمونني بالسرقة ؟ وأنتم أولى به منى، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله، وتنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لاملان سيفى منكم، فداروه وقالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك برئ من ذلك. فمشوا بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: (أسيد بن عروة) وكان منطقيا بليغا فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وجاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة، وعاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك، ورجع إلى عمه وقال له: يا ليتنى مت ولم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته. فقال عمه: الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - إلى أن قال - إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (قال القمى) يعنى الفعل فوقع القول مقام الفعل
[ 90 ]
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا - إلى أن قال - ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) (قال القمى) لبيد بن سهل (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا). وفي تفسير القمى: في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: إن إنسانا من رهط
بشير الادنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: نكلمه في صاحبنا أو نعذره أن صاحبنا برئ فلما أنزل الله (يستخفون من الله - إلى قوله - وكيلا) أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله وتب إليه من الذنوب. فقال: والذى أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ثم إن بشرا كفر ولحق بمكة، وانزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا وأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعذروه قوله (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - إلى قوله - وكان فضل الله عليك عظيما). وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم (بنو أبيرق) بشر، وبشير، ومبشر. وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة * أضموا فقالوا ابن الابيرق قالها قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والاسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (1) من الشام من الدرمك (2) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمى رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في
(1) الضافطة: الابل الحمولة.
(2) الدرمك: الدقيق الحوارى أي الابيض الناعم. (*)
[ 91 ]
مشربة له (1) وفي المشربة سلاح له: درعان، وسيفاهما، وما يصلحهما. فعدا عدى من تحت الليل فنقب المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتانى عمى رفاعة فقال: يا ابن أخى تعلم أنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا ؟ قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بنى أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى -: إلا على بعض طعامكم، قال وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار -: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجلا منا له صلاح وإسلام - فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق وقال: أنا أسرق ؟ فو الله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فو الله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لى عمى: يا ابن أخى لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ! قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمى رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له (أسير بن عروة) فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمانهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ؟ قال قتادة: فرجعت ولوددت أنى خرجت من بعض مالى، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمى رفاعة فقال: يا ابن أخى ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما - بنى أبيرق - واستغفر الله - أي مما قلت لقتادة
(1) المشربة: الغرفة التي يشرب فيها. (*)
[ 92 ]
إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم - ومن يكسب خطيئة أو إثما إلى قوله - فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - قولهم للبيد - ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - يعنى أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله - فسنؤتيه أجرا عظيما) فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمى بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخى هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - إلى قوله - ضلالا بعيدا، فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الابطح ثم قالت: أهديت لى شعر حسان ؟ ما كنت تأتيني بخير. أقول: وهذا المعنى مروى بطرق أخر. وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الاية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودى فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت على وكان الرجل الذى سرق جيران يبرؤنه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون:
يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول. فعاتبه الله في ذلك فقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله - مما قلت لهذا اليهودي - إن الله كان غفورا رحيما) ثم أقبل على جيرانه فقال: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم - إلى قوله - وكيلا) ثم عرض التوبة فقال: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا - وإن كان
[ 93 ]
مشركا - فقد احتمل بهتانا - إلى قوله - ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) قال: أبى أن يقبل التوبة التى عرض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله. اقول: وهذا المعنى أيضا مروى بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها. وفي تفسير العياشي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد أذنب ذنبا فقام وتوضا واستغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لانه يقول: (من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). وقال: إن الله ليبتلى العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه، وقال: ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق باب الاجابة لانه يقول: (ادعوني أستجب لكم) وما كان ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة وهو يقول: من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). فيه عن عبد الله بن حماد الانصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما
ليس فيه فذلك قول الله (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا). وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) (الاية) قال: حدثنى أبى عن ابن أبى عمير عن حماد عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن الله فرض التمحل في القرآن. قلت: وما التمحل جعلت فداك ؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له، وهو قول الله (لا خير في كثير من نجواهم). وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: اذاحدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ؟ قال: ان الله عز وجل يقول: (لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس) وقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما) وقال: (لا تسألوا عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم).
[ 94 ]
وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) يعنى بالمعروف القرض. أقول: ورواه القمى أيضا في تفسيره بهذا الاسناد، وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا، وعلى أي حال فهو من قبيل الجرى وذكر بعض المصاديق. وفي الدر المنثور: أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن سفيان ابن عبد الله الثقفى قال: قلت يا رسول الله مرنى بأمر أعتصم به في الاسلام قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على ؟ قال: هذا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف لسان نفسه. اقول: والاخبار في ذم كثرة الكلام ومدح الصمت والسكوت وما يتعلق بذلك
كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة وأهل السنة. وفيه: أخرج أبو نصر السجزى في (الابانة) عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه ووسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل على في القرآن يا أعرابي (لا خير في كثير من نجواهم - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجرا عظيما) يا أعرابي الاجر العظيم الجنة. قال الاعرابي: الحمد لله الذى هدانا للاسلام. وفيه في قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول) (الاية): أخرج الترمذي والبيهقي في الاسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع الله هذه الامة على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار. وفيه: أخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجمع الله أمتى - أو قال: هذه الامة - على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة. اقول: الرواية من المشهورات وقد رواها الهادى عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته إلى أهل الاهواز على ما في ثالث البحار، وقد تقدم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق. وفي تفسير العياشي عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام قال: لما
[ 95 ]
كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفه أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وارمضاناه، فأتاه الحارث الاعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصلى بهم من شاء وائتم، قال: (فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). وفي الدر المنثور: في قوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) (الاية) أخرج البيهقى في الدلائل عن عقبة بن عامر - في حديث خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك،
وفيه - فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخيرالملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها، وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثا جهنم، والكنز كى من النار، والشعر من مزامير إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، ولسعيد من وعظ بغيره، والشقى من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والامر بآخره، وملاك العمل خواتمة، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لى ولامتى - قالها ثلاثا -
[ 96 ]
أستغفر الله لي ولكم. وفي تفسير العياشي عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام
وعن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله " ولامرنهم فليغيرن خلق الله " قال: أمر الله بما أمر به. وفيه عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله: " ولامرنهم فليغيرن خلق الله " قال: دين الله. اقول: ومآل الروايتين واحد، وهو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة وفي المجمع في قوله " وليبتكن آذان الانعام " قال: ليقطعوا الاذان من أصلها. قال: وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى " ليس بأمانيكم " (الاية) عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه الاية " من يعمل سوء يجز به " قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما تبتلون في أموالكم وأنفسكم وذراريكم ؟ قالوا بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيئات. اقول: وهذا المعنى مروى بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة. وفي الدر المنثور: أخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا اذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله من خطاياه. اقول: وهذا المعنى مستفيض عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام وفي العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعت أبى يحدث عن أبيه عليه السلام أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لانه لم يرد أحدا، ولم يسأل أحدا قط غير الله عز وجل. اقول: وهذا أصح الروايات في تسميته عليه السلام بالخيل لموافقته لمعنى اللفظ، وهو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، وهناك وجوه أخر مروية.
[ 97 ]
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما - 127. وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الانفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 128. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما - 129. وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما - 130. ولله ما في السموات وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا - 131. ولله ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا - 132. إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا - 133. من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا - 134.
[ 98 ]
(بيان) الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الايات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج والتحريم والارث وغير ذلك، الذى يفيده السياق أن هذه الايات إنما نزلت بعد تلك الايات، وان الناس كلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الاموال والمعاشرات وغير ذلك. فأمره الله سبحانه أن يجيبهم ان الذى قرره لهن على الرجال من الاحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الامر شئ، ولا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في
يتامى النساء ايضا حكم إلهى ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ من الامر، ولا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط. ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة وبعلها يعم به البلوى. قوله تعالى. " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " قال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام، ويقال: استفتيته فأفتانى بكذا (انتهى). والمحصل من موارد استعماله أنه جواب الانسان عن الامور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى. والاية وان احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر الى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الا أن ضم الاية إلى الايات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الاية انما نزلت بعد تلك. ولازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الاسلام وأبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية، وليس الا ما يتعلق بحقوق النساء في الارث والازدواج دون أحكام يتاماهن وغير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فان هذا المعنى انما يتكفله قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الارث. وعلى هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله " قل الله يفتيكم فيهن " ما بينه تعالى
[ 99 ]
في آيات أول السورة، ويفيد الكلام حينئذ ارجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه وصرفه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: يسألونك ان تفتيهم في امرهن قل: الفتوى إلى الله وقد أفتاكم فيهن بما افتى فيما انزل من آيات اول السورة.
قوله تعالى: " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء - إلى قوله - والمستضعفين من الولدان " تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء والمستضعفين من الولدان إنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه، وأنهم إنما استفتوا في النساء فحسب. ولازمه أن يكون قوله " وما يتلى عليكم " معطوفا على الضمير المجرور في قوله " فيهن " على ما جوزه الفراء وإن منع عنه جمهور النحاة وعلى هذا يكون المراد من قوله " ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " (الخ) الاحكام والمعاني التى تتضمنها الايات النازلة في يتامى النساء والولدان، المودعة في أول السورة. والتلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، والمعنى: قل الله يفتيكم في الاحكام التى تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء. وربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله " وما يتلى عليكم " على موضع قوله " فيهن " بعناية أن المراد بالافتاء هو التبيين، والمعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب. وربما ذكروا للكلام تراكيب اخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله " وما يتلى عليكم " معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله " قل الله " أو على ضمير المستكن في قوله " يفتيكم "، وقول بعضهم: انه معطوف على " النساء " في قوله " في النساء " وقول بعضهم: إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم في الكتاب " للاستيناف، والجملة مستأنفة، " وما يتلى عليكم " مبتدء خبره قوله " في الكتاب " والكلام مسوق للتعظيم، وقول بعضهم إن الواو في قوله " وما يتلى عليكم " للقسم، ويكون قوله " في يتامى النساء " بدلا من قوله " فيهن " والمعنى: قل الله يفتيكم - أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء (الخ) ولا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر. وأما قوله " اللاتى لا
تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " فوصف ليتامى
[ 100 ]
النساء وفيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذى هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الاحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، ورفع الحرج بذلك عنهن، وذلك انهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فإن كانت ذات جمال وحسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها ومالها، وإن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها وعضلوها عن التزوج بالغير طعما في مالها. ومن هنا يظهر (أولا). أن المراد بقوله " ما كتب لهن " هو الكتابة التكوينية وهو التقدير الالهى فإن الصنع والايجاد هو الذى يخد للانسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، وأن يتصرف حرا في ماله من المال والقنية، فمنعه من الازدواج والتصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة. و (ثانيا): أن الجار المحذوف في قوله " أن تنكحوهن " هو لفظه " عن " والمراد الرغبة عن نكاحهن، والاعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الانسب للاشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله " لا تؤتونهن ما كتب لهن " وقوله بعده " والمستضعفين من الولدان " فمعطوف على قوله " يتامى النساء " وقد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، ويحرمونهم من الارث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، ولا يدفعون عن الحريم. قوله تعالى: " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " معطوف على محل قوله " فيهن " والمعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، وهذا بمنزلة الاضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعنى الانتقال من حكم بعض يتامى النساء والولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله وغير ماله. قوله تعالى: " وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " تذكرة لهم بأن ما
عزم الله عليهم في النساء وفي اليتامى من الاحكام فيه خيرهم، وأن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لان خيرهم فيه، وتحذيرا عن مخالفته لان الله عليم بما يعملون. قوله تعالى: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا "، حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الاية التالية " ولن تستطيعوا
[ 101 ]
أن تعدلوا ". وإنما اعتبر خوف النشوز والاعراض دون نفس تحققهما لان الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم والاثار المعقبة للخوف، والسياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الانس والالفة والموافقة، والتحفظ عن وقوع المفارقة، والصلح خير. وقوله " وأحضرت الانفس الشح " الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التى جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، وتصونها عن الضيعة فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بمالها من الحقوق في الزوجية كالكسوة والنفقة والفراش والوقاع، والرجل يبخل بالموافقة والميل إذا احب المفارقة، وكره المعاشرة، ولا جناح عليهما حينئذ ان يصلحا ما بينهما باغماض احدهما أو كليهما عن بعض حقوقه. ثم قال تعالى: " وان تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وهو موعظة للرجال ان لا يتعدوا طريق الاحسان والتقوى وليتذكروا ان الله خبير بما يعملونه، ولا يحيفوا في المعاشرة، ولا يكرهوهن على الغاء حقوقهن الحقة وان كان لهن ذلك. قوله تعالى: " ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " بيان الحكم العدل بين النساء الذى شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في اول السورة " وان خفتم ان لا تعدلوا فواحدة " (النساء - 3) وكذا يومى إليه قوله في الاية السابقة " وان تحسنوا وتتقوا " (الخ) فإنه لا يخلو من شوب تهديد، وهو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة
العدل بينهن، والعدل هو الوسط بين الافراط والتفريط، ومن الصعب المستصعب تشخيصه، وخاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبى مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما. فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، وهو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للانسان ولو حرص عليه، وانما الذى يجب على الرجل ان لا يميل كل الميل إلى احد الطرفين وخاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، ولا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها. فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوى بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن
[ 102 ]
من غير تطرف، والمندوب عليه أن يحسن إليهن ولا يظهر الكراهة لمعاشرتهن ولا يسئ إليهن خلقا، وكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذاالذيل أعنى قوله " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " هو الدليل على ان ليس المراد بقوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى " وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " (الاية) إلغاء تعدد الازواج في الاسلام كما قيل. وذلك أن الذيل يدل على أن المنفى هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، وأن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج. على أن السنة النبوية ورواج الامر بمرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم. على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الازواج " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " (النساء - 3) إلى مجرد الفرض العقلي الخالى عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه.
ثم قوله " وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله غفور رحيم " تأكيد وترغيب للرجال في الاصلاح عند بروز امارات الكراهة والخلاف ببيان أنه من التقوى، والتقوى يستتبع المغفرة والرحمة، وهذا بعد قوله " والصلح خير " وقوله " وإن تحسنوا وتتقوا "، تأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " أي وإن تفرق الرجل والمرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، والاغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف والاستيناس والمس وكسوة الزوجة ونفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للاخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته. وقوله " وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السماوات وما في الارض " تعليل للحكم المذكور في قوله " يغن الله كلا من سعته "
[ 103 ]
قوله تعالى: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله "، تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، وفي كل حال، وأن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذى يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لانعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار والمشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين. وبهذا الذى بيناه يظهر معنى قوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الارض " أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم والذين من قبلكم وأضعتم هذه الوصية ولم تتقوا وهو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم وإلى تقواكم، وله ما في السماوات والارض، وكان الله غنيا حميدا. فإن قلت: ما وجه تكرار قوله " لله ما في السماوات وما في الارض " ؟ فقد أورد
ثلاث مرات. قلت: أما الاول فإنه تعليل لقوله " وكان الله واسعا حكيما "، وأما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله " فإن تكفروا " والتقدير: وإن تكفروا فإنه غنى عنكم، وتعليل للجواب وقد ظهر في قوله " وكان الله غنيا حميدا ". وأما الثالث فإنه استيناف وتعليل بوجه لقوله " إن يشأ ". قوله تعالى ": ولله ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا " قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، وهو تعالى وكيل يقوم بامور عباده وشؤونهم وكفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد واسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم وأسخطه جريان الامر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم ويأتى بآخرين، أو يؤخرهم ويقدم آخرين، وبهذا المعنى الذى يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الاية قوله في الاية التالية " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ". قوله تعالى: " ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين "، السياق وهو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذى أوصى الله به هذه الامة ومن قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن اظهار الاستغناء وعدم الحاجة المدلول عليه بقوله " إن يشأ "، إنما هو في أمر التقوى. والمعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، وان كفرتم فإنه غنى عنكم،
[ 104 ]
وهو المالك لكل شئ المتصرف فيه كيفما شاء ولما شاء ان يشأ أن يعبد ويتقى ولم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم ويقدم آخرين يقومون لما يحبه ويرتضيه، وكان الله على ذلك قديرا. وعلى هذا فالاية ناظرة إلى تبديل الناس ان كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، وقد روى (1) أن الاية لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على ظهر سلمان وقال: انهم قوم هذا. وهو يؤيد هذا المعنى، وعليك بالتدبر فيه.
وأما ما احتمله بعض المفسرين. ان المعنى: إن يشأ يفنكم ويوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الانس، فمعنى بعيد عن السياق. نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السماوات والارض بالحق ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " (ابراهيم - 20). قوله تعالى: " من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا " بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله ويضيع وصيته بأنه ان فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا ومغنمها فقد اشتبه عليه الامر فإن ثواب الدنيا والاخرة معا عند الله وبيده، فما له يقصر نظره باخس الامرين ولا يطلب اشرفهما أو اياهما جميعا ؟ كذا قيل. والاظهر أن يكون المراد - والله أعلم - أن ثواب الدنيا ولاخرة وسعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا وسعادتها فإن السعادة لا توجد للانسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذى شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى وإفاضته من عنده وكان الله سميعا بصيرا. (بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذى قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما
[ 105 ]
نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذى لا يقوم في المال، والمرأة التى هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل ؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب - في أول السورة - في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما
كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " (الحديث). وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الاية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا. اقول: وهذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة، وقد مر بعضها في أوائل السورة. وفي المجمع في قوله تعالى " لا تؤتونهن ماكتب لهن " (الاية): ما كتب لهن من الميراث، قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " (الاية): نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، وكانت امرأة قد دخلت في السن، وتزوج عليها امرأة شابة وكانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له بنت محمد بن مسلمة: ألا أراك معرضا عنى مؤثرا على ؟ فقال رافع: هي امرأة شابة، وهى أعجب إلى فأن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا منى ولك يوم واحد فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها اخرى فقالت: لا والله لا أرضى أو تسوى بينى وبينها يقول الله: " وأحضرت الانفس الشح " وابنة محمد لم تطلب نفسها بنصيبها، وشحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، واما أن يطلقها الثالثة فشحت على زوجها ورضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: " ولا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " فلما رضيت واستقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت. " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أن يأتي واحدة، وينذر الاخرى لا أيم ولا ذات بعل وهذه السنة فيما كان كذلك إذا
[ 106 ]
أقرت المرأة ورضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج ولا على المرأة، وان أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه الا ذلك. اقول: ورواها في الدر المنثور عن مالك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم - وصححه - باختصار. وفى الدر المنثور: أخرج الطيالسي وابن ابى شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن على بن أبى طالب انه سئل عن هذه الاية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون احداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على ان يكون عندها ليلة وعند الاخرى ليالى ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال. سألته عن قول الله عز وجل " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: انى اريد ان اطلقك. فتقول له: لا تفعل انى اكره ان تشمت بى ولكن انظر في ليلتى فاصنع بها ما شئت، وما كان سوى ذلك من شئ فهو لك، ودعني على حالتى فهو قوله تبارك وتعالى " فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا " وهذا هو الصلح. أقول: " وفى هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي وتفسير العياشي. وفي تفسير القمى في قوله تعالى " وأحضرت الانفس الشح " قال: قال: أحضرت الشح فمنها ما اختارته، ومنها ما لم تختره. وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " قال: في المودة. وفي الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبى العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أليس الله حكيما ؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني
عن قوله " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " أليس هذا فرض ؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أي حكيم يتكلم
[ 107 ]
بهذا ؟ فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبى عبد الله عليه السلام، فقال: في غير وقت حج ولا عمرة قال: نعم جعلت فداك لامر أهمنى إن ابن أبى العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شئ، قال وما هي ؟ قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبو عبد الله عليه السلام أما قوله عزوجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " يعنى في النفقة، وأما قوله " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " يعنى في المودة. قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال: والله ما هذا من عندك. اقول: وروى أيضا نظير الحديث عن القمى أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الاحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السلام عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز. وفي المجمع في قوله تعالى " فتذروها كالمعلقة " أي تذرون التى لا تميلون إليها كالتى هي لا ذات زوج ولا أيم. قال: وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. اقول: ورواه الجمهور بعدة طرق والمراد بقوله " ما تملك ولا أملك " المحبة القلبية لكن الرواية لا تخلو عن شئ فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا وقد
قال تعالى. " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (الطلاق - 7). والنبى صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود. وفي الكافي مسندا عن ابن أبى ليلى قال: حدثنى عاصم بن حميد قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله عليه السلام فسأله عن حاله فقال: اشتدت بى الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: اثريت وحسن حالى فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنى أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز وجل: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين
[ 108 ]
من عبادكم وإمائكم - إلى قوله - والله واسع عليم " وقال: " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ". يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 135. (بيان) قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " القسط هو العدل، والقيام بالقسط العمل به والتحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم قيام وأكمله من غير انعطاف وعدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى وعاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك. وهذه الصفة اقرب العوامل وأتم الاسباب لاتباع الحق وحفظه عن الضيعة، ومن فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة والقيام بها. ومن هنا يظهر ان الابتداء بهذه الصفة في هذه الاية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه
قيل. كونوا شهداء لله، ولا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله. وقوله " شهداء لله " اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق - 2) ومعنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق ولاجل إظهاره وإحيائه كما يوضحه قوله فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ". قوله تعالى. " ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين " أي ولو كانت على خلاف نفع
[ 109 ]
أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين والاقربين أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين والاقربين أن يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه وأقربيه سواء كان المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطه كما إذا تخاصم أبوه وإنسان آخر فشهد له على أبيه أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان وكان الشاهد متحملا لاحدهما ما لو أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا - كالمتخاصم الاخر -. قوله تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " إرجاع ضمير التثنية إلى الغنى والفقير مع وجود " أو " الترديدية لكون المراد بالغنى والفقير هو المفروض المجهول الذى يتكرر بحسب وقوع الوقائع وتكررها فيكون غنيا في واقعة، وفقيرا في اخرى، فالترديد بحسب فرض البيان وما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله أولى بالغنى في غناه، وبالفقير في فقره: والمراد - والله أعلم -: لا يحملنكم غنى الغنى أن تميلوا عن الحق إليه، ولا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثم خلوا بينه وبين الغنى والفقير فهو أولى بهما وأرحم بحالهما، ومن رحمته أن جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، والقسط هو المندوب إلى إقامته، وفي قيام القسط وظهور الحق سعادة النوع التى يقوم بها صلب الغنى، ويصلح بها حال الفقير.
والواحد منهما وإن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق ويميت العدل، وفي ذلك قوة الباطل وحياة الجور والظلم، وفي ذلك الداء العضال وهلاك الانسانية. قوله تعالى: " ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "، أي مخافة أن تعدلوا عن الحق والقسط باتباع الهوى وترك الشهادة لله فقوله " أن تعدلوا " مفعول لاجله ويمكن أن يكون مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لان تعدلوا. قوله تعالى: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " اللى بالشهادة كناية عن تحريفها من لى اللسان. والاعراض ترك الشهادة من رأس. وقرئ " وإن تلوا " بضم اللام وإسكان الواو من ولى يلى ولاية، والمعنى: وأن وليتم أمر الشهادة وأتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.
[ 110 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى قال أبو عبد الله عليه السلام: ان للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها ان يقول الرجل حقا ولو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق، ثم قال: " فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا " يعنى عن الحق. أقول: وفيه تعميم معنى الشهادة لقول الحق مطلقا بمعرفة عموم قوله " كونوا قوامين بالقسط " وفي المجمع قيل: معناه ان تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا - 136. إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم
آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا - 137. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما - 138. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا - 139. وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا - 140. الذين يتربصون بكم
[ 111 ]
فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالو ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا - 141. إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا - 142. مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا - 143. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا - 144. إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا 145. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما - 146. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما - 147. (بيان) قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله "،
أمر المؤمنين بالايمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الايمان الثاني اعني قوله " بالله ورسوله والكتاب " (الخ) وايضا بقرينة الايعاد والتهديد على ترك الايمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو امر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف
[ 112 ]
مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها لبعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى والصفات العليا، وهى الموجبة لان يخلق خلقا ويهديهم إلى ما يرشدهم ويسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، ولا يتم ذلك الا بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وإنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتبين لهم معارف المبدء والمعاد، واصول الشرائع والاحكام. فالايمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم الا مع الايمان بجميعها من غير استثناء، والرد لبعضها مع الاخذ ببعض آخر كفر لو اظهر، ونفاق لو كتم واخفى، ومن النفاق ان يتخذ المؤمن مسيرا ينتهى به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين ويتقرب إلى مجتمع الكفار ويواليهم، ويصدقهم في بعض ما يرمون به الايمان وأهله، أو يعترضوا أو يستهزؤن به الحق وخاصته، ولذلك عقب تعالى هذه الاية بالتعرض لحال المنافقين ووعيدهم بالعذاب الاليم. وما ذكرناه من المعنى هو الذى يقضى به ظاهر الاية وهو أوجه مما ذكره بعض المفسرين ان المراد بقوله " يا ايها الذين آمنوا آمنوا "، يا ايها الذين آمنوا في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. وكذا ما ذكره بعضهم ان معنى " آمنوا " اثبتوا على إيمانكم، وكذا ما ذكره آخرون ان الخطاب لمؤمنى اهل الكتاب أي يا ايها الذين آمنوا من اهل الكتاب آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله وهو القرآن. وهذه المعاني وان كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها،
وأردء الوجوه آخرها. قوله تعالى: " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا " لما كان الشطر الاول من الاية اعني قوله " يا ايها الذين آمنوا آمنوا - إلى قوله - من قبل " دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى ان اجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد والمعنى: ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الاخر أي من يكفر بشئ من اجزاء الايمان فقد ضل ضلالا بعيدا. وليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم
[ 113 ]
واحد بمعنى ان الكفر بالمجموع من حيث انه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض. على ان الايات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الاية على وجه التفصيل. قوله تعالى: " ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنو اثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " الاية لو اخذت وحدها منقطعة عما قبلها وما بعدها كانت دالة على ما يجازى به الله تعالى اهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم - وحالهم هذا الحال - بأنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلا، وليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على ايمان، وجعلهم امر الله ملعبة يلعبون بها، ومن كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على ايمان جدى يقبل منه، وان كانوا لو آمنوا ايمانا جديا شملتهم المغفرة والهداية فإن التوبة بالايمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، وقد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى " انما التوبة على الله الاية (النساء - 17) في الجزء الرابع
من هذا الكتاب. فالاية تحكم بحرمانهم على ما يجرى عليه الطبع والعادة، ولا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان واستقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الاية، قال تعالى: " كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين - إلى أن قال إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " (آل عمران - 90). والايات - كما ترى - تستثنى ممن كفر بعد ايمانه، وقوبل بنفى المغفرة والهداية وهى مع ذلك تنفى قبول توبة من ازداد كفرا بعد الايمان، صدر الايات فيمن كفر بعد الايمان والشهادة بحقية الرسول وظهور الايات البينات، فهو ردة عنادا ولجاجا، والازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد والعتو في قلوبهم، وتمكن الطغيان والاستكبار في نفوسهم، ولا يتحقق الرجوع والتوبة ممن هذا حاله عادة.
[ 114 ]
هذا ما يقتضيه سياق الاية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الايات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، وعلى هذا التقدير يكون قوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " في مقام التعليل لقوله " ومن يكفر بالله - إلى قوله - فقد ضل ضلالا بعيدا " ويكون الايتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله وملائكته وكتبه رسله واليوم الاخر هو الذى آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، ويكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " إلى آخر الايات. وعلى هذا يختلف المعنى المراد بقوله " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (إلى آخر الايات) بحسب ما فسر به قوله " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " على ما تقدم من تفاسيره المختلفة: فإن فسر بأن آمنوا بالله ورسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى
الايمان ثم الكفر ثم الايمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين وإذا لقوا الكفار. وان فسر بأن اثبتوا على الايمان الذى تلبستم به كان المراد من الايمان ثم الكفر وهكذا هو الردة بعد الردة المعروفة. وان فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الايمان بالله ورسوله كان المراد بالايمان ثم الكفر وهكذا الايمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الايمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند ربه، كما قيل. وان فسر بأن ابسطوا اجمال ايمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله " ان الذين آمنوا ثم كفروا "، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستيناس بهم، والشركة في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذى لا يرتضيه الله سبحانه، وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوي ويستهزؤون ويسخرون به. فهو كلما لقى المؤمنين واشترك معهم في شئ من شعائر الدين آمن به، وكلما لقى
[ 115 ]
الكفار وأمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا ويكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر، والله أعلم. واذ كان مبتلى باختلاف الحال وعدم استقراره فلا توبة له لانه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، الا ان يتوب ويستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الاحوال، ولا تحركه عواصف الاهواء، ولذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقى مجالا للتغير والتحول فقال في الاستثناء الاتى: " الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " (الاية).
قوله تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون " (الخ) تهديد للمنافقين، وقد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، وهذا وصف اعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، وانما يتظاهرون بالايمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، والانقطاع عن جماعة المؤمنين، والاتصال بهم باطنا واتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يؤيد بعض التأييد ان يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين اولياء من دون المؤمنين، ويؤيده ظاهر قوله في الاية اللاحقة " وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم إلى قوله - انكم إذا مثلهم " فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، والخطاب فيه للمؤمنين، ويؤيده ايضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله " ولا يذكرون الله الا قليلا " فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، وهو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط. قوله تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " استفهام انكاري ثم جواب بما يقرر الانكار فإن العزة من فروع الملك، والملك لله وحده، قال تعالى: " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء " (آل عمران - 26). قوله تعالى: " وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم - إلى قوله - مثلهم " يريد ما نزله في سورة الانعام: وإذا رايت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين "
[ 116 ]
(الانعام - 68) فإن سورة الانعام مكية، وسورة النساء مدنية. ويستفاد من اشارة الاية إلى آية الانعام ان بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، والمراد بها ما يعم الامة.
وقوله " انكم إذا مثلهم " تعليل للنهى أي بما نهيناكم لانكم إذا قعدتم معهم - والحال هذه - تكونون مثلهم، وقوله " ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم ". قوله تعالى: " الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله "، التربص: الانتظار. والاستحواذ: الغلبة والتسلط، وهذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم انما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين والكافرين، يستدرون الطائفتين ويستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: انا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة ونحوها، وان كان للكافرين نصيب قالوا: الم نغلبكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ أي من الايمان بما آمنوا به والاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منه عليكم حيث جررنا إليكم النصيب. قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لانه هو الموعود لهم، وللكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح وأن الله وليهم، ولعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب. قوله تعالى: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " الخطاب للمؤمنين وإن كان ساريا إلى المنافقين والكافرين جميعا، وأما قوله " و لن يجعل الله " فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، ولن ينعكس الامر أبدا، وفيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالاخرة. ويمكن أن يكون نفى السبيل أعم من النشأتين: الدنيا والاخرة فأن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران - 139). قوله تعالى: " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " المخادعة هي الاكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
[ 117 ]
وقوله " وهو خادعهم " في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم ويؤول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الايمان، والاقتراب من المؤمنين، والحضور في محاضرهم ومشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيستدروا منهم بظاهر ايمانهم وأعمالهم من غير حقيقة ولا يدرون أن هذا الذى خلى بينهم وبين هذه الاعمال ولم يمنعهم منها هو الله سبحانه، وهو خدعة منه لهم ومجازاة لهم بسوء نياتهم وخباثة أعمالهم، فخدعتهم له بعينها خدعته لهم. قوله تعالى: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " هذا وصف آخر من أوصافهم وهو القيام إلى الصلاة إذا قاموا إليها - كسالى يراؤون الناس، والصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، ولو كانت قلوبهم متعلقة بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل والتوانى في التوجه إليه وذكره، ولم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، ولذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب واشتغال البال. قوله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهر كتحريك شئ معلق (انتهى). فكون الشئ مذبذبا ان يتردد بين جانبين من غير تعلق بشئ منهما، وهذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الذى ذكر من الايمان والكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، ولا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا. وقوله " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما ان الله اضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه. ولهذه العلة بعينها قيل: " مذبذبين بين ذلك " ولم يقل: متذبذبين أي القهر الالهى هو الذى يجر لهم هذا النوع من التحريك الذى لا ينتهى إلى غاية ثابتة مطمئنة. قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين اولياء " (إلى آخر الايتين)
السلطان هو الحجة. والدرك بفتحتين - وقد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية (انتهى).
[ 118 ]
والاية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار وترك ولاية المؤمنين، ثم الاية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، وليس الا ان الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه. والسياق يدل على ان قوله " يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا " كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، وهذا كالصريح في ان الايات السابقة انما تتعرض لحال مرضى القلوب وضعفاء الايمان من المؤمنين ويسميهم المنافقين، ولا أقل من شمولها لهم، ثم يعظ المؤمنين ان لا يقربوا هذا الحمى ولا يتعرضوا لسخط الله، ولا يجعلوا الله تعالى على انفسهم حجة واضحة فيضلهم ويخدعهم ويذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم وبين الكافرين في جهنم، جميعا ثم يسكنهم في اسفل درك من النار، ويقطع بينهم وبين كل نصير ينصرهم، وشفيع يشفع لهم. ويظهر من الايتين اولا: ان الاضلال والخدعة وكل سخط الهى من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهى إخزاء على طريق المقابلة والمجازاة، وحاشا الجناب الالهى أن يبدءهم بالشر والشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله " أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " ؟ يجرى مجرى قوله " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة - 26). وثانيا: أن في النار لاهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله " استثناء
من الوعيد الذى ذكر في المنافقين بقوله: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " (الاية) ولازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، ولحوقهم بصف المؤمنين، ولذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، وذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: " فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤتى الله المؤمنين أجرا عظيما. وقد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، وليست تنبت اصول النفاق وأعراقه إلا بها فذكر التوبة وهى الرجوع إلى الله تعالى، ولا ينفع الرجوع والتوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل، ولا ينفع الاصلاح
[ 119 ]
إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه وما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان. ولا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - وهو الذى فيه الاعتصام - لله فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه ولا يغفر فإذا تابوا إلى الله وأصلحوا كل فاسد منهم واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فأمنوا النفاق واهتدوا قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام - 82). ويظهر من سياق الاية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للايمان، وقد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وهذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم ونعوتهم كقوله تعالى " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون " (إلى آخر الايات) (المؤمنون - 3)، وقوله تعالى " وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " (الايات) (الفرقان: 64)، وقوله " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء - 65). فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه. وقد قال تعالى: " فاولئك مع المؤمنين " ولم يقل: فاولئك من المؤمنين لانهم بتحقق هذه الاوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الاوصاف على استقرارها، فافهم ذلك. قوله تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لان الكلام جار على خطابهم وإنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم وفرضهم كالعارى عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب. وهو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم وأنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر والايمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لانه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، ولا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم
[ 120 ]
نعمة الله بأداء واجب حقه وآمنتم به وكان الله شاكرا لمن شكره وآمن به، عليما لا يجهل مورده. وفي الاية دلالة على أن العذاب الشامل لاهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، وكذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، ولو كان شئ من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذى يستتبعه أيضا من قبله لان المسبب يستند إلى من استند إليه السبب. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهم السلام في قول الله " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " قال: نزلت في عبد الله بن أبى سرح الذى بعثه عثمان ألى مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق فيه من الايمان شئ.
وفيه عن أبى بصير قال: سمعته يقول: " إن الذين آمنوا ثم كفروا " (الاية) من زعم أن الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أن الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أن الزكاة حق ولم يؤدها. اقول: فيه تعميم للاية على الكفر بجميع مراتبه، ومن مراتبه ترك الواجبات وفعل المحرمات، وتأييد لما تقدم في البيان. وفيه عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن الرضا عليه السلام في قول الله " - وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم " قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده. اقول: وفى هذا المعنى روايات أخر. وفي العيون بإسناده عن أبى الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام في قول الله جل جلاله " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " قال: فإنه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا.
[ 121 ]
وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن على " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " قال: في الاخرة. اقول: وقد تقدم أن ظاهر السياق هو الاخرة ولو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجة في الدنيا. وفي العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت على بن موسى الرضا عليهما السلام عن قوله " يخادعون الله وهو خادعهم " فقال الله تبارك وتعالى: لا يخادع، ولكنه يجازيهم جزاء الخديعة وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم سئل: فيما النجاة غدا ؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه، ويخلع منه الايمان ونفسه يخدع لو يشعر. فقيل: فكيف يخادع الله ؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائى يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له. وفي الكافي بإسناده عن أبى المعزا الخصاف رفعه قال: قال امير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون علانية، ولا يذكرونه في السر فقال الله عز وجل، " يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " اقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف. وفى الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن على قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل. ؟ اقول: وهذا أيضا معنى لطيف، ومرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق. وفيه: أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
[ 122 ]
اقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، وكان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور والطمأنينة في صلاته. والمراد بكون الشمس بين قرنى الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار والليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم. وفيه: أخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه ومسلم وابن جرير وابن المنذر
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدرى أيهما تتبع. وفيه: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة. وفيه: وأخرج ابن أبى شيبة والمروزي في زوائد الزهد وأبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أخلص عبد الله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه. أقول: والرواية من المشهورات، وقد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق اخرى. وفيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله وما إخلاصها ؟ قال: أن تحجزه عن المحارم. اقول: والرواية مستفيضة معنى وقد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة والشيعة عن النبي وأئمة أهل البيت صلى الله عليهم وسلم، وسنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى. وفي ذيل هذه الايات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجرى وتطبيق المصداق. والله أعلم.
[ 123 ]
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما - 148. إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا - 149. (بيان) قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال الراغب في مادة " جهر " يقال لظهور الشئ بإفراط لحاسر البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو رأيته جهارا، قال الله تعالى: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " " أرنا الله جهرة إلى أن قال - وأما السمع فمنه قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ".
والسوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، وشتمه بما فيه من المساوئ والعيوب وبما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به وإظهاره، ومن المعلوم أنه تعالى منزه من الحب والبغض على حد ما يوجد فينا معشر الانسان وما يجانسنا من الحيوان إلا أنه لما كان الامر والنهى عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب وبغض كنى بهما عن الارادة والكراهة وعن الامر والنهى. فقوله " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " كناية عن الكراهة التشريعية أعم من التحريم والاعانة. وقوله " إلا من ظلم " استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الاية. و المفسرون وإن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل أنه الدعاء عليه، ومن قائل أنه ذكر ظلمه وما تعدى به عليه وغير ذلك إلا أن الجميع مشمول لاطلاق الاية،
[ 124 ]
فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها. وقوله " وكان الله سميعا عليما " في مقام التأكيد للنهى المستفاد من قوله " لا يحب الله الجهر " أي لا ينبغى الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله سميع يسمع القول عليم يعلم به. قوله تعالى: " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " (الاية) لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة أنعمها منعم على الانسان، وتشمل العفو عن السوء والظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول. فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الانفاق على مستحقه وكذا كل معروف
لما فيه من إعلاء كلمة الدين وتشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار الشكر على المنعم وذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير وتشويق أهل النعمة. وإخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء وأقرب إلى الخلوص كما قال: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم " (البقرة - 271). والعفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمه بظلمه، ولا يذهب بماء وجهه عند الناس، ولا يجهر عليه بالسوء من القول، وفعلا بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، ولا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة - 194). وقوله " فإن الله كان عفوا قديرا " سبب أقيم مقام المسبب والتقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية - وهو العفو على قدرة - فإن الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، وأما إبداء الخير وإخفاؤه أي إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، ويمكن أن يلوح إليه الكلام. (بحث روائي) في المجمع قال: لا يجب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلم مما يجوز الانتصار في الدين. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام.
[ 125 ]
وفي تفسير العياشي عن أبى الجارود عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه. وفى تفسير القمى: وفي حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذبه فقد ظلمك. وفي تفسير العياشي بإسناده عن الفضل بن أبى قرة عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال: من أضاف قوما فأساء
ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه. اقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام مرسلا، وروي من طرق أهل السنة عن مجاهد. والروايات على أي حال دالة على التعميم كما استفدناه من الاية إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - 150. أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا - 151. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما - 152. (بيان) انعطاف إلى حال أهل الكتاب، وبيان لحقيقة كفرهم، وشرح لعدة من مظالمهم ومعاصيهم ومفاسد أقوالهم. قوله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسوله " هؤلاء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فاليهود تؤمن بموسى وتكفر بعيسى ومحمد، والنصارى تؤمن بموسى وعيسى
[ 126 ]
وتكفر بمحمد صلى الله عليهم اجمعين، وهؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله وببعض رسله، وإنما يكفرون ببعض الرسل، وقد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله ورسله جميعا، ولذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله " إن الذين يكفرون بالله ورسله ". ولذلك عطف على قوله " إن الذين يكفرون "، قوله و " يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " بعطف التفسير ونفس المعطوف أيضا بعضه يفسر بعضه، فهم كافرون بالله ورسله لانهم بقولهم: " نؤمن ببعض ونكفر ببعض " يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله فيؤمنون بالله وبعض رسله، ويكفروا ببعض رسله مع كونه رسولا من الله، والرد عليه رد على الله تعالى. ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال: " ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " أي سبيلا متوسطا بين الايمان بالله ورسله جميعا والكفر بالله ورسله جميعا،
وهو الايمان ببعض والكفر ببعض، ولا سبيل إلى الله إلا الايمان به وبرسله جميعا فإن الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شئ ولا له من الامر شئ، فالايمان به إيمان بالله والكفر به كفر بالله محضا. فالكفر بالبعض والايمان بالبعض وبالله ليس إلا تفرقة بين الله وبين رسله، وإعطاء الاستقلال للرسول فيكون الايمان به غير مرتبط بالايمان بالله، والكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، وكيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط الايمان به والكفر به بالايمان بالله والكفر به ؟. فمن البين الذى لا مرية فيه أن الايمان بمن هذا شأنه والخضوع له شرك بالله العظيم، ولذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالايمان ببعض الرسل والكفر بالبعض أن يفرقوا بين الله ورسله ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر أنهم كافرون بذلك حقا فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " ثم أوعدهم فقال: " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ". قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم " لما كفر أولئك المفرقين بين الله ورسله، وذكر أنهم كافرون بالله ورسله ذكر من يقابلهم بالايمان بالله ورسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للاقسام. وفي الايات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله " وأعتدنا للكافرين عذابا
[ 127 ]
مهينا " ثم إلى الخطاب في قوله " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " ولعل الوجه فيه أن إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب. ويفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الاية الثانية فإن توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الوعد الجميل وهو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع. يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا
العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا - 153. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - 154. فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - 155. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما - 156. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - 157. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما - 158. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا - 159. فبظلم من الذين هادوا
[ 128 ]
حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - 160. وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما - 161. لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما - 162. إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا - 163. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما - 164. رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما - 165. لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملئكة
يشهدون وكفى بالله شهيدا - 166. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا - 167. إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا - 168. إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا - 169.
[ 129 ]
(بيان) الايات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحى الروح الامين نجوما، ونجيب عن مسألتهم. قوله تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد، وعليه فالسائل هو الطائفتان جمعيا دون اليهود فحسب. ولا ينافيه كون المظالم والجرائم المعدودة في ضمن الايات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، واتخاذ العجل، ونقض الميثاق عند رفع الطور والامر بالسجدة والنهى عن العدو في السبت وغير ذلك. فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام وإن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بنى إسرائيل كالروم والعرب والحبشة ومصر وغيرهم، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام. ولعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " ولذلك أيضا عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى عليه السلام بينهم ولو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، ولذلك أيضا قيل بعد هذه الايات: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا ألحق إنما المسيح " (الخ). وبالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة
القومية وهو التحكم والقول بغير الحق والمجازفة وعدم التقيد بالعهود والمواثيق، والكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشئ خص الكلام به. والذى سألوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، ولم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن وتلاوته عليهم كيف والقصة إنما وقعت في المدينة وقد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة وشطر مما نزل بالمدينة ؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة،
[ 130 ]
ولا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدى ودعوى الاعجاز كما في سور: أسرى، ويونس، وهود، والبقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء. فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة وإنما يلغو ويهذو بما قدمته له أيدى الاهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، وظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم: " لولا أنزل عليه آية من ربه " (يونس: 20) " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " (اسرى: 93). ولهذا الذى ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أولا) بأنهم قوم متمادون في الجهالة والضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، والكفر والجحود وإن جاءت البينة، وعن نقض المواثيق وإن غلظت وغير ذلك من الكذب والبهتان وأى ظلم، ومن هذا شأنه لا يصلح لاجابة ما سأله والاقبال على ما اقترحه. و (ثانيا) أن الكتاب الذى أنزله الله وهو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه وملائكته وهو الذى يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة. فقال تعالى في جوابهم أولا: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم " فقالوا أرنا الله جهرة " أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا،
وهذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة والهذر والطغيان " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 55 - 56) وسورة الاعراف (آية 155). ثم قال تعالى: " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " وهذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية والحدوث، وهو من أفظع الجهالات البشرية " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " وقد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم ولما يتم التقتيل ولما يقتل الجميع، وهو المراد بالعفو، وآتى موسى عليه السلام سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم وعلى السامري وعجله، والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 54). ثم قال تعالى: " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " وهو الميثاق الذى أخذه الله منهم
[ 131 ]
ثم رفع فوقهم الطور، والقصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية 63، 93). ثم قال تعالى: " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " والقصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: 58 - 65) وسورة الاعراف (161 - 163) وليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين وإلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بنى اسرائيل لا تعبدون إلا الله " الاية البقره: 83، وقوله تعالى " وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون " (البقرة: 84). قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم "، الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله " حرمنا عليهم " والايات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والاخروي، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة اولا.
وقوله " فبما نقضهم ميثاقهم " تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم. وقوله " وكفرهم بآيات الله " تلخص لانواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه السلام وبعده قص القرآن كثيرا منها، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الايات أعنى قوله " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " وقوله " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " وإنما قدما في الصدر، واخرا فيهذه الاية لان المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الايات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء، وذكر سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق، وهذه الاية وما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك، والابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب. وقوله " وقتلهم الانبياء بغير حق " يعنى بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تمسية. وقوله " وقولهم قلوبنا غلف " جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية، وقبول الحق لو دعيت إليه، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، وإسناد
[ 132 ]
عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم. ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله " بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم. وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، وأن هذه النقمة الالهية إنما نزلت بهم بقوميتهم
ومجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، ولا ينافى ذلك إيمان البعض القليل منهم. قوله تعالى: " بكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وهو قذفها عليها السلام في ولادة عيسى بالزنا، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " (مريم - 30). قوله تعالى: " وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " قد تقدم في قصص عيسى عليه السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل والصلب معا في مقام الرد والنفى لبيان النفى التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفى القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، ولا ينافى ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله " وما قتلوه " قوله " وما صلبوه " ليؤدي الكلام حقه من الصراحة وينص على أنه عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه وليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من الروميين، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.
[ 133 ]
وربما ذكر بعض محققى التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه السلام والحوادث
المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح - وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، والمتأخر منهما مبطل مصلوب، (1) وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. والله أعلم. وقوله " وإن الذين اختلفوا فيه " أي اختلفوا في عيسى أو في قتله " لفى شك منه " أي في جهل بالنسبة إلى أمره " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " وهو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض. وقوله " وما قتلوه يقينا " أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، وربما قيل: إن الضمير في قوله " وما قتلوه " راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا. وقتل العلم لغة تمحيضه وتخليصه من الشك والريب، وربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم وما تثبتوا فيه، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن. قوله تعالى: " بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى " (آل عمران: 55) فذكر التوفى ثم الرفع. وهذه الاية بحسب السياق تنفى وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم، وظاهر الاية أيضا ان الذى ادعى إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى عليه السلام بشخصه البدني هو الذى رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا انه توفى ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الاية بمقتضى السياق فان الاضراب الواقع في وله " بل رفعه الله إليه " لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذى يصح أن يجامع القتل والموت حتف الانف. فهذاالرفع نوع التخليص الذى خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفى عند ذلك بالموت حتف الانف أو لم يتوف حتف الانف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه
أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
(1) وعند هذا المحقق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادى مشكوكا في صحته.
[ 134 ]
وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ لله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجرى مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلية العام، وقد مر في الجزء الاول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الاعجاز وخرق العادة. وبعد ذلك كله فالاية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد. قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ". " ان " نافية والمبتدء محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفى، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، والضمير في قوله " به " وقوله " يكون " راجع إلى عيسى، وأما الضمير في قوله " قبل موته " ففيه خلاف. فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدء وهو أحد، والمعنى: وكل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى، كان رسول الله وعبده حقا وإن كان هذا الايمان منه إيمانا لا ينتفع به، ويكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته. ويؤيده أن إرجاع ضمير " قبل موته " إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الاخبار أن عيسى حى لم يمت، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود
والنصارى، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله " وإن من أهل الكتاب " من غير مخصص، فإن مقتضى الاية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات ولم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الاية من غير مخصص ظاهر. وقد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى عليه السلام والمراد به إيمانهم به عند
[ 135 ]
نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت. هذا ما ذكروه، والذى ينبغى التدبر والامعان فيه هو أن وقوع قوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " في سياق قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " (المائدة: 117). فقصر عليه السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، وهذه الاية أعنى قوله: وإن من أهل الكتاب " (الخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، وهذا ينتج المعنى الثاني، وهو كونه عليه السلام حيا بعد، ويعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به. نهاية الامر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، ومن أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرار أو اختيارا. على أن الانسب بوقوع هذه الاية: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " فيما وقع فيه من السياق أعنى بعد قوله تعالى " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم - إلى أن قال - بل رفعه الله إليه وكان الله
عزيزا حكيما " أن تكون الاية في مقام بيان أنه لم يمت وأنه حى بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر. فهذا الذى ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السلام. لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: " إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " (آل عمران: 55) حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، وكقوله تعالى: " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن
[ 136 ]
مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة. بل ظاهر ذيل قوله " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفى عيسى عليه السلام. لكن الانصاف أن الايات لا تنافى ما مر فإن قوله " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب. وكذا قوله تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " (الاية) إنما يدل على أن الايمان لا يستوعبهم جميعا، ولو آمنوا في حين من الاحيان شمل الايمان منهم قليلا من كثير. على أن قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الايمان، وأما كونه إيمانا مقبولا غير اضطرارى فلا دلالة له على ذلك. وكذا قوله " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " (الاية) مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: " وإذ
قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله " (الاية) (المائدة: 116) ويدل على ذلك أيضا أنه عليه السلام من أولى العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، وشهادته على أعمالهم تعم بنى إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم. وبالجملة، الذى يفيده التدبر في سياق الايات وما ينضم إليها من الايات المربوطة بها هو أن عيسى عليه السلام لم يتوف بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الانف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدمت الاشارة إليه - وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى " يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى " (آل عمران: 55) في الجزء الثالث من هذا الكتاب. ومن غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله، وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، وهذا، قول بالرجعة. وفي معنى الاية بعض وجوه رديئة أخرى: منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله " قبل موته " يرجع إلى الكتابى وأن معنى قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أن جميعهم يقولون: إن عيسى
[ 137 ]
الذى يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به. وهذا معنى سخيف فإن الايات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه السلام وصلبه والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيى أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام. على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: " قبل موته " لارتفاع الحاجة بدونه، وكذا قوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " لانه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.
ومنها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالاية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابى. وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه ووآله وسلم ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير. ولا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالى لكن ذلك من باب الجرى كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها. قوله تعالى: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " الفاء للتفريع، وقد نكر لفظ الظلم وكأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للابهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم وهو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، ولم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، وبها تختتم شريعة موسى، وقد ذكر فيما ذكر من فجائعهم ومظالمهم أمور جرت ووقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم وغير ذلك. فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها. ثم ضم إلى ذلك قوله " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " وهو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ". قوله تعالى: " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " معطوف على قوله " حرمنا
[ 138 ]
عليهم طيبات " فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوى عام وهو تحريم الطيبات، وجزاء أخروى خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الاليم. قوله تعالى: " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " استثناء واستدراك من أهل الكتاب، " والراسخون " وما عطف عليه
مبتدء و " يؤمنون " خبره، وقوله " منهم متعلق بالراسخون و " من " فيه تبعيضية. والظاهر أن " المؤمنون " يشارك " الراسخون في تعلق قوله " منهم " به معنى والمعنى: لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما أنزل من قبلك، ويؤيده التعليل الاتي في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الخ)، فإن ظاهر الاية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك والوحى الذى أكرمناك به يماثل الوحى الذى جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح والنبيون من بعده: والانبياء من آل إبراهيم، وآل يعقوب، وآخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق. وهذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله " لتنذر قوما ما أنذر آبائهم فهم غافلون " (يس: 6). وقوله " والمقيمين الصلاة " معطوف على " الراسخون " ومنصوب على المدح، ومثله في العطف قوله " والمؤتون الزكاة " وقوله " والمؤمنون بالله واليوم الاخر " مبتدء خبره قوله " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " ولو كان قوله " والمقيمين الصلاة " مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدء خبره قوله " اولئك. قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعنى المقيمين الصلاة، قالوا إذا قلت: مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت: الكريم لى تقدير هو الكريم. وقال الكسائي، موضع المقيمين جر، وهو معطوف على " ما " من قوله بما أنزل
[ 139 ]
إليك " أي وبالمقيمين الصلاة.
وقيل: إنه معطوف على الكاف في " إليك " أو الكاف في قبلك. وهذه الاقوال الاخيرة لا تجوز عند البصريين لانه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. قال: وأما ما روى عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله " والمقيمين الصلاة " وعن قوله " والصابئين " وعن قوله " إن هذان " فقالت: يا ابن اختى هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، وما روى عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: " والمقيمون الصلاة " فمما لا يلتفت إليه لانه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (انتهى). وبالجملة قوله " لكن الراسخون في العلم " استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفى ما جاءهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الكتاب والحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه ورسله، في دعوتهم إلى الحق وإثباته مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الانبياء، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما قال تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " (الاحقاف: 9) وقال تعالى: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - إلى أن قال - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " (الانبياء: 10). فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأى، وكم من آية بينة ظلموها، ودعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح من الحق لديهم، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما
[ 140 ]
أنزل إليك وما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذى نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل
من قبلك على سائر النبيين: نوح ومن بعده. ومن هنا يظهر (اولا) وجه توصيف من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم والمؤمنين، فإن الايات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شئ من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، وأنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة. و (ثانيا) وجه ذكر ما انزل قبلا مع القرآن في قوله " يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك " لان المقام مقام نفى الفرق بين القبيلين. و (ثالثا) ان قوله في الاية التالية: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا " (الخ) في مقام التعليل لايمان هؤلاء المستثنين. قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " في مقام التعليل لقوله " يؤمنون بما أنزل إليك " كما عرفت آنفا. ومحصل المعنى - والله أعلم - أنهم آمنوا بما أنزل إليك لانا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوى والجهات بما لا يوجد عند غيرك من الانبياء السابقين، بل الامر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ونوح أول نبى جاء بكتاب وشريعة، وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم، فمنهم من أوتى بكتاب كداود أوتى زبورا وهو وحى نبوى، وموسى اوتى التكليم وهو وحى نبوى، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أرسلوا بغير كتاب، وذلك أيضا عن وحى نبوى. ويجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لاتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: " والاسباط " تقدم في قوله تعالى: " ويعقوب والاسباط " (آل عمران: 84) أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بنى إسرائيل
[ 141 ]
بيان قوله تعالى: " وآتينا داود زبورا " قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور. قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين " أحوال ثلاثة أو الاول حال والاخيران وصفان له. وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس، وأن العقل لا يغنى وحده عن بعثة الانبياء بالشرائع الالهية في الكلام على قوله تعالى: " كان الناس امة واحدة " (سورة البقرة: 213) في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: " قل فلله الحجة البالغة " (الانعام: 149). قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون "، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذى ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " (إلى آخر الايات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لان ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحى من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحى، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق. ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. ومتن شهادته قوله " أنزله بعلمه " فإن مجرد النزول لا يكفى في المدعى، لان من أقسام النزول النزول بوحى من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الالهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحى الالهى الحق
فيختلط الامر، كما يشير إلى نفيه بقوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " (الجن: 28) وقال تعالى: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " (الانعام: 121). وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الانزال لا يخرج الدعوى عن حال الابهام،
[ 142 ]
لكن تقييده بقوله " بعلمه " يوضح المراد كل الوضوح، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ما ذا ينزل، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين. وإذا كانت الشهادة على الانزال والانزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرم: " إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين " (التكوير: 21) فدل على أن تحت أمره ملائكة اخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة " (عبس: 16). وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الانزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيدا. والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (أسرى: 88) وقوله " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (النساء: 82) وقوله " فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله " (يونس: 38). قوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله، وأنه من سنخ الوحى
الذى اوحى إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب. وفي الاية تبديل الكتاب الذى كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال: " وصدوا عن سبيل الله " وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا وصدوا عن هذا الكتاب والوحى الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله، والذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (الخ). قوله تعالى: " إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم " (الخ) تحقيق وتثبيت آخر مقامة التأكيد من الاية السابقة، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن
[ 143 ]
سبيل الله كما هو ظاهر. ويمكن أن يكون الاية في مقام التعليل بالنسبة إلى الاية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد، والمعنى ظاهر. (بحث روائي) وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السلام في حديث قال: ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبى من رجل نجار اسمه يوسف ؟. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " (الاية) قال: حدثنى أبي، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقرى، عن أبى حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتنى فقلت: أيها الامير أية آية هي ؟ فقال: قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " والله إنى لامر باليهودى والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعينى فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الامير ليس على ما اولت قال: كيف هو: قلت: ان عيسى ينزل
قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى اهل ملة يهودى ولا غيره الا آمن به قبل موته، ويصلى خلف المهدى قال: ويحك انى لك هذا ؟ ومن اين جئت به ؟ فقلت: حدثنى به محمد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والله جئت بها من عين صافية. وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها الا اعترض في نفسي منها شزء قال الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " وإنى اوتى بالاسارى فأضرب أعناقهم ولا معهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذى زعمت انه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، وإن اليهودي إذ اخرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذى زعمت أنك قتلته، عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الايمان، فإذا كان عند نزول عيسى
[ 144 ]
آمنت به أحياؤهم كما آمنت به مو تاهم: فقال: من أين أخذتها ؟ فقلت: من محمد بن على قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: وأيم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، ولكني أحببت أن اغيظه. اقول: ورواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد وابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن على بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية، والظاهر أنه روى عن محمد بن على، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر عليه السلام، والرواية - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الاية. وفيه: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الاسماء والصفات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم ؟ وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن
ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقبض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، واقرؤا إن شئتم: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات. اقول: والروايات في نزول عيسى عليه السلام عند ظهور المهدى عليه السلام مستفيضة من طرق أهل السنة، وكذا من طرق الشيعة عن النبي والائمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام. وفي تفسير العياشي عن الحارث بن مغيرة عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: ظاهره وإن كان مخالفا لظاهر سياق الايات المتعرضة لامر عيسى عليه السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جرى القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء بكتاب وشريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به ويؤمن بعيسى ومن قبله في ضمن الايمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإيمان كل كتابي لعيسى عليه السلام إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وبعيسى عليه السلام
[ 145 ]
تبعا، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة ويكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته، وإن كان عيسى عليه السلام كذلك أيضا فلا منافاة، والخبر التالى لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى. وفيه: عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله في عيسى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " فقال: إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه: عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال: ليس من أحد من جميع الاديان يموت إلا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام حقا من الاولين والاخرين. أقول: وكون الرواية من الجرى أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره عليه السلام ناظرا إلى تفسير الاية وتطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما اورد في ذيل الكلام على الاية، ولذلك نظائر في الروايات. وفيه: عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للامام وبإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: " تالله لقد آثرك الله علينا ". اقول: الرواية من الاحاد: وهى مرسلة وفي معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير " (فاطر: 32) سنستوفى الكلام فيها إن شاء الله تعالى. وفيه: في قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما إوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الاية) عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام قال: إنى أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده، فجمع له كل وحى. اقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ الوحى ما يوجب تفرق
[ 146 ]
السبيل وتفاوت الدعوة، لا أن كل ما اوحى به إلى نبى على خصوصياته فقد اوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا مما لا معنى له، ولا أن ما أوحى إليك جامع لجميع الشرائع السابقة فإن الكلام في الاية غير موضوع لافادة هذا المعنى، ويؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالى. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبى جعفر عليه السلام: قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم:
" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " وأمر كل نبى بالسبيل والسنة. وفي تفسير العياشي عن الثمالى عن أبى جعفر عليه السلام قال: وكان بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ومستعلنين، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من استعلن من الانبياء، وهو قول الله عز وجل: " ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما " يعنى لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الانبياء. اقول: ورواه في الكافي عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبى حمزة عنه عليه السلام وفيه: من الانبياء مستخفين، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمى من استعلن من الانبياء وهو قول الله عز وجل: " رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " يعنى لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الانبياء (الحديث). والمراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا ولا سماهم، كما قص بعض قصص المستعلنين وسمى من سمى منهم. ومن الجائز ان يكون قوله: " يعنى لم أسم " (الخ) من كلام الراوى. وفي تفسير العياشي عن أبى حمزة الثمالى قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل اليك في على أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. اقول: وروى هذا المعنى القمى في تفسيره مسندا عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام وهو من قبيل الجرى والتطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته عليه السلام وليس المراد به تحريف الكتاب ولا هو قراءة منه عليه السلام. ونظيره ما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن أبى جعفر عليه السلام، والقمى في تفسيره عن أبى عبد الله عليه السلام: ان الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم (الاية) وما رواه في المجمع عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله " قد جاءكم الرسول
[ 147 ]
بالحق " أي بولاية من أمر الله بولايته.
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والارض وكان الله عليما حكيما - 170. يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا - 171. لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - 172. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا - 173. يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا - 174. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما - 175.
[ 148 ]
(بيان) بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان ان رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، وأن الكتاب الذى جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه وكتابه. وقد كان بين فيما بين أن جميع رسله وأنبيائه - وقد ذكر فيهم عيسى - على سنة واحدة متشابهة الاجزاء والاطراف، وهى سنة الوحى من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى وهم أهل كتاب ووحى إلى أن لا يغلوا في دينهم، وأن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين، ويقروا في عيسى بما أقروا به هم وغيرهم في سائر الانبياء أنهم عباد الله ورسله
إلى خلقه. فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الايمان برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لان المبين أولا هو صدق نبوته في قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (الايات). ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى عليه السلام لانه المتبين ثانيا في ضمن الايات المذكورة. ثم دعا إلى اتباع كتابه وهو القرآن الكريم لانه المبين أخيرا في قوله تعالى: " لكن الله يشهد بما أنزل إنك أنزله بعلمه " (الاية). قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم " خطاب عام لاهل الكتاب وغيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لاهل الكتاب، وإنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه وهو الايمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة. وقوله " خيرا لكم " حال من الايمان وهى حال لازمة أي حال كون الايمان من صفته اللازمة أنه خير لكم. وقوله " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والارض "، أي إن تكفروا لم يزد كفر كم عليكم شيئا، ولا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شئ مما في السماوات والارض لله فمن المحال ان يسلب منه تعالى شئ من ملكه فإن في طباع كل شئ مما في السماوات والارض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا وكونه مملوكا شئ واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شئ وهو شئ ؟.
[ 149 ]
والاية من الكلمات الجامعة التى كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معنا ها، وسعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكة تعالى على الاشياء وآثارها تعطى في الكفر والايمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها. قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق " ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وانما خوطبوا بأهل الكتاب - وهو وصف مشترك - اشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضى
أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه، ومما بينه أن لا يقولوا عليه الا الحق. وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، وقولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله " (التوبه: 30) وقال تعالى: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (التوبة: 31)، وقال تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم - إلى أن قال - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " (آل عمران: 64). وعلى هذا فقوله: " انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله " (الخ) تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم. هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله "، تعليلا لقوله: " لا تغلوا في دينكم "، ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله " انما المسيح " أي المبارك " عيسى بن مريم " تصريح بالاسم واسم الام ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأى معنى مغاير، وليكون دليلا على كونه انسانا مخلوقا كأى انسان ذى ام. " وكلمته ألقاها إلى مريم " تفسير لمعنى الكلمة فإنه كلمة " كن " التى ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الاسباب العادية كالنكاح والاب، قال تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (آل عمران: 47) فكل شئ كلمة له تعالى غير أن سائر الاشياء مختلطة بالاسباب العادية، والذى اختص لاجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الاسباب العادية في تولده " وروح منه " والروح من الامر، قال تعالى: " قل الروح من أمر ربى " (أسرى: 85) ولما كان عيسى عليه السلام كلمة " كن " التكوينية وهى أمر فهو روح.
[ 150 ]
وقد تقدم البحث عن الاية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله إله واحد " تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: " انما المسيح " (الخ) أي فإذا كان كذلك
وجب عليكم الايمان على هذا النحو، وهو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية ولرسله - ومنهم عيسى - بالرسالة، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الايمان بالله ورسله ونفى الثلاثة خيرا لكم. والثلاثة هم الاقانيم الثلاثة: الاب والابن وروح القدس، وقد تقدم البحث عن ذلك في الايات النازلة في أمر المسيح عليه السلام من سورة آل عمران. قوله تعالى: " سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الارض " السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله " أن يكون " وهو منصوب بنزع الخافض، والتقدير: اسبحه تسبيحا وانزهه تنزيها من أن يكون له ولد، والجملة اعتراض مأتى به للتعظيم. وقوله " له ما في السماوات وما في الارض " حال أو جملة استيناف، وهو على أي حال احتجاج على نفى الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذى يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه، وإذا كان كل ما في السماوات والارض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى وهو القيوم لكل شئ وحده فلا يماثله شئ من هذه الاشياء فلا ولد له. والمقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عزاسمه ولازم هذا أن يكون قوله " ما في السماوات وما في الارض " تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات والارض مشمولة لهذه الحجة، وليست مما في السموات والارض بل هي نفسها. ثم لما كان ما في الاية من امر ونهى هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم واخراهم ذيل الكلام بقوله " وكفى بالله وكيلا " أي وليا لشؤونكم، مدبرا لاموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم ويدعوكم إلى صراط مستقيم. قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " احتجاج آخر على نفى الوهية المسيح عليه السلام مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث
[ 151 ]
ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، وهذا مما لا ينكره النصارى، والاناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، ولا معنى لعبادة الولد الذى هو سنخ إله ولا لعبادة الشئ لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذى ينطبق وجوده على كل منها، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه السلام. وقوله " ولا الملائكة المقربون " تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم، وقد قال جماعة من المشركين كمشركي العرب - بكونهم بنات الله، فالجملة استطرادية. والتعبير في الاية أعنى قوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " عن عيسى عليه السلام بالمسيح، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو مسيح مبارك ؟ ولا الملائكة وهم مقربون ؟ ولو رجى فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا ولا قرب هؤلاء، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: " وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين " (آل عمران: 45). قوله تعالى: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " حال. من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون عن عبادته الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الانس والجن والملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك ويؤمنون به ويتقونه. ومن الدليل على أن قوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " (الخ) في معنى أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله " ويستكبر " إنما قيد به قوله " ومن يستنكف " لان مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الالهى إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب
فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر "، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته (الخ). وقوله " جميعا " أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذى يتلوه من قوله:
[ 152 ]
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (الخ). قوله تعالى: " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " التعرض لنفى الولى والنصير مقابلة لما قيل به من الوهية المسيح والملائكة. قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " قال الراغب: البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى، فهو على أي حال مصدر. وربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اطلق على نفس الدليل والحجة. والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله " وأنزلنا إليكم " ويمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الاخرى. ويمكن أن يراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيده وقوع الاية في ذيل الايات المبينة لصدق النبي في رسالته، ونزول القرآن من عند الله تعالى، وكون الاية تفريعا لذلك ويؤيده أيضا قوله تعالى في الاية التالية. " واعتصموا به " لما تقدم في الكلام على قوله " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم " (آل عمران: 101) أن المراد بالاعتصام الاخذ بكتاب الله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به "، بيان لثواب من اتبع برهان ربه والنور النازل من عنده. والاية كأنها منتزعة من الاية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أعنى قوله " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله "، ولعله
لذلك لم يذكر ههنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان والنور، لانه بعينه ما ذكر في الاية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الاشعار بأن جزاء المتبعين ههنا جزاء المتبعين هنالك، وليس هناك إلا فريقان: المتبعون والمتخلفون. وعلى هذا فقوله في هذه الاية: " فسيدخلهم في رحمة منه " يحاذي قوله في تلك الاية: " فيوفيهم اجورهم " وهو الجنة وأيضا قوله في هذه الاية: " وفضل " يحاذي قوله في تلك الاية: " ويزيدهم من فضله " وأما قوله " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " فهو
[ 153 ]
من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (آل عمران 101). يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم - 176. (بيان) آية تبين فرائض الكلالة من جهة الابوين أو الاب على ما يفسرها به السنة، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الام بحسب البيان النبوى، ومن الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة ههنا أكثر مما ذكر هناك، ومن المستفاد من الايات أن سهام الذكور أكثر من سهام الاناث. قوله تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة أن امرء هلك ليس له ولد " قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والافتاء ومعنى الكلالة في الايات السابقة من السورة. وقوله " ليس له ولد " ظاهره الاعم من الذكر والانثى على ما يفيده إطلاق الولد
وحده. وقال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للاجماع انتهى. ولو كان لاحد الابوين وجود لم تخل الاية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما. وقوله " وله اخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " سهم الاخت من خأيها، والاخ من اخته، ومنه يظهر سهم الاخت من اختها والاخ من أخيه، ولو كان للفرضين الاخيرين فريضة اخرى لذكرت.
[ 154 ]
على أن قوله " وهو يرثها " في معنى قولنا: لو انعكس الامر - أي كان الاخ مكان الاخت - لذهب بالجميع، وعلى أن قوله " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين " وهو سهم الاختين، وسهم الاخوه لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وانوثته في السهام. والذى صرحت به الاية من السهام سهم الاخت الواحدة والاخ الواحد، والاختين، و الاخوة المختلطة من الرجال والنساء، ومن ذلك يعلم سهام باقى الفروض: منها: الاخوان، يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الاخ الواحد بالجميع، ومنها الاخ الواحد مع اخت واحدة، ويصدق عليهما الاخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله " وإن كانوا إخوة " على أن السنة مبينة لجميع ذلك. والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الاب وحده، أو كلالة الابوين وحده، وأما إذا اجتمعا كالاخت لابوين مع الاخت لاب لم ترث الاخت لاب. وقد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة. قوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا " أي حذر أن تضلوا أو لئلا تضلوا، وهو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم: " فعجلنا القرى أن تشتمونا " (بحث روائي) في المجمع عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: اشتكيت وعندي تسعة أخوات
لى - أو سبع - فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفخ في وجهى فأفقت، فقلت: يا رسول الله ألا اوصى لاخواتي بالثلثين ؟ قال: أحسن، قلت: الشطر ؟ قال أحسن، ثم خرج وتركني ورجع إلى فقال: يا جابر انى لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل في الذى لاخواتك فجعل لهن الثلثين. قالوا: وكانوا جابر يقول: أنزلت هذه الاية في. اقول: وروى ما يقرب عنه في الدر المنثور.
[ 155 ]
وفي الدر المنثور: اخرج ابن ابى شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. أقول: وروى فيه عدة روايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يسمون الاية بآية الصيف، قال في المجمع: وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهى التى في أول هذه السورة، واخرى في الصيف، وهى هذه الاية. وفيه: أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال: ما خلا الولد والوالد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى، عن ابن ابى عمير، عن ابن اذينة، عن بكير، عن أبى جعفر عليه السلام قال: إذا مات الرجل وله اخت لها نصف ما ترك من الميراث بالاية كما تأخذ البنت لو كانت، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ اخذ الميراث كله لقول الله " وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " فإن كانتا اختين أخذتا الثلثين بالاية، والثلث الباقي بالرحم، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة. اقول: وروى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبى جعفر وإبى
عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير العياشي عن بكير قال: دخل رجل على أبى جعفر عليه السلاام فسأله عن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها واختا لاب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، وللاخوة من الام الثلث: سهمان، وللاخت للاب سهم. فقال الرجل: فإن فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا، يا أبا جعفر ! يقولون: للاخت للاب والام ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية. فقال أبو جعفر: ولم قالوا ذلك ؟ قال: لان الله قال: " وله اخت فلها نصف ما ترك " فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقصتم الاخ إن كنتم تحتجون بأمر الله ؟ فإن الله سمى لها النصف، وإن الله سمى للاخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: " فلها النصف " وقال للاخ: " وهو يرثها " يعنى جميع المال " إن لم يكن لها ولد " فلا تعطون
[ 156 ]
الذى جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا وتعطون الذى جعل الله له النصف تاما ؟ وفي الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: إنه سئل عن رجل توفى وترك ابنته واخته لابيه وامه فقال: للبنت النصف وليس للاخت شئ، وما بقى فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للاخت النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله ؟ قال الله: " إن امرء هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك " فقلتم انتم: لها النصف وإن كان له ولد. اقول: وفي المعاني السابقة روايات اخر. " سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد - 1. يا أيها الذين
آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب - 2. حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين
[ 157 ]
كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم - 3. بيان الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الايات الواقعة فيها، والاحكام والمواعظ والقصص التى تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن، والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقه العهد بالطاعة، وتعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين. ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الاشارة إلى كثير من مظالم بنى إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الايات التى يمتن الله تعالى فيها على الناس بامور كإكمال الدين، وإتمام النعمة، واحلال الطيبات، وتشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر.
وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالاخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الاخر، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله، ولازمه التزام أحدهما الاخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبرا عندهم في
[ 158 ]
الامور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للامور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فاطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذى عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها. ولما كان العقد - وهو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التى أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الاصلية والاعمال العبادية والاحكام المشروعة تأسيسا أو امضاء، و منها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الاوجه حمل العقود في الاية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد. وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التى يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الانسان على نفسه كعقد اليمين. وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التى كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغى عليهم، وهذا هو الحلف الدائر بينهم. وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل
بما في التوراة والانجيل. فهذه وجوه لا دليل على شئ منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الاوجه. (كلام في معنى العقد) يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " على الامر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوى، وهو نوع ربط شئ بشئ آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذى هو ربط المبيع بالمشترى ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف، وكعقد النكاح الذى يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد
[ 159 ]
الذى يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه. وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. وقد أرسلت الايات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية وهو كذلك. وليس ذلك إلا لان العهد والوفاء به مما لا غنى للانسان في حياته عنه أبدا، والفرد والمجتمع في ذلك سيان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التى للانسان وجدنا جميع المزايا التى نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التى نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التى تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان،
ولو صح للانسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذى يلوذ به ويأوى إليه الانسان من اسارة الاستخدام والاستثمار. ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا " (اسرى: 34) والاية تشمل العهد الفردى الذى يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الايات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردى لان العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم. ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم
[ 160 ]
عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " (براءة: 5) والايات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم، وهى تعزم على المسلمين أن يطهروا الارض التى ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثنى قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد
و مراعاة لجانب التقوى. نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذى نقضه ويتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " (براءة: 12)، وقال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة: 194)، وقال تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم و العدوان واتقوا الله " (المائدة: 2). وجملة الامر أن الاسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الاطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الاخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التى ما نهض ناهض الدين إلا لاماطتها. ولعمري ان ذلك أحد التعاليم العالية التى أتى بها دين الاسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الانسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذى لا ينتظم سلك الاجتماع
[ 161 ]
الانساني الا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة، ولو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته.
وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الاسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الامم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الامم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة. ومن الحرى بالدين ذاك وبسننهم ذلك، فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الامة تجب رعايتها بأى وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية والشيوعية وغيرها. وقد عرفت مع ذلك أن الاسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بنى عليه بناء ويوصى برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم " (الخ) الاحلال هو الاباحة والبهيمة اسم لكل ذى أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الانعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الانسان وجنس الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الانعام، وعليه فالاضافة لامية. وكيف كان فقوله " أحلت لكم بهيمة الانعام " أي الازواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله " إلا ما يتلى عليكم " إشارة إلى ما سيأتي من قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " (الاية). وقوله " غير محلى الصيد وأنتم حرم " حال من ضمير الخطاب في قوله " أحلت لكم
[ 162 ]
ومفاده حرمة هذا الذى أحل إذا كان اصطياده في حال الاحرام، كالوحشي من الظباء
والبقر والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله " أوفوا " أو حال من ضمير الخطاب في قوله " يتلى عليكم " والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى. والاحلال هو الاباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا. والشعائر جمع شعيرة وهى العلامة وكأن المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهى: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. والهدى ما يساق للحج من الغنم والبقر والابل. والقلائد جمع قلادة، وهى ما يقلد به الهدى في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدى للحج فلا يتعرض له. والامين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله " يبتغون فضلا "، حال من " آمين " والفضل هو المال أو الربح المالى، فقد أطلق عليه في قوله تعالى " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (آل عمران: 174) وغير ذلك أو هو الاجر الاخروي أو الاعم من المال والاجر. وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الاية على أقوال شتى، والذى آثرناه ذكره هو الانسب لسياق الاية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الاقوال. قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الاباحة بمعنى عدم المنع، والحل والاحلال - مجردا ومزيدا فيه - بمعنى وهو الخروج من الاحرام.
قوله تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لانها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة
[ 163 ]
المالية وغيرها لانها محمولة على المجرم. وذكر الراغب أن الاصل في معناها القطع. والشنآن العداوة والبغض. وقوله " أن صدوكم " أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن ومحصل معنى الاية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم. قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المعنى واضح، وهذا أساس السنة الاسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالايمان والاحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر الاية " (البقرة: 177) وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الايمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الاثم الذى هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في امور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الامن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الاية) آل عمران: 200) في الجزء الرابع من هذا الكتاب. ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الاثم والعدوان بقوله: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " هذه الاربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الانعام والنحل وهما مكيتان، وسورة البقرة وهى أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: " قل لا أجد
فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم " (الانعام، 145) وقال تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " (البقرة: 173). والايات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الاربعة المذكورة في صدر هذه الاية وتماثل الاية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم
[ 164 ]
فإن الله غفور رحيم " فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الايات. بل النهى عنها وخاصة عن الثلاثة الاول أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الانعام والنحل لمكيتين، فإن آية الانعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر - وهى من السور النازلة في أول البعثة -: " والرجز فاهجر " (المدثر: 5). وكذلك ما عده تعالى بقوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله " إلا ما ذكيتم " فإنما ذكرت في الاية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الاطعمة من غير أن تتضمن الاية فيها على تشريع حديث. وكذلك ما عده الله تعالى بقوله " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق " فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الانعام، وكذا قوله " غير متجانف لاثم " يدل على تحريم ما ذكر في الاية لكونه إثما، وقد دلت
آية البقرة على تحريم الاثم، وقال تعالى أيضا: " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " (الانعام: 120)، وقال تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (الاعراف: 33). فقد اتضح وبان أن الاية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الايات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الاطعمة من اللحوم ونحوها. قوله تعالى: " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " المنخنقة هي البهيمة التى تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا، ومن أن يكون بأى آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطه مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.
[ 165 ]
والموقوذة هي التى تضرب حتى تموت، والمتردية هي التى تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما. والنطيحة هي التى ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التى أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الاكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضارى كالاسد والذئب والنمر ونحوها. وقوله " إلا ما ذكيتم " استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فرى الاوداج الاربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك، والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالاخير من غير دليل عليه. وهذه الامور الخمسة أعنى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع
كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردى والنطح، والدليل على ذلك قوله: " إلا ما ذكيتم " فإن من البديهى أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، وأما لو تردت شاة - مثلا - في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف الذى ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردى والنطح. والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها، والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الافراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة. قوله تعالى: " وما ذبح على النصب " قال الراغب في المفردات: نصب الشئ وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشئ، وجمعه نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: " كأنهم إلى نصب
[ 166 ]
يوفضون "، قال: " وما ذبح على النصب " وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: والانصاب والازلام " والنصب والنصب: التعب. فالمراد من النهى عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية. قوله تعالى: " وإن تستقسموا بالازلام " والازلام هي القداح، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور - أو بهيمة اخرى - على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم
ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر الاية) (البقرة: 219) في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما وقسمة، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: " لكل باب منهم جزء مقسوم " " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم " واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: " وأن تستقسموا بالازلام "، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالازلام التى هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الالة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالازلام المنهى عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب. وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالازلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الافعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه - قالوا: وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتى زيادة شرح له في البحث الروائي التالى - ففيه: أن سياق الاية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الاية - وهى مقام عد محرمات الاطعمة، وقد أشير إليها قبلا في قوله: " إلا ما يتلى عليكم " - تعد من محرماتها عشرا، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالازلام الذى من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الامور فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية
[ 167 ]
في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا ؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك. نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت
الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " البقرة: 119. إلا المعنى الاول، والامثله في ذلك كثيرة. وقوله: " ذلكم فسق يحتمل الاشارة إلى جميع المذكورات، والاشارة إلى الاخيرين المذكورين بعد قوله: " إلا ما ذكيتم " لحيلولة الاستثناء، والاشارة إلى الاخير ولعل الاوسط خير الثلاثة. قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " أمر الاية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الاية أعنى قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم - إلى قوله: - ذلكم فسق " وأضفت إليه ذيلها أعنى قوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شئ من قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) أصلا، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الايات الواقعة في سورة الانعام والنحل والبقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففى سورة البقرة: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " ويماثله ما في سورتي الانعام والنحل. وينتج ذلك أن قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " (الخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الاية غير متوقف عليه لفظ الاية في دلالتها وبيانها، سواء قلنا: إن الاية نازلة في وسط الاية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى أمر كتاب الوحى بوضع الاية في هذا الموضع مع انفصال الايتين واختلافهما نزولا. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذى هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضا إذا قيس إلى صدر الاية وذيلها. ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلها، وهى
أخبار جمة - يخص قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " " (الخ) بالذكر من غير أن يتعرض
[ 168 ]
لاصل الاية أعنى قوله: " حرمت عليكم الميتة " أصلا وهذا يؤيد أيضا نزول قوله: " اليوم يئس " (الخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر والذيل، وأن وقوع الاية في وسط الاية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى تأليف المؤلفين بعده. ويؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبى قال: نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية - وهو بعرفة -: " اليوم أكملت لكم دينكم " وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك. ثم إن هاتين الجملتين أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، وقبول المضمونين لان يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الاجزاء، متصل الاطراف بعضها ببعض، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق. ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضا، وليس ذلك إلا لانهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، وبنوا على نزولهما معا، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد. وينتج ذلك أن هذه الاية المعترضة أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم - إلى قوله: - ورضيت لكم الاسلام دينا " كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالاية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر ألبتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوى غرضين، وأن اليوم المتكرر في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، وفي قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم "، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأكمل فيه الدين.
ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " ؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الاسلام، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار ؟. لا سبيل إلى ذلك لان ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن
[ 169 ]
المسلمين وأنه كان ناقصا فأكمله الله وأتم نعمته عليهم، ولم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم. على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: " اليوم أكملت "، على قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، حتى يستقيم الكلام في نظمه. أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش وأذهب شوكتهم، وهدم فيه بنيان دينهم، وكسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، ويضادوا الاسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته ؟. لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الاية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين بفتح مكة - وكان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، وكم من حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. على أن قوله: " الذين كفروا " يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعا آئسين من دين المسلمين، ومن الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية. أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة
العرب تقريبا، وعفت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين ومناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الامر، وأبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا ؟ لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد، وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك، ومنها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، وقد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها شئ كثير من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص. فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الاية معناه الوسيع مما
[ 170 ]
يناسب مفاد الاية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الاية نفسها، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالاية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لمكان قوله تعالى: " اليوم أكملت ". فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه ؟ أو يوم نزول البراءة بعينه يكفى في فساده ما تقدم من الاشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين. أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه ورد بعض الروايات ؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب
من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم - وذلك الذى يقتضيه إطلاق قوله: " الذين كفروا " - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، ولما يظهر للاسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم. ومن جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم - وهو يوم عرفة تاسع ذى الحجة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الذى يناسب قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " في الاية. فربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه فيه، وتعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول. لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم - وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون أن صار مهجورا، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير ذلك - لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، وكيف يصح أن يسمى تعليم شئ من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين ؟. على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاولى أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " بهذه الفقرة أعنى قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وأى ربط
[ 171 ]
ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج التمتع للناس ؟. وربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده ولا حرام، وبإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، ولاحت آثاره على وجوههم. لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الاية بقوله: " الذين كفروا " على هذا التقدير وأنهم من هم ؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الاسلام
عمهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الاسلام وهو الاسلام حقيقه، فمن هم الكفار الائسون. وإن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الامم والاجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين. ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفه فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية الصيف (1) وآيات الربا، حتى أنه روى عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث. وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات. وليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الاية عليها، لان الاية ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، وهذه الاخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند. أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون. وفيه: أنه قد كان صفا الامر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " ؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما
(1) وهى آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء. (*)
[ 172 ]
للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، وأى معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، وليس الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها عدد ؟ وأما صفاء الجو لاجرائها، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.
حاله. ويمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لانهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار. توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الاسلام بذكر المحرمات الاربعة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الاسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الاية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الاسلام، ولا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن فقرائهم وهم أكثر السابقين الاولين. جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الاسلام، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم، وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، وزال طمعهم في الظهور عليهم، وإزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، ولا يخافوهم على دينهم وعلى أنفسهم. فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، وهو اليوم الذى نزلت فيه هذه الاية المبينة لما بقى من الاحكام التى أبطل بها الاسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شئ من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم. فالله سبحانه يخبرهم في الاية أن الكفار أنفسهم قد يئسوامن زوال دينهم وأنه ينبغى لهم - وقد بدلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الاية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.
[ 173 ]
وفيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الاخر من الاشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ الاية ومعناها جميعا. فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الاسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، وإنما اللفظ الوافى له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آئسون. وذهل عن أن هذا التدرج الذى ذكره في محرمات الطعام، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الاية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الاية أعنى آيات البقرة والانعام والنحل، وأن المنخنقة والموقوذة (الخ) من افراد ما ذكر فيها. وإن أريد به التدرج من حيث البيان الاجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففى غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، وأكثر ابتلاء، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها، وهى أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود، فما بال تلك الاربعة وهى أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقى من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالاضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، ويخاف من التصريح بها ؟. على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، وهل يصح ان يسمى تشريع الاحكام دينا ؟ وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين ؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض
النعمة لا للكل والجميع، وقد قال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فأطلق القول من غير تقييد. على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في ايام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة ؟.
[ 174 ]
أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الاية المبينة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه ووآله وسلم ؟ بل ما شأن سائر الاحكام النازلة بعد هذه الاية في سورة المائدة ؟ تأمل فيه. وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " - وتقديره: اليوم رضيت (الخ) - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الاية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة ؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضى فيه الاسلام دينا، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى ؟. وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، ولا نطيل بالاعادة. أو أن المراد باليوم واحد من الايام التى بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين. وفيه من الاشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم. فهذا شطر من البحث عن الاية بحسب السير فيما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه معناها، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب. قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " - واليأس يقابل الرجاء، والدين إنما نزل من عند الله تدريجا - يدل على ان الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين وهو الاسلام، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان، وأن أمرهم ذلك كان يهدد
الاسلام حينا بعد حين، وكان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، وأن ذلك كان من حقه ان يحذر منه ويخشاه المؤمنون. فقوله: " فلا تخشوهم " تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، ومن تسر به على خشية، قال تعالى: " ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم " (آل عمران: 69)، وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم ومن بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109).
[ 175 ]
والكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، ولم يكن يضيق صدورهم وينصدع قلوبهم إلا من جهة ان الدين كان يذهب بسوددهم وشرفهم واسترسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، وتألفه وتعتاد به نفوسهم، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد وشرط. فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون اهل الدين الا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم اركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، ورد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: " لو يردونكم كفارا " (الاية) قال تعالى: " يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (الصف: 9). وقال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " (المؤمن: 14). ولذلك لم يكن لهم هم إلا ان يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات بينهم لافساد دينهم. وقد كانوا يأخذون بادئ الامر يفترون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستمحقون همته في
الدعوة الدينية بالمال والجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " (القلم: 9)، وقوله: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " (أسرى: 74) وقوله: " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد " (الكافرون: 3) على ما ورد في اسباب النزول. وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين، وموت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره ولا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالى والتجبر وركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " (الكوثر: 3)
[ 176 ]
على ما ورد في أسباب النزول. فقد كان هذه وأمثالها أمانى تمكن الرجاء من نفوسهم، وتطمعهم في إطفاء نور الدين، وتزين لاوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست الا أحدوثة ستكذبه المقادير ويقضى عليها ويعفو أثرها مرور الايام والليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجا على كل ما نازله له من دين وأهله، وانتشار صيته، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الامانى فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف همته عند بعض ما كان يريده، وتطميعه بمال أو جاه. قوة الاسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الاسباب: - أسباب الرجاء - إلا واحدا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، ويقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، وذلك أن من البديهى ان كمال الدين من جهة أحكامه ومعارفه - وإن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، وأن سنة من السنن المحدثة
والاديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها. ومن جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد الامة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعى، ويكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماما لهذه النعمة، وليس يبعد ان يكون قوله تعالى: " ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109) باشتماله على قوله: " حتى يأتي " اشارة إلى هذا المعنى. وهذا يؤيد ما ورد من الروايات ان الاية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية على عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المتقدمة.
[ 177 ]
ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الاية تعرف أن اليوم في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ظرف متعلق بقوله: " يئس " وأن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، وتعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعى، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام. ولا يقاس الاية بما سيأتي من قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " (الاية) فإن سياق الايتين مختلف فقوله: " اليوم يئس " في سياق الاعتراض، وقوله: " اليوم أحل "، في
سياق الاستيناف، والحكمان مختلفان: فحكم الاية الاولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه والتحذير من وجه آخر، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: " اليوم يئس " يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، والمراد بالذين كفروا - كما تقدمت الاشارة إليه - مطلق الكفار من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الاطلاق. وأما قوله: " فلا تخشوهم واخشون فالنهى إرشادى لا مولوى، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - ومن المعلوم ان الانسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفار، ولا ينبغى لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم اخشونى. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " واخشون " بمقتضى السياق أن اخشونى فيما كان عليكم ان تخشوهم فيه لو لا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، ولهذا لم نحمل الاية على الامتنان. ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير ان يتعلق بوضع دون وضع، وشرط دون شرط، فلا وجه للاضراب من قوله: " فلا تخشوهم " إلى قوله: " واخشون " لولا أنها خشية خاصة في مورد خاص. ولا تقاس الاية بقوله تعالى: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران: 175) لان الامر بالخوف من الله في تلك الاية مشروط بالايمان، والخطاب مولوى، ومفاده انه لا يجوز للمؤمنين ان يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب ان يخافوا الله سبحانه وحده.
[ 178 ]
فالاية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله ام لا ولذلك يعلل ثانيا الامر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، وهو قوله: " إن كنتم مؤمنين " وهذا بخلاف قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فإن خشيتهم هذه خشية
منهم على دينهم، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهى عنها لكون السبب الداعي إليها - وهو عدم يأس الكفار منه - قد ارتفع وسقط أثره فالنهى عنه إرشادى، فكذا الامر بخشية الله نفسه، ومفاد الكلام ان من الواجب أن تخشوا في امر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى يوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده. فافهم ذلك. فالاية لمكان قوله: " فلا تخشوهم واخشون " لا تخلو عن تهديد وتحذير، لان فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التى تجب على المؤمن على كل تقدير وفى جميع الاحوال، فلننظر في خصوصية هذه الخشية، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والامر بها ؟. لا إشكال في ان الفقرتين أعنى قوله. " اليوم يئس "، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "، في الاية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، وقد تقدم بيانه، فالدين الذى أكمله الله اليوم، والنعمة التى أتمها اليوم - وهما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الذى كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه، ونهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من ايديهم، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة. وقد بين الله سبحانه ان لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، وهدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم " (الانفال: 53) وقال تعالى: " ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " (البقرة: 211) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " (النحل: 112). فالاية أعنى قوله: " اليوم يئس - إلى قوله - دينا " تؤذن بأن دين المسلمين في أمن
[ 179 ]
من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضى، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقم، ويذيقهم لباس الجوع والخوف، وقد فعلوا وفعل. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الاية في ملحمتها المستفادة من قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فعليه ان يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها. ولايات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الاية من التحذير والايعاد، ولم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: " ويحذركم الله نفسه " (آل عمران: 28، 30) وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب. قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " الاكمال والاتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشئ حصول ما هو الغرض منه. وقال: تمام الشئ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شئ خارج عنه. ولك ان تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو ان آثار الاشياء التى لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشئ عند وجود جميع اجزائه - إن كان له اجزاء - بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الامر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالامساك في بعض النهار، ويسمى كون الشئ على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (البقرة: 187)، وقال: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " (الانعام: 115). وضرب آخر: الاثر الذى يترتب على الشئ من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الاجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الاثر
ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الاثر المطلوب منه، قال تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " (البقرة: 196) وقال:
[ 180 ]
" ولتكملوا العدة " (البقرة: 185) فإن هذا العدد يترتب الاثر على بعضه كما يترتب على كله، ويقال: تم لفلان امره وكمل عقله، ولا يقال: تم عقله وكمل امره. وأما الفرق بين الاكمال والتكميل، وكذا بين الاتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين بابى الافعال والتفعيل، وهو ان الافعال بحسب الاصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج، وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوى ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالاحسان والتحسين، والاصداق والتصديق، والامداد والتمديد والافراط والتفريط، وغير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال. وينتج ما تقدم ان قوله: " أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والاحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شئ وأن النعمة أياما كانت امر معنوى واحد كأنه كان ناقصا غير ذى اثر فتمم وترتب عليه الاثر المتوقع منه. والنعمة بناء نوع وهى ما يلائم طبع الشئ من غير امتناعه منه، والاشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، وأكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (ابراهيم: 34) وقال: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " (لقمان: 20). إلا انه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم
عذاب مهين " (آل عمران: 178)، وقال: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان " (العنكبوت: 64)، وقال: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران: 197) إلى غير ذلك. والايات تدل على ان هذه الاشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الالهى من خلقتها لاجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للانسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهى القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال
[ 181 ]
تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56). فكل ما تصرف فيه الانسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة، وإن انعكس الامر عاد نقمة في حقه، فالاشياء في نفسها، عزل، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التى هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الالهية، وأن الشئ إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شئ منها، قال تعالى: " الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257) وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (محمد: 11) وقال في حق رسوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65) إلى غير ذلك. فالاسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، وهو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الامر بعده نعمة. ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لامور عباده إلا بولاية رسوله، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أولى الامر من بعده، وهى تدبيرهم لامور الامة الدينية بإذن من الله، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم " (النساء:
59) وقد مر الكلام في معنى الاية، وقال: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (المائدة: 55) وسيجئ الكلام في معنى الاية إن شاء الله تعالى. فمصل معنى الاية اليوم - وهو اليوم الذى يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التى أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهى الولاية التى هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهى إنما تكفى ما دام الوحى ينزل، ولا تكفى لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحى، ولا رسول بين الناس يحمى دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولى الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيم على أمور الدين والامة. فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولى الامر
[ 182 ]
بعد النبي. وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الاسلام الذى هو دين التوحيد الذى لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه - والطاعة عبادة - إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولى. فالاية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضى لهم أن يتدينوا بالاسلام الذى هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون " (النور: 55) ثم طبقت فقرات الاية على فقرات قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز
الوعد الذى يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: " يعبدونني لا يشركون بى شيئا " مسوقا سوق الغاية كماربما يشعر به قوله: " ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون ". وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الافك وآية الجد وآية الحجاب وغير ذلك. قوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذى هو ميلهما إلى الداخل. وفى سياق الاية دلالة اولا على أن الحكم حكم ثانوى اضطرارى، وثانيا على أن التجويز والاباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع، وثالثا على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصى المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشأها، وهو الحكم الذى يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذى يستتبع العقاب.
[ 183 ]
(بحث علمي في فصول ثلاثة) 1 - العقائد في اكل اللحم: لا ريب أن الانسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذى يجذب به إلى نفسه من الاجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا ان يمتنع منه لتضرر أو تنفر. أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الاكل، أو يجد الاكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التى في الاديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الاكل فكرى. واما التنفر فهو الاستقذار الذى يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الانسان
لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الاطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من انواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة. فتبين أن الانسان في التغذى باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانوى. وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذاتفريط يقابله في جانب الافراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من افريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الانسان. وقد كانت العرب تأكل لحوم الانعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال القأر والوزغ، وتأكل من الانعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة
[ 184 ]
والموقوذة والمتردية والنطحية وما اكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله ؟ ! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون ؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الانسان ولو بعلاج طبى فنى فجهاز التغذى لا يفرق بين هذا وذاك ؟. وكانت العرب ايضا تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، واكل الدم رائج اليوم بين كثير من الامم غير المسلمة.
وأهل الصين من الوثنية اوسع منهم سنة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والاصداف وسائر الحشرات. وقد اخذ الاسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الانسان، ثم فسره في ذوات الاربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والابل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفى الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفى حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه. ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالاهلال به لله عز اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهى اقبال الانسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه. 2 - كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تاباه ؟ ربما يسأل السائل فيقول: ان الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الانسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التى تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعى الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لانه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء. وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التى هي أشرف نعمة ؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء ؟.
[ 185 ]
والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية. توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التى تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك
وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شئ إلا وفى إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الاخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل: عالم الاكل والمأكول. فالمركبات الارضية تأكل الارض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الارض تأكلها وتفنيها. ثم النبات يتغذى بالارض ويستنشق الهواء ثم الارض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الاصلية وعناصره الاولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر. ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذى الذى يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهى تتغذى بدم الانسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الارض تأكل الجميع. فنظام التكوين وناموس الخلقة الذى له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذى وضع حكم التغذى باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذى سوى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفى مقدم جهازه الغذائى أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الانعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا. ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التى تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من
مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم أحدهما وإنكار الاخر ؟.
[ 186 ]
والاسلام دين فطرى لا هم له إلا احياء آثار الفطرة التى أعفتها الجهالة الانسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة. وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذى أعنى حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالازلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التى تستقذرها الطباع. وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الانسان وكثير مما إعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الامور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الالام والاسقام والمصائب وأنواع العذاب. ثم الرحمة الانسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الاطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان، وفيه هلاك الارض ومن عليها. ومع ذلك لم يهمل الاسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه
قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الاحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه. ومع ذلك كله الاسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الاحكام المصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك
[ 187 ]
إلى اتباع حكم العقل. وأما حديث الرحمة الالهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعورى الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التى فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات. فتبين من جميع ما مر أن الاسلام يحاكى في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التى قيد بها الاباحة والشرائط التى اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم !. 3 - لما ذا بنى الاسلام على التذكية ؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الانف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالامساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح ؟. وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب
الاتباع بل اتباعه يفضى إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الاسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الامر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع. على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذى به إلا فساد المزاج ومضار الابدان هو بنفسه خلاف الرحمه، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.
[ 188 ]
(بحث روائي) في تفسير العياشي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلى شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير. أقول: وروى في تفسير البرهان عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله إلى قوله: وأميرها. ورواه أيضا العياشي عن عكرم،. وقد نقلنا الحديث سابقا عن الدر المنثور. وفى بعض الروايات عن الرضا عليه السلام قال: ليس في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " إلا في حقنا. وهو من الجرى أو من باطن التنزيل. وفيه: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " قال العهود. اقول: ورواه القمى أيضا في تفسيره عنه. وفي التهذيب مسندا عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن قول الله عز وجل: " أحلت لكم بهيمة الانعام " فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه الذى عنى الله تعالى. اقول: والحديث مروى في الكافي والفقيه عنه عن أحدهما، وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، ورواه القمى في تفسيره، ورواه في المجمع عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمى: في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " (الاية) الشعائر: الاحرام والطواف والصلاة في مقام إبراهيم والسعى بين الصفا والمروة، والمناسك كلها من شعائر الله، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدى فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، وقوله: " ولا الشهر الحرام " وهو ذو الحجة وهو من الاشهر الحرم، وقوله: " ولا الهدى " وهو الذى يسوقه إذا أحرم المحرم، وقوله: " ولا القلائد " قال:
[ 189 ]
يقلدها النعل التى قد صلى فيها. قوله: " ولا آمين البيت الحرام " قال: الذين يحجون البيت وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الاية في رجل من بنى ربيعة يقال له: الحطم. قال: وقال السدى: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده وخلف خيله المدينة فقال: إلى ما تدعو - ؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيع، يتكلم بلسان شيطان - فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنظرني لعلى أسلم ولى من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول: قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعى إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه فنزلت هذه الاية: ولا آمين البيت الحرام ". قال: وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم
فأنزل الله تعالى الاية. اقول: روى الطبري القصة عن السدى وعكرمة والقصة الثانية عن ابن زيد وروى في الدر المنثور القصة الثانية عن ابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم وفيه: أنه كان يوم الحديبية. والقصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (البراءة: 28)، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (البراءة: 5) الايتان جميعا نازلتين قبل قوله: " ولا آمين البيت الحرام " ولا محل حينئذ للنهى عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام. ولعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد
[ 190 ]
وقتادة والضحاك: ان قوله: " ولا آمين البيت الحرام " منسوب بقوله: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (الاية)، وقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " (الاية) وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمى، وظاهره انه رواية. ومع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهما السلام: أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله: " ولا آمين البيت الحرام " كالمفسر بقوله بعد: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام ان تعتدوا عليهم بإثم كالقتل، أو عدوان كالذى دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى. وفي الدر المنثور: اخرج احمد وعبد بن حميد في هذه الاية يعنى قوله: " وتعاونوا على البر " (الاية) والبخاري في تاريخه عن وابصة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا اريد
أن ادع شيئا من البر والاثم إلا سألته عنه فقال لى: يا وابصة اخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأ ؟ قلت يا رسول الله اخبرني قال: جئت لتسأل عن البر والاثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البرما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والاثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى أمامة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال: فما الايمان ؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن. وفيه: أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاري في الادب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والاثم فقال: البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. اقول: الروايات - كما ترى - تبتنى على قوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " (الشمس: 8) وتؤيد ما تقدم من معنى الاثم.
[ 191 ]
وفى المجمع: واختلف في هذا (يعنى قوله: " ولا آمين البيت الحرام) فقيل: منسوخ بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " عن أكثر المفسرين، وقيل ما نسخ من هذه السورة شئ، ولا من هذه الاية، لانه لا يجوز أن يبتدء المشركون في الاشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا. ثم قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي الفقيه: بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبى جعفر محمد بن على الباقر صلوات الله عليهما أنه قال: الميتة والدم ولحم الخنزير معروف، وما أهل لغير الله به يعنى ما ذبح على الاصنام، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا خنقت وماتت أكلوها، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها
حتى تموت فإذا ماتت أكلوها والمتردية كانوا يشدون عينها ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش - فإذا مات أحدهما أكلوه، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والاسد والدب فحرم الله عز وجل ذلك، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما، وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل والسهام عشرة، وهى: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتى لها أنصباء الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتى لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وثمن الجزور على من لم يخرج له من الانصباء شئ وهو القمار فحرمه الله. اقول: وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية وكذا ذكر قوله: " إلا ما ذكيتم " مع قوله: " وما أكل السبع " وقوله: " ذالكم فسق " مع قوله: " وأن تستقسموا بالازلام " لا دلالة فيه على التقييد. وفي تفسير العياشي: عن عيوق بن قسوط عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله:
[ 192 ]
" المنخنقة " قال: التى تنخنق في رباطها " والموقوذة " المريضة التى لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب ولا تخرج لها دم " والمتردية " التى تردى من فوق بيت أو نحوه " والنطيحة " التى تنطح صاحبها. وفيه عن الحسن بن على الوشاء عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: المتردية والنطيحة وما أكل السبع إن أدركت ذكاته فكله. وفيه: عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لابي عبد الله عليه السلاام:
جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك وتعالى - فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فناههم عنه وحرمه عليهم ثم أباحه للمضطر وأحله لهم في الوقت الذى لا يقوم بدنه إلا به فأمره ان ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك. ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة. وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه. وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صورة شتى شبه الخنزير والقرد والدب وما كان من الامساخ ثم نهى عن أكل مثله لكى لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته. وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال: إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشا ويذهب بنوره، ونهدم مروته، ويحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر. (بحث روائي آخر) في غاية المرام: عن أبى المؤيد موفق بن احمد في كتاب فضائل على، قال: أخبرني
[ 193 ]
سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى فيما كتب إلى من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوى، حدثنا محمد بن عبد الرحمان الزراع، حدثنا
قيس بن حفص، حدثنا على بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن ابى سعيد الخدرى: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، وذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى على وأخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الاية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتى والولاية لعلى، ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. وقال حسان بن ثابت: أتأذن لى يا رسول الله أن أقول أبياتا ؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت: يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا بأنى مولاكم نعم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للامر عاصيا فقال له قم يا على فإننى * رضيتك من بعدى إماما وهاديا وعن كتاب نزول القرآن في أمير المؤمنين على بن أبيطالب للحافظ أبى نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبى هارون العبدى، عن أبى سعيد الخدرى مثله، وقال في آخر الابيات: فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذى عادى عليا معاديا وعن نزول القرآن أيضا يرفعه إلى على بن عامر عن أبى الحجاف عن الاعمش عن عضة قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في على بن ابى طالب: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
[ 194 ]
نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
وعن إبراهيم بن محمد الحموينى قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب على بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الامام برهان الدين ناصر بن ابى المكارم المطرزى إجازة، قال: أنبأنا الامام اخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن احمد المكى الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلى من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوى، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثنى على بن الحسين العبدى عن ابى هارون العبدى عن ابى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. وعن الحموينى أيضا عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن احمد، قال: نبأنا محمد بن احمد بن على، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة، قال: نبأنا يحيى الحمانى، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبى هارون العبدى عن أبى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. قال: قال الحموينى عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبى سعيد سعد بن مالك الخدرى الانصاري. وعن المناقب الفاخرة للسيد الرضى - رحمه الله - عن محمد بن إسحاق، عن أبى جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد على بن أبى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره واخذل من خذله لانه منى وأنا منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى. وكانت آخر فريضة فرضها
الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
[ 195 ]
قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما امرهم الله من الفرائض في الصلاة والصوم والزكاة والحج، وصدقوه على ذلك. قال ابن إسحاق: قلت لابي جعفر: ما كان ذلك ؟ قال: لتسع (1) عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، وكان بين ذلك وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة يوم وكان سمع (2) رسول الله بغدير خم اثنا عشر. وعن المناقب لابن المغازلى يرفعه إلى ابى هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذى الحجة كتب الله له صيامه ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، بها اخذ النبي بيعة على ابن ابى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن ابى طالب اصبحت مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت ". وعن المناقب لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر للمرزباني عن ابى سعيد الخدرى مثل ما تقدم عن الخطيب. اقول: وروى الحديثين في الدر المنثور عن أبى سعيد وابى هريرة ووصف سنديهما بالضعف. وقد روى بطرق كثيرة تنتهى من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب ومعاوية وسمرة: ان الاية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم الجمعة، والمعتمد منها ما روى عن عمر فقد رواه عن الحميدى وعبد بن حميد واحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن ابى العالية عن عمر، وعن ابن جرير عن قبيصة بن ابى ذؤيب عن عمر، وعن البزاز عن ابن عباس، والظاهر أنه يروى عن عمر.
ثم اقول: أما ما ذكره من ضعف سندى الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم أن مفاد الاية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات
(1) سبع في نسخة البرهان. (2) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان. (*)
[ 196 ]
والمعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهى المتعينة للاخذ. على أن هذه الاحاديث الدالة على نزول الاية في مسألة الولاية وهى تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة والشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " الاية (المائدة: 67) وهى تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان، والجميع مرتبط بحديث الغدير: " من كنت مولاه فعلى مولاه " وهو حديث متواتر مروى عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين. ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. وهذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل والتهكم) فريضة من الفرائض كالتولي والتبرى اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الاية أعنى قوله: " اليوم أكملت " فالاية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، ولا اعتماد على ما ينافى ذلك من الروايات لو كانت منافية. وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغى أن يقال فيها غير أن ههنا أمرا يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الايتين الكريمتين: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " (الاية) على ما سيجئ من بيان معناه، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) والاحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات
الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الاسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقى الناس في إظهاره ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيؤوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية) فلم يمهل في ذلك. وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة، وأما اشتمال بعض الروايات على
[ 197 ]
نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم الاية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها. وعلى هذا فلا تنافى بين الروايات أعنى ما دل على نزول الاية في امر الولاية، وما دل على نزولها يوم عرفة كما روى عن عمر وعلى ومعاوية وسمرة، فإن التنافى إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، والاخر على النزول على يوم عرفة. واما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الاية تدل على كمال الدين بالحج وما أشبهه فهو من فهم الراوى لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه. وربما استفيد هذا الذى ذكرناه مما رواه العياشي في تفسيره عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعى عن ابيه قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: قل لامتك: اليوم أكملت دينكم بولاية على بن ابى طالب واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد انزلت عليكم الصلاة والزكا، والصوم والحج، وهى الخامسة، ولست اقبل عليكم بعد هذه الاربعة إلا بها.
على ان فيما نقل عن عمر من نزول الاية يوم عرفة إشكالا آخر، وهو أنها جميعا تذكر ان بعض اهل الكتاب - وفى بعضها انه كعب - قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذى نزلت فيه عيدا، وهى قوله: " اليوم اكملت لكم دينكم " (الاية) فقال له عمر: والله انى لاعلم اليوم وهو يوم عرفة من حجة الوداع. ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبى العالية هكذا: قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الاية، فقال رجل من اهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الاية لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذى جعله لنا عيدا واليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الامر فعلمنا أن الامر بعد ذلك في انتقاص. وما يتضمنه آخر الرواية مروى بشكل آخر ففى الدر المنثور: عن ابن ابى شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت " اليوم اكملت لكم دينكم " وذلك يوم الحج الاكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك ؟ قال: ابكانى أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص، فقال: صدقت.
[ 198 ]
ونظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور عن أحمد عن علقمة ابن عبد الله المزني قال: حدثنى رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الاسلام بدئ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان. فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أن معنى نزول الاية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الامر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم.
وبعبارة أخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف والاحكام، وكذا المراد بالاسلام ظاهر الاسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل. وإن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الاسلام، فان هذا المعنى هو الذى يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وأما كليات المعارف والاحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذى يشير إليه قوله في الرواية: " إنه لم يكمل شئ قط إلا نقص " فإن ذلك سنة كونية تجرى أيضا في التاريخ والاجتماع بتبع الكون، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن والنواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية. إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقد مر بيانه. وثانيا: أنه كيف يمكن ان يعد الله سبحانه الدين بصورته التى كان يترائى عليها كاملا وينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الارض من ظاهر المشركين، وكون المجتمع على ظاهر الاسلام فارغا من أعدائهم المشركين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا وإفسادا، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين، وإفساد الحال، وتقليب الامور، والدس في الدين، وإلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم
[ 199 ]
تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والانفال والبراءة والاحزاب وغيرها. فليت شعرى أين صار جمعهم ؟ وكيف خمدت أنفاسهم ؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم ؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الاسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من
المسلمين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا ! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم: " هم العدو فاحذرهم " (المنافقون: 4). وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام وهى مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه ! وقد قال تعالى: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51). وقال في المنافقين: - ولم يرد إلا دينهم - " فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (البراءة: 96). والاية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الاكمال والاتمام والرضا ولا الدين والاسلام والنعمة بجهة دون جهة. فإن قلت: الاية - كما تقدمت الاشارة إليه - إنجاز للوعد الذى يشتمل عليه قوله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا " الاية (النور: 55). فالاية كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضى لهم، ويحاذى ذلك من هذه الاية قوله: " أكملت لكم دينكم " وقوله: " ورضيت لكم الاسلام دينا " فالمراد بإكمال دينهم المرضى تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، وهذا هو المعنى الذى تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، ويذكر القوم ان المراد به تخليص الاعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين. قلت: كون آية: " اليوم أكملت "، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: " وعد الله الذين آمنوا " (الاية) وكذا كون قوله في هذه الاية: (أكملت لكم دينكم) محاذيا لقوله: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) في تلك الاية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه. إلا أن آية سورة النور تبدء بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
[ 200 ]
وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، وما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضى لله سبحانه
لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضى بإفراغه في قالب التشريع، و جمع اجزائه عندهم بالانزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم. و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الاية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من اعمال المشركين وحجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى ابى، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: (اليوم أكملت لكم دينكم) بكراع الغميم، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة. اقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع عن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه السلام. وفي أمالى الشيخ بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبى عبد الله عليه السلام، عن علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بناء الاسلام على خمس خصال: على الشهادتين، والقرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان ؟ قال: الصلاة والزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالاخرى، والصيام وحج بيت الله من استطاع إليه سبيلا، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا). وفي روضة الواعظين للفتال، ابن الفارسى عن أبى جعفر عليه السلام وذكر قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الاية، وفيه خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير وهى خطبة طويلة جدا. اقول: روى مثله الطبرسي في الاحتجاج بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبى جعفر
الباقر عليه السلام، وروى نزول الاية في الولاية أيضا الكليني في الكافي والصدوق في العيون
[ 201 ]
جميعا مسندا عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السلام، وروى نزولها فيها أيضا الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبى عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين عليه السلام، وروى ذلك أيضا الطبرسي في المجمع بإسناده عن أبى هارون العبدى عن أبى سعيد الخدرى، وروى ذلك الشيخ في أماليه بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن على عليهم السلام وقد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثارا للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها والله الهادى. يسئلونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب - 4. أليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين - 5. (بيان) قوله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم أحل لكم الطيبات " سؤال مطلق أوجب عنه بجواب عام مطلق فيه إعطاء الضابط الكلى الذى يميز الحلال من الحرام، وهو أن يكون ما يقصد التصرف فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمرا طيبا، وإطلاق الطيب أيضا من غير تقييده بشئ يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الافهام
[ 202 ]
المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الافهام العادية فهو طيب، وجميع ما هو طيب حلال. وإنما نزلنا الحلية والطيب على المتعارف المعهود لمكان أن الاطلاق لا يشمل غيره على
ما بين في فن الاصول. قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) قيل: إن الكلام معطوف على موضع الطيبات أي وأحل لكم ما علمتم من الجوارح أي صيد ما علمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير مضاف محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه. والظاهر أن الجملة معطوفة على موضع الجملة الاولى. و " ما " في قوله: " وما علمتم " شرطية وجزاؤها قوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم " من غير حاجة إلى تكلف التقدير. والجوارح جمع جارحة وهى التى تكسب الصيد من الطير والسباع كالصقر والبازى والكلاب والفهود، وقوله: " مكلبين " حال، وأصل التكليب تعليم الكلاب وتربيتها للصيد أو اتخاذ كلاب الصيد وإرسالها لذلك، وتقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصا بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح. وقوله: " مما أمسكن عليكم " التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها. وقوله: " واذكروا اسم الله عليه " تتميم لشرائط الحل وأن يكون الصيد مع كونه مصطادا بالجوارح ومن طريق التكليب والامساك على الصائد مذكورا عليه اسم الله تعالى. ومحصل المعنى أن الجوارح المعلمة بالتكليب - أي كلاب الصيد - إذا كانت معلمة واصطادت لكم شيئا من الوحش الذى يحل أكله بالتذكية وقد سميتم عليه فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، وأما دون القتل فالتذكية بالذبح والاهلال به لله يغنى عن هذا الحكم. ثم ذيل الكلام بقوله: " واتقوا الله إن الله سريع الحساب " إشعارا بلزوم اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافا في القتل، ولا عن تله وتجبر كما في صيد اللهو ونحوه فإن الله سريع الحساب يجازى سيئة الظلم والعدوان في الدنيا قبل الاخرة ولا
[ 203 ]
يسلك أمثال هذه المظالم والعدوانات بالاغتيال والفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوآى على ما شاهدنا كثيرا. قوله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الاية السابقة، وتصديره بقوله: " اليوم " للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين. وكأن ضم قوله: " أحل لكم الطيبات " إلى قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب " (الخ) من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لايجاد الطمأنينة في نفس المخاطب وإزالة ما فيه من القلق والاضطراب كقول السيد لخادمه: لك جميع ما ملكتكه وزيادة هي كذا وكذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الاعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، ومن هذا الباب بوجه قوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " (يونس: 26) وقوله تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " (ق: 35). فكان نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق، ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم، واطمأنت قلوبهم وكذلك القول في قوله: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. وأما قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " فالظاهر أنه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أن قوله: " وطعامكم حل لهم " ليس في مقام تشريع حكم الحل لاهل الكتاب وتوجيه التكليف إليهم وإن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع الدينية كالاصول، فإنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ولا هم يسمعون ولا هم يقبلون، وليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا والتكليم معه يذهب سدى. اللهم إلا إذا
أصلح ذلك بشئ من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي ونحو ذلك
[ 204 ]
كقوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " (آل عمران: 64) وقوله: " قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " (أسرى: 93) إلى غير ذلك من الايات. وبالجملة ليس المراد بقوله: " وطعام الذين "، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكما مستقلا وحل طعام المسلمين لاهل الكتاب حكما مستقلا آخر، بل بيان حكم واحد وهو ثبوت الحل وارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " (الممتحنة: 10) أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين. ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به ويطعم لكن قيل: إن المراد به البر وسائر الحبوب ففى لسان العرب: وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة: قال: وقال الخليل: العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، انتهى. وهو الذى يظهر من كلام ابن الاثير في النهاية ولهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن المراد بالطعام في الاية هو البر وسائر الحبوب إلا ما في بعض الروايات مما يظهر به معنى آخر وسيجئ الكلام فيه في البحث الروائي الاتى. وعلى أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذى لم يهل به لله، ولم يذك تذكية إسلامية فإن الله سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم - وهى الاى الاربع التى في سور البقرة والمائدة والانعام والنحل - رجسا وفسقا وإثما كما بيناه فيما مر، و حاشاه سبحانه أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات ". على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الاية في نفس السورة وليس لاحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ وهو ظاهر، وخاصة في مثل سورة المائدة التى ورد فيها
أنها ناسخة غير منسوخة. قوله تعالى: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، الاتيان في متعلق الحكم بالوصف أعنى ما في قوله: " الذين أوتوا الكتاب " من غير أن يقال: من اليهود والنصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية
[ 205 ]
واللسان لسان الامتنان، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: إنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة، ويشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله: " أوتوا الكتاب " بقوله: " من قبلكم " فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك. وكيف كان لما كانت الاية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) وقوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الممتحنة: 10) وهو ظاهر. على أن الاية الاولى واقعة في سورة البقرة، وهى أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة قبل المائدة: وكذا الاية الثانية واقعة في سورة الممتحنة وقد نزلت بالمدينة قبل الفتح، فهى أيضا قبل المائدة نزولا، ولا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد: أن المائدة آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شئ. على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الاية (البقرة: 221) في الجزء الثاني من الكتاب أن الايتين أعنى آية البقرة وآية الممتحنة أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية. ولو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود
آية المائدة في مقام الامتنان والتخفيف - ولا امتنان ولا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت آية المائدة هي الناسخة لاية الممتحنة لا بالعكس لان النسخ شأن المتأخر، وسيأتى في البحث الروائي كلام في الاية الثانية. ثم المراد بالمحصنات في الاية: العفائف وهو أحد معاني الاحصان، وذلك أن قوله: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، يدل على أن المراد بالمحصنات غير ذوات الازواج وهو ظاهر، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب والمؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضى بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد، وليس هو الاحصان بمعنى الاسلام لمكان قوله: والمحصنات من الذين أوتوا
[ 206 ]
الكتاب، وليس المراد بالمحصنات الحرائر فإن الامتنان المفهوم من الاية لا يلائم تخصيص الحل بالحرائر دون الاماء، فلم يبق من معاني الاحصان إلا العفة فتعين أن المراد بالمحصنات العفائف. وبعد ذلك كله إنما تصرح الاية بتشريع حل المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلا ما ذكره من اشتراط الاجر وكون التمتع بنحو الاحصان لا بنحو المسافحة واتخاذ الاخدان، فينتج أن الذى أحل للمؤمنين منهن أن يكون على طريق النكاح عن مهر وأجر دون السفاح، من غير شرط آخر من نكاح دوام أو انقطاع وقد تقدم في قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن " الاية (النساء: 24) في الجزء الرابع من الكتاب أن المتعة نكاح كالنكاح الدائم، وللبحث بقايا تطلب من علم الفقه. قوله تعالى: " إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " الاية في مساق قوله تعالى في آيات محرمات النكاح: " وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " (النساء: 24). والجملة قرينة على كون المراد بالاية
بيان حلية التزوج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين. قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين " الكفر في الاصل هو الستر فتحقق مفهومه يتوقف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أن الحجاب لا يكون حجابا إلا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعى مكفورا به ثابتا كالكفر بنعمة الله والكفر بآيات الله والكفر بالله ورسوله واليوم الاخر. فالكفر بالايمان يقتضى وجود إيمان ثابت، وليس المراد به المعنى المصدرى من الايمان بل معنى اسم المصدر وهو الاثر الحاصل والصفة الثابتة في قلب المؤمن أعنى الاعتقادات الحقة التى هي منشأ الاعمال الصالحة، فيؤل معنى الكفر بالايمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه حق كتولي المشركين، والاختلاط بهم، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الاسلام، وترك الاركان الدينية من الصلاة والزكاة والصوم والحج مع العلم بثبوتها أركانا للدين. فهذا هو المراد من الكفر بالايمان لكن ههنا نكتة وهى أن الكفر لما كان سترا وستر الامور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلا مع المداومة والمزاولة فالكفر
[ 207 ]
بالايمان إنما يصدق إذا ترك الانسان العمل بما يقتضيه إيمانه، ويتعلق به علمه، ودام عليه، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر وإنما هو فسق أتى به. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان " هو المداومة والاستمرار عليه وإن كان عبر بالفعل دون الوصف. فتارك الاتباع لما حق عنده من الحق، وثبت عنده من أركان الدين كافر بالايمان، حابط العمل كما قال تعالى: " فقد حبط عمله ". فالاية تنطبق على قوله تعالى: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الاخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " (الاعراف: 147) فوصفهم
باتخاذ سبيل الغى وترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما وهى العلم بهما ثم بدل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الايات، والاية إنما تكون آية بعد العلم بدلالتها، ثم فسره بتكذيب الاخرة لما أن الاخرة لو لم تكذب منع العلم بها عن ترك الحق، ثم أخبر بحبط أعمالهم. ونظير ذلك قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " (الكهف: 105) وانطباق الايات على مورد الكفر بالايمان بالمعنى الذى تقدم بيانه ظاهر. وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر وجه اتصال الجملة أعنى قوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " بما قبله فالجملة متممة للبيان السابق، وهى في مقام التحذير عن الخطر الذى يمكن ان يتوجه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله، والاسترسال مع الكفار فإن الله سبحانه إنما أحل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا وتخفيفا منه لهم، وذريعة إلى انتشار كلمة التقوى، وسراية الاخلاق الطاهرة الاسلامية من المسلمين المتخلقين بها إلى غير هم، فيكون داعية إلى العلم النافع، وباعثة نحو العمل الصالح. فهذا هو الغرض من التشريع لا لان يتخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى، والاصعاد في أودية الهوسات، والاسترسال في حبهن والغرام بهن، والتوله في جمالهن، فيكن قدوة تتسلط بذلك أخلاقهن وأخلاق قومهن على األاق المسلمين، ويغلب فسادهن
[ 208 ]
على صلاحهم، ثم يكون البلوى ويرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى، ومآل ذلك عود هذه المنة الالهية فتنة ومحنة مهلكة، وصيرورة هذا التخفيف الذى هو نعمة نقمة. فحذر الله المؤمنين بعد بيان حلية طعامهم والمحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التنعم بهذه النعمة استرسالا يؤدى إلى الكفر بالايمان، وترك أركان الدين، والاعراض عن الحق فإن ذلك يوجب حبط العمل، وينجر إلى خسران السعي في الاخرة.
واعلم أن للمفسرين في هذه الاية أعنى قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " إلى آخر الاية) خوضا عظيما ردهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللفظ، وينافيها سياق الاية كقول بعضهم: إن قوله: " أحل لكم الطيبات " يعنى من الطعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقول بعضهم: إن قوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " أي بمقتضى الاصل الاولى لم يحرمه الله عليكم قط، وإن اللحوم من الحل وإن لم يذكوها إلا بما عندهم من التذكية، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " وطعام الذين " هو مؤاكلتهم، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " بيان الحلية بحسب الاصل من غير أن يكون محرما قبل ذلك بل قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (النساء: 24) كاف في إحلالهن، وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " التحذير عن رد ما في صدر الاية من قضية حل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم. فهذه وأمثالها معان احتملوها، وهى بين ما لا يخلو من مجازفة وتحكم كتقييد قوله: " اليوم أحل " بما تقدم من غير دليل عليه وبين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد باليوم والامتنان والتخفيف وغير ذلك مما تقدم بيانه والبيان السابق الذى استظهرنا فيه باعتبار ظواهر الايات الكريمة كاف في إبطالها وإبانة وجه الفساد فيها. وأما كون آية: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " دالة على حل نكاح الكتابية فظاهر البطلان لظهور كون الاية في مقام بيان محرمات النساء ومحللاتهن بحسب طبقات النسب والسبب لا بحسب طبقات الاديان والمذاهب.
[ 209 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الاية) أخرج ابن جرير عن عكرمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي،
فدخل عاصم بن عدى وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا: ما ذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت: " يسألونك ما ذا أحل لهم " (الاية). وفيه: أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظى قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا: يا رسول الله ما ذا أحل لنا من هذه الامة ؟ فنزلت: " يسألونك ماذا أحل لهم " (الاية). اقول: الروايتان يشرح بعضهما بعضا، فالمراد السؤال عما يحل لهم من الكلاب من حيث اتخاذها واستعمالها في مآرب مختلفة كالصيد ونحوه، وقوله تعالى: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " لا يلائم هذا المعنى لتقيدها وإطلاق الاية. على أن ظاهر الروايتين والرواية الاتية أن قوله: " وما علمتم من الجوارح معطوف على موضع الطيبات، والمعنى: وأحل لكم ما علمتم، ولذلك التزم جمع من المفسرين على تقدير ما فيه كما تقدم، وقد تقدم أن الظاهر كون قوله: " وما علمتم " شرطا جزاؤه قوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم ". والمراد بالامة المسؤول عنها في الرواية نوع الكلاب على ما تفسره الرواية الاية. وفيه: أخرج الفاريابى وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم - وصححه - والبيهقي في سننه عن أبى رافع قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فاخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك، قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الامة التى أمرت بقتلها ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل
[ 210 ]
الله: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله فأمسك عليه فليأكل
ما لم يأكل. اقول: ما ذكر في الرواية من كيفية نزول جبرئيل غريب في بابه. على أن الرواية لا تخلو عن اضطراب حيث تدل على إمساك جبرائيل عن الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود جرو في بعض بيوتهم. على أنها لا تنطبق على ظاهر الاية من إطلاق السؤال والجواب، والعطف الذى في قوله: " وما علمتم من الجوارح " فالرواية أشبه بالموضوعة. وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عامر: إن عدى بن حاتم الطائى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتى أنزل الله عليه هذه الاية في المائدة: " تعلمونهن مما علمكم الله ". اقول: وفي معناه غيره من الاخبار، والاشكال المتقدم آت فيه، والظاهر أن هذه الروايات وما في معناها من تطبيق الحوادث على الاية غير أنه تطبيق غير تام والظاهر أنهم ذكروا له صلى الله عليه وآله وسلم صيد الكلاب ثم سألوه عن ضابط كلى في تمييز الحلال من الحرام فذكر في الاية سؤالهم ثم أجيب بإعطاء الضابط الكلى بقوله: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ثم أجيبوا في خصوص ما تذاكروا فيه. فهذا هو الذى يفيده لحن القول في الاية. وفى الكافي: بإسناده عن حماد عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: في كتاب على عليه السلام في قوله عزوجل: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " قال: هي الكلاب. اقول: " ورواه العياشي في تفسيره عن سماعة بن مهران عنه عليه السلام. وفيه بإسناده عن ابن مسكان عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبى يفتى وكان يتقى - ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور، فأما الان فإنا لا نخاف ولا يحل صيدها إلا أن تدرك ذكاته، فإنه في كتاب على عليه السلام: إن الله عز وجل قال: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " في الكلاب. وفيه: بإسناده عن أبى بكر الحضرمي عن أبى عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن
[ 211 ]
صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب قال لا تأكلوا إلا ما ذكيتم إلا الكلاب، قلت: فإن قتله ؟ قال: كل فإن الله يقول: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، ثم قال: كل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب معلمة ؟ فإنها تمسك على صاحبها قال: وإذا أرسلت الكلب فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته. وفي تفسير العياشي عن أبى عبيدة عن أبى عبد الله عليه السلام عن الرجل سرح الكلب المعلم، ويسمى إذا سرحه، قال: يأكل مما أمسكن عليه وإن أدركه وقتله. وإن وجد معه كلب غير معلم فلا تأكل منه. قلت: فالصقور والعقاب والبازى ؟ قال: إن أدركت ذكاته فكل منه، وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل منه. قلت: فالفهد ليس بمنزلة الكلب ؟ قال: فقال: لا، ليس شئ مكلب إلا الكلب. وفيه: عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: " ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه " قال: لا بأس بأكل ما أمسك الكلب مما لم يأكل الكلب منه فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكله. اقول: والخصوصيات المأخوذة في الروايات كاختصاص الحل عند القتل بصيد الكلب لقوله تعالى: " مكلبين " وقوله: " مما أمسكن ليكم " واشتراط أن لا يشاركه كلب غير معلم كل ذلك مستفاد من الاية. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك. وفيه: عن حريز عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن كلب المجوس يكلبه المسلم ويسمى ويرسله قال: نعم إنه مكلب إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس. اقول: وفيه الاخذ باطلاق قوله " مكلبين ". وقد روى في الدر المنثور عن ابن أبى حاتم عن ابن عباس في المسلم يأخذ كلب المجوسى المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسى
فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله وإن سميت لانه من تعليم المجوسى وإنما قال: " تعلمونهن مما علمكم الله " وضعفه ظاهر، فإن الخطاب في قوله: " مما علمكم الله " وإن كان متوجها إلى المؤمنين ظاهرا إلا أن الذى علمهم الله مما يعلمونه الكلاب ليس غير ما علمه الله المجوس وغيرهم. وهذا المعنى يساعد فهم السامع أن يفهم أن لا خصوصية لتعليم المؤمن من حيث
[ 212 ]
إنه تعليم المؤمن، فلا فرق في الكلب المعلم بين أن يكون معلمه مسلما أو غير مسلم كما لا فرق من جهة الملك بين كونه مملوكا لمسلم ومملوكا لغيره. وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: وطعامهم حل لكم " قال: العدس والحبوب وأشباه ذلك يعنى أهل الكتاب. اقول: ورواه في التهذيب عنه، ولفظه: قال: العدس والحمص وغير ذلك. وفي الكافي والتهذيب في روايات عن عمار بن مروان وسماعة عن أبى عبد الله عليه السلام في طعام أهل الكتاب وما يحل منه، قال: الحبوب. وفي الكافي بإسناده عن ابن مسكان، عن قتيبة الاعشى قال: سأل رجل أبا عبد الله وأنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أيؤكل ذبيحته ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم، فقال له الرجل: قال الله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبى يقول: إنما هي الحبوب وأشباهها. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن قتيبه الاعشى عنه عليه السلام. والاحاديث - كما ترى - تفسر طعام أهل الكتاب المحلل في الاية بالحبوب وأشباهها، وهو الذى يدل عليه لفظ الطعام عند الاطلاق كما هو ظاهر من الروايات والقصص المنقولة عن الصدر الاول، ولذلك ذهب المعظم من علمائنا إلى حصر الحل في الحبوبات وأشباهها
وما يتخذ منها مما يتغذى به. وقد شدد النكير عليهم بعضهم (1) بأن ذلك مما يخالف عرف القرآن في استعمال الطعام. قال، ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة - أي المائدة - " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ولا يقول أحد: إن االطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب. وقال: " كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " ولم يقل أحد: إن الطعام هنا البر أو الحب مطلقا،
[ 213 ]
إذ لم يحرم شئ منه على بنى إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها، فالطعام في الاصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " وقال: " فإذا طعمتم فانتشروا " أي أكلتم. وليت شعرى ما ذا فهم من قولهم: " الطعام إذا أطلق كان المراد به الحبوب وأشباهها " فلم يلبث حتى أورد عليهم بمثل قوله: " يطعمه " وقوله: " طعمتم " من مشتقات الفعل ؟ وإنما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الافعال المصوغة منه. وأورد بمثل: " وطعام البحر " والاضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر بر ولا شعير. وأورد بمثل: " كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل " ثم ذكر هو نفسه أن من المعلوم من دينهم أنهم لم يحرم عليهم البر أو الحب. وكان ينبغى عليه أن يراجع من القرآن موارد أطلق اللفظ فيها إطلاقا ثم يقول ما هو قائله كقوله: " فديه طعام مسكين " (البقرة: 184) وقوله: " أو كفارة طعام مساكين " (المائدة: 95) وقوله: " ويطعمون الطعام " (الانسان: 8) وقوله " فلينظر الانسان إلى طعامه " (عبس: 24) ونحو ذلك. ثم قال: وليس الحب مظنة للتحليل والتحريم، وإنما اللحم هو الذى يعرض له ذلك لوصف حسى كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنوى كالتقرب به إلى غير الله ولذلك قال تعالى: قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما
مسفوحا " الاية (الانعام: 145) وكله يتعلق بالحيوان وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص. وكلامه هذا أعجب من سابقة: أما قوله: ليس الحب مظنة للتحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذى يعرض له ذلك، فيقال له: في أي زمان يعنى ذلك ؟ أفى مثل هذه الازمنة وقد استأنس الاذهان بالاسلام وعامة أحكامه منذ عدة قرون، أم في زمان النزول ولم يمض من عمر الدين إلا عدة سنين ؟ وقد سألوا النبي صلى الله وآله وسلم عن أشياء هي أوضح من حكم الحبوب وأشباهها وأجلى، وقد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله: " يسألونك ما ذا ينفقون " (البقرة: 215) وقد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا قالوا: كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فأنزل الله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " الحديث. وقد مر وسيجئ لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما نقلناه في حج التمتع وغير ذلك.
[ 214 ]
وإذا كانوا يقولون مثل هذا القول بعد نزول الاية بحلية المحصنات من نساء أهل الكتاب فما الذى يمنعهم أن يسألوا قبل نزول الاية عن مؤاكلة أهل الكتاب، والاكل مما يؤخذ منهم من الحبوب، والاغذية المتخذة من ذلك كالخبز والهريسة وسائر الاغذية التى تتخذ من الحبوب وأمثالها إذا عملها أهل الكتاب، وهم على دين ونحن على دين، وقد حذر الله المؤمنين عن موادتهم وموالاتهم والاقتراب منهم، والركون إليهم في آيات كثيرة ؟. بل هذا الكلام مقلوب عليه في قوله: إن اللحم هو المظنة للتحريم والتحليل فكيف يسعهم أن يسألوا عنه وقد بين الله عامة محرمات اللحوم في آية الانعام: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه " (الانعام: 145) ثم في آية النحل وهما مكيتان، ثم في آية البقرة وهى قبل المائدة نزولا، ثم في قوله: " حرمت عليكم الميتة " وهى قبل هذه الاية ؟. والاية على قول هذا القائل نص أو كالنص في عدم تحريم ذبائحهم، فكيف
صح لهؤلاء أن يسألوا عن حلية ذبائح أهل الكتاب وقد نزلت الايات مكيتها ومدنيتها مرة بعد اخرى في أمرها ودلت على حليتها، واستقر العمل على حفظها وتلاوتها وتعلمها والعمل بها ؟. وأما قوله: إن آية الانعام نص في حصر المحرمات فيما ذكر فيها فحرمة غيرها كذبيحة أهل الكتاب يحتاج إلى دليل، فلا شك في احتياج كل حكم إلى دليل يقوم عليه، وهذا الكلام صريح منه في أن هذا الحصر إنما ينفع إذا لم يكن هناك دليل يقوم على تحريم أمر آخر وراء ما ذكر في الاية. وعلى هذا فإن كان مراده بالدليل ما يشمل السنة فالقائل بتحريم ذبائح أهل الكتاب يستند في ذلك إلى ما ورد من الروايات في الاية وقد نقلنا بعضا منها فيما تقدم. وإن أراد الدليل من الكتاب فمع أنه تحكم لا دليل عليه إذ السنة قرينة الكتاب لا يفترقان في الحجية يسأل عنه ما ذا يقول في ذبيحة الكفار غير أهل الكتاب كالوثنيين والماديين ؟ أفيحرمها لكونها ميتة فاقدة للتذكية الشرعية ؟ فما الفرق بين عدم التذكية بعدم الاستقبال وعدم ذكر الله عليه أصلا وبين التذكية التى هي غير التذكية الاسلامية وليس يرتضيها الله سبحانه وقد نسخها ؟ فالجميع خبائث في نظر الدين، وقد حرم الله الخبائث، قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الاعراف: 157) وقد
[ 215 ]
قال تعالى في الاية السابقة على هذه الاية: " يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ولحن السؤال والجواب فيها أوضح دليل على حصر الحل في الطيبات، وكذا ما في أول هذه الاية من قوله: " اليوم احل لكم الطيبات " والمقام مقام الامتنان يدل على الحصر المذكور. وإن كان تحريم ذبائح الكفار لكونها بالاهلال به لغير الله كالذبح باسم الاوثان عاد الكلام بعدم الفرق بين الاهلال به لغير الله، والاهلال به لله على طريقة منسوخة لا يرتضيها الله سبحانه.
ثم قال: وقد شدد الله فيما كان عليه مشركوا العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للاصنام لئلا يتساهل به المسلمون الاولون تبعا للعادة، وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح للاصنام. وقد نسى أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير، وقد ذكره الله تعالى وشدد عليه، وأنهم يأكلون جميع ما تستبيحه المشركون لارتفاع التحريم عنهم بالتفدية. على أن هذا استحسان سخيف لا يجدى نفعا ولا يعول على مثله في تفسير كلام الله وفهم معاني آياته، ولا في فقه أحكام دينه. ثم قال: ولانه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة أحد إلا ويدخل في الاسلام وخفف في معاملة أهل الكتاب، ثم ذكر موارد من فتيا بعض الصحابة بحلية ما ذبحوه للكنائس وغير ذلك. وهذا الكلام منه مبنى على ما يظهر من بعض الروايات أن الله اختار العرب على غيرهم من الامم، وأن لهم كرامة على غيرهم. ولذلك كانوا يسمون غيرهم بالموالى، ولا يلائمه ظاهر الايات القرآنية، وقد قال الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) ومن طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة في هذا المعنى. ولم يجعل الاسلام في دعوته العرب في جانب وغيرهم في جانب، بل إنما جعل غير أهل الكتاب من المشركين سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فلم يقبل منهم إلا أن يسلموا ويؤمنوا، وأهل الكتاب سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فقبل منهم الدخول في الذمة وإعطاء الجزية إلا أن يسلموا.
[ 216 ]
وهذا الوجه بعد تمامه لا يدل على أزيد من التساهل في حقهم في الجملة لابهامه، وأما أنه يجب أن يكون بإباحه ذبائحهم إذا ذبحوها على طريقتهم وسنتهم فمن أين له الدلالة على
ذلك ؟ وهو ظاهر. وأما ما ذكره من عمل بعض الصحابة وقولهم إلى غير ذلك فلا حجية فيه. فقد تبين من جميع ما تقدم عدم دلالة الاية ولا أي دليل آخر على حلية ذبائح أهل الكتاب إذا ذبحت بغير التذكية الاسلامية فإن قلنا بحلية ذبائحهم للاية كما نقل عن بعض أصحابنا فلنقيدها بما إذا علم وقوع الذبح عن تذكية شرعية كما يظهر من قول الصادق عليه السلام في خبر الكافي والتهذيب المتقدم: " فإنما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلا مسلم " الحديث. وللكلام تتمة تطلب من الفقه. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (الاية) قال: هن العفائف. وفيه: عنه عليه السلام في قوله: " والمحصنات من المؤمنات " (الاية) قال: هن المسلمات وفي تفسير القمى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وإنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون الجزية، وغيرهم لم تحل مناكحتهم. اقول: وذلك لكونهم محاربين حينئذ. وفي الكافي والتهذيب عن الباقر عليه السلام: إنما يحل منهن نكاح البله. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية واليهودية قال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية ؟ فقيل: يكون له فيها الهوى فقال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة. وفى التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية و النصرانية وعنده حرة. وفي الفقيه عن الباقر عليه السلام: أنه سئل عن الرجل المسلم أيتزوج المجوسية ؟ قال: لا، ولكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس أن يطأها، ويعزل عنها، ولا يطلب ولدها. وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث: قال:
[ 217 ]
وما أحب للرجل المسلم أن يتزوج اليهودية والنصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر. وفي الكافي بإسناده عن زرارة، وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فقال: منسوخة بقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر. أقول: ويشكل بتقدم قوله: " ولا تمسكوا " الاية على قوله: " والمحصنات " (الاية) نزولا ولا يجوز تقدم الناسخ على المنسوخ. مضافا إلى ما ورد أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، وقد تقدم الكلام فيه. ومن الدليل على أن الاية غير منسوخة ما تقدم من الرواية الدالة على جواز التمتع بالكتابية وقد عمل بها الاصحاب وقد تقدم في آية المتعة أن التمتع نكاح وتزويج. نعم لو قيل بكون قوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الاية) مخصصا متقدما خرج به النكاح الدائم من إطلاق قوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " لدلالته على النهى عن الامساك بالعصمة، وهو ينطبق على النكاح الدائم كما ينطبق على إبقاء عصمة الزوجية بعد إسلام الزوج وهو مورد نزول الاية. ولا يصغى إلى قول من يعترض عليه بكون الاية نازلة في إسلام الزوج مع بقاء الزوجة على الكفر، فإن سبب النزول لا يقيد اللفظ في ظهوره، وقد تقدم في تفسير آية النسخ من سورة البقرة في الجزء الاول من الكتاب أن النسخ في عرف القرآن وبحسب الاصل يعم غير النسخ المصطلح كالتخصيص. وفي بعض الروايات أيضا أن الاية منسوخة بقوله: " ولا تنكحوا المشركات " (الاية) وقد تقدم الاشكال فيه، وللكلام تتمة تطلب من الفقه. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " (الاية) عن أبان بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الاسلام أن يرى الرأى بخلاف الحق فيقيم عليه قال: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط
عمله "، وقال عليه السلام: الذى يكفر بالايمان الذى لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به. وفيه: عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: هو ترك العمل حتى يدعه أجمع.
[ 218 ]
اقول: وقد تقدم ما يتضح به ما في هذه الاخبار من خصوصيات التفسير. وفيه عن عبيد بن زرارة قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " قال: ترك العمل الذى أقربه، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل. اقول: وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " (البقرة: 143) ولعله عليه السلام خصها بالذكر لذلك. وفي تفسير القمى: قال عليه السلام: من آمن ثم أطاع أهل الشرك. وفى البصائر عن أبى حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين قال: تفسيرها في بطن القرآن: ومن يكفر بولاية على. وعلى هو الايمان. اقول: هو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الذى بيناه في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب ويمكن أن يكون من الجرى والتطبيق على المصداق، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إيمانا حينما برز إلى عمرو بن عبدود يوم الخندق حيث قال: صلى الله عليه وآله وسلم: " برز الايمان كله إلى الكفر كله. وفى هذا المعنى بعض روايات أخر يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
[ 219 ]
وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون - 6. واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور - 7. (بيان) تتضمن الاية الاولى حكم الطهارات الثلاث: الوضوء وغسل الجنابة والتيمم والاية التالية كالمتممة أو المؤكدة لحكم الاية الاولى، وفي بيان حكم الطهارات الثلاث آية أخرى تقدمت في سورة النساء، وهى قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا " (النساء: 43). وهذه الاية أعنى آية المائدة أوضح وأبين من آية النساء، وأشمل لجهات الحكم ولذلك أخرنا بيان آية النساء إلى ههنا لسهولة التفهم عند المقايسة. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة القيام إذا عدى بإلى ربما كنى به عن إرادة الشئ المذكور للملازمة والقران بينهما فإن إرادة الشئ لا تنفك عن الحركة إليه، وإذا فرض الانسان مثلا قاعدا لانه حال سكونه ولازم سباته عادة، وفرض الشئ المراد فعلا متعارفا يتحرك إليه عادة كان مما يحتاج في اتيانه إلى القيام غالبا، فأخذ الانسان في ترك السكون والانتصاب لادراك العمل هو القيام إلى الفعل، وهو يلازم الارادة. ونظيره قوله تعالى: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " (النساء: 102) أي أردت أن تقيم لهم الصلاة. وعكسه من وجه قوله تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " (النساء: 20) أي إذا
طلقتم زوجا وتزوجتم باخرى، فوضعت إرادة الفعل وطلبه مقام القيام به. وبالجملة الاية تدل على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل والمسح أعنى الوضوء
[ 220 ]
ولو تم لها إطلاق لدل على اشتراط كل صلاة بوضوء مع الغض عن قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " لكن الايات المشرعة قلما يتم لها الاطلاق من جميع الجهات. على أنه يمكن أن يكون قوله الاتى: " ولكن يريد ليطهركم " مفسرا لهذا الاشتراط على ما سيجئ من الكلام. هذا هو المقدار الذى يمكن أن يبحث عنه في تفسير الاية، والزائد عليه مما أطنب فيه المفسرون بحث فقهى خارج عن صناعة التفسير. قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " الغسل بفتح الغين إمرار الماء على الشئ، ويكون غالبا لغرض التنظيف وإزالة الوسخ والدرن والوجه ما يستقبلك من الشئ، وغلب في الجانب المقبل من رأس الانسان مثلا، وهو الجانب الذى فيه العين والانف والفم، ويعين بالظهور عند المشافهة، وقد فسر في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم بما بين قصاص الشعر من الناصية وآخر الذقن طولا، وما دارت عليه الابهام والوسطى والسبابة وهناك تحديدات أخر ذكرها المفسرون والفقهاء. والايدى جمع يد وهى العضو الخاص الذى به القبض والبسط والبطش وغير ذلك، وهو ما بين المنكب وأطراف الاصابع، وإذ كانت العناية في الاعضاء بالمقاصد التى يقصدها الانسان منها كالقبض والبسط في اليد مثلا، وكان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون المرفق إلى أطراف الاصابع سمى أيضا باليد، ولذلك بعينه ما سمى ما دون الزند إلى أطراف الاصابع فصار اللفظ بذلك مشتركا أو كالمشترك بين الكل والابعاض. وهذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعينة إذا أريد به أحد المعاني، ولذلك قيد تعالى قوله: " وأيديكم " بقوله: " إلى المرافق " ليتعين أن المراد غسل اليد التى تنتهى إلى المرافق، ثم القرينة أفادت أن المراد به القطعة من العضو التى فيها الكف، وكذا
فسرتها السنة. والذى يفيده الاستعمال في لفظة " إلى " أنها لانتهاء الفعل الذى لا يخلو من امتداد الحركة، وأما دخول مدخول " إلى " في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج عن معنى الحرف، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظه " إلى " بل إلى ما بينه السنة من الحكم. وربما ذكر بعضهم أن " إلى " في الاية بمعنى مع كقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " (النساء: 2) وقد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 221 ]
كان يغسلهما إذا توضأ، وهو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله، فإن ما ورد من السنة في ذلك إما فعل والفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصل بها معنى لفظ من الالفاظ حتى يعد ذلك أحد معاني اللفظ ؟ وإما قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الاية، ومن الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدمة العلمية أو مما زاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان له ذلك كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة. وأما قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " فهو من قبيل تضمين الاكل معنى الضم ونحوه مما يتعدى بإلى لا أن لفظة (إلى) هنالك بمعنى مع. وقد تبين بما مر أن قوله " إلى المرافق " قيد لقوله " أيديكم " فيكون الغسل المتعلق بها مطلقا غير مقيد بالغاية يمكن أن يبدء فيه من المرفق إلى أطراف الاصابع وهو الذى يأتي به الانسان طبعا إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الاحوال أو يبدء من أطراف الاصابع ويختم بالمرفق، لكن الاخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام تفتى بالنحو الاول دون الثاني. وبذلك يندفع ما ربما يقال: إن تقييد الجملة بقوله " إلى المرافق " يدل على وجوب الشروع في الغسل من أطراف الاصابع والانتهاء إلى المرافق. وجه الاندفاع أن الاشكال مبنى كون قوله " إلى المرافق " قيدا لقوله " فاغسلوا " وقد تقدم أنه قيد للايدي،
ولا مناص منه لكونه مشتركا محتاجا إلى القرينة المعينة، ولا معنى لكونه قيدا لهما جميعا. على أن الامة أجمعت على صحة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق وانتهى إلى أطراف الاصابع كما في المجمع، وليس إلا لان الاية تحتمله: وليس إلا لان قوله " إلى المرافق " قيد للايدي دون الغسل. قوله تعالى: " وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المسح: إمرار اليد أو كل عضو لامس على الشئ بالمباشرة، يقال. مسحت الشئ ومسحت بالشئ، فإذا عدى بنفسه أفاد الاستيعاب، وإذا عدى بالباء دل على المسح ببعضه من غير استيعاب وإحاطة. فقوله: " وامسحوا برؤسكم " يدل على مسح بعض الرأس في الجملة، وأما أنه أي بعض من الرأس فمما هو خارج من مدلول الاية والمتكفل لبيانه السنة، وقد صح أنه جانب الناصية من الرأس.
[ 222 ]
وأما قوله: " وأرجلكم فقد قرء بالجر، وهو لا محالة بالعطف على رؤوسكم. وربما قال القائل: إن الجر للاتباع، كقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حى " (الانبياء: 30) وهو خطأ فإن الاتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى. وأما قوله: " كل شئ حى " فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، وليس من الاتباع في شئ. على أن الاتباع - كما قيل - إنما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع كما قيل في قولهم: جحر ضب خرب، بجر الخرب إتباعا لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين. وقرء: وأرجلكم - بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضى أن " أرجلكم " معطوف على موضع " رؤسكم " وهو النصب، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد " أرجلكم " إلى " وجوهكم " في أول الاية مع انقطاع الحكم في قوله:
" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " بحكم آخر وهو قوله: وامسحوا بوجوهكم " فان الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويده بنصب يد عطفا على " وجه زيد " مع انقطاع الكلام الاول، وصلاحية قوله " يده " لان يعطف على محل المجرور المتصل به، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم. وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الاية وإنما تحكى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتوى بعض الصحابة لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، ومنها ما يوجب غسلهما. وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، ولا كلام لنا معهم فهذا المقام لانه بحث فقهى راجع إلى علم الفقه. خارج عن صناعة التفسير. لكنهم مع ذلك حاولوا تطبيق الاية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهى بتوجيهات مختلفة ذكروها في المقام، والاية لا تحتمل شيئا منها إلا مع ردها من أوج بلاغتها إلى مهبط الرداءة.
[ 223 ]
فربما قيل: ان " أرجلكم " عطف على " وجوهكم " كما تقدم هذا على قراءة النصب، وأما على قراءة الجر فتحمل على الاتباع، وقد عرفت أن شيئا منهما لا يحتمله الكلام البليغ الذى يطابق فيه الوضع الطبع. وربما قيل في توجيه قراءة الجر: إنه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى كقوله: علفتها تبنا وماء باردا. وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر. وهذا المقدر في الاية إما " اغسلوا " وهو يتعدى بنفسه
لا بحرف الجر، وإما غيره وهو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، وإما بتضمين علفت معنى أعطيت وأشبعت ونحوهما. وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير ونحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، وأما الاية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ يقطع بها. وربما قيل في توجيه الجر بناء على وجوب غسل الارجل: إن العطف في محله غير أن المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الارجل غسلها، ويقوى ذلك أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول وهو الوجه، ولم يجئ في الممسوح فلما رفع التحديد في المسح وهو قوله: " وأرجلكم إلى الكعبين " علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. وهذا من أردء الوجوه، فإن المسح غير الغسل ولا ملازمة بينهما أصلا. على أن حمل مسح الارجل على الغسل دون مسح الرؤوس ترجيح بلا مرجح. وليت شعرى ما ذا يمنعه أن يحمل كل ما ورد فيه المسح مطلقا في كتاب أو سنة على الغسل وبالعكس وما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، وروايات المسح على الغسل فتعود الادلة عن آخرها مجملات لا مبين لها. وأما ما قواه به فهو من تحميل الدلالة على اللفظ بالقياس، وهو من أفسد القياسات. وربما قيل إن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم فإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لان
[ 224 ]
غسلهما إمرار الماء عليهما أو اصابتهما بالماء، ومسحهما امرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، فالنصب في قوله: " أرجلكم بعناية أن الواجب هو غسلهما، والجر بعناية أنه ماسح بالماء غسلا، انتهى ملخصا.
وما أدرى كيف يثبت بهذا الوجه أن المراد بمسح الرأس في الاية هو المسح من غير غسل، وبمسح الرجلين هو المسح بالغسل ؟ وهذا الوجه هو الوجه السابق بعينه ويزيد عليه فسادا، ولذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك. ويزيد عليه اشكالا أن قوله: إن الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء (الخ) الذى قاس فيه الوضوء على التيمم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعنى ما ثبت عنده بالروايات فأى دلالة له على دلالة الاية على ذلك ؟ وليست الروايات - كما عرفت - بصدد تفسير لفظ الكتاب، وإن أراد به قياس قوله: " فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " في الوضوء على قوله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " في التيمم فهو ممنوع في المقيس والمقيس عليه جميعا فان الله تعالى عبر في كليهما بالمسح المتعدى بالباء، وقد تقدم أن المسح المتعدى بالباء لا يدل في اللغة على استيعاب المسح الممسوح، وأن الذى يدل على ذلك هو المسح المتعدى بنفسه. وهذه الوجوه وأمثالها مما وجهت بها الاية بحملها على خلاف ظاهرها حفظا للروايات فرارا من لزوم مخالفة الكتاب فيها، ولو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الاية بتأويل الاية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقق لمخالفة الكتاب مصداق. فالاحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس والشعبى وغيرهما على ما نقل عنهم: أنه نزل جبرئيل بالمسح والسنة الغسل، ومعناه نسخ الكتاب بالسنة. وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الاصولية: هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز، والبحث فيه من شأن الاصولي دون المفسر وليس قول المفسر بما هو مفسر: إن الخبر الكذائي مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذى هو شأن الفقيه. وأما قوله تعالى: " إلى الكعبين " فالكعب هو العظم الناتئ في ظهر القدم. وربما
[ 225 ]
قيل: إن الكعب هو العظم الناتئ في مفصل الساق والقدم، وهما كعبان في كل قدم في المفصل. قوله تعالى: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " الجنب في الاصل مصدر غلب عليه الاستعمال بمعنى اسم الفاعل، ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره، يقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجلان أو امرأتان جنب، ورجال أو نساء جنب، واختص الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة. والجملة أعنى قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " معطوفة على قوله: " فاغسلوا وجوهكم " لان الاية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير: وتطهروا إن كنتم جنبا، فيؤول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء وتقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إن لم تكونوا جنبا وإن كنتم جنبا فاطهروا ويستفاد من ذلك أن تشريع الوضوء إنما هو في حال عدم الجنابة، وأما عند الجنابة فالغسل فحسب كما دلت عليه الاخبار. وقد بين الحكم بعينه في آية النساء بقوله: " ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا " فهذه الاية تزيد على تلك الاية بيانا بتسمية الاغتسال تطهرا، وهذا غير الطهارة الحاصلة بالغسل، فانها أثر مترتب، وهذا نفس الفعل الذى هو الاغتسال وقد سمى تطهرا كما يسمى غسل أوساخ البدن بالماء تنظفا. ويستفاد من ذلك ما ورد في بعض الاخبار من قوله عليه السلام: " ما جرى عليه الماء فقد طهر ". قوله تعالى: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا " شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتى يغسل أو يغتسل.
والذى ذكر من الموارد وعد بالترديد ليس بعضها يقابل بعضا مقابلة حقيقية، فإن المرض والسفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثا مستدعيا للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنما يوجبانه إذا أحدث المكلف معهما حدثا صغيرا أو كبيرا، فالشقان الاخيران لا يقابلان
[ 226 ]
الاولين بل كل من الاولين كالمنقسم إلى الاخيرين، ولذلك احتمل بعضهم أن يكون " أو " في قوله: " أو جاء أحد منكم "، بمعنى الواو كما سيجئ، على أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر بل له مصاديق أخر. لكن الله سبحانه ذكر المرض والسفر وهما مظنة عدم التمكن من الماء غالبا، وذكر المجئ من الغائط وملامسة النساء وفقدان الماء معهما اتفاقى، ومن جهة أخرى - وهى عكس الجهة الاولى - عروض المرض والسفر للانسان بالنظر إلى بنيته الطبيعية أمر اتفاقى بخلاف التردد إلى الغائط وملامسة النساء فإنهما من حاجة الطبيعة: أحدهما يوجب الحدث الاصغر الذى يرتفع بالوضوء، والاخر الحدث الاكبر الذى يرتفع بالغسل. فهذه الموارد الاربع موارد يبتلى الانسان ببعضها اتفاقا وببعضها طبعا. وهى تصاحب فقدان الماء غالبا كالمرض والسفر أو اتفاقا كالتخلي والمباشرة إذا انضم إليها عدم وجدان الماء فالحكم هو التيمم. وعلى هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال. كنى به عنه لان الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان، ولازم ذلك أن يكون عدم الوجدان قيدا لجميع الامور الاربعة المذكورة حتى المرض. وقد تبين بما قدمناه اولا: أن المراد بالمرض في قوله: " كنتم مرضى " هو المرض الذى يتحرج معه الانسان من استعمال الماء ويتضرر به على ما يعطيه التقييد بقوله: " فلم تجدوا ماء " ويفيده أيضا سياق الكلام في الاية. وثانيا: أن قوله: " أو على سفر " شق برأسه يبتلى به الانسان اتفاقا، ويغلب عليه
فيه فقدان الماء، فليس بمقيد بقوله: " أو جاء أحد منكم " (الخ) بل هو معطوف على قوله: " فاغسلوا " والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا، فحال هذا الفرض في إطلاقه وعدم تقيده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعنى قوله: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " (الخ) فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداء لم يحتج إليه ثانيا عند العطف. وثالثا: أن قوله: " أو جاء أحد منكم من الغائط " شق آخر مستقلا وليس كما قيل: إن " أو " فيه بمعنى الواو كقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون "
[ 227 ]
الصافات: 147) لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك. على أن " أو " في الاية المستشهد بها ليس إلا بمعناها الحقيقي، وإنما الترديد راجع إلى كون المقام مقاما يتردد فيه بالطبع لا لجهل في المتكلم كما يقال بمثله في الترجي والتمنى الواقعين في القرآن كقوله: " لعلكم تتقون " (البقرة: 21)، وقوله: " لو كانوا يعلمون " (البقرة: 102). وحكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها، والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وكان جاء أحد منكم من الغائط ولم تجدوا ماء فتيمموا. وليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب اعادة التيمم أو الوضوء لمن لم تنتقض طهارته بالحدث الاصغر إن كان على طهارة بناء على مفهوم الشرط فيتأيد به من الروايات ما يدل على عدم وجوب التطهر لمن كان على طهارة. وفي قوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " من الادب البارع ما لا يخفى للمتدبر حيث كنى عن المراد بالمجئ من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الارض وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستروا به من الناس تأدبا، واستعمال الغائط في معناه المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أن لفظ العذرة كذلك، والاصل في معناها عتبة الباب سميت بها لانهم كانوا يخلون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهرى في الصحاح.
ولم يقل: أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه، وكذا لم يقل: أو جاء أحدكم من الغائط لما فيه من الاضافة التى فيها شوب التعيين بل بالغ في الابهام فقال: " أو جاء أحد منكم من الغائط " رعاية لجانب الادب. ورابعا: أن قوله: " أو لامستم النساء " كسابقة شق من الشقوق المفروضة مستقل وحكمه في العطف والمعنى حكم سابقة، وهو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به. فإن قلت: لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبر به عنه سابقا بقوله: " وإن كنتم جنبا " أولى لكونه أبلغ في رعاية الادب. قلت: نعم لكنه كان يفوت نكته مرعية في الكلام، وهى الدلالة على كون الامر مما يقتضيه الطبيعة كما تقدم بيانه، والتعبير بالجنابة فاقد للاشعار بهذه النكتة.
[ 228 ]
وظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم: أن المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع. وجه فساده أن سياق الاية لا يلائمه، وإنما يلائم الكناية فإن الله سبحانه ابتدا في كلامه ببيان حكم الحدث الاصغر بالوضوء و حكم الجنابة بالغسل في الحال العادى، وهو حال وجدان الماء، ثم انتقل الكلام إلى بيان الحكم في الحال غير العادى، وهو حال فقدان الماء فبين فيه حال بدل الوضوء وهو التيمم فكان الاحرى والانسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضا، وهو قرين الوضوء، وقد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه، وهو قوله: " أو لامستم النساء " على سبيل الكناية، فالمراد به ذلك لا محالة، ولا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء وهو أحد القرينين، وإهمال حكم بدل القرين الاخر وهو الغسل رأسا. وخامسا: يظهر بما تقدم فساد ما أورد على الاية من الاشكالات: فمنها أن ذكر المرض والسفر مستدرك، فانهما انما يوجبان التيمم بانضمام احد الشقين الاخيرين وهو الحدث والملامسة، مع انهما يوجبانه ولو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الاخيرين يغنى
عن ذكر الاولين. والجواب أن ذكر الشقين الاخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد الاولين بل كل من الاربعة شق مستقل مذكور لغرض خاص به يفوت بحذفه من الكلام على ما تقدم بيانه. ومنها: أن الشق الثاني وهو قوله: " أو على سفر " مستدرك وذلك بمثل ما وجه به الاشكال السابق غير أن المرض لما كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم التمكن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللازم أن يقدر له ذلك في الكلام، ولا يغنى عن ذكره ذكر الشقين الاخيرين مع عدم وجدان الماء، ونتيجة هذا الوجه كون السفر مستدركا فقط. والجواب أن عدم الوجدان في الاية كناية عن عدم التمكن من استعمال الماء أعم من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدم. ومنها: أن قوله: " فلم تجدوا ماء " يغنى عن ذكر جميع الشقوق، ولو قيل مكان قوله: " وان كنتم مرضى " (الخ): " وان لم تجدوا ماء " لكان أوجز وأبين، والجواب: أن فيه اضاعة لما تقدم من النكات. ومنها: أن لو قيل: وان لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى، لشموله
[ 229 ]
عذر المرض مضافا إلى عذر غيره. والجواب: انه افيد بالكناية، وهى ابلغ. قوله تعالى: " فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه " التيمم هو القصد، والصعيد هو وجه الارض، وتوصيفه بالطيب - والطيب في الشئ كونه على حال يقتضيه طبعه - للاشارة إلى اشتراط كونه على حاله الاصلى كالتراب والاحجار العادية دون ما خرج من الارضية بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجص والنورة والخزف والمواد المعدنية، قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج الا نكدا " (الاعراف: 58) ومن ذلك يستفاد الشروط التى اخذت السنة في الصعيد الذى يتيمم به.
وربما يقال: ان المراد بالطيب الطهارة، فيدل على اشتراط الطهارة في الصعيد. وقوله: " فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه " ينطبق ما ذكره في التيمم للمسح على ما ذكره في الوضوء للغسل، فالتيمم في الحقيقة وضوء اسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس ومسح الرجلين، وابدلت فيه الغسلتان: غسلة الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسحتين، وابدل الماء بالتراب تخفيفا. وهذا يشعر بأن العضوين في التيمم هما العضوان في الوضوء، ولما عبر تعالى بالمسح المتعدى بالباء دل ذلك على أن المعتبر في التيمم هو مسح بعض عضوى الغسل في الوضوء أعنى بعض الوجه، وبعض اليد إلى المرفق، وينطبق على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين والممسوح من اليد بما دون الزند منها. وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الابطين وما ذكره آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء وهو ما دون المرفق، وذلك أنه لا يلائم المسح المتعدى بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح. و " من " في قوله: " منه كأنها ابتدائية والمراد ان يكون المسح بالوجه واليدين مبتدء من الصعيد وقد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد ومسحهما بالوجه واليدين. ويظهر من بعضهم: أن " من " ههنا تبعيضية فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب
[ 230 ]
بقية من الصعيد كغبار ونحوه بمسح الوجه واليدين واستنتج منه وجوب كون الصعيد المضروب عليه مشتملا على شئ من الغبار يمسح منه بالوجه واليدين فلا يصح التيمم على حجر املس لم يتعلق به غبار، والظاهر ما قدمناه - والله أعلم - وما استنتجه من الحكم لا يختص بما احتمله. قوله تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " دخول
" من " على مفعول " ما يريد " لتأكيد النفى، فلا حكم يراد به الحرج بين الاحكام الدينية أصلا، ولذلك علق النفى على إرادة الجعل دون نفس الحرج. والحرج حرجان: حرج يعرض ملاك الحكم ومصلحته المطلوبة، ويصدر الحكم حينئذ حرجيا بذاته لتبعية ملاكه كما لو حرم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة الزهد، فالحكم حرجى من رأس، وحرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتفاقية فيكون بعض أفراده حرجيا ويسقط الحكم حينئذ في تلك الافراد الحرجية لا في غيرها مما لا حرج فيه، كمن يتحرج عن القيام في الصلاة لمرض يضره معه ذلك، ويسقط حينئذ وجوب القيام عنه لا عن غيره ممن يستطيعه. وإضرابه تعالى بقوله: " ولكن يريد ليطهركم "، عن قوله: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " يدل على أن المراد بالاية نفى الحرج الذى في الملاك أي إن الاحكام التى يجعلها عليكم ليست بحرجية شرعت لغرض الحرج، وذلك لان معنى الكلام أن مرادنا بهذه الاحكام المجعولة تطهيركم وإتمام النعمة وهو الملاك، لا أن نشق عليكم ونحرجكم، ولذلك لما وجدنا الوضوء والغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء والغسل إلى إيجاب التيمم الذى هو في وسعكم، ولم يبطل حكم الطهارة من رأس لارادة تطهيركم وإتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون. قوله تعالى: " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " لازم ما تقدم من معنى نفى إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله: " يريد ليطهركم " أن تشريع الوضوء والغسل والتيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك، وهذه الطهارة أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الاعمال الثلاثة، وهى التى تشترط بها الصلاة في الحقيقة.
[ 231 ]
ومن الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الاتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى
كل صلاة إذا كان المصلى على طهارة غير منقوضة، ولا ينافى ذلك ظهور صدر الاية في الاطلاق لان التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب. وأما قوله. " وليتم نعمته عليكم " فقد مر معنى النعمة وإتمامها في الكلام على قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " (المائدة: 3) ومعنى الشكر في الكلام على قوله تعالى: " وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144) في الجزء الرابع من الكتاب. فالمراد بالنعمة في الاية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف والاحكام، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشؤون، وهو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم، وإنما يتم ذلك باستيفاء التشريع جميع الاحكام الدينية التى منها حكم الطهارات الثلاث. ومن هنا يظهر أن بين الغايتين أعنى قوله: " ليطهركم " وقوله: " ليتم نعمته " فرقا، وهو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنه غاية لتشريع جميع الاحكام، وليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها، فالغايتان خاصة وعامة. وعلى هذا فالمعنى: ولكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصة لكم، ولانها بعض الدين الذى يتم بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون الله على نعمته فيخلصكم لنفسه، فافهم ذلك. قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا، هذا هو الميثاق الذى كان مأخوذا منهم على الاسلام كما تشهد به تذكرته لهم بقوله: " إذ قلتم سمعنا وأطعنا فإنه السمع المطلق، والطاعة المطلقة، وهو الاسلام لله فالمعنى بالنعمة في قوله: " واذكروا نعمة الله عليكم " هو المواهب الجميلة التى وهبهم الله سبحانه إياها في شعاع الاسلام، وهو التفاضل الذى بين حالهم في جاهليتهم وحالهم في إسلامهم من الامن والعافية والثروة وصفاء القلوب وطهارة الاعمال كما قال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفره
من النار فأنقذكم منها " (آل عمران: 103). أو أن الاسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة، فإنه أم النعم ترتضع منها كل نعمة كما
[ 232 ]
تقدم بيانه، وغير مخفى عليك ان المراد بكون النعمة هي الاسلام بحقيقته أو الولاية إنما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ، فإن المفهوم هو الذى يشخصه اللغة، ولا كلام لنا فيه. ثم ذكرهم نفسه وأنه عالم بخفايا زوايا القلوب، فأمرهم بالتقوى بقوله: " واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ". (بحث روائي) في التهذيب مسندا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة " قال: إذا قمتم من النوم. قال الراوى: - وهو ابن بكير - قلت: ينقض النوم الوضوء فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت. اقول: وهذا المعنى مروى في غيره من الروايات، ورواه السيوطي في الدر المنثور عن زيد بن أسلم والنحاس: وهذا لا ينافي ما قدمنا أن المراد بالقيام إلى الصلاة ارادتها، لان ما ذكرناه هو معنى القيام من حيث تعديه بإلى، وما في الرواية معناه من حيث تعديه بمن. وفى الكافي بإسناده عن زرارة قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ثم قال: يا زرارة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل به الكتاب من الله، لان الله عز وجل يقول: " فاغسلوا وجوهكم " فعرفنا أن الوجه كله ينبغى أن يغسل ثم قال: " وأيديكم إلى المرافق " فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغى لهما أن تغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: " وامسحوا برؤسكم " فعرفنا حين قال: " برؤسكم " أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل
الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: " وأرجلكم إلى الكعبين " فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس فضيعوه ثم قال: " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " فلما وضع الوضوء إن لم يجدوا ماء أثبت بعض الغسل مسحا لانه قال: " بوجوهكم " ثم وصل بها " وأيديكم " ثم قال: " منه " أي من ذلك التيمم، لانه علم أن ذلك أجمع لم يجر على
[ 233 ]
الوجه لانه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها، ثم قال الله: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " والحرج الضيق. اقول: قوله: " ثم قال: فإن لم تجدوا ماء " نقل الاية بالمعنى. وفيه: بإسناده عن زرارة وبكير أنهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطست - أو تور - فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه فغسل بها وجهه، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرافق إلى الكف لا يردها إلى المرافق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها ما صنع باليمنى، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لا يحدث لهما ماء جديدا، ثم قال: ولا يدخل أصابعه تحت الشراك. ثم قال: إن الله عز وجل يقول: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله، وأمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلا غسله لان الله يقول: " اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "، ثم قال: " فامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الاصابع فقد أجزأه. قال: فقلنا: أين الكعبان ؟ قال: هنا يعنى المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو ؟ فقال: هذا من عظم الساق، والكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله والغرفة الواحدة تجزى للوجه وغرفة
للذراع ؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، واثنتان تأتيان على ذلك كله. اقول: والرواية من المشهورات، ورواها العياشي عن بكير وزرارة عن أبى جعفر عليه السلام، وعن عبد الله بن سليمان عن أبى جعفر عليه السلام مثله، وفي معناها ومعنى الرواية السابقة روايات أخر. في تفسير البرهان العياشي عن زرارة بن أعين، وأبو حنيفة عن أبى بكربن حزم قال: توضأ رجل فمسح على خفيه فدخل المسجد فصلى فجاء على عليه السلام فوطأ على رقبته فقال: ويلك تصلى على غير وضوء ؟ فقال: أمرنى عمر بن الخطاب قال: فأخذ بيده فانتهى به إليه، فقال: انظر ما يروى هذا عليك، ورفع صوته، فقال: نعم أنا أمرته إن رسول الله مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها ؟ قال: لا أدرى، قال: فلم تفتى وأنت
[ 234 ]
لا تدرى ؟ سبق الكتاب الخفين. اقول: وقد شاع على عهد عمر الخلاف في المسح على الخفين وقول على عليه السلام بكونه منسوخا بآية المائدة على ما يظهر من الروايات، ولذلك روى عن بعضهم كالبراء وبلال وجرير بن عبد الله أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسح على الخفين بعد نزول المائدة ولا يخلو من شئ فكأنه ظن أن النسخ إنما ادعى بأمر غير مستند إلى الاية، وليس كذلك فإن الاية انما تثبت المسح على القدمين إلى الكعبين، وليس الخف بقدم البتة، وهذا معنى الرواية التالية. وفى تفسير العياشي: عن محمد بن أحمد الخراساني - رفع الحديث - قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام رجل فسأله عن المسح على الخفين فأطرق في الارض مليا ثم رفع رأسه فقال: ان الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة، وقسمها على الجوارح فجعل للوجه منه نصيبا، وجعل للرأس منه نصيبا، وجعل للرجلين منه نصيبا، وجعل لليدين منه نصيبا فإن كانتا خفاك من هذه الاجزاء فامسح عليهما.
وفيه أيضا عن الحسن بن زيد عن جعفر بن محمد: إن عليا خالف القوم في المسح على الخفين على عهد عمر بن الخطاب قالوا: رأينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين قال: فقال على عليه السلام: قبل نزول المائدة أو بعدها ؟ فقالوا: لا ندرى، قال: ولكني أدرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك المسح على الخفين حين نزلت المائدة، ولان أمسح على ظهر حمارأحب إلى من أن أمسح على الخفين، وتلا هذه الاية " يا أيها الذين آمنوا - إلى قوله - المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ". وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن على أنه كان يتوضأ عند كل صلاة ويقرء: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " (الاية). اقول: وقد تقدم توضيحها. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: " أو لامستم النساء " قال: هو الجماع ولكن الله ستير يحب الستر فلم يسم كما تسمون. وفي تفسير العياشي عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن التيمم فقال: إن
[ 235 ]
عمار بن ياسر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أجنبت وليس معى ماء، فقال: كيف صنعت يا عمار ؟ قال: نزعت ثيابي ثم تمعكت على الصعيد فقال: هكذا يصنع الحمار إنما قال الله: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " ثم وضع يديه جميعا على الصعيد ثم مسحهما ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، ثم دلك إحدى يديه بالاخرى على ظهر الكف، بدء باليمين وفيه: عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: فرض الله الغسل على الوجه والذراعين والمسح على الرأس والقدمين فلما جاء حال السفر والمرض والضرورة وضع الله الغسل وأثبت الغسل مسحا فقال: " وإن كنتم مرضى أو على سفرأو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - إلى قوله - وأيديكم منه ".
وفيه: عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام إنى عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعى مرارة كيف أصنع بالوضوء ؟ قال: فقال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تبارك وتعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج ". اقول: إشارة إلى آية سورة الحج النافية للحرج، وفي عدوله عن ذيل آية الوضوء إلى ما في آخر سورة الحج دلالة على ما قدمناه من معنى نفى الحرج. وفيما نقلناه من الاخبار نكات جمة تتبين بما قدمناه في بيان الايات فليتلق بمنزلة الشرح للروايات. * * * يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون - 8. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم - 9. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم - 10. يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم من أن يبسطوا إليكم
[ 236 ]
أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 11. ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل - 12. فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين - 13. ومن الذين قالوا إنا نصارى
أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون - 14. بيان اتصال الايات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من كليات امورهم في آخرتهم ودنياهم منفردين ومجتمعين. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " الاية نظيرة الاية التى في سورة النساء " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " (النساء: 135).
[ 237 ]
وإنما الفرق بين الايتين ان آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة ونحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، وهذه الاية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن وبغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه ودحض لحقه. وهذا الاختلاف في غرض البيان هو الذى أوجب اختلاف القيود في الايتين: فقال في آية النساء: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفي آية المائدة: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط. وذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة وأن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لاحد بغير الحق لسابق حب وهوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة وانحرافا عن العدل وإن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم وحيف، ولذلك أمر
في آية المائدة بالشهادة بالقسط، وفرعه على الامر بالقيام لله، وأمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، وفرعه على الامر بالقيام بالقسط. ولذلك أيضا فرع في آية المائدة على الامر بالشهادة بالقسط قوله: " اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله " فدعا إلى العدل، وعده ذريعة إلى حصول التقوى، وعكس الامر في آية النساء ففرع على الامر بالشهادة لله قوله: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " فنهى عن اتباع الهوى وترك التقوى، وعده وسيلة سيئة إلى ترك العدل. ثم حذر في الايتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أي إن لم تتقوا، وقال في آية المائدة: " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " وأما معنى القوامين لله شهداء بالقسط (الخ) فقد ظهر في الكلام على الايات السابقة. قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى "، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: " اعدلو " ا والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " الجملة الثانية أعنى قوله: " لهم مغفرة، إنشاء للوعد الذى أخبر عنه بقوله: " وعد الله "،
[ 238 ]
وهذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " (الفتح: 29) لا لما قيل: إنه لكونه خبرا بعد خبر، فإن ذلك خطأ بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا، كآية سورة الفتح. قوله تعالى: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " قال الراغب: الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، والاية تشتمل على نفس الوعيد، وتقابل قوله تعالى في الاية السابقة: " لهم مغفرة وأجر عظيم ". وتقييد الكفر بتكذيب الايات للاحتراز عن الكفر الذى لا يقارن تكذيب الايات
الدالة، ولا ينتهى إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن أمره إلى الله إن يشأ يغفره وإن يشا يعذب عليه فهاتان الايتان وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيعاد شديد للذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبين المرحلتين مراحل متوسطة ومنازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها وعقباها. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا " (الخ) هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار والمسلمين كغزوات بدر وأحد والاحزاب وغير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون من قتل المؤمنين وإمحاء أثر الاسلام ودين التوحيد. وما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - وسيجئ قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى. قوله تعالى: " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " امر بالتقوى والتوكل على الله، والمراد بالحقيقة النهى والتحذير الشديد عن ترك التقوى وترك التوكل على الله سبحانه، والدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة اخذ الميثاق من بنى اسرائيل ومن الذين قالوا انا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الالهى وابتلاء الله اياهم باللعن وتقسية القلوب، ونسيان حظ من دينهم، واغراء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة. ولم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، ويجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها وينتبهوا بأن اليهود والنصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه ولم يكن إلا ميثاقا بالاسلام لله، واثقوه بالسمع والطاعة، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم
[ 239 ]
وأن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، ويتركون ما يكرهه لهم، وطريقه طاعة رسلهم بالايمان بهم، وترك متابعة غير الله ورسله، ممن يدعو إلى نفسه والخضوع لامره من الجبابرة والطغاة وغيرهم حتى الاحبار والرهبان فلا
طاعة إلا لله أو من امر بطاعته. لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فابعدوا من رحمة الله وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة وأفسد ذلك ما بقى بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الاركان والاصول، وذلك كمن يصلى لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لاعلاء كلمة الحق. فلا ما بقى في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، ولا غنى عن الدين ولا سيما اصوله وأركانه. فمن هنا يعلم ان المقام يقتضى أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى وترك التوكل على الله بذكر هذه القصة ودعوتهم إلى الاعتبار بها. ومن هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الامور التشريعية والتكوينية جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله في أحكامه الدينية وما أتاهم به وبينه لهم رسوله ويكلوا أمر الدين والقوانين الالهية إلى ربهم، ويكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، والتصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الاسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد بها وإعطاء استقلال وربوبية لها، وينتظروا ما يريده الله ويختاره لهم من النتائج بتدبيره ومشيئته. قوله تعالى: " ولقد أخذنا الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (الاية) قال الراغب: النقب في الحائط والجلد كالثقب في الخشب. قال: والنقيب الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعه نقباء. والله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الامة ما جرى على بنى إسرائيل من إحكام دينهم وتثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، وبعث النقباء، وإبلاغ البيان، وإتمام الحجة ثم ما
[ 240 ]
قابلوه به من نقض الميثاق، وما قابلهم به الله سبحانه من اللعن وتقسية القلوب (الخ). فقال: " ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل " وهو الذى يذكره كثيرا في سورة البقرة وغيرها: " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " والظاهر أنهم رؤساء الاسباط الاثنى عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولون امورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولى الامر إلى الافراد في هذه الامة لهم المرجعية في امور الدين والدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، ولا يشرعون شريعة، وإنما ذلك إلى الله ورسوله " وقال الله إنى معكم " إيذان بالحفظ والمراقبة فيتفرع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه ويخذلهم إن عصوه ولذلك ذكر الامرين جميعا فقال: " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم " والتعزير هو النصرة مع التعظيم، والمراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته ودعوته كعيسى ومحمد عليهما السلام وسائر من بعثه الله بين موسى ومحمد عليهم السلام " وأقرضتم الله قرضا حسنا " وهو الانفاق المندوب دون الزكاة الواجبة " لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار " فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد. ثم قال: " فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ". قوله تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية " ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، وهو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الاية من أنواع النقم التى نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن وتقسية القلوب مما تستقيم فيه النسبة، وبعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذى يعنى بقوله: " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التى على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذى ضلوه هو سبيل السعادة التى بها عمارة دنياهم وأخراهم. فقوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " الظاهر أنه هو الكفر الذى توعد الله عليه في الاية السابقة، ولفظة " ما " في قوله: " فبما " للتأكيد، ويفيد الابهام لغرض التعظيم أو التحقير
أو غيرهما، والمعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم " لعناهم " واللعن هو الابعاد من الرحمة " وجعلنا قلوبهم قاسية " وقسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة وهى صلابتها والقسى من القلوب ما يخشع لحق ولا يتأثر برحمة، قال تعالى: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " (الحديد 16).
[ 241 ]
وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا " يحرفون الكلم عن مواضعه " بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، وأفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين " ونسوا حظا مما ذكروا به " ولم يكن إلا حظا من الاصول التى تدور على مدارها السعادة، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، وخاتمية نبوة موسى، ودوام شريعة التوراة، وبطلان النسخ والبداء إلى غير ذلك. " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم " الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " وقد تقدم مرارا ان استثناء القليل منهم لا ينافى ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التى هي الشعب والامة (1). قوله تعالى: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا "، قال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به. وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبى رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم، ويندبهم إلى الاشراف على الاخرة، والاعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها، وينهاهم عن التكالب لاجل هذا العرض الادنى (2) فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم والصلح حربا، وبدل المؤاخاة والموادة التى ندبوا إليها معادة ومباغضة كما يقول:
" فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ". وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الامم المسيحية وكالنار الاخرة التى لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.
(1) ومن عججيب القول ما في بعض التفاسير أن المراد بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه مع أن عبد الله ابن سلام كان قد أسلم قبل نزول السورة بمدة، ظاهر الاية استثناء بعض اليهود الذين لم يكونوا قد أسلمو إلى حين نزول الاية. (2) راجع في ذلك إلى بيانات المسيح عليه السلام في مختلف مواقفه المنقولة عنه في الاناجيل
[ 242 ]
ولم يزل منذ رفع عيسى بن مريم عليه السلام، واختلف حواريوه والدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، ولم يزل ينمو ويكثر حتى تبدل إلى الحروب والمقاتلات والغارات وأنواع الشرد والطرد وغير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى تهدد الارض بالخراب والانسانية بالفناء والانقراض. كل ذلك من تبدل النعمة نقمة، وإنتاج السعي ضلالا " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " * * * يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين - 15. يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم - 16. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمة ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق
ما يشاء والله على كل شئ قدير - 17. وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والارض وما بينهما وإليه المصير - 18. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير
[ 243 ]
والله على كل شئ قدير - 19. (بيان) لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذى واثقهم به دعاهم إلى الايمان برسوله الذى أرسله، وكتابه الذى أنزله، بلسان تعريفهما لهم وإقامة البينة على صدق الرسالة وحقية الكتاب، وإتمام الحجة عليهم في ذلك: أما التعريف فهو الذى يشتمل عليه قوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا " (الخ)، وقوله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة " (الخ). وأما إقامة البينة فما في قوله: " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون " (الخ) فان ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للاخصاء من علمائهم، وكذا قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه " (الخ) فإن المطالب الحقة التى لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية الكتاب. وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير ". وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الايات قول البعض: " إن الله هو المسيح ابن مريم "
وقول اليهود والنصارى. " نحن أبناء الله وأحباؤه ". قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير " أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " الاية (الاعراف: 157: وقوله تعالى: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " الاية (البقرة: 146) وقوله: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل " الاية
[ 244 ]
(الفتح: 29) وكبيانه صلى الله عليه وآله وسلم حكم الرجل الذى كتموه وكابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " الايات (المائدة: 41) وهذا الحكم أعنى حكم الرجم موجود الان في الاصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم. وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على امور في التوحيد والنبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك، وما لا يجوز العقل نسبته إلى الانبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، وكاشتمال ما عندهم من الاناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية. قوله تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " ظاهر قوله: " قد جاءكم من الله " كون هذا الجائى قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين والمتكلم وهذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، وعلى هذا فيكون قوله: " وكتاب مبين " معطوفا عليه عطف تفسير، والمراد بالنور والكتاب المبين جميعا القرآن، وقد سمى الله تعالى القرآن
نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: " واتبعوا النور الذى أنزل معه " (الاعراف: 157) وقوله: " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا " (التغابن: 8) وقوله: " وأنزلنا اليكم نورا مبينا " (النساء: 174). ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ربما أفاده صدر الكلام في الاية، وقد عده الله تعالى نورا في قوله: " وسراجا منيرا " (الاحزاب: 46). قوله تعالى: " يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " الباء في قوله: " به " للالة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد الاسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، وكذا القرآن وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " (القصص: 56)، وقال: " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وانك لتهدى إلى
[ 245 ]
صراط مستقيم صراط الله الذى له ما في السماوات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) والايات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادى حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لاحياء أمر الهداية. وقد قيد تعالى قوله: " يهدى به الله " بقوله: " من اتبع رضوانه " ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الالهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الايصال إلى المطلوب، وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر. وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الاسلام لله والايمان والتقوى بالفلاح
والفوز والامن ونحو ذلك، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " (الحمد: 6) في الجزء الاول من الكتاب أن الله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الايصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل. فمعنى الاية - والله العالم -: يهدى الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والاخرة، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة. فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، وقد قال تعالى: " ولا يرضى لعباده الكفر " (الزمر: 7)، وقال: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (التوبة: 96) ويتوقف بالاخرة على اجتناب سبيل الظلم والانخراط في سلك الظالمين، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الالهية بقوله: " والله
[ 246 ]
لا يهدى القوم الظالمين " (الجمعة: 5) فالاية أعنى قوله: " يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " تجرى بوجه مجرى قوله: " والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام: 82). قوله تعالى: " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه " في جمع الظلمات وإفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب المقامات والمواقف بخلاف طريق الباطل.
والاخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبى أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى: " كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم " (إبراهيم: 1) فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه وقال: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " (ابراهيم: 5) فلم يقيده بالاذن لاشتمال الامر على معناه. وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء الاذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، ومن هذا الباب قوله تعالى: " وأذان من الله ورسوله " (التوبة: 3): " فقل آذنتكم على سواء " (الانبياء: 109)، وقوله: " وأذن في الناس بالحج " (الحج: 27) إلى غيرها من الايات. وأما قوله تعالى: " ويهديهم إلى صراط مستقيم " فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله: " ويخرجهم "، بين قوله " يهدى به الله "، وبين هذه الجملة ولان الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التى تتعلق بالسبل الجزئية. ولا ينافى تنكير قوله: " صراط مستقيم " كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذى نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لان قرينة المقام تدل على ذلك، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره. قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التى تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، وهى القائلة باتحاد الله سبحانه
[ 247 ]
بالمسيح فهو إله وبشر بعينه، ويمكن تطبيق الجملة أعنى قولهم: " إن الله هو المسيح ابن مريم " على القول بالبنوة وعلى القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول
العينية بالاتحاد. قوله تعالى: " قل فمن يملك من الله شيئا إن إراد إن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا " (الاية) هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لانهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الارض، وهم جميعا كسائر أجزاء السماوات والارض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه وسلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه ومن في الارض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، وكيف يجوز الهلاك على الله سبحانه ؟ ! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة. فقوله: " فمن يملك من الله شيئا " كناية عن نفى المانع مطلقا فملك شئ من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، ولازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشئ، وهو أن يكون سبب من الاسباب يستقل في التأثير في شئ بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه وسلطانه. وقوله: " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا " إنما قيد المسيح بقوله: " ابن مريم " للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبى كسائر البشر، ولذلك بعينه عطف عليه " امه " لكونها مسانخة له من دون ريب، وعطف عليه " من في الارض جميعا " لكون الحكم في الجميع على حد سواء. ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الامكان، ومحصلة أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كامه وسائر من في الارض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.
وقوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " في مقام التعليل للجملة السابقة
[ 248 ]
والتصريح بقوله: " وما بينهما " مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والارض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والارض ولم يذكر ما بينهما، ومورد الكلام مما بينهما. وتقديم الخبر أعنى قوله: " ولله " للدلالة على الحصر، وبذلك يتم البيان، والمعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والارض وما بينهما لله تعالى لا ملك لاحد سواه ؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضى أمره. وقوله: " يخلق ما يشاء وهو على كل شئ قدير " في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعنى قوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " فإن الملك - بضم الميم - وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والارض وما بينهما، فله القدرة على كل شئ وهو يخلق ما يشاء من الاشياء فله الملك المطلق في السماوات والارض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل شئ هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضى إرادته لو أراد، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته. وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، ولعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الاية مرات فقد آل فرض الالوهية في شئ إلى أنه لا شريك له في ألوهيته. قوله تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه السلام فلا اليهود كانت
تدعى ذلك حقيقة ولا النصارى، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الاطلاق كثيرا كما في حق آدم (1) ويعقوب (2) وداود (3)
(1) آية 38 من الاصحاح الثالث من انجيل لوقا. (2) آية 22 من الاصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة. (3) آية 7 من الزمور 2 من مزامير داود. (*)
[ 249 ]
واقرام (1) وعيسى (2) واطلق (3) أيضا على صلحاء المؤمنين. وكيف كان فإنما اريد بالابناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الابناء من الاب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والاحكام المجراة بين الناس لان تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازى به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب والكرامة. فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب، ويكون عطف قوله: " وأحباؤه " على قوله: " أبناء الله " كعطف التفسير وليس به حقيقة، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لان تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، وحباهم به من الكرامة. والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " أنه لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: " يغفر "، ردا عليهم ولا لقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه " أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ما فعلنا،
وتركنا ما تركنا لان انتفاء السبيل ووقوع الامن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص والحب. قوله تعالى: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم بالحجة، وتلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، وثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم. ومحصل الحجة الاولى التى يشتمل عليها قوله: " فلم يعذبكم بذنوبكم " أنه لو
(1) آية 9 من الاصحاح 31 من نبوة أرميا. (2). موارد كثيرة من الاناجيل وملحقتها. (3) آية 9 من الاصحاح 5 إنجيل متى، وفي غيره من الاناجيل. (*)
[ 250 ]
صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الالهى لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب اخروى أو دنيوى فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم ؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الالهية المأخوذة منهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذى لا هو حى فيرجى ولا ميت فينسى. وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والاعراف وغيرها. وليس لهؤلاء أن يقولوا: إن هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل
" البلاء للولاء " ولا دليل على كونها عن سخط إلهى يسحب نكالا ووبالا، وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الانبياء والرسل كابراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد وموته وغيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبه إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات. وذلك أنه لا ريب لاحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التى قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الانسان من الصلاح والطلاح، مقام العبد من ربه. فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الانسانية من جوهره كالانبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل: ترفيعا للدرجة.
[ 251 ]
ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان، وصلاح أو طلاح، ولا ينبغى أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للانسان خده إلى الجنة أو إلى النار. ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والافساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الامم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير.
وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين " (آل عمران: 141). وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يزيد على ألفى سنة - وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الاسلام - فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال - مملوء من أنواع الذنوب التى أذنبوها، وجرائم ارتكبوها، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال. وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الامم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الالهى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لاحد على الله كرامة ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب. قال تعالى مخاطبا لهم: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين - إلى أن قال - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان
[ 252 ]
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144)، وقال تعالى: " ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " (النساء: 123). وفي الاية أعنى قوله: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الاخروي، والمضارع (يعذبكم) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه
السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " (البقرة: 80) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذى أصاب المسيح بالصلب والاناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكن الوجه هو الاول. قوله تعالى: " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما واليه المصير " حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدى إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والارض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذى هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفى غيره، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من ان يريد في شئ ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضى الحكم. فقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " مقدمة أخرى وقوله: " وإليه المصير " مقدمة ثالثة، وقوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بمنزلة نتيجة البيان التى تناقض دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم. قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
[ 253 ]
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " أي سكون خال عن
مجئ رسول الله. والاية خطاب ثان لاهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الاية الاولى بينت لهم أن الله ارسل إليهم رسولا ايده بكتاب مبين يهدى بإذن الله إلى كل خير وسعادة، وهذه الاية تبين ان ذلك البيان الالهى إنما هو لاتمام الحجة عليهم ان يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. وبهذا البيان يتأيد ان يكون متعلق الفعل (يبين لكم) في هذه الاية هو الذى في الاية السابقة، والتقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي ان هذا الدين الذى تدعون إليه هو بعينه دينكم الذى كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذى يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التى بينته الكتب الالهية، ولازم هذا الوجه ان يكون قوله: " يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله: " ان تقولوا ما جاءنا " (الخ) إليه وانما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان، قال: قربا مربط النعامة منى * لقحت حرب وائل عن حيال قربا مربط النعامة منى * ان بيع الكريم بالشسع غال ويمكن ان يكون خطابا مستأنفا والفعل (يبين لكم) انما حذف متعلقه. للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، وقوله: " على فترة من الرسل " لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك. وقوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " متعلق بقوله: " قد جاءكم " بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا. وقوله: " والله على كل شئ قدير " كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى
[ 254 ]
جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافى عموم القدرة، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " الاية (البقرة: 106) في الجزء الاول من الكتاب. (كلام في طريق التفكر الذى يهدى إليه القرآن وهو بحث مختلط) مما لا نرتاب فيه أن الحياة الانسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالادراك الذى نسميه فكرا، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة - بأية - سنة من السنن أخذ الانسان، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الانسان - ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122)، وقوله: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر: 9)، وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (المجادلة: 11)، وقوله: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة التى لا تحتاج إلى الايراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه. والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدى إليه طريق من الطرق الفكرية، قال تعالى: " إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم " (أسرى: 9) أي الملة أو السنة أو الطريقة التى هي أقوم، وعلى أي حال هي صراط حيوى كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم، وقال تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله
من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " (المائدة: 16) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذى لا اختلاف فيه ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.