تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 2
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 2
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 2
[ 2 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 3 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الثاني منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 4 ]
بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون - 183. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون - 184. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون - 185. (بيان) سياق الايات الثلاث يدل أولا على انها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: أياما معدودات، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: الصيام في لآية الاولى، وقوله تعالى: شهر رمضان، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدا محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله أياما معدودات، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف، والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله:
[ 5 ]
كتب عليكم الصيام، في الآية الاولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان. وسياق الايات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الاوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب، ولذلك ترى الآيتين الاوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيب النفس، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والأجل.
ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الامم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى: لعلكم تتقون، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، وهو قوله تعالى: أياما معدودات، فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدل إشهار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) يوسف - 30، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدلة من فدية لا تشقه ولا يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر
[ 6 ]
إلى قوله، فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من ان يأتي به عن كره وهو قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له الخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية الاولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية) البقرة - 178، وقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين) البقرة - 180، فإن بين القصاص في القتلي والوصية
للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقا، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبا بما جنى من القتل، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين، وخاصة عند الموت والفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الاكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إنشاء للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الايمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت
[ 7 ]
أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص. قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) المجادلة - 21، وقوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس - 12،
وقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة - 45، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربما يقال: انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامه موسى وعيسى وغيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت، وليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته. والمراد بالذين من قبلكم، الامم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: كما كتب، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام. بل الصوم عبادة مأثوره عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي
[ 8 ]
إليه الانسان بفطرته كما سيجئ.
وربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الانبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف. قوله تعالى: لعلكم تتقون، كان أهل الاوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نإئرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص، فما تعطيه العبادات من الاثر الجميل، أي عبادة كانت وأي أثر كان، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس، كما ان المعاصي أيضا كذلك، قال تعالى: (ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها) الإسراء - 7، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي الى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة، قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني:) الفاطر - 15، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: لعلكم تتقون، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إلى الارض، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع
وأطوع. قوله تعالى: أياما معدودات، منصوب على الظرفية بتقدير، في ومتعلق
[ 9 ]
بقوله الصيام، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف، وقد مر ان قوله: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن (الخ) بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان. وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالايام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء، وقال بعضهم: والثلاث الايام هي الايام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها، ثم نزل قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الخ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض. والذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: ان الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الإعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به ووضعوا له فضائل وبركات، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى، وكل ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفرحتى يصير
يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الاضحى فما باله عزيزا بلا سبب ؟. وثانيا: ان الآية الثالثة من الآيات اعني قوله: شهر رمضان الخ، تأبى بسياقها ان تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فان ظاهر السياق ان قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدء لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للايام المعدودات
[ 10 ]
ويكون جميع الآيات الثلث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان، وأما جعل قوله: شهر رمضان مبتدئا خبره قوله: الذى انزل فيه القرآن فانه وان اوجب استقلال الآيه وصلاحيتها لان تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لان تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها، مع ان النسخ مشروط بالتنافى والتباين. وأضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: ان الآية الثانية اعني قوله تعالى: اياما معدودات إلخ، ناسخة للآية الاولى اعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى عليه السلام حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الاولى فكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والناس يصومونها في صدر الاسلام حتى نزل قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره. وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الاشكال، وكون الآية الثانية من متممات الآية الاولى اظهر واجلي، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية. قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من إيام أخر، الفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله: كتب عليكم، وقوله: معدودات اه، أي إن الصيام
مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الايام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنه لا يرفع اليد عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: ولتكملوا العدة، فقوله تعالى: أياما معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض والحكم. ثم إن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر
[ 11 ]
ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها، وكأن قوله تعالى: أو على سفر، ولم يقل: مسافرا للاشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل. وقد قال قوم - وهم المعظم من علماء أهل ا لسنة والجماعة - إن المدلول عليه بقوله تعالى: فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والافطار، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: فعدة من ايام أخر هو عزيمة الافطار دون الرخصة، وهو المروي عن أئمة اهل البيت، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدة من أيام أخر. وقد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: ان التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام اخر. ويرد عليه أولا: أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه. وثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الاعم من الوجوب والاستحباب
والاباحة، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه الزاميا فلا دليل عليه من الكلام ألبتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر. قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، الا طاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع العل بجهد ومشقة، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الانسان، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله: وعلى الذين، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير.
[ 12 ]
وقد ذكر بعضهم: ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لان الناس كانوا يومئذ غير متعودين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله، من جواز الفديه. ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعله لآياته عضين، وأنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، وينقض آخره أوله فتاره يقول كتب عليكم الصيام واخرى يقول يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية، واخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: يطيقون، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل
بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا ان يكون قوله: وعلى الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله: كتب عليكم الصيام، في أولها لمكان التنافي، ويبقى الكلا وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله: وعلى الذين يطيقونه في وسطها، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر والعاجز جميعا، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه وهذا من أفحش الفساد. وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أياما معدودات الخ، ونسخ قوله: اياما معدودات الخ، لقوله كتب عليكم الصيام، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا. قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، التطوع تفعل من الطوع مقابل
[ 13 ]
الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، وإما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه. وبالجملة التطوع كما قيل: لا دلاله فيه مادة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الامم التي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لاكرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من ان يأتي به كرها.
ومن هنا يظهر: ان قوله: فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: (قد نعلم أنك ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) اي فاصبر ولا تحزن فانهم لا يكذبونك. وربما يقال: ان الجملة اعني قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، مرتبطة بالجملة التي تتلوها اعني قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، والمعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له. ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فأنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع ان قوله: فمن تطوع خيرا، لا دلاله له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة. قوله تعالى: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، جملة متممة لسابقتها
[ 14 ]
والمعنى بحسب التقدير - كما مر - تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير. وربما يقال: ان الجملة اعني قوله: وأن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الافطار والقضاء. ويرد عليه: عدم الدليل عليه أو لا، واختلاف الجملتين اعني قوله: فمن كان
منكم الخ، وقوله: وأن تصوموا خير لكم، بالغيبة والخطاب ثانيا، وأن الجملة الاولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: فعدة من أيام أخر، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، وأن الجملة الاولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والافطار حتى يكون قوله: وأن تصوموا خير لكم بيانا لاحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: وأن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرة رابعا، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله: (فتوبوا إلى بارئكم واقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم) البقرة - 54، وقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) الجمعة - 9، وقوله تعالى (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) الصف - 11، والآيات في ذلك كثيرة خامسا: قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شئ من الشهور في القرآن الا شهر رمضان.
[ 15 ]
والنزول هو الورود على المحل من العلو، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون): الزخرف، - 3، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى ابعاضه. والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا،): الاسراء - 106، وهو ظاهر في نزوله
تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الايتين. وربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نجوما وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة - مجموع مدة الدعوة - وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات. وقد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين. وأجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقا أذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير فعليه التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل. والحق ان حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) المجادلة - 1، وقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) الجمعة - 11، وقوله تعالى: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الاحزاب - 23، على أن في القرآن ناسخا
[ 16 ]
ومنسوخا، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول. وربما أجيب عن إلاشكال: إن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، ويرد عليه: أن المشهور عندهم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث
بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان اكثر من ثلثين يوما وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة اقرإ باسم ربك، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: أنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 3، وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): القدر - 1، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك. والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن): البقرة - 185 وقوله تعالى: (حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة): الدخان - 3، وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): القدر - 1، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: (كماء انزلناه من السماء) يونس - 24، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: (كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته) ص - 29، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل.. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
[ 17 ]
هود - 1، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل. وأوضح منه قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يإتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) الاعراف - 53، وقوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس - 39 فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شئ والتفصيل الذي يعرضه شئ آخر، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب. وأوضح منه قوله تعالى: (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف - 4. فإنه ظاهر في إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه - وهو في أم الكتاب - عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) الواقعة - 80، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الاغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بام
[ 18 ]
الكتاب وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج - 22، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك. ثم إن هذا المعنى اعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية. وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه) طه - 114، وقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) القيامة - 19، فإن الآيات ظاهره في إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -. وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدى الافكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه
بكتابه، وسيجئ بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) آل
[ 19 ]
عمران - 7. فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا، وفي لوح محفوظ، ونازلا من عند الله، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا. ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان: قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والانذار، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 2، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة - 185. وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال: أنزلناه في ليلة (على ان القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والانجيل والزبور باصطلاح القرآن) قال: وذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: إقرأ بإسم ربك إلخ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ، ولما تلقى الوحى خطر بباله أن يسإله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه
بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى:
[ 20 ]
(يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات) المدثر - 2. قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الاخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت. قال: وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الاخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الانسان فيه، انتهى ملخصا. ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام اجزائه - تقبل الاصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق. ففيه أولا أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل وأنه صلى عليه وآله وسلم نزل عليه: إقرأ بأسم ربك، وهو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلوة، ثم دخل البيت ونام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ.
وثانيا: أنه ذكر ان من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والامر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة، وليس من المسلم ذلك. أما السنة فلان لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شئ من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شئ من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرنين فصاعدا فهذا في السنة،
[ 21 ]
والتاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل - حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا. وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك - وهي أول سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلوة ويذكر امره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها: (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية) العلق - 18، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهي مصليا عن الصلوة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد كان هذا المصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (كلا لا تطعه)
العلق - 19. فقد دلت السورة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى، وهذا ه والنبوة ولم يسم امره ذلك انذارا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ. وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ، أويقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله رب العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الاليق ببلاغة القرآن الشريف. نعم وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها،
[ 22 ]
وسيجئ بيانه - قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) الحجر - 87. والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزئا منه بدليل قولة تعالى: (كتابا متشابها مثاني الآية) الزمر - 23. ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: (فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الآيات) الحجر - 95، ويدل ذلك على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد كف عن إلانذار مدة ثم أمر به ثانيا بقولة تعالى: فاصدع. وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله: قم فأنذر المدثر - 2، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما
تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا إلى آخر الايات) المدثر - 11، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وأعرض عن المشركين الخ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة. وثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وان المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الارض خطأ وفرية. أما اولا: فلانه لا شئ من ظاهر الكتاب يخالف هذه الاخبار على ما عرفت. واما ثانيا: فلان الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت. واما ثالثا: فلان قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع - وإنه اضحوكة - وليت شعري: ما هو الوجه المصحح - على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا ؟ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول ؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا ؟ فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه ؟ كما يدل
[ 23 ]
عليه: قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة - 79، فإدراك المدركين فيه على السواء !. وبعد اللتيا والتي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: أنزل فيه القرآن: كأنما أنزل فيه القرآن، ومعنى: إنا أنزلناه في ليلة: كأنا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ
لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق !. ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا. وفي كلامه جهات اخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام. قوله تعالى: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، الناس، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، وقال تعالى: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت - 43، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الامور المعنوية بالبينة والبرهان، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الالهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز، قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة - 16. ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر.
[ 24 ]
قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم
من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكل. وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الاوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية. قوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر، ايراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار. قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة، واللام في قوله: لتكملوا العدة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، والتقدير وانما أمرناكم بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة، ولعل ايراد قوله: ولتكملوا العدة هو الموجب لا سقاط معنى قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة. قوله تعالى: ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية (1) أنهما لبيان الغاية غاية اصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الذي انزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى ان التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن واعلن ربوبيته وعبوديتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحق، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل. ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف
عن اعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير
(1) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح (منه) (*)
[ 25 ]
والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال: ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون كما قال: في اول الآيات: لعلكم تتقون. (بحث روائي) في الحديث القدسي، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اجزي به. أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، وغيره كالصلوة والحج وغيرهما متألف من الاثبات أو لا يخلو من الاثبات، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه، لانه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الانية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الاخلاد إلى الارض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا 26 نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على انه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد: ان الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا، قال تعالى ؟ " ويأخذ الصدقات " التوبة - 104، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر، ويفطر حتى يقال، ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما
وهو صوم داود، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوما خميسين بينهما اربعاء فقبض صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعمل ذلك. وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة ايام من كل شهر. أقول: والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي
[ 26 ]
كان يصومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما عدا صوم رمضان. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، قال هي للمؤمنين خاصة وعن جميل قال: سئلت الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة. وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا فقلت له: فقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، قال: إنما فرض الله شهر رمضان على الانبياء دون الامم ففضل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى امته. اقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم عليه السلام وكأن الروايتين واحدة، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم، الانبياء خاصة ولو كان كذلك، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.
وفي الكافي عمن سأل الصادق عليه السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد ؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به. وفي الجوامع عنه عليه السلام: الفرقان كل آية محكمة في الكتاب. وفي تفسيري العياشي والقمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الانبياء. أقول: واللفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الاخبار أن رمضان اسم من اسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب، بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين.
[ 27 ]
والاخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي. وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لابي عبد الله عليه السلام إن ابن أبي يعفور، أمرني أن اسألك عن مسائل فقال: وما هي ؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اسافر ؟ قال: إن الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه. أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالاخذ بالاطلاق. وفي الكافي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: فأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر.
أقول: ورواه العياشي أيضا. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال عليه السلام: ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر. أقول: والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه. وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض. وفي تفسيره أيضا عن الباقر عليه السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.
[ 28 ]
وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير. أقول: والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير ايام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة ايام اخر فإن المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش. وفي تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق عليه السلام قال: إن في الفطر تكبيرا، قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد. وفي الكافي عن سعيد النقاش قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون، قال: قلت: واين هو ؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلوة الفجر وفي صلوة العيد ثم يقطع، قال: قلت: كيف أقول ! قال:
تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدة يعني الصلوة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرات. أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقوله عليه السلام: يعني الصلوة لعله يريد: أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة أيام الصوم بصلوة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبروا الله على ما هديكم، فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الاخيرة يؤيد ما قيل: إن قوله: ولتكبروا الله على ما هديكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي. وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام قال: قلت له، جعلت
[ 29 ]
فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق هذا ؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثين لان الله يقول: ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه. اقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري، والرواية تدل على ما قدمناه: أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان. وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية. اقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن
يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله. وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله، قال: سئلته عن قول الله عز وجل: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال إبو عبد الله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان. اقول: ما رواه عليه السلام عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن وائلة بن الاسقع عن النبي. وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن. وفي الدر المنثور عن ابن عباس. قال: شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد
[ 30 ]
صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في الامر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا. اقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى: " والذكر الحكيم " آل عمران - 58، وفي قوله تعالى: " وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع " الطور - 5، وقوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم أنه
لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79، وقوله تعالى: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " حم السجدة - 12، وجميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع وانه السماء الاولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى، ومما يجب أن يعلم ان الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الاشارة والرمز شائع فيه، ولا سيما في امثال هذه الحقائق: من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن * * * وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون - 186. (بيان) قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق اسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالامر، ثم قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإني قريب ولم يقل: فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل
[ 31 ]
الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الاجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: أجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيد به شيئا بل هو عينه، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم " المؤمن - 60، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ
بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلم سبع مرات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف. والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو در من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره. ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى. وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والافعال وساير ما ينسب إليهم من الازواج والاولاد والمال والجاه وغيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الانحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، واثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أياما كان وتمليكه فالله عز اسمه، هو الذي اضاف نفوسهم واعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والافئدة، وهو الذي خلق كل شئ وقدره تقديرا. فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو اقرب إلى خلقه من كل
[ 32 ]
شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى: " ونحن اقرب إليه منكم
ولكن لا تبصرون " الواقعة - 85، وقال تعالى: " ونحن اقرب إليه من حبل الوريد " ق - 16، وقال تعالى: " ان الله يحول بين المرء وقلبه " الانفال - 24، والقلب هو النفس المدركة. وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الاطلاق واقرب إليهم من كل شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب اي دعاء دعى به احد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان الملك عام، والسلطان والاحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: ان الله لما خلق الاشياء وقدر التقادير تم الامر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان الامر مفروغ عنه، ولا كما يقوله جماعة من هذه الامة: ان لا صنع لله في افعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجوس هذه الامة فيما رواه الفريقان من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: القدرية مجوس هذه الامة. بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شئ شيئا الا بتمليك منه سبحانه واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى: " يا ايها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني " الفاطر - 15. فقد تبين: ان قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم اعني اجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم، واطلاق الاجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فانه مجيبه الا ان ههنا امرا وهو انه تعالى قيد قوله: اجيب دعوة الداع بقوله إذا
دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشئ يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه، فان قولنا: اصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو اكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي
[ 33 ]
يجب الاصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدل على أن وعد الاجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " ابراهيم - 34، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، وقال تعالى: " يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن " الرحمن - 29، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح. فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الاجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الاجابة فقد فقد أحد امرين وهما اللذان ذكرهما بقوله: دعوة الداع إذا دعان. فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، وانما التبس الامر على الداعي التباسا كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الانبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.
وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالاسباب العادية أو بامور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الاسباب والاوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم. فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات
[ 34 ]
النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: " قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم " الفرقان - 77، وقوله تعالى: " قل أرايتم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما كنتم تشركون " الانعام - 41، وقوله تعالى: " قل من ينجيكم في ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " الانعام - 64، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزيا وسؤالا فطريا يسأل به ربه، غير انه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالاسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه، مع انه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولما وقع الشدة وطارت الاسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الاسباب، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك والنسيان. وكقوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " المؤمن - 60، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالاجابة
وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث انها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار انما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض اقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك. وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى: " فأدعوا الله مخلصين له الدين " المؤمن - 14، وقوله تعالى: " وادعوه خوفا وطمعا ان رحمة الله قريب من المحسنين " الاعراف - 56، وقوله تعالى: " ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " الانبياء - 90، وقوله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين " الاعراف - 55، وقوله تعالى: " إذ نادى ربه نداء خفيا، إلى قوله، ولم أك بدعائك ربي شقيا " مريم - 4، وقوله تعالى: " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله " الشورى - 26، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على
[ 35 ]
اركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات. قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: ان الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه. (بحث روائي) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدة الداعي في
الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك. وفي المكارم عنه عليه السلام الدعاء افضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال: " قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم "، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام. وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوحى الله إلى بعض انبيائه في بعض وحيه: وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولابعدنه من فرجي وفضلي، ايأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني ؟ الحديث. وفي عدة الداعي ايضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت اسباب السموات واسباب الارض من دونه فان سئلني لم أعطه وان دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السموات والارض
[ 36 ]
رزقه، فإن دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان استغفرني غفرت له. اقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية الاسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الاشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، وللانسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته ان لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، ويشعر ايضا ان كل ما يتوجه إليه من الاسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل امر، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الاسباب ولازم ذلك ان لا يركن الركون التام إلى شئ من هذه الاسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري، والانسان ينتقل إلى هذه
الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك انه سئل ربه واتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الاسباب إلى ربه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الاسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وانما هو امر صوره له تخيله لعلل اوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر. ونظير ذلك: ان الانسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه واهم واحب فترك الاول وأخذ بالثاني، وربما هرب من شئ حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الاول وترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحه فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، واما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الاحاديث، وهو اللائح من قول علي عليه السلام فيما سيأتي: أن العطية على قدر النية الحديث. وفي عدة الداعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة
[ 37 ]
وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا. اقول: وذلك ان الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة. كما مر، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون. وفي العدة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه
في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، واما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم. وفي نهج البلاغة: في وصية له عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام: ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئابيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل، واجزل لعطاء الامل، وربما سألت الشئ فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له. اقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد عليه السلام به: ان الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي احسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والاجابة. وقد بين عليه السلام بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالابطاء في الاجابة، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لان السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الاجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم ان فيه سعادته
[ 38 ]
وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا. وفي عدة الداعي عن الباقر عليه السلام ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره. اقول: وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء ايماء إلى أنه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدس. وهو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلوة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس وألاخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين عليه السلام عن النبي، وفي عدة الداعي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين. وفي البحار عن علي عليه السلام أنه سمع رجلا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال عليه السلام: أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات، وفيها:
أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.
[ 39 ]
وفي عدة الداعي عن الصادق عليه السلام: إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. اقول: وفي العدة أيضا عن علي عليه السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه. اقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو. وفي دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة. اقول: وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لاجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبدا عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعائه بالخير وكان الانسان عجولا) الاسراء - 11. وفي عدة الداعي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي ذر: يا ابا ذر ألا اعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن ؟ قلت بلى يا رسول الله، قال لى الله عليه واله وسلم: احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده امامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه. اقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الاسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة
كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الاخلاق عن الصادق عليه السلام قال عليه السلام من تقدم في الدعاء أستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم
[ 40 ]
يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) التوبة - 67، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإذا سئلت فأسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله، ارشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الاسباب العادية التي بين أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الايصال، والامر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله ان يجري الامور الا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الاسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى الغاء الاسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك اسباب ؟ واعتبر ذلك بالانسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الاسباب كان كمن سأل الانسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن
الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، وليس ذلك تقييدا للقدرة الالهية غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون الاباليد، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الاطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الاسباب فزيد مثلا وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل
[ 41 ]
والشرائط لم يكن هو هو، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الاسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأما هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ. ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: ان الدعاء من القدر. اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: ان الحاجة المدعو لها اما ان تكون مقضية مقدرة اولا، وهي على الاول واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أن فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن اسباب وجوده، والدعاء من اسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم:
ان الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اخر. ففي البحار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لايرد القضاء الا الدعاء. وعن الصادق عليه السلام: الدعاء يرد القضاء بعد ماأبرم ابراما. وعن أبي الحسن موسى عليه السلام: عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل يرد البلاء، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا. وعن الصادق عليه السلام ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم ابراما - فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه. اقول: وفيها اشارة إلى الاصرار وهو من محققات الدعاء، فان كثرة الاتيان
[ 42 ]
بالقصد يوجب صفائه. وعن اسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليه السلام: دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية. اقول: وفيها اشارة إلى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب. وفي المكارم عن الصادق عليه السلام: لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد وعن الصادق عليه السلام ايضا، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا أستجيب له. وعن الصادق عليه السلام أيضا - وقد قال لرجل من اصحابه أني لاجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا اجدهما - قال: فقال: وماهما ؟ قلت: ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى اجابة، قال افترى الله اخلف وعده ؟ قلت: لا، قال: فمه ؟ قلت: لا ادري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما امر به ثم دعاه من جهه الدعاء اجابه، قلت: وما جهة الدعاء ؟ قال: تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره
ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال: وما الآية الاخرى ؟ قلت: وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وأرانى أنفق ولا أرى خلفا، قال: ا فترى الله اخلف وعده ؟ قلت: لا، قال: فمه ؟ قلت: لا أدرى، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وانفق في حقه لم ينفق درهما الا اخلف الله عليه. اقول: والوجه في هذه الاحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة. وفي الدر المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله إذا اراد ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء وعن ابن عمر ايضا عنه صلى عليه وآله وسلم: من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له ابواب الرحمة، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له ابواب الجنة. اقول: وهذه المعنى مروي من طرق ائمة اهل البيت ايضا: من أعطي الدعاء أعطي الاجابة، ومعناه واضح مما مر.
[ 43 ]
وفي الدر المنثور أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال. اقول: وذلك ان الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الاسباب يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة واسبابها العادية حتى ان الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب لكن يبقى الاذعان بتعين الطرق ووساطة الاسباب المتوسطة فإنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن اسبابها وان
لم يكن للاسباب الا الوساطة دون التأثير، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الالهية، وهذا التوهم هو الذي اوجب ان نعتقد استحالة تخلف المسببات عن اسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن الحركة، والشبع عن الاكل، والرى عن الشرب، وهكذا، وقد مر في البحث عن الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية، وبعبارة أخرى توسط الاسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على اسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، والكتاب والسنة تثبت اصل التوسط وتبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها. إذا عرفت هذا علمت: ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما ان العمدة من معجزات الانبياء راجعة إلى استجابة الدعوة. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون اني اقدر ان أعطيهم ما يسألوني. وفي المجمع، قال: وروي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال: وليؤمنوا بي اي وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون، اي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه
[ 44 ]
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك
يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون - 187. (بيان) قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، الاحلال بمعنى الاجازة، وأصله من الحل مقابل العقد، والرفث هوالتصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الالفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كني به هيهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الالفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والاتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن اخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما ان الفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، وتعدية الرفث بألى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل. قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، الظاهر من اللباس معناه المعروف، وهو ما يستر به الانسان بدنة، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته ويستر به عورته. وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: احل لكم ليلة الصيام
[ 45 ]
الرفث إلى نسائكم، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره، واما الرفث إليه فلا لانه لباسه المتصل بنفسه المباشر له. قوله تعالى: علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم، الاختيان والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله: انكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على ان هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لانفسهم، ولو لم تكن هذه
الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، وخاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك. وعلي هذا فالآية دالة على ان حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، ويشعر به أو يدل عليه قوله: أحل لكم، وقوله: كنتم تختانون، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وقوله: فالآن باشروهن، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال: فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، وهو ظاهر. وربما يقال: ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الاكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق اهل السنة والجماعة، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في الاحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في اول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير ان ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لانفسهم، والشيوخ ربما اجهدهم الكف عن الاكل والشرب بعد النوم، وربما اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الاكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح والاكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك: ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم التشبيه في اصل فرض الصوم لا في
[ 46 ]
خصوصياته، واما قوله تعالى: أحل لكم، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) المائدة - 96، إذ من المعلوم ان صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، وكذا قوله تعالى
(علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم)، انما يعني به انهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ولذا قال: تختانون انفسكم ولم يقل: تختانون الله كما قال: (لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا اماناتكم) الانفال - 27، مع احتمال ان يراد بالاختيان النقص، والمعنى علم الله انكم كنتم تنقصون انفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره، وكذا قوله تعالى: فتاب عليكم وعفا عنكم، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا. وفيه ما عرفت: ان ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: أحل لكم، وقوله: كنتم تختانون انفسكم، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وان لم تكن صريحة في النسخ غيران لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: فالآن باشروهن (الخ)، إذ لو لم يكن هناك الا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، واما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فانها لم تبين سائر احكام الصوم ايضا مثل حرمة النكاح والاكل والشرب في نهار الصيام، ومن المعلوم ان رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الاحكام، والآية تنسخ ما بينه الرسول وان لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك. فإن قلت: قوله تعالى: هن لباس لكم وانتم لباس لهن، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد ان لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة ان يعلل النسخ بما يعم الناسخ والمنسوخ معا وان قلنا: ان هذه التعليلات الواقعة في موارد الاحكام حكم ومصالح لا علل، ولا يلزم في الحكمة ان تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء وهن لباس لهم. قلت: اولا انه منقوض بتقييد قوله: أحل لكم بقوله: ليلة الصيام مع ان
[ 47 ]
حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار، وثانيا: ان القيود المأخوذة في الآية من قوله: ليلة الصيام، وقوله: هن لباس لكم، وقوله: انكم كنتم تختانون انفسكم، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون احد الزوجين لباسا للآخر يوجب ان يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله: ليله الصيام، والصيام هو الكف والامساك عن مشتهيات النفس من الاكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، وبذلك يعود اطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض اطلاقه وهو ان يعمل به ليلا لا نهارا، والمعنى والله اعلم: ان اطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا ونهارا وحرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا انكم تختانون انفسكم فيه واردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة، واعدنا اطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل. والحاصل: ان قوله تعالى: هن لباس لكم وانتم لباس لهن، وان كان علة أو حكمة لاحلال اصل الرفث الا ان الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله: هن لباس لكم إلى قوله: وعفا عنكم، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعا. قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، امر واقع بعد الحضر فيدل على الجواز، وقد سبقه قوله تعالى: في أول الآية احل لكم والمعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن، والابتغاء هو الطلب، والمراد بابتغاء ماكتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الانساني من طريق المباشرة، وفطرهم
على طلبه بما أودع فيهم من شهوه النكاح والمباشرة، وسخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وأن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة ونيل اللذة كما انه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالاكل والشرب وهو المطلوب الفطري وان لم يقصدوا بالاكل والشرب إلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري، فإنما هو تسخير إلهي.
[ 48 ]
واما ما قيل: ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإن الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه، فيبعده: ان الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة. قوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الافق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الافق إلى ثمانية عشر درجة تحت الافق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الافق كالخيط الابيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس. ومن هنا يعلم ان المراد بالخيط الابيض هو الفجر الصادق، وان كلمة من، بيانية وان قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الاسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الافق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط ابيض يتبين من الخيط الاسود. ومن هنا يعلم أيضا: ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود.
قوله تعالى: ثم اتموا الصيام إلى الليل، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره ايثارا للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، وفي قوله: اتموا دلاله على انه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير ان تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث ان الاول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده، قال تعالى: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي) المائدة - 3، فإن الدين مجموع الصلوة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية.
[ 49 ]
قوله تعالى: ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد، العكوف والاعتكاف هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الاقامة فيه ملازما له. والاعتكاف عبادة خاصة من احكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه الا لعذر والصيام معه، ولذلك صح ان يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد. قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها، أصل الحد هو المنع واليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد إلى غير ذلك، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الاكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الاحكام والحرمات الالهية التي بينها لكم وهي احكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها. (بحث روائي)
في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال: كان الاكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الانصاري اخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه اصحابه وبقي في اثنى عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان اخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، وكان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام ؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطات عليه اهله بالطعام فنام قبل ان يفطر، فلما انتبه قال لاهله، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما اصبح حضر حفر الخندق فاغمى عليه فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرق له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر
[ 50 ]
لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد الليل. اقول: وقوله: يعني إلى قوله: وكان رجل، من كلام الراوي، وهذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني والعياشي وغيرهما، وفي جميعها ان سبب نزول قوله: وكلوا واشربوا (الخ) إنما هو قصة خوات بن جبير الانصاري وان سبب نزول قوله: أحل لكم (الخ)، ماكان يفعله الشبان من المسلمين. وفي الدر المنثور عن عدة من اصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال: كان اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الانصاري كان صائما فكان يومه
ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال: هل عندك طعام ؟ قالت: لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا. اقول: وروي بطرق أخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمه بن مالك الانصاري على اختلاف ما في القصة. وفي الدر المنثور أيضا: واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: ان المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء - حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله احل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن يعني انكحوهن. اقول: والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر، وهي متحدة في ان حكم النكاح بالليل كحكم الاكل والشرب وأنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاولى ان النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل والنهار جميعا بخلاف الاكل والشرب فقد كانا محللين في اول الليل قبل النوم محرمين بعده، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الاكل والشرب
[ 51 ]
محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض الخ، وقد قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، ولم يأت بقيد يدل على الغاية، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الاكل والشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم (الخ)، قبل قوله: كلوا واشربوا.
وفي الدر المنثور أيضا: ان رسول الله قال: الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، واما المستطيل الذي يأخذ الافق فإنه يحل الصلوة ويحرم الطعام. اقول: والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه * * * ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون - 188. (بيان) قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، المراد بالاكل الاخذ أو مطلق التصرف مجازا، والمصحح لهذا الاطلاق المجازي كون الاكل أقرب الافعال الطبيعية التي يحتاج الانسان إلى فعلها وأقدمها فالانسان أول ما ينشاء وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرف والاخذ، وخاصة في مورد الاموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات. والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل
[ 52 ]
إليه القلب، والبين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، والباطل يقابل الحق الذي هو الامر الثابت بنحو من الثبوت. وفي تقييد الحكم، أعني قوله: ولا تأكلوا اموالكم، بقوله: بينكم، دلالة على ان جميع الاموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا
كان باطلا، فالآية كالشارحة لاطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الارض جميعا وفي إضافته الاموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الانساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الارض على ما يذكره النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الاصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مأة مورد ولا حاجه إلى إيرادها في هذا الموضع، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: (وإحل الله البيع) البقره - 275، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض) النساء - 29، وقوله تعالى: (تجارة تخشون كسادها) التوبة - 24، وغيرها، والسنة المتواترة تؤيده. قوله تعالى: وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا، الادلاء هو ارسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشئ، والجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، ويمكن ان يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوبا بأن المقدرة، التقدير مع ان تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لانفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه واخذ الراشي فريقا آخر منها بالاثم وهما يعلمان ان ذلك باطل غير حق. (بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم
[ 53 ]
الله عن ذلك.
وفي الكافي ايضا عن ابي بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: قول الله عز وجل في كتابه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام، قال يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم ان في الامة حكاما يجورون، اما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكام اهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام اهل العدل فأبى عليك إلا ان يرافعك إلى حكام اهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت. وفي المجمع قال: روي عن ابي جعفر عليه السلام: يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الاموال. اقول: وهذه مصاديق والآية مطلقة. (بحث علمي اجتماعي) كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، ومنها النبات والحيوان والانسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن ان ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه انواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها، وكذلك اقسام الحيوان والانسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه. وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، والحيوان والانسان بالشعور الغريزي ان التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى ان الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الامر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الانسان اوما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه، وهذا اصل الاختصاص الذي
[ 54 ]
لا يتوقف في اعتباره إنسان وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي ان افعل كذا ولك ان تفعل كذا. ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما أصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من تشاجر الاطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الانسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما ادركه بأصل الفطرة إجمالا، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي المذكور أنواعا متفرقه ذوات أسام مختلفه فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك. وهم وإن أمكن ان يختلفوا في تحقق الملك من جهة اسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالانسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض، لكن اصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى ان المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من اصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، وفي بطلان الفطرة فناء الانسان. وسنبحث في ما يتعلق بهذا الاصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والارث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك انشاء الله العزيز
* * *
[ 55 ]
يسألونك عن الاهله قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتو االبيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها وأتقوا الله لعلكم تفلحون - 189. (بيان) قوله تعالى: يسئلونك إلى قوله: والحج، الاهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالا اول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الاولى والثانية كما قيل، وقال بعضهم الليالي الثلاثة الاول، وقال بعضهم حتى يتحجر، والتحجر ان يستدير بخطة دقيقة، وقال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا ويسمى في الرابعة عشر بدرا، واسمه العام عند العرب الزبرقان. والهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، ومن قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لان الناس يهلون بذكره إذا راوا. والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل، ويطلق ايضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن، والمراد هلهنا الاول. وفي قوله تعالى: يسئلونك عن الاهلة، وان لم يشرح ان السؤال في امرها عماذا عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صورالهلال والقمر والبدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في اول الشهر القمري كما ذكره بعضهم أو عن غير ذلك. ولكن اتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الاهلة دليل على ان السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال: يسئلونك عن القمر لا عن الاهلة وايضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص كان الانسب ان يقال: يسئلونك عن الهلال إذ لا غرض
[ 56 ]
حينئذ يتعلق بالجمع، ففي اتيان الاهلة بصيغة الجمع دلالة على ان السؤال انما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية وعبر عن ذلك بالاهلة لانها هي المحققة لذلك فاجيب بالفائدة. ويستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس والحج، فإن المواقيت وهي الازمان المضروبة للافعال، والاعمال انما هي الشهور دون الاهلة التي ليست بأزمنة وانما هي أشكال وصور في القمر. وبالجملة قد تحصل ان الغرض في السؤال انما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فاجيب ببيان الفائدة وانها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم فإن الانسان لا بد له من حيث الخلقة من ان يقدر أفعاله واعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، ولازم ذلك ان يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا وكبارا مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الالهية التي تدبر امور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم، والتقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع انما هو تقطيع الايام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الادراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الانسان الا بعد قرون واحقاب من بدء حياته في الارض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما. فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في امور دينهم ودنياهم وللحج خاصة فإنه أشهر معلومات، وكأن اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور. قوله تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى قوله: من ابوابها، ثبت بالنقل ان جماعة من العرب الجاهلي كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا
بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الاسلام وامرهم بدخول البيوت من ابوابها، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله. ولو لا ذلك لامكن ان يقال: ان قوله: وليس البرالى آخره، كناية عن النهي
[ 57 ]
عن امتثال الاوامر الالهية والعمل بالاحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمما لاول الاية، وكان المعنى: ان هذه الشهور أوقات مضروبة لاعمال شرعت فيها ولايجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الاية مشتملة على بيان حكم واحد. وعلى التقدير الاول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على ان العمل المذكور لم يكن مما امضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفى كونه برا فانما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، وأثبت ان البر هو التقوي، وكان الظاهر ان يقال: ولكن البر هو التقوي، وانما عدل إلى قوله: ولكن البر من اتقى، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن الآية. والامر في قوله تعالى: وإتوا البيوت من أبوابها، ليس امرا مولويا وإنما هو إرشاد إلى حسن اتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجرى على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.
قوله تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة ان التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم ان جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الاخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة، ولذلك قال تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.
[ 58 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاهلة فنزلت هذه الآية (يسئلونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس) يعلمون بها أجل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم. أقول: وروى هذا المعنى فيه بطرق أخر عن ابي العالية وقتادة وغيرهما، وروي أيضا أن بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حالات القمرالمختلفة فنزلت الآية. وهذا هو الذي ذكرنا آنفا انه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به. وفي الدر المنثور أيضا: أخرج وكيع، والبخاري، وابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها. وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن ابي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الابواب في الاحرام وكانت الانصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الانصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما
فعلت قال: إني رجل أحمس قال: فإن ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها. اقول: وقد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، والحمس جمع أحمس كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في امر دينهم أو لصلابتهم وشدة باسهم. وظاهر الرواية ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت (الخ)، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، وهي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، ولكنك قد عرفت ان الآية تنافيه حيث تقول: ليس البر بأن تأتوا، وحاشا الله سبحانه
[ 59 ]
ان يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الاحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر. وفي محاسن البرقي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها قال يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الامور كان. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: الاوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتي ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه. أقول: الرواية من الجرى وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الاولى، ولا شك ان الآية بحسب المعنى عامة وإن كانت بحسب مورد النزول خاصة، وقوله عليه السلام ولولاهم ما عرف الله، يعني البيان الحق والدعوة التامة الذين معهم، وله معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات في معنى الروايتين كثيرة. * * *
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - 190. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين - 191. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم - 192. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين - 193. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين - 19 4. وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين - 195
[ 60 ]
(بيان) سياق الآيات الشريفة يدل على انها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لاول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لاخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك امور مربوطة بمشركي مكة، على انه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم ان قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيدا احترازيا، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل انما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله. بل الظاهر ان الفعل اعني يقاتلونكم، للحال والوصف للاشارة، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة. فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله
على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط. على ان الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله، لاصل الحكم، وقوله تعالى: لا تعتدوا الخ، تحديد له من حيث الانتظام، وقوله تعالى: واقتلوهم (الخ) تحديد له من حيث التشديد، وقوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام (الخ)، تحديد له من حيث المكان، وقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (الخ) تحديد له من حيث الامد والزمان، وقوله تعالى: الشهر الحرام (الخ)، بيان ان هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى: وأنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية وهو الانفاق للتجهيز والتجهز، فيقرب ان يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا ان تكون نازلة في شؤون متفرقه كما
[ 61 ]
ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين. قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الاسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فان الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. قوله تعالى: ولا تعتدوا (الخ) الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا واعتدى إذا جاوز حده، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم
الانتهاء إلى العدو، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية. قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي وجد وادرك فمعنى الآية معنى قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 6، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبلها. فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لان في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين. قوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (الخ)، فيه نهى عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى
[ 62 ]
المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد. قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع والكف، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الاسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ولا تقاتلوهم عند المسجد، وعلى هذا فكل من الجملتين اعني قوله تعالى: فإن انتهوا فان الله، وقوله تعالى: فان انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
وفي قوله تعالى: فان الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فان الله غفور رحيم. قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله، تحديد لامد القتال كما مر ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الاصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكه، ويدل عليه قوله تعالى: ويكون الدين لله: والآية نظيرة لقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وإن تولوا فاعلموا ان الله موليكم نعم المولى ونعم النصير) الانفال - 40، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وان ردت فلا ولاية الا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذى يستقر على التوحيد. ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 30، بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة خاصة بالمشركين غير شاملة لاهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الاصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرون به، وإن كان ذلك كفرامنهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، لكن الاسلام قنع منهم
[ 63 ]
بمجرد التوحيد، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزيه لاعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإظهار الاسلام على الدين كله. قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة
وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) التوبة - 12 قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لانه شرع القصاص في جميع الحرمات وإنما شرع القصاص في الحرمات لانه شرع جواز الاعتداء بالمثل. ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لان فيه استعمالا للشدة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، وهم أحوج إلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين. وأما أمره تعالى بالاعتداء مع انه لا يحب المعتدين فأن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء وأما إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبر مع المتكبر، والجهر بالسوء لمن ظلم.
[ 64 ]
قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بانفاق المال لاقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الانفاق هيهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في اول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، والباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة والاستطاعة والقدرة فان اليد مظهر لذلك، وربما يقال: ان الباء للسببية ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدى أنفسكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الانسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره. والكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أن البخل والامساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، وكما أن التبذير بانفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروة. ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالاحسان فقال: وأحسنوا ان الله يحب المحسنين، وليس المراد بالاحسان الكف عن القتال أو الرأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الاحسان هو الاتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكف في مورد الكف، والشدة في مورد الشدة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الانسانية باستيفاء حقها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الاقصى من الدين، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع، قال تعالى: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران - 31، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء
وان الله لا يحب المعتدين وختمت بالامر بالاحسان وأن الله يحب المحسنين، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى الجهاد الذى يأمر به القرآن كان القرآن يامر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله
[ 65 ]
سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، إلى قوله: لكم دينكم ولي دين) الكافرون - 6، وقال تعالى: (واصبر على ما يقولون) المزمل - 10، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال) النساء - 77، كأن هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة - 110. ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير) الانفال - 40، وكذا قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة - 190. ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 29.
ومنها آيات القتال مع المشركين عامة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: (فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 5، وكقوله تعالى: (قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة - 36. ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) التوبة - 123. وجملة الامر أن القرآن يذكر أن الاسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الانسانية في حيوتها كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة
[ 66 ]
الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الانسانية المشروعة كما قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى - 13، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج - 40، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع، ونظيره قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) البقرة - 251، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الانفال: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال - 8، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الانفال - 24، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الاسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الانسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الانسانية وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها
وإحيائها بعد الموت. ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب: إنه ينبغي أن يكون للاسلام حكم دفاعي في تطهير الارض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الايمان لله سبحانه وتعالى فان هذا القتال الذى تذكره الآيات المذكورة إنما هو لاماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لاعلاء كلمة الحق على كلمة اهل الكتاب بحملهم على اعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وان كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حق الانسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق. والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على اعدائهم لا يتم أمره إلا بانجاز الامر بهذه المرتبة، من القتال وهوالقتال لاقامة الاخلاص في التوحيد، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
[ 67 ]
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف - 9، وأظهرمنه قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) الانبياء - 105، وأصرح منه قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، النور - 55، فقوله تعالى: يعبدونني يعني به عبادة الاخلاص بحقيقة الايمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئا، مع أنه تعالى يعد بعض الايمان شركا، قال تعالى: (وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف - 106، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الارض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
وربما يتوهم المتوهم: أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالاسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنهم في الارض، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه ايماء إلى القتال. على أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذله على المؤمنين اعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) المائدة - 54، - على ما سيجئ في محله - يشير إلى دعوة حقة، ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة انما تقع عن دعوة جهاد. وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الاسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الانبياء السالفين فان دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية، دون الاكراه على الايمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الاجبار والاكراه !. وذلك أن القرآن يبين أن الاسلام مبني على قضاء الفطرة الانسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الانسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضى بأن التوحيد هو الاساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه، وأن الدفاع
[ 68 ]
عن هذا الاصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للانسانية يجب استيفائه بأى وسيلة ممكنة، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الاذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الاسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الانسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشئ من القتال الا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه
السنة النبوية، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل - 125، والآية مطلقة، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) الانفال - 42. وأما ما ذكروه من استلزامه الاكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الانسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الافراد بعد البيان واقامة الحجة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فان المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها. على ان الكره انما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا. وأما ما ذكروه: ان سائر الانبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح عليهم السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب، وكذلك كان عيسى عليه السلام أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طر والنسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الاسلام. على أن جمعا من الانبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، والقرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) آل عمران - 147، وقال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -:
[ 69 ]
(وإذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم
ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) المائدة - 24، وقال تعالى: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) البقرة - 246، إلى آخر قصة طالوت وجالوت. وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ: (ألا تعلوا على وأتوني مسلمين) - إلى أن قال تعالى -: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذله وهم صاغرون) النمل - 37، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها (إلخ) إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية. (بحث اجتماعي) لاريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الانسان وسائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء. وكما أن الفطرة والجبلة اعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالانسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الانسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده وبقائه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحه تصرفه المذكور، ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من انها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لان تستعمل في الدفاع كالقرون والانياب والمخالب والاظلاف والشوك
والمنقار وغير ذلك، وبعضها الذي لم يتسلح بشئ من هذه الاسلحة الطبيعية القوية
[ 70 ]
تستريح إلى الفرار إو الاستتار اوالخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات، وبعضها الذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربما اخذ بها في الدفاع كالقرد والدب والثعلب وأمثالها. والانسان من بين بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، وله فطرة كسائر الانواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أن للانسان حقا في التصرف، وحقا في الدفاع عن حقه الفطري، وهذا الحق الذي يذعن به الانسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الانساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما اوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه ان يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الانسان إذا احس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الافراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله. ومن هنا يعلم: ان الانسان لا يستند في شئ من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الانسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بإنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه. فكل قتال دفاع في الحقيقة حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول يفرضون لانفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في
المعاش أو مضيقة في الارض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الارض وإهلاك الحرث والنسل. فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الانسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للانسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الاهميه فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الانسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق
[ 71 ]
الضائع المستنقذ في الاهمية الحيوية، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الانسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الانساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الانساني التي تحفظ منافع الافراد في حياتهم. (بحث روائي) في المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا واربعمأه فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر احرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية. أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس وغيره. وفي المجمع أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى
نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية. أقول: وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه. وفي المجمع في قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه: أن الفتنة في الدين - وهو الشرك - إعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز.
[ 72 ]
اقول: وقد عرفت: ان ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة انها نزلت دفعة واحدة. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، بطرق عن قتادة، قال: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله. قال: حتى يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واليها دعا، وذكر لنا: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الله أمرني ان أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: وإن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله. اقول: قوله: وإن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي وهي استفادة حسنة، وروي نظير ذلك عن عكرمة وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: إنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما يمنعك ان تخرج ؟ قال: يمنعني: أن الله حرم دم أخي: قالا: ألم يقل الله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله
وأنتم تريدون ان تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. اقول: وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان، وقد مر بيانه، وانما المورد من مصاديق الفساد في الارض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه. وفي المجمع في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، عن العلاء بن الفضيل، قال: سئلته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام ؟ قال إذا كان المشركون ابتدئوهم باستحلاهم، - رأى المسلمون بما انهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.
[ 73 ]
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، ويغزو فإذا حضره قام حتى ينسلخ وفي الكافي عن معاوية بن عمار قال: سئلت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال عليه السلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم يقام عليه الحد في الحرم لانه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله: عز وجل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) - فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكه، قال: لوان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق، أليس الله يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني
المقتصدين ! وروى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه يقول الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وفي الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله: فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد اعز الاسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الاقامة في الاموال وإصلاحها وتركنا
[ 74 ]
الغزو. اقول: واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية مطلقة تشمل جانبي الافراط والتفريط في الانفاق جميعا بل تعم الانفاق وغيره. * * * وأتموا لحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا
رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعملوا أن الله شديد العقاب - 196. الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الالباب - 197 ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين - 198. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم - 199. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وماله في الآخرة من خلاق - 200. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار - 201. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله
[ 75 ]
سريع الحساب - 202. واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون - 203. (بيان) نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، وفيها تشريع حج التمتع. قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، تمام الشئ هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالاتمام هو ضم تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشئ ترتب عليه من الاثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الانسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا
كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشئ داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الاول الحقيقي والدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه الماتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الاتمام بمعنى الاكمال وهو ظاهر. والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل عليه السلام وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الامة شريعة باقية إلى يوم القيامة. ويبتدي هذا العمل بالاحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وفيها أمور مفروضة أخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الافراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.
[ 76 ]
والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالاحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعنى الحج، والعمرة عبادتان لايتمان إلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية. قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم (الخ)، الاحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الاتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالاحرام والاستيسار صيرورة الشئ يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، والهدى هو ما يقدمه الانسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، واصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدى والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الانسان للتضحية به في حجه من النعم. قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه (الخ)، الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الراس يدل على ان المراد بالمرض هو خصوص
المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والاتيان بقوله: أو به أذى من رأسه بلفطة أو الترديد يدل على ان المراد بالاذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس فهذان الامران يجوزان الحلق مع الفدية بشئ من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك. وقد وردت السنة ان الصيام ثلاثة ايام، وأن الصدقة أطعام ستة مساكين، وان النسك شاة. قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الاحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والاحلال إلى زمان الاهلال بالحج فما استيسر من الهدى، فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الاحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالاحلال. قوله تعالى: فما استيسر من الهدى، ظاهر الآية ان ذلك نسك لا جبران لما فات منه من الاهلال بالحج من الميقات فإن ذلك امر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.
[ 77 ]
فان قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدى، على قوله: فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع ان اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدى واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك. قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فان ذلك يناسب التجويز للتمتع في اثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الاهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدى جبرانا لما فاته من الاهلال بالحج من الميقات دون مكة،
وظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى أخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبني عليه تشريع الهدى، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدى وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدى، وأما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، وهو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة ايام، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ان وقت الصيام قبل يوم الاضحى أو بعد إيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله والافعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، ولم يقل حين الرجوع على ان الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك. قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها. قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام
[ 78 ]
أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون اهله حاضري المسجد الحرام من الطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من
البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة والانسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والاهلال بالحج من المسجد الحرام من غير ان يسير ثانيا إلى الميقات. وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة أنما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن (الخ)، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولاشخص دون شخص ولاحال دون حال. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الامر فإن الحج خاصة من بين الاحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الاسلام على ماكان تقريباإلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالانكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الاية بالامر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه. قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ألى قوله: في الحج، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي اليك يوم الجمعة مع ان المجئ إنما هو في بعضه
[ 79 ]
دون جميعه. وفي تكرارلفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الايجاز فإن المراد بالحج الاول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولو لا الاظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل. وفرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق، بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله. قوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الاعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبين أصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم، العمل فان العلم من غير عمل لا قيمة له في الاسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: واتقوني يا أولي الالباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين. قوله تعالى: ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم، هو نظير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) إلى أن قال: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله) الجمعة - 10 فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع اثناء الحج. قوله تعالى: فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، الافاضة
هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة. قوله تعالى: واذكروه كما هديكم (الخ) أي واذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم وانكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
[ 80 ]
قوله تعالى: ثم افيضوا من حيث افاض الناس، ظاهره إيجاب الافاضة على ما كان من دأب الناس والحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل ان قريشا وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن اهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالافاضة من حيث افاض الناس وهو عرفات. وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى ان أحكام الحج هي التي ذكرت غير انه يجب عليكم في الافاضة ان تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات. قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم إلى قوله: ذكرا، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لان نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: (واذكروه كما هديكم) أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم وأو في قوله أو أشد ذكرا، للاضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو امر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى: (واذكروا الله ذكرا
كثيرا) الاحزاب - 41، وقال تعالى: (والذاكرين الله كثيرا) الاحزاب - 35، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو امر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن ان يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعود أو على جنوبهم) آل عمران - 191، وإن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الانسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر. قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ) تفريع على قوله
[ 81 ]
تعالى: فاذكروا الله كذكركم آبائكم، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الانسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آبائه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد الا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا نصيب له في الاخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الاخرة ولهؤلاء نصيب في الاخرة. ومن هنا يظهر وجه ذكر الحسنة في قول أهل الاخرة دون أهل الدنيا، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الارضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا وما في الاخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة. و المقابلة بين قوله: وما له في الآخرة من خلاق، وقوله: أولئك لهم نصيب مما
كسبوا، تعطي أن أعمال الطائفة الاولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان - 23، وقال تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) الاحقاف - 20، وقال تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا) الكهف - 105. قوله تعالى: والله سريع الحساب، إسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا. فالمحصل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الاخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب
[ 82 ]
بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آئسين. قوله تعالى: واذكروا الله في أيام معدودات، الايام المعدودات هي ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على ان هذه الايام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: فمن تعجل في يومين (الخ)، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الايام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضا. قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الاثم عن الحاج ولم يقيد بشئ أصلا، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم
تقييده به، فالمعنى إن من اتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، ومن هنا يظهر: ان الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال. واما قوله: لمن اتقى، فليس بيانا للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام ان يقال: على من اتقى، بل الظاهر ان قوله: لمن اتقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية، والمراد ان هذا الحكم لمن اتقى واما من لم يتق فليس له، ومن اللازم ان يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيؤل المعنى ان الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الاحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب ان يقيم بمنى ويذكر الله في ايام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمه اهل البيت كما سيجئ إنشاء الله. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا انكم إليه تحشرون، امر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26. وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: انكم إليه تحشرون، مع ما في نسك
[ 83 ]
الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي ان يذكر بهذا الجمع والافاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم احدا (بحث روائي) في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: واتموا الحج والعمرة لله، قال: هما مفروضان. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر وابي عبد الله
عليهم السلام قالوا: سألناهما عن قوله: واتموا الحج والعمرة لله، قالا: فإن تمام الحج ان لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما. اقول: والروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الاتمام فإن فرضهما وادائهما هو إتمامهما. وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حج حجة الاسلام خرج في اربع بقين من ذي القعدة حتى اتى الشجرة وصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فإحرم منها واهل بالحج وساق مأة بدنة واحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبدا بما بدء الله عز وجل به فأتى الصفا فبدء بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا وأمرهم ان يحلوا ويجعلوها عمرة، وهو شئ امر الله عز وجل به فأحل الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت كما امرتكم، ولم يكن يستطيع من اجل الهدى الذي معه، إن الله عز وجل يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدى محله، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي امرتنا به لعامنا أو لكل عام ؟ فقال
[ 84 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بل للابد، وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤسنا تقطر من نسائنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك لن تؤمن بها أبدا، قال: عليه السلام: واقبل علي عليه السلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد احلت ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بأي شئ أهللت ؟
فقال بما اهل به النبي، فقال: لا تحل انت فاشركه في الهدى وجعل له سبعا وثلاثين ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا وستين فنحرها بيده ثم اخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم امر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقال صلى الله عليه وآله وسلم قد اكلنا الآن منه جميعا والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاج المفرد، قال: وسئلته: ليلا احرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم نهارا ؟ فقال: نهارا، فقلت: اي ساعة ؟ قال: صلوة الظهر. اقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيمه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فليس لاحد إلا أن يتمتع لان الله انزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فما استيسر من الهدى شاة. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية ؟ قال: يصوم ثلاثة ايام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله ؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين، قيل: وما الحصبة ؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر ؟ قال: نعم اليس هو يوم عرفة مسافرا ؟ إنا اهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة ايام في الحج، يقول: في ذي الحجة. وروي الشيخ عن الصادق عليه السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس له متعة. اقول: يعني ان ما دون المواقيت فساكنة يصدق عليه انه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمه اهل البيت. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: الحج اشهر معلومات، قال:
[ 85 ]
الحج اشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ليس لاحد ان يحج فيما سواهن.
وفيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فمن فرض فيهن (الخ)، الفرض التلبية والاشعار والتقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج وفي الكافي عنه عليه السلام في قوله تعالى: فلا رفث (الخ)، الرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلا من ربكم الآيه يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبع في الموسم. اقول: ويقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآيه. وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم ان تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن ابي جعفر عليه السلام. اقول: وفيه تمسك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الافراد. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ثم افيضوا من حيث افاض الناس الآيه، قال: إن اهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم اهل عرفة، وكان رجل يكني أبا سيار وكان له حمار فاره، وكان يسبق اهل عرفه، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا فامرهم الله ان يقفوا بعرفة وان يفيضوا منه. اقول: وفي هذا المعنى روايات اخر. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة، قال: رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا وعنه عليه السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنة.
[ 86 ]
وعن علي عليه السلام في الدنيا المرئه الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرئة السوء. أقول: والروايات من قبيل عد المصداق والآيه مطلقة، ولما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الاولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: وأذكروا الله في أيام معدودات الآية، قال: وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جل شأنه: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا، قال: والتكبير: الله اكبر، الله اكبر، لا إله إلا الله والله اكبر ولله الحمد، الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام وفيه عنه عليه السلام قال: والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الامصار يكبر عقيب عشر صلوات. وفي الفقيه في قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه الآية، سئل الصادق عليه السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا ذنب له. وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام قال يرجع مغفورا له لا ذنب له لمن اتقى. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لمن اتقى الآية، قال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى. وعن الباقر عليه السلام لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إحرامه. وعنه أيضا: لمن اتقى الله عز وجل.
وعن الصادق عليه السلام لمن اتقى الكبائر. أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، ويمكن التمسك بعموم التقوى كما في
[ 87 ]
الروايتين الاخيرتين. (بحث روائي آخر) في الدر المنثور أخرج البخاري والبيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والانصار وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله: فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وأشهر الحج التي ذكر الله: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الاشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء. وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمره إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشئ حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن
لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وفي الدر المنثور أيضا أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالاحلال، قلنا أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا ؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال: أ بالله تعلمون أيها الناس ؟ فأنا والله أعلمكم بالله
[ 88 ]
وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدى فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هديا فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه. وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عمر ان بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور. وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النسائي عن مطرف، قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي وإن مت فحدث بها عني إني قد سلم على وأعلم أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء. وفي صحيح الترمذي أيضا وزاد المعاد لابن القيم سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال
الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي صحيح الترمذي وسنن النسائي وسنن البيهقي وموطأ مالك وكتاب الام للشافعي عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن ابى وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالبطحاء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أهللت ؟ قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هل سقت من هدى ؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة
[ 89 ]
ثم حل فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأه من قومي فمشطتني رأسي وغسلت رأسي فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جائني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشئ فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فاتموا فلما قدم قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك ؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: وأتموا الحج والعمرة لله، وأن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر الهدى. وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء وإن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه اتم لحجكم وأتم لعمرتكم. وفي مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني
المتعة ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحوا بهن حجاجا. وفي جمع الجوامع للسيوطي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهي عنها وذلك أن احدكم يأتي من افق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما والحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الاراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم. وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير ينهي عن المتعة وإبن عباس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس، فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما إحديهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى اجل إلا
[ 90 ]
غيبته بالحجارة والاخرى متعة الحج. وفي سنن النسائي عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: والله إني لانهاكم عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني العمرة في الحج. وفي الدر المنثور اخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي عليه السلام: لقد علمت انا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ولكنا كنا خائفين. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابن ابي شيبة ومسلم عن ابي ذر كانت المتعة في الحج لاصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج. اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهى ربما يبحث فيه من جهه كون ناهيه محقا أو معذورا فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب. وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب. فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله الآيه وان التمتع مما كان مختصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما امركم الله، فقد عرفت: ان قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآيه لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج والعمرة بعد فرضهما. والدليل عليه قوله تعالى: فإن أحصرتم (الخ)، واما كون الآيه دالة على الاتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، وأن عدم الفصل كان أمر خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، أو به وبمن معه في تلك الحجة (حجة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد. وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله: والله إني لانهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها
[ 91 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واما الاستدلال عليه بأن في النهي اخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية ابي
موسى من قوله: ان نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: واتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدى انتهى، فقد عرفت ان الكتاب يدل على خلافه، واما ان ترك التمتع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه لم يحل حتى نحر الهدى ففيه: اولا: انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الاخر التي مر بعضها آنفا. وثانيا: ان الروايات ناصة على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها، وانه صلى الله عليه وآله وسلم اهل بالعمرة واهل ثانيا بالحج، وانه خطب وقال: أبا لله تعلمون ايها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية ان حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حج قران وان المتعة كانت تطلق على حج القران ! وثالثا: ان مجرد عدم حلق الراس حتى يبلغ الهدى محله ليس احراما للحج ولا يثبت به ذلك، والآيه ايضا تدل على ان سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة. ورابعا: هب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتى بغير التمتع لكنه امر جميع اصحابه ومن معه بالتمتع، وكيف يمكن ان يعد ما شأنه هذا سنته ؟ وهل يمكن ان يتحقق امر خص به رسول الله نفسه ويأمر أمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس ؟ ! واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحوا بهن حجاجا انتهى، وكما في بعض الروايات قد علمت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله واصحابه ولكني كرهت ان يعرسوا بهن في الاراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم، والله
ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه ! ومن أعجب
[ 92 ]
الامر أن الآيه التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما ؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه ! واعجب منه: ان الاصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية ! وامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام خطيبا ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا. واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي عن سعيد بن المسيب من قوله: مع ان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى. ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على ان الله سبحانه يرد عليه في نظير المسأله بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ان الله عليم حكيم) التوبة - 28. واما الاستدلال عليه بإن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي عليه السلام ولكنا كنا خائفين انتهى، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج
فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه امر حتى يذهب ايام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث. ففيه: ان الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت ان الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون
[ 93 ]
قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية. على أن جميع الروايات ناصة في ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتى بحجه تمتعا، وانه أهل بإهلالين للعمرة والحج. واما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في روايتي الدر المنثور عن ابي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد انه كان حكما خاصا لاصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه انه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية. على ان إنكار بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وابي موسى ومعاوية (وروي ان منهم ابا بكر) ينافي ذلك ! واما الاستدلال عليه بالولاية وانه إنما نهى عنه بحق ولايته الامر وقد فرض الله طاعة أولي الامر إذ قال (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم الآية) النساء - 54، ففيه ان الولاية التي جعلها القرآن لاهلها لا يشمل المورد. بيان ذلك: ان الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما انزله الله على رسوله كقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم) الاعراف - 3، وما بينه رسول الله مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله)
التوبه - 29، وقوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر - 7، فالمراد بالايتاء الامر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الاوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون) المائدة - 45، وفي موضع آخر (فاولئك هم الفاسقون) المائدة - 47، وفي موضع آخر (فاولئك هم الكافرون) المائدة - 44، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الاحزاب - 36، وقال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص - 68 فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك، وقد نص القرآن على انه
[ 94 ]
كتاب غير منسوخ وان الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت - 42، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الامة، أولي الامر فمن دونهم. ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) إنما يجعل لاولى الامر حق الطاعة في غير الاحكام فهم ومن دونهم من الامة سواء في انه يجب عليهم التحفظ لاحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة اولي الامر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الامة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة. فكما ان الواحد من الناس له ان يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الاكل له من مال نفسه، وله ان يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، وله ان يترافع إلى الحاكم إذا نازعه احد في ملكه، وله ان يعرض عن الدفاع مع جواز
الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الاحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له ان يأخذ الربا، ولا له ان يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رأى صلاح نفسه في ذلك لان ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الامر له ان يتصرف في الامور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الاحكام الالهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الاسلام حينا، ويمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الانفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة. وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين ان يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الامر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة. ولو جاز لولي الامر ان يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعه إلى يوم القيمة
[ 95 ]
معنى البتة، فما الفرق بين ان يقول قائل: ان حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين ان يقول القائل: ان اباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم اهمالها، أو ان اجراء الحدود مما لا تهضمه الانسانية الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله ؟ ! وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور: اخرج اسحق بن راعويه في مسنده، واحمد عن الحسن: ان عمر بن الخطاب هم ان ينهي عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل عمر. * * * ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام - 204. وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد - 205. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد - 206. ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد - 207. (بيان) تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما ان الآيات السابقة اعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ)، تشتمل على تقسيم لهم غير ان تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الايمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة. قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا (الخ) اعجبه الشئ
[ 96 ]
اي راقه وسره، وقوله: في الحياة الدنيا، متعلق بقوله: يعجبك، اي ان الاعجاب في الدنيا من جهة ان هذه الحياة نوع حياة لا تحكم الا على الظاهر، واما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الانسان وهو متعلق الحياة بالدنيا الا ان يستكشف شيئا من امر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، والمعنى انه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والامه وهو اشد الخصماء للحق خصومة، وقوله: الد، افعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألد الخصام اشد خصومة.
قوله تعالى: وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها (الخ) التولي هو تملك الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالاثم، الدال على ان له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو العمل والاسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأوتي سلطانا وتولى امر الناس سعى في الارض ليفسد فيها، ويمكن ان يكون التولي بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة، اي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الارض لاجل الفساد والافساد. قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل، ظاهرة انه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها اي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولما كان قوام النوع الانساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: اما التوليد فظاهر، واما التغذي فانما يركن الانسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الاصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى انه يفسد في الارض بإفناء الانسان وابادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل. قوله تعالى: والله لا يحب الفساد، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون
[ 97 ]
والوجود (الفساد التكويني) فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد، ولا حياة إلا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه. وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله انما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به اعمال عباده فيصلح اخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة
البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه في قوله تعالى: كان الناس أمه واحدة. فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الارض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الاخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الانسانية، وفساد الدنيا، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم اكتاف هذه الامة الاسلامية، وتصرفهم في امر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين الا وبالا، وللمسلمين الا انحطاط، ا وللامة الا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولا الانسانية الا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الارض، وذلك بهلاك الدين اولا، وهلاك الانسانية ثانيا، ولهذا فسر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية كما سيأتي انشاء الله. قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله اخذتة العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد، العزة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر ان قوله: بالاثم متعلق بالعزة، والمعنى انه إذا أمر بتقوى الله اخذتة العزة الظاهرة التي اكتسبها بالاثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك ان العزة المطلقة انما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: (تعز من تشاء وتذل من تشاء) آل عمران - 26، وقال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المنافقين - 8، وقال تعالى: (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) النساء - 139. وحاشا ان ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب اثما أو شرا فهذه العزة انما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الامر عزة بحسب ظاهر الحياه الدنيا
[ 98 ]
لا عزة حقيقية اعطاها الله سبحانه لصاحبها. ومن هنا يظهر ان قوله: بالاثم ليس متعلقا بقوله: اخذته، بأن يكون الباء
للتعدية، والمعنى حملته العزة على الاثم ورد الامر بالتقوى، وتجيبه الآمر بما يسوئه من القول، أو يكون الباء للسببية، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الاثم الذي اكتسبه، وذلك ان اطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم امضائها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالاثم. واما قوله تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم اهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) ص - 2، فليس من قبيل التسمية والامضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم اهلكنا من قبلهم (الخ) فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا اصيلة. قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله (الخ)، مقابلته مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله (الخ) يفيد ان الوصف مقابل الوصف أي كما ان المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك، بيان ان هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالاصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ومن الناس من يشري نفسه (الخ)، بيان ان هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد الا ما اراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له الا بربه ولا ابتغاء له الا لمرضات الله تعالى، فيصلح به امر الدين والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الانسانية، ويدر به ضرع الاسلام، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر اعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى:
ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) البقرة - 251، وقال تعالى:
[ 99 ]
(ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) الحج - 40، وقال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) الانعام - 89، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الارض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) التوبة - 111، إلى غير ذلك من الآيات. (بحث روائي) في الدر المنثور عن السدي: في قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك الآية، انها نزلت في الاخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وقال: جئت أريد الاسلام ويعلم الله اني لصادق فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه فذلك قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله: وإذا تولى سعى في الارض الآية. وفي المجمع عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لانه يظهر خلاف ما يبطن، قال: وهو المروي عن الصادق عليه السلام. اقول: ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات. وفي بعض الروايات عن أئمه اهل البيت انها من الآيات النازلة في أعدائهم. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل: أن المراد
بالحرث ههنا الدين، والنسل الانسان. اقول: وقد مر بيانه، وقد روي: ان المراد بالحرث الذرية والزرع، والامر التطبيق سهل. وفي امالي الشيخ عن علي بن الحسين عليه السلام: في قوله تعالى: ومن الناس من يشري
[ 100 ]
نفسه الآية، قال: نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في شأن ليلة الفراش، ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبي وغيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما اردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت الينا ولا مال لك وتخرج انت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني ؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين. اقول: ورواه بطرق أخرى في بعضها ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية، وفي بعضها نزلت في صهيب وابي ذر بشرائهما انفسهما بأموالهما وقد مر ان الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء. وفي المجمع عن علي عليه السلام: ان المراد بالآية الرجل يقتل على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. اقول: وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص. يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 208. فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم - 209. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الامور - 210.
[ 101 ]
(بيان) هذه الآيات وهي قوله: يا ايها الذين آمنوا إلى قوله: ألا إن نصر الله قريب الآيه سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل، وانه لم ينفصم وحدة الدين، ولا ارتحلت سعادة الدارين، ولا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الامم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الامة لكن الله يعدهم بالنصر: الا ان نصر الله قريب. قوله تعالى: يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، السلم والاسلام والتسليم واحدة وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو امر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، ويجب على الجميع ايضا ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله صلى الله عليه واله وسلم، وايضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر إليه، ولا يذعنوا لانفسهم صلاحا باستبداد من الرأي ولا يضعوا لانفسهم من عند انفسهم طريقا يسلكونه من دون ان يبينه الله ورسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف. ومن هنا ظهر: ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من امر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم،
وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية. وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك ايضا: فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك، وإذا كان سالكه هو المؤمن، وطريقه إنما هو طريق الايمان فهو طريق شيطاني في الايمان، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم
[ 102 ]
فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، واتباعه اتباع خطوات الشيطان. فالآية نظيرة قوله تعالى: (يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) البقرة - 169، وقد مر الكلام في الآية، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر) النور - 21، وقوله تعالى: كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) الانعام - 142، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران - 103، وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام - 153، ويستفاد من الآية أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس. قوله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات، الزلة هي العثرة، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم - والزلة هي اتباع خطوات الشيطان - فاعلموا ان الله عزيز غير مغلوب في امره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في
شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، ويجريه فيكم من غير ان يمنع عنه مانع. قوله تعالى: هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام (الخ)، الظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به، وظاهر الآية ان الملائكه عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله شصلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما اوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبئ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الامور، فلا مفر من حكمه وقضائه، فالسياق يقتضي ان يكون قوله: هل ينظرون، هو الوعيد الذي اوعدهم به في قوله
[ 103 ]
تعالى في الآية السابقة فاعلموا ان الله عزيز حكيم. ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الاجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر والحاجة والنقص، فقد قال تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى - 11، وقال تعالى: (والله هو الغني) الفاطر - 15، وقال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شئ من الصفات أو الافعال الحادثة إليه تعالى ينبغي ان يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافى صفاته العليا واسمائه الحسنى تبارك وتعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الاتيان إليه تعالى كقوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفا صفا) الفجر - 22، وقوله تعالى: (فأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا) الحشر - 2، وقوله تعالى: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) النحل - 26، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست اسمائه كالاحاطة ونحوها ولو مجازا، وعلى هذا فالمراد بالاتيان في قوله تعالى: أن يأتيهم الله الاحاطة
بهم للقضاء في حقهم. على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الافعال عن استقلال الاسباب ووساطة الاوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها إلى امره كقوله تعالى: (الله يتوفى الانفس) الزمر - 42، وقوله تعالى: (يتوفيكم ملك الموت) السجدة - 11، وقوله تعالى: (توفته رسلنا) الانعام - 61، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى: في أمر الملائكة بأمره يعملون) الانبياء - 27، وكذلك قوله تعالى: ان ربك يقضي بينهم) يونس - 93، وقوله تعالى: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن - 78، وكما في هذه الآية: ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية وقوله تعالى: هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) النحل - 33. وهذا يوجب صحة تقدير الامر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: جاء ربك، ويأتيهم الله، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله.
[ 104 ]
فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك، وذلك أن أمثال قوله تعالى: " والله هو الغني " الفاطر - 15، وقوله تعالى: (العزيز الوهاب) ص - 9، وقوله تعالى (اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه - 50، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها، ملئ بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور
فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه اسم شئ فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته. فالمجئ والاتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، وركوبها كل سهل ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة. وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: إن الله عزيز حكيم، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " النحل - 33، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: " ولكل أمة رسول " يونس - 47، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى: " وأقم وجهك للدين حنيفا " الروم - 30، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.
[ 105 ]
قوله تعالى: وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور، السكوت عن ذكر فاعل القضاء، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: وإلى الله ترجع الامور، لاظهار الكبرياء على ما يفعله الاعاظم في الاخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.
(بحث روائي) قد تقدم في قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع، وفي بعض الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مر مرارا في نظائره. وفي التوحيد والمعاني عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت، وعن قول الله عز وجل: " وجاء ربك والملك صفا صفا " قال: ان الله عز وجل لا يوصف بالمجئ والذهاب، تعالى عن الانتقال وانما يعني به وجاء امر ربك والملك صفا صفا. اقول: قوله عليه السلام يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائه. والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره فإن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر، قال تعالى: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء - 27، وقال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " النحل - 2. وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الانكاري في قوله: هل ينظرون الا ان يأتيهم الله " الخ " لانكار مجموع الجملة لا لانكار المدخول فقط، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا امرا محالا وهو: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات، وفيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات
[ 106 ]
ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، والمؤمنون
لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على ان الكلام لو كان مسوقا لافاده ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في انفسهم وعتو عتوا كبيرا " الفرقان - 21، وقوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " الانبياء - 26. على انه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: في ظلل من الغمام، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر. (بحث روائي آخر) إعلم أنه ورد عن أئمه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام، تفسيرها بظهور المهدي عليه السلام كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر عليه السلام بطريقين. ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرقة، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها، ومنهم - وهم أمثل طريقة - من ينقلها ويقف عليها من غير بحث. وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة، وربما لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه، وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: " إن الموت بحسب العناية الالهية
[ 107 ]
لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل، هذا محال إلا إن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شئ وما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة، هذا. ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثنائا ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب. وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها. وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الاولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.
وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن أئمه أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الاول، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة ه الدلالة قابلة الاعتماد، وسيجئ التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: " ويوم نحشر من كل امة فوجا
[ 108 ]
ممن يكذب بآياتنا " النمل: 83 وغيره من الآيات. على أن الآيات بنحو الاجمال دالة عليها كقوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " البقرة - 214، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الاموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: " والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل ". على أن هذه القضايا التي اخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها. ولنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من اوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الاسباب ولاشاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الاوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا
شئ يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم. ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا كما ان النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للاموات منا لا تدفع الدنيا، ولا الدنيا تدفعها، قال تعالى: (تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) النحل - 63. فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الاسباب عن
[ 109 ]
توهم الميت، فعن علي عليه السلام (من مات قامت قيامته)، وسيجئ بيان الجميع إنشاء الله. والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه اغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الاموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا، ويفصل الحق من الباطل. وهذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظهور لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي عليه السلام أيضا تمام لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة وقد ورد عن أئمة أهل البيت: (أيام الله ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة) وفي بعضها: (أيام الله ثلاثة: يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة)، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم
عليه السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه. * * * سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمه الله من بعد ماجائته فإن الله شديد العقاب - 211. زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب - 212.
[ 110 ]
(بيان) قوله تعالى: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية (الخ) تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى: فإن زللتم مبعد ماجائتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم، الاية من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر. يقول: هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الامة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على العالمين، سلهم كم آتيناهم من آية بينة ؟ وانظر في امرهم من اين بدئوا والى اين كان مصيرهم ؟ حرفوا الكلم عن مواضعه، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند انفسهم بغيا بعد العلم، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الانداد، والاختلاف وتشتت الآراء، وأكل بعضهم بعضا، وذهاب السودد، وفناء السعادة، وعذاب الذلة، والمسكنة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه: من يبدل نعمة واخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه، والله شديد العقاب، وعلي هذا فقوله: ومن يبدل نعمة الله إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم، سنة جارية. قوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا، في موضع التعليل لما مر، وإن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فانها إذا زينت لانسان دعته إلى هوى النفس
وشهواتها، وأنست كل حق وحقيقة، فلا يريد الانسان إلانيلها: من جاه ومقام ومال وزينة، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شئ لاجلها وفي سبيلها، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء ومايلائم سوددهم ورئاستهم، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، وكنا شاهدناه في بني أسرائيل من قبل، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من ان يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة
[ 111 ]
الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب. قوله تعالى: والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الخ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل. * * * كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 213. (بيان) الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: ان الانسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أول اجتماعه امة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفعت بالتبشير والانذار:
بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، وإرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدء والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والاحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلابغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، والله يهدي
[ 112 ]
من يشاء إلى صراط مستقيم. فالدين الالهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني، والمصلح لامر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظم للانسان سلك حياته الدنيوية والاخروية، والمادية والمعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع (الحياة الاجتماعية والدينية) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة. وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون مختلفة. (بدء تكوين الانسان) ومحصل ماتبينه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولاكل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الارض، فقد كانت الارض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع واليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: (انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل) الحجرات - 13، وقال تعالى: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) الاعراف - 189، وقال تعالى: (كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الانواع وان الانسان مشتق
من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الامكانات الذهنية، إذ لااعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع البحث، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59.
[ 113 ]
(تركبه من روح وبدن) وقد أنشأ الله هذا النوع، حين ما أنشاء، مركبا من جزئين ومؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، وجوهر مجرد هي النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية، ثم يرجع الانسان إلى الله سبحانه، قال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشاناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين ثم انكم بعد ذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون " المؤمنون - 16، (انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر)، وفي هذا المعنى قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ص - 72، وأوضح من الجميع قوله سبحانه: " وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " السجدة - 11، فإنه تعالى أجاب عن اشكالهم بتفرق الاعضاء والاجزاء واستهلاكها في الارض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفيهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم ! فأبدانهم تضل في الارض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولافائتة ولامستهلكة وسيجئ انشاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له.
(شعوره الحقيقي وارتباطه بالاشياء) وقد خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد، ففيه قوة الادراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه امر الحدوث والوقوع، فله إحاطة مابجميع الحوادث، قال تعالى: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق - 5، وقال تعالى: " والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
[ 114 ]
والابصار والافئدة " النحل - 78، وقال تعالى: " وعلم آدم الاسماء كلها " البقرة - 31، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شئ، ويستطيع الانتفاع من كل امر، اعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة واداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، وسلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة - 29، وقال تعالى: " وسخر لكم ما في السموات والارض جميعا منه " الجاثية - 13، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الاشياء مسخره للانسان. (علومه العملية) وانتجت هاتان العنايتان: اعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي ان يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الاشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه. توضيح ذلك: انك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان، هذا الموجود الارضي الفعال بالفكر والارادة، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه انه في افعاله الحيوية يوسط إدراكات وافكار جمة غير محصورة
يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ. ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لان يتوسط بين الانسان وبين افعاله الارادية كمفاهيم الارض والسماء والماء والهواء والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات، وكمعاني قولنا: الاربعة زوج، والماء جسم سيال، والتفاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الادراكية، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا
[ 115 ]
(ما نحكي عنه بلفظ أنا)، والكليات الاخر المعقولة، فهذه العلوم والادراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إراده ولاصدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية. وهناك شطرآخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا وقبحا وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الافكار والادراكات لاهم لنا إلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الارادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة. وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الامر كذلك في القسم الاول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولاحاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عما لايلائمها يوجب
حدوث صور من الاحساسات: كالحب والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثم هذه الصور الاحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح، وينبغي ولا ينبغي، ويجب ويجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الامر، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة لها إلاالعمل، (وهي المسماة بالعلوم العملية) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر. والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، والاخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى - 3، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور. وقال تعالى في الانسان خاصة: " ونفس وما سواها فألهمها فجور ها وتقويها " الشمس - 8، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإلهام فطري منه تعالى، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي، وهي العلوم العملية التي لااعتبار
[ 116 ]
لها خارجة عن النفس الانسانية، ولعله إليه الاشارة باضافة الفجور والتقوى إلى النفس. وقال تعالى: " وما هذه الحياة الدنيا إلالهو ولعب وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي أمور خيالية لاواقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى ان الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الانسان وأحواله. فالموجود بحسب الواقع من " الانسان الرئيس " إنسانيته، وأما رئاسته فإنما
هي في الوهم، ومن " الثوب المملوك " الثوب مثلا، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، وعلى هذا القياس. (جريه على استخدام غيره انتفاعا) فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة، ومن جملة هذه الافكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة، ويعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، واستخدام الابرة للخياطة، واستخدام الاناء لحبس المايعات، واستخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها. وبذلك يأخذ الانسان ايضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك يستخدم ايضا انواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها
[ 117 ]
وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه. (كونه مدنيا بالطبع) غير ان الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، وهذا حكمه
بوجوب اتخاذ المدنية، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعي. فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبدا، وهذا معنى ما يقال: إن الانسان مدني بالطبع، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الامم القوية، وعلى ذلك جرى التاريخ ايضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية. وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: " إنه كان ظلوما جهولا " الاحزاب - 72، وقوله تعالى: " إن الانسان خلق هلوعا " المعارج - 19، وقوله تعالى: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم - 34، وقوله تعالى: " إن الانسان ليطغى ان رآه استغنى " العلق - 7. ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع ان المشهود دائما خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه
[ 118 ]
الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه. (حدوث الاختلاف بين افراد الانسان) ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والاخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من
الضعيف اكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير ان ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج، وداعيا إلى هلاك الانسانية، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة. وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس - 19، وقوله تعالى: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " هود - 119، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها: " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية. وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الانسانية الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الافكار والافعال بوجه، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الاحساسات والادراكات والاحوال في عين انها متحدة بنحو، إو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الاغراض والمقاصد والآمال، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الافعال، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع. وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه، وتحميلها الناس. والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد طريقين:
[ 119 ]
الاول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة، مع الغاء المعارف الدينية، من التوحيد والاخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعي، وجعل الاخلاق تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق
حال الاجتماع من الاخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، ويوما الخلاعة، ويوما الصدق، ويوما الكذب، ويوما الامانة، ويوما الخيانة، وهكذا. والثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الاخلاق واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية. وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الامة المجتمعة من الانسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع، وهلاك الحقيقة الانسانية، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الامد، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوك الانسان فيها، واكتسابه الاحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، وإذا بنى الانسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه، واباد حقيقته. فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم. فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والامتعة، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.
[ 120 ]
وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على اساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الامتعة الموجودة، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا. وقد أخطا القائلان جميعا، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك. والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الامتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم. (رفع الاختلاف بالدين) ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والاخلاق والافعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على اساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وانهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الالهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: " إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف - 40، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية، فقارن بعثة الانبياء بالتبشير والانذار بإنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " الجاثية - 24، فإنهم إنما
[ 121 ]
كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لان القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحيا بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات. وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الاحوال والاعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها. وكذا قوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم - 30، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحق والعلم، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الانفال - 24، وهذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، وقال تعالى: " أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب " الرعد - 19، وقال تعالى: " قل هذه سبيلى ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين " يوسف - 108، وقال تعالى: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب " الزمر - 9، وقال تعالى: " يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة - 129، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به، وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل. فما أبعد من الانصاف قول من يقول: ان الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا
فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الاثبات إثباتا للعدم، وقد أخطأوا في ظنهم، وخبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي امثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله برئ من المشركين ورسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطأوا
[ 122 ]
في حسبانهم، والدين أجل شأنا من ان يدعو إلى الجهل والتقليد، وامنع جانبا من ان يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جائه. (الاختلاف في نفس الدين) وبالجملة فهو تعالى يخبرنا ان الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين. ثم إنه تعالى يخبرنا ان الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا، قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، إلى ان قال، وما تفرقوا إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم " الشورى - 14، وقال تعالى: " وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يونس - 19، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " الاعراف - 24 فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم - 30
فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة. (الانسان بعد الدنيا) ثم إنه يخبرنا ان الانسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير ان حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، ومعنى كون الحياة انفرادية، انها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني،
[ 123 ]
والتشارك والتناصر، بل السلطنة هناك في جميع احكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر اصلا، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون والتشارك، لكن الانسان خلفه وراء ظهره، وأقبل إلى ربه، وبطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلا صحابة عمله، ونتيجة حسناته وسيئاته، ولا يظهر له إلا حقيقة الامر ويبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا " مريم - 80، وقال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام - 94، وقال تعالى: " هنالك تبلوا كل نفس ما اسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس - 30، وقال تعالى: " مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " الصافات - 26، وقال تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار " ابراهيم - 48، وقال تعالى: " وان ليس للانسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى " النجم - 41، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على ان الانسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة اجتماعية مبنية على التعاون
والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، ولايجنى إلا ثمرة عمله ونتيجة سعيه، ظهر له ظهورا فيجزى به جزاء. قوله تعالى: كان الناس إمة واحدة، الناس معروف وهو الافراد المجتمعون من الانسان، والامة هي الجماعة من الناس، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله " النحل - 120، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: " وادكر بعد أمة " يوسف - 45، أي بعد سنين وقوله تعالى: " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة " هود - 8، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " المؤمنون - 52، وفي قوله تعالى: " أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " الانبياء - 92، وأصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على
[ 124 ]
جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحح لاطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت. وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في امور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والاراء، والدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فقد رتب بعثة الانبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي. وهذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الانساني لا يزال يرقى
في العلم والفكر، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة، عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه اقل عرفانا برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الانسان الاولي الذي لا يوجد عنده الا النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة وحدود العيش، كأنهم ليس عندهم الا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شئ من الصيد والايواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والاخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الانسان في أقدم عهوده، ومن المعلوم ان قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، ولا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لافراده الا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب. غير ان الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما اشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلب، وهو كل يوم يزداد علما وقوة على طرق الاستفادة، ويتنبه بمزايا جديدة، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الاقوياء وأولوا السطوة وارباب
[ 125 ]
القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنية. ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدل امرهما، ويصلح شأنهما، وذلك كالانسان تتسابق قواه في افعالها، ويؤدي ذلك إلى التزاحم، كما ان جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة، وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكل بما يناسبه، ويقدر فعل كل واحدة من هذه
القوى الفعالة بما لا يزاحم الاخرى في فعلها. والتنافي بين حكمين فطريين فيما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الانسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، ولكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الانبياء بالتبشير والانذار، وانزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: ان المراد بالآية ان الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لان الاختلاف انما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، والبغي من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن ان الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، وقد مر بيانه، وعن ان الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الانبياء وانزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف، واشاعة الفساد، واثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الاخلاق مع استبطانها ؟ ويظهر به ايضا: فساد ما ذكره آخرون ان المراد بها ان الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: فبعث الله النبيين " الخ "، وقد غفل هذا القائل عن ان الله سبحانه يذكر ان هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، انما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والانزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين ؟
[ 126 ]
ويظهر به ايضا ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو اسرائيل حيث ان الله يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: " فما اختلفوا الامن بعدما
جائهم العلم بغيا بينهم " الجاثية - 16، وذلك أنه تفسير من غير دليل، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم. وأفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم عليه السلام، والمعنى ان آدم عليه السلام كان أمد واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، فبعث الله النبيين " الخ "، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه. ويظهر به ايضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " الفتح - 7، فهو دال على الثبوت، والمعنى: ان الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الانسان مدني بالطبع لايتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، واتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه ويستحقه في وجوده، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتا من الاوقات، يدل عليه ما وصل الينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير ان ذلك يؤدي إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، وبلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف. فمحصل المعنى ان الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الانبياء وانزل الكتاب. ويرد عليه اولا: انه اخذ المدنية طبعا اوليا للانسان، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك، بل امر تصالحي اضطراري، وان القرآن ايضا يدل على خلافه.
وثانيا: ان تفريع بعث الانبياء وإنزال الكتب على مجرد كون الانسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف،
[ 127 ]
وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام. وثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافا واحدا، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول وما اختلف فيه اي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغيا بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأخذ الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه. قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " الخ " عبر تعالى بالبعث دون الارسال وما في معناه لان هذه الوحدة المخبر عنها من حال الانسان الاولي حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الذي هو الاقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون ان يعبر بالمرسلين أو الرسل، على ان البعث وانزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وخحياتهم، وإنبائهم انهم مخلوقون لربهم، وهو الله الذي لا آله إلا الله، وأنهم سالكون كادحون إلى الله يوم عظيم، واقفون في منازل من منازل السير، لاحقيقة له إلالعب وغرور، فيجب أن يراعو ذالك في هذه الحياة وأفعالها، وان يجعلو نصب اعينهم انهم من أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، ولذالك
عبر بالبنين، وفي أسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الانبياء في تلقيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في اخر البيان، وأما التبشير والانذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن اتقى، والوعيد لعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن گذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال لغير ربهم من ثواب أو عقاب. قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفو فيه، الكتاب
[ 128 ]
فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من اطلاقه وان استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة انما يبرم بالكتابة غالبا شاع اطلاقه على كل حكم مفروض واجب الا أو كل بيان بل كل معى لا يقبل النقض في أبرامه وقد كثر استعماله بهذا المعنى في آلقران، وبهذا المعنى سمي آلقران كتاباوهو كلام ألهي، قال تعالى: " كتاب انزلناه اليك مبارك " ص - 29، وقال تعالى: " ان الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " النساء - 103 وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على ان المعنى: كان الناس امة واحدة فاختلفوا فبعث الله " الخ " كما مر. واللام في الكتاب اما للجنس واما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليه السلام لقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى " الشورى - 13، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين ان الشريعة النازلة على هذه الامة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الانبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الانبياء العظام: نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولما كان قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على ان الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام اولا: على ان لنوح
عليه السلام كتابا متضمنا لشريعة، وانه المراد بقوله تعالى: وانزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إما وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس. وثانيا: ان كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية. وثالثا: ان هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس أمة واحدة الآية كان قبل بعثة نوح عليه السلام وقد حكم فيه كتابه عليه السلام. قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها " الروم - 30،
[ 129 ]
نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي. وفي قوله تعالى: إلا الذين أوتوه، دلالة على ان المراد بالجملة هو الاشارة إلى الاصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، وقد عذر من اشتبه عليه الامر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا، قال تعالى: " انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم " الشورى - 42، وقال تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - إلى أن قال -: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " التوبة - 106، وقال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا "
النساء - 99. على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمد والبغي، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الالهية، قال تعالى: " والذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة - 39، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم. قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب بالحق، وعند ذلك عنت الهداية الالهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحق والمعارف الالهية الذي كان عامله الاصلي بغى حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وايجابا على الله تعالى ان يهديهم لايمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: والله يهدي من يشاء إلى
[ 130 ]
صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لان له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وقد تبين من الآية اولا: حد الدين ومعرفه، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج. وثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم
استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا. وثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الاديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، وقال تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " النحل - 89، وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة - 42. ورابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها. وخامسا: السبب في بعث الانبياء وإنزال الكتب، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، وهو أن الانسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شئ ما يجذبه به إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والايجاد فما هو مقدمته كذلك، وقد قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الانسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضا: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " الاسراء - 20، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء: يمد
[ 131 ]
كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقه، وأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.
ومن المعلوم أن الانسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية ؟. وإذا كانت الطبيعة الانسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للانسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالاصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الالهية التي هي النبوة بالوحي، ولذا عبر تعالى عن قيام الانبياء بهذا الاصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع ان قيام الانبياء كسائر الامور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية. فالنبوة حالة إلهية (وإن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الادراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الانسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الانسان، وهذا الادراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، والحالة التي يتخذها الانسان منه لنفسه بالنبوة. ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدي من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود النبوة وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة. تقريره: أن نوع الانسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والايجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الانسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها ؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الالهي غير الطبيعي المسمى
[ 132 ]
بالنبوة والوحي، وهذه الحجه مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للانسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الانسانية التي يذكرها التاريخ. فلا الانسان انصرف في حين من احيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا ان فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك من انحطاط الاخلاق وفساد عالم الانسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة ؟. وأما أن الصنع والايجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا: أما البحث: فلان الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الاخلاق ومحاسن الافعال فصلاح العالم الانساني مفروض فيه، وأما التجربة: فالاسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الانسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الاسلامي وسريانه في العالم الدنيوي
على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في محل آخرأليق به. وسادسا: أن الدين الذي هو خاتم الاديان يقضي بوقوف الاستكمال الانساني،
[ 133 ]
قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للانسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه. وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الانسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، وأخلاقه الفاضلة موقفة الذي كان عليه، ولم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع اقداما خلفه القهقري، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معا. وقد اشتبه الامر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولاشك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الاسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليه السلام وموسى عليه السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الاسلام ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر. والجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للانسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الانساني، وبني أساسه على الكمال الروحي والجسمي معا، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة
والسياسة، وقد اختلط الامر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الابحاث الاجتماعية المادية (والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعا، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شئ من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية ؟. وسابعا: أن الانبياء عليهم السلام معصومون عن الخطاء.
[ 134 ]
(كلام في عصمة الانبياء) توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية، ويرجع بالاخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاه ما، ونعني بالعصمة وجود أمر في الانسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية. وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ، وبعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطأ في الامور الخارجية نظير الاغلاط الواقعة للانسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، ونظير الخطأ في تشخيص الامور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث. وكيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم عليهم السلام في جميع الجهات الثلاث: أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في
الآية: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير والانذار وانزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل، وبعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالى: " لا يضل ربي ولا ينسى " طه - 52، فبين أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والامر وله الملك والحكم، وقد بعث الانبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابد أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون ! وقال تعالى ايضا: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3، وقال ايضا: " والله غالب على أمره " يوسف - 21.
[ 135 ]
ويدل على العصمة عن الخطأ أيضا قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " الجن - 28، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والاحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم - 64، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره. وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الانبياء عليهم
السلام في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فأن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى. ويدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: " أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده " الانعام - 90، فجميعهم عليهم السلام كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى: " ومن يضلل الله فماله من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل " الزمر - 37. وقال تعالى: " من يهد الله فهو المهتد " الكهف - 17، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا " يس - 62، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته
[ 136 ]
تعالى في حق الانبياء عليهم السلام ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئه منه تعالى لساحد انبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه. ويدل عليها أيضا قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا " النساء - 68،
وقال أيضا: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الانبياء: " أولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية ابراهيم وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا " مريم - 59، فجمع في الانبياء أولا الخصلتين: اعني الانعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن هدينا واجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، والفريق الثاني غير الاول لان الفريق الاول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، وإذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا فالفريق الاول وهم الانبياء ما كانوا يتبعون الشهوات ولا يلحقهم غي، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى انهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الاطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا. وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الانبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل وإجراء المعجزات على ايديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لاهليتهم للتبليغ، والعقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي والافعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجة إليهم بالطاعة.
[ 137 ]
ولا يرد عليه: ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لاحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير، وإما لان مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الامر المطلوب، والقبض على اليسير والغض عن الكثير وشئ من الامرين لا يليق بساحته تعالى. ولا يرد عليه ايضا: ظاهر قوله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفه ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة - 123، فإن الآية وإن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الاول. ومما يدل على عصمتهم عليهم السلام قوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للارسال، وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك ارادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد الا الحق. وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا والمعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا وناهيا، محبا ومبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والافعال علوا كبيرا وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فان تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لانه تكليف ولا تكليف وارادة ولا ارادة وحب ولاحب ومدح وذم بالنسبة إلى فعل
واحد ! ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء - 165، فان الآية ظاهرة في ان الله سبحانه
[ 138 ]
يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل عليهم السلام، ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله ورضاه: من قول أو فعل، وخطاء أو معصية والا كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى. فان قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الانبياء عليهم السلام لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شئ فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية. قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الابحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي عليه السلام ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة وهو ظاهر. ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3، وكذا قوله تعالى: " إن ربي على صراط مستقيم " هود - 56، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به، فهذه الافعال الصادرة عن النبي عليه السلام على وتيرة واحدة صوابا وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي عليه السلام وفي نفسه وهي القوة الرادعة، وتوضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الافعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها
معصية ولا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية، وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلا تحققت الطاعة، وإن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الامر الالهي لما صدر إلا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقق
[ 139 ]
إلا المعصية، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصف الطاعة دائما ليس إلا لان العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، وهو الاذعان بوجوب العبودية دائما، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية. ومن جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الافعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الاسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي عليه السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الافعال الاختيارية عن كونها اختيارية، وهو ينافي افتراض كونه فردا من إفراد الانسان الفاعل بالعلم والارادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا وطاعة وهو نوع من العلم
الراسخ وهو الملكه كما مر. (كلام في النبوة) والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة (وهي وصف إرشاد الناس بالوحي) في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: وهما الرسول والنبي، قال تعالى: " وجيئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وقال تعالى: " يوم يجمع الله الرسل ماذا أجبتم " المائدة - 109، ومعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه والنبي شرف العلم بالله وبما عنده. وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.
[ 140 ]
لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى: (واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخاصا وكان رسول نبيا) مريم - 51، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى. وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الحج - 51، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وكذا قوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال إلى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: وكان رسولا نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى
وكان رسولا خبيرا بآيات الله ومعارفه، وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية لامكان ان يقال: ان النبي والرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير ان النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالحق " يونس - 47، وقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " الاسراء - 15، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء - 165، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت " عليهم السلام " من الفرق بينهما. ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " المؤمن - 78، إلى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم
[ 141 ]
بضعة وعشرون نبيا وهم: آدم، ونوح، وادريس، وهود، وصالح، وابراهيم، ولوط، واسماعيل، واليسع، وذو الكفل، والياس، ويونس، واسحق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وايوب، وزكريا، ويحيى، واسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين. وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية، قال سبحانه: (ألم تر
إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا) البقرة - 246، وقال تعالى: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " البقرة - 259، وقال تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " يس - 14، وقال تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما " الكهف - 65، وقال تعالى: " والاسباط " البقرة - 136، وهناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: " واذ قال موسى لفتاه " الكهف - 60، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم. وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيا. واعلم: ان سادات الانبياء هم أولوا العزم منهم وهم: نوح، وابراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، قال تعالى: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " الاحقاف - 35، وسيجئ ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه، قال تعالى: " واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " الاحزاب - 7، وقال تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " طه - 115. وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب، قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى " الشورى - 13، وقال تعالى: " إن هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى " الاعلى - 19، وقال تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون: إلى أن
[ 142 ]
قال: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه
هدى ونور - إلى أن قال - وأنزلنا اليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " المائدة - 51. والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كتبا، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة " الخ "، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود عليه السلام، قال تعالى: " وآتينا داود زبورا " النساء - 163، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، وشيث، وادريس، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع. واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء - 163، وسيجئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله. (بحث روائي) في المجمع عن الباقر عليه السلام أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال: وكان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا ؟ قال بل كانوا ضلالا، وذلك إنه لما انقرض آدم وصالح ذريته، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر، وكذبوا، إنما هو شئ يحكم الله في كل عام ثم قرء:
فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك وتعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، - قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول ابراهيم: لئن لم يهدني
[ 143 ]
ربي لاكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق. اقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، وأنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الالهية، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله عليه السلام في رواية المجمع المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية. وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى إبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء ورسلا ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا لما أثبتنا: ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم، وفي تركه فنائهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في احوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من احياء الموتى، وابراء الاكمه
والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. اقول: والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة. إحداها: الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية. وثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، وما ذكره عليه السلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى: " وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " البقرة - 23.
[ 144 ]
وثالثتها: مسألة عدم خلو الارض عن الحجة وسيأتي بيانه إنشاء الله. وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون ؟ قال: مأة وأربعة وعشرون الف نبي، قلت: كم المرسلون منهم ؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الانبياء ؟ قال: آدم، قلت: وكان من الانبياء مرسلا ؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم، ونوح، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي، قلت: يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وانزل التوراة، والانجيل، والزبور، والفرقان. اقول: والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي
عن الرضا عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن زيد بن علي عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة، والسيد في الاقبال عن السجاد عليه السلام، وفي البصائر عن الباقر عليه السلام. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وكان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين. اقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: " فأرسل إلى هارون " الشعراء - 13، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، وربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم ؟ فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه
[ 145 ]
بعضهم على دلالة قوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية ونظائرها. والجواب: ان النبوة أعم مصداقا من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق. وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: إنما سمي أولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى، وكل نبي كان في زمن موسى
كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهؤلاء الخمسة أولوا العزم، وهم أفضل الانبياء والرسل عليهم السلام وشريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه. اقول: وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق عليه السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية، وهم نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عليهم السلام، ومعنى أولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم: وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى. اقول: وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أولي العزم من الانبياء خمسة: نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رويناه من طرق أهل البيت، وهناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، وابراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين، وذهب بعضهم
[ 146 ]
إلى أنهم أربعة: ابراهيم، ونوح، وهود، ورابعهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك. وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام، قال ؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث. اقول: وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بطرق كثيرة.
وفي الصافي عن المجمع عن علي عليه السلام بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته. وفي النهج قال عليه السلام في خطبة له يذكر فيها آدم عليه السلام: فأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه واتخذوا الانداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسى نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، واحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة إو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الابناء، إلى ان بعث الله سبحانه محمدا لانجاز عدته، وتمام نبوته الخطبة. اقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، وقوله: واتر إليهم، أي ارسل واحدا بعد واحد، والاوصاب جمع وصب وهو المرض، والاحداث جمع الحدث وهو النازلة، وقوله نسلت القرون اي مضت، وإنجاز العدة تصديق الوعد، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشر به عيسى عليه السلام وغيره من الانبياء عليهم السلام، قال تعالى: " وتمت كلمه ربك صدقا وعدلا " الانعام - 115.
[ 147 ]
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: وكتبنا له في الالواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى
الشئ كله، وقال تعالى لعيسى: لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ. اقول: وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، وقوله عليه السلام قال الله لموسى " الخ " إشارة إلى ان قوله تعالى في الالواح من كل شئ يفسر قوله تعالى في حق التوراة: " وتفصيل كل شئ " إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شئ لم يصح قوله: في الالواح من كل شئ فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شئ تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم. (بحث فلسفي) مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للاحكام وقوانين مجعولة مشرعة وهي أمور اعتبارية غير حقيقية، وإن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الاشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا يتناول الامور المجعولة الاعتبارية. لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي، وذلك أن المواد الدينية: من المعارف الاصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو احوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، وهذه العلوم والملكات تكون صورا للنفس الانسانية تعين طريقها إلى السعادة والشقاوة، والقرب والبعد من الله سبحانه، فإن الانسان بواسطة الاعمال الصالحة والاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هي له عند الله سبحانه من القرب والزلفى، والرضوان والجنان وبواسطة الاعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقي.
[ 148 ]
وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية. توضيح ذلك: ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، ويتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية. واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد، والخوف والرجاء، والرغبة إلى المنافع، والرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضا متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، وخسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى. فان قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى، فأي حاجة إلى بعث الانبياء. قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الاشياء كما مر بيانه سابقا، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهوية والغضبية، وأما القوة الناطقة
القدسية فهي بالقوة، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.
[ 149 ]
(بحث اجتماعي) فان قلت: هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير ولكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالاخرة على هيئد صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الاصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالاخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الافراد، ويشهد به ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنى الصلاح وتتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الانسان، فمنها ما بلغ مبتغاه وامنيته كما في بعض الامم مثل سويسره، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول. قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه بالقوة، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة والحاضرة متوجهة إلى الكمال، ونيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، وقرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو
الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان، فإن الانسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم وروح، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له وسعادة بالنسبة إليه، وحقيقته هذه الحقيقة. فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الانساني، وإن كان في قصدها هداية الانسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه، وضلاله عن
[ 150 ]
صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، والهداية الالهية. فان قلت: لو صحت هذه الدعود النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية، كما ان هداية الانسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، وليس كذلك، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا ولا تقبله الاجتماعات الانسانية ؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة. قلت: أولا اثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه الا مكابر، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا وألوفا من الافراد في جانب السعادة، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد والاستكبار، والايمان والكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة احيانا من الزمان، على ان الدنيا لم تقض عمرها بعد، ولما ينقرض العالم الانساني، ومن الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الانسانية
الحقيقية وسعادة الفضائل والاخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به. وثانيا: أن الابحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الاخلاق تثبت أن الافعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالاحوال والملكات من الاخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانية، ولها تأثير في النفوس، فالافعال آثار النفوس وصفاتها، ولها آثار في النفوس في صفاتها، ويستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات والاخلاق، وأصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا. فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من اقدم عهودها، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الانسان الاجتماعية من حيث الاخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينية آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.
[ 151 ]
بل حقيقة الامر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أمم وجماعات هامة، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الايمان، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلا بقايا من آثاره ونتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقية في جميع الشؤون الانسانية، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب، وتدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعا ويدعو إلى إصلاح الجميع. فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.
ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، وأهملت أمر الدين والاخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، ولو كانت أصل الفطرة كافيه، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك. على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهريا، فتأخر هؤلاء وتقدم أولئك، والكلام طويل الذيل. وبالجملة الاصلان المذكوران، أعني السراية والوراثة، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي. فان قلت: فعلى هذا فما فائدد الفطرة فإنها لا تغني طائلا وإنما أمر السعادة بيد النبوة ؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة. قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة، فإن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة إلى الانسان ليس أمرا
[ 152 ]
خارجا عن هذا النوع، ولا غريبا عن الفطرة فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، وهذا المعين الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الانسانية وكمالها، منضما إلى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلا، وإلا كان ما يعود منه إلى الانسان أمرا غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الانسان في
وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع، وهو شعور خاص وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الالهية كما أن للبالغ من الانسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الافراد غير البالغين بالفعل، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الانسانية، والشعور شعور مرتبط بالفطرة. وبالجملة لا حقيقة النبوه أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبيا، وخارج عن فطرته، ولا السعادة التي تهتدي سائر الامة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم وفطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني، وإلا لم تكن كمالا وسعادة بالنسبة إليهم. فان قلت: فيعود الاشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة. فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميز من بين افراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، وعقولهم سليمة عن الاوهام والتهوسات ورذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، وسعادة الانسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، وعمران الدنيا والآخرة، فإن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي. قلت: كلا ! وإنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، ولا ما تستتبعه. اما اولا: فلان ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد. فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل،
[ 153 ]
وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل،
وما يسعد به الانسان الاجتماعي. فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، وروحه الطاهر الذي يفيض هذه الافكار إلى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الامين وهو جبرائيل، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه، والكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر والفساد، وعلى هذا القياس. وهذا فرض فاسد، وقد مر في البحث عن الاعجاز، أن النبوة بهذا المعنى لان تسمى لعبة سياسية أولى بها من ان تسمى نبوة إلهية. وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة، وتقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف، واحتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، وقد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الانسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده. ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي، والطريق غير الطريق. ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، ويعطيه
عجائب من المعارف والمعلومات، وراء ما يناله العقل والفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من اوروبا مثل جمز الانجليزي وغيره.
[ 154 ]
فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني. واما ثانيا: فلان المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح " عليهم السلام " وغيرهم - وبعضهم يصدق بعضا - وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق، فإن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام عليهم السلام أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة، ونشأة المادة، وحكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، ولا يرتضيه ذوق التخاطب. وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان. فان قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقية ؟ ! وقد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للانسان إلى سعادته وكماله النوعي وجب إن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان إليه. قلت: كون هذا الامر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، وكذا كونه أمرا من قبيل
الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الامر الخارق للعادة ولا الامر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع المحال، وللعقل طريق إلى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فان له أن يستدل على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الاني فيثبت بذلك وجوده، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن ان يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي
[ 155 ]
يأتي به النبي على سعادة الانسان في دنياه وآخرته، وتارة من جهة اللوازم وهو ان النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء الطبيعة وهو الهها الذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها إلى كماله وسعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة وهو التصرف بالوحى، ولو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا وكان النبي واجدا لها لكان من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة، وهذا الامر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلمنا في الاعجاز في تفسير قوله تعالى: " وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية " البقرة - 23. فان قلت: هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحى النبوة وأثبتها النبي بالاعجاز، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط ؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطأ في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ. ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن
الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني، وإضلاله هذا النوع في سيرة إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس. قلت: الابحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الانواع الوجودية إلى كماله الوجودي وسعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الانواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، ومن المعلوم ان الامور الخارجية من حيث انها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في الخارج ! وإنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والامور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق والكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث
[ 156 ]
مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي، ولا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطا وخطائا في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط. فظهر: ان هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، وهي المصونية عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في
مقام العمل والعبودية، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعاده الانسان التكوينية وقوعا تكوينيا، ولا خطاء ولا غلط في التكوين. وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير والتأثر ؟ فإن الشعور الفطري وان كان أمرا غير مادي، ومن الامور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا انه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، وان سلم انه غير مادي في ذاته فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد، ومع امكان عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة. والجواب: انا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري، ولا معنى لتحقق الخطأ في الوجود الخارجي.
[ 157 ]
وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير والفساد، وانما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري (وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري) وذلك ان من الشعور شعور الانسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغير والخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، وتتمة هذا الكلام موكول إلى محله.
فقد تبين مما مر امور: احدهما: انسياق الاجتماع الانساني إلى التمدن والاختلاف. ثانيها: ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة. ثالثها: ان رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الانسان لا غير. رابعها: ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الانبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان. خامسها: ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية. سادسها: ان هذه النتائج (ويهمنا من بينها الثلثة الاخيرة أعني: لزوم بعثة الانبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكري سنخا، وكون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، وهو سير كل واحد من الانواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها، والانسان أحد هذه الانواع، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد ان يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مر بيانه.
[ 158 ]
* * * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. ألا إن نصر الله قريب - 214.
(بيان) قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض. قوله تعالى: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائا، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإن المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم. وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن اصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا... وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم ان تدخلوا الجنة " الخ "، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحق ان ام لافاده الترديد، وأن الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات على نعمة الدين، والاتفاق والاتحاد فيه ام لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة " الخ ". قوله تعالى: ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون
[ 159 ]
الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثل الشئ ويحضره
ويشخصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا " الجمعة - 5، ومنه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: " أنظر كيف ضربوا لك الامثال " الفرقان - 9، وإنما قالوا له صلى الله عليه وآله وسلم: مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: مستهم البأساء والضراء إلخ فالمراد به المعنى الاول. قوله تعالى: مستهم البأساء والضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الاجمال الذي دل عليه بقوله: ولما ياتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله: مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الانسان في خارج نفسه كالمال والجاه والاهل والامن الذي يحتاج إليه في حيوته، والضراء هي الشدة التي تصيب الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الارض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصر وصرصر، وصل وصلصل، وكب وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش. قوله تعالى: حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة. قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعا، ولا ضير في ان يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائا وطلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون " الصافات - 172، وقال تعالى: " كتب الله
لاغلبن أنا ورسلي " المجادلد - 21، وقد قال تعالى أيضا: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جائهم نصرنا " يوسف - 110، وهو أشد لحنا من هذه الآية.
[ 160 ]
والظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه... والآية (كما مرت إليه الاشارة سابقا) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الامة كما جرى في الامم السابقة. وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده. يسألونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم - 215. (بيان) قوله تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه، وكان الاحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال. والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، وهو أن الآية مع ذلك متعرضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، وثانيا بقولها: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على ان الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، وان ذلك فعل خير والله به عليم، لكنهم كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والاقربون واليتامى
والمساكين وابن السبيل. ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: ان المراد بما في قوله تعالى: ماذا
[ 161 ]
ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، وانهم كيف ينفقونه، وفي أي موضع يضعونه، فاجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة. ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: ان السؤال وإن كان بلفظ ما إلا ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، وتعين ان السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا " البقرة - 70، فكان من المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين ان يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول الآية " البقرة - 71. وقد اشتبه الامر على هؤلاء، فإن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين، لكنه لا يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيدة، حتى يصح لقائل ان يقول عند السؤال عن المستحقين للانفاق: ماذا أنفق: أي على من أنفق ؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والاقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن. بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشئ سواء كان معرفا بالحد والماهية، أو معرفا بالخواص والاوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشئ، ومنه يعلم ان قوله تعالى: " يبين لنا ما هي "
وقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول " سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عما يعرف الشئ ويخصه والجواب بذلك. وأما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطأ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الامرين جميعا: ما
[ 162 ]
ينفقون ؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه ! وهو كما ترى. وكيف كان لا ينبغي الشك في ان في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على ان الاحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلا فكون الانفاق من الخير والمال ظاهر، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعائا وندائا " البقرة - 171 وقوله تعالى: " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر " آل عمران - 117 وقوله تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل " البقرة - 261، وقوله تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء - 89، وقوله تعالى: " قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا " الفرقان - 57، وقوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات. قوله تعالى: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الانفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الانفاق وان كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره، غير انه ينبغي ان يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة
كما قال تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " آل عمران - 92، وكما قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه " البقرة - 267. وايماء إلى ان الانفاق ينبغى ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والاذى كما قال تعالى: " ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " البقرة - 262، وقوله تعالى: " ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو " البقرة - 219. (بحث روائي) في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك
[ 163 ]
عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسئلونك عن اليتامى، ويسئلونك عن المحيض، ويسئلونك عن الانفال، ويسئلونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم. في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله ! بماذا أتصدق ؟ وعلى من أتصدق ؟ فأنزل الله هذه الآية. اقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه. ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اين يضعون أموالهم ؟ فنزلت يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، والزكوة سوى ذلك كله. ونظيرها في ذلك ايضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن
زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على اهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة: " خذ من أموالهم صدقة " التوبة - 104، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلا ان يعني بالنسخ معنى آخر. كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 216. يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
[ 164 ]
استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 217. إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم - 218. (بيان) قوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج " النور - 61، وغير ذلك من الآيات والادلة. ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: " وهو كره لكم " وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه، قال تعالى: " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " النساء - 19، وقال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها " فصلت - 11، وكون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لان القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الابدان والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر ان فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، ومعلوم ان من الجائز
[ 165 ]
أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره واكثرهم كارهون، فهذا وجه. وإما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الاموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإن لله أمرا في هذا الامر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا وجه آخر. وإما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن
يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفار من الهلاك الابدي والبوار الدائم، فبين ذلك انهم مخطئون في ذلك، فإن الله - وهو المشرع لحكم القتال - يعلم ان الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، وانه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الاعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضا وجه. فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: (وهو كره لكم) إلا ان الاول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على ان التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك. قوله تعالى: وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، قد مر فيما مر ان أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى ان يكون كذا لا لانه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو
[ 166 ]
السامع. وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من اخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، وأما من اخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب
الا عتزال، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إلى خطأه في الامرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبك اهتديت، عسى ان تكره شيئا وهو خير لك وعسى ان تحب شيئا وهو شر لك لانك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إلى حقيقة الامر، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به ايضا قوله تعالى سابقا: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما: عسى ان تكرهوا، وعسى ان تحبوا. قوله تعالى: " والله يعلم وانتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطأهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى ان تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، وزوال صفة الجهل المركب عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الامور، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته، فعليكم ان تسلموا إليه سبحانه الامر. والآية في إثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: " إن الله لا يخفى عليه شئ " آل عمران - 5، وقوله تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة - 255، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: " وقاتلوا في سبيل الله " البقرة - 190. قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على ان إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وان الفتنة أكبر من القتل، يؤذن
[ 167 ]
بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلا، وانه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون
رحمة الله والله غفور رحيم " الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه. قوله تعالى: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، الصد هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج، والظاهر ان ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 6، وليس بصواب، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال. قوله تعالى: وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل، أي والذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين، وهم أهل المسجد الحرام، منه اكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما اصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم. قوله تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم. قوله تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه " الخ " تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار. (كلام في الحبط) والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر - 65،
[ 168 ]
وقوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط اعمالهم، يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا اعمالكم " محمد - 33، وذيل الآية يدل بالمقابلة على ان الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " هود - 16، ويقرب منه قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا منثورا " الفرقان - 23. وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إن اصله من الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إلى هلاكه. والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الاعمال في الدنيا والآخرة معا، فللحبط تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة، فإن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل - 97، وخسران سعى الكافر، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الايمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، وهو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، ويتسلى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في افعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى، " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى " طه - 124، حيث يبين ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيده رحبة وسيعة. وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى: " ذلك بأن الله
مولى الذين آمنوا وان الكافرين لامولى لهم " محمد - 11. فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة الحيوة، لا خصوص الاعمال العبادية، والافعال القربية التي كان المرتد عملها واتى بها حال الايمان، مضافا إلى ان الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، ولا فعل قربي
[ 169 ]
لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم واضل اعمالهم ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم " محمد - 9، وقوله تعالى: " ان الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " آل عمران - 22، إلى غير ذلك من الآيات. فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن ان يؤثر في سعادة الحياة، كما ان الايمان يوجب حياة في الاعمال تؤثر بها اثرها في السعادة، فإن آمن الانسان بعد الكفر حييت اعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتد بعد الايمان ماتت اعماله جميعا وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء. ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء اعمال المرتد إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه. توضيح ذلك: انه ذهب بعضهم إلى ان أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدل عليه بقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية " وربما أيده قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا
منثورا " الفرقان - 23، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، ويتفرع عليه انه لو رجع إلى الايمان تملك اعماله الصالحة السابقة على الارتداد. وذهب آخرون إلى ان الردة تحبط الاعمال من اصلها فلا تعود إليه وان آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الاعمال بعد الايمان ثانيا إلى حين الموت، واما الآية فإنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع اعماله وافعاله التي عملها في الدنيا ! وانت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، ان لا وجه لهذا النزاع اصلا، وان الآية بصدد بيان بطلان جميع اعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته !
[ 170 ]
وهنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير، وهي ان الاعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن. ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الاعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه ان لا يكون عند الانسان من عمله إلا حسنة فقط أو سيئة فقط، ومن قائل بالموارنة وهو ان ينقص من الاكثر بمقدار الاقل ويبقى الباقي سليما عن المنافي، ولازم القولين جميعا ان لا يكون عند الانسان من اعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شئ منهما. ويردهما اولا قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم والله غفور رحيم " التوبة - 102، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الاعمال وبقائها على حالها إلى ان تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه. وثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الاعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الانساني من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة
على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الاحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد. وذهب آخرون إلى أن نوع الاعمال محفوظة، ولكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة. نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: " يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم " الانفال - 29، وقال تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية " البقرة - 203، وقال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، بل بعض الاعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان - 70. وهنا مسألة أخرى هي كالاصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق
[ 171 ]
الجزاء وموطنه، فقيل: إنه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقر عليه، فيكتب ما يستحقه حال العمل. وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الاوقات بحسب الانطباق، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة. والذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الاعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية " - 26، كان لازم ذلك كون النفس الانسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته وفي آثار
ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتا لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا. وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الالهية وترتب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الاطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب المدح والذم عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسئ بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلا للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد والتمرد، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.
[ 172 ]
ومن هنا يعلم: أن في جميع الاقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه. وأن الحق أولا: أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد، وإنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.
وثانيا: أن حبط الاعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الاجر يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند الموت. وثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالاعمال الاخروية كذلك يتعلق بالاعمال الدنيوية. ورابعا: أن التحابط بين الاعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه. (كلام في احكام الاعمال من حيث الجزاء) من أحكام الاعمال: أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى: " ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية " وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى: " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " آل عمران - 22، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة، قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفو على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم " الزمر - 55، وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى " طه - 124. وأيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا
[ 173 ]
تبطلوا اعمالكم " سورة محمد - 33، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الامر بالاطاعة في معنى النهي عن المشاقة، وإبطال العمل هو الاحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون "
الحجرات - 2. وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: " وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " هود - 114، وكالحج، قال تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " البقرة - 203، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى: " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، وقال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة " النجم - 32. وأيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: " انى أريد ان تبوء بإثمى واثمك " المائدة - 29، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ. وأيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الانسان لاعينها، قال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " النحل - 25، وقال: " وليحملن أثقالا وأثقالا وأثقالهم " العنكبوت - 13، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الانسان لاعينها، قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12. وأيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: " إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات " الاسراء - 75، وقال تعالى: " يضاعف لها العذاب ضعفين " الاحزاب - 30، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله، قال تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة " البقرة - 261، ومثله ما في قوله تعالى: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " القصص - 54، وما في قوله تعالى: " يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم
[ 174 ]
نورا تمشون به ويغفر لكم " الحديد - 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: " من جاء بالحسة فله عشر أمثالها " الانعام - 160. وأيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان - 70. وأيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: " الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور - 21، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الايتام من نسل الظالم، قال تعالى: " وليخش الذين لو تركوامن خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9. وأيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيئاته إليه، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال - 37. وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز. وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر: أن في الاعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، وذلك أن فعل الاكل مثلا من حيث انه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع
تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، ولا يتعداه إلى غيره، ولا يتبدل بغيره، ولا ينقلب عن هويته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لاغير وكان زيد ضاربا لاغير، وكان عمرو مضروبا لاغير إلى غير ذلك من الامثلة، لكن هذه الافعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الاحكام كما قال تعالى:
[ 175 ]
" وما ظلمونا ولكن كانوا انفسهم يظلمون " البقرة - 57، وقال تعالى: " ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله " الفاطر - 43، وقال تعالى: " انظر كيف كذبوا على انفسهم " الانعام - 24، وقال تعالى: " ثم قيل لهم اين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " المؤمن - 74. وبالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، وربما نقل الفعل واسنده إلى غير فاعله، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني. ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الاعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شئ منه على شئ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى (فيما حكاه في كتابه) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الامور على المجرمين في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول. قال تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السموات والارض إلا ما شاء الله ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، وقد تكرر في القرآن الاخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية " إبراهيم - 22. ومن هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الاعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه. والذي يحل به هذه العقدة: ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، وتمسك بالاصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والانبياء رسلا إليهم، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والانذار،
[ 176 ]
والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك. وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الامر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير انه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4. فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الاحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن لطيف الامر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الافهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي
المثال الاول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، وفي المثال الثاني بإن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها افعال للتابعين فيها، فهي افعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون. وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للانسان، أو للانسان امثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة. فالقرآن الكريم يعلل هذه الاحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الانسان بفعل غيره خيرا أو شرا، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الافهام العامة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، وكانت الاحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على
[ 177 ]
الانسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق " الاعراف - 53، وقال تعالى: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين (إلى أن قال) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " يونس - 39. وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الاحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال - 8، وقوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى "
الانعام - 164، وقوله تعالى: " كل امرء بما كسب رهين " الطور - 21، وقوله تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " النجم - 39، وقوله تعالى: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس - 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وذلك ان الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، وكذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، وكذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، وفاعل كمثله، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى الآية " ونظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، فقوله: وهو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من افعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند انفسهم من غير علم ولا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن اصحاب السعير " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير " الملك - 10، وفي الآخرة ايضا حيث قال
[ 178 ]
" ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا " الاسراء - 72، وقال تعالى: " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة " الهمزة - 7، وقال تعالى في تصديق هذا السلب: " قالت أخريهم لاوليهم ربنا هؤلاء اضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الاعراف - 38، فأثبت لكل من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب، اما المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم، واما التابعين فلضلالهم وإقامتهم امر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر انهم جميعا لا يعلمون. فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة
ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فصلت - 3، وكالآيات التي تحتج عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والادراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقوله تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " السجدة - 12. قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الاعمال عنهم كما قال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقوله تعالى: " قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف - 38، إلى غير ذلك من الآيات، وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: " يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون " البقرة - 242. وقد أجاب الامام الغزالي عن إشكال انتقال الاعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: إن نقل الحسنات والسيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله
[ 179 ]
الواحد القهار "، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، وما
لا يعلمه الانسان فليس بموجود له وإن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الان في حقه. فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل ؟. فنقول: المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة، ولكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، وأثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الانسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، وإن كان جوهرا فما هذا الجوهر ؟ ! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة والظلمة، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة، وبالظلم والقسوة يستعد القلب للحجاب والبعد، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضاد كما قال تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اتبع السيئة الحسنة تمحقها " والآثام تمحيصات للذنوب، ولذلك قال عليه السلام: إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، وقال عليه السلام: الحدود كفارات. فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها، والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيئات. فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلا حقيقة. قلنا إسم النقل قد يطلق على مثل هذا الامر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل
الظل من موضع إلى موضع آخر، وانتقل نور الشمس أو السراج من الارض إلى الحائط
[ 180 ]
إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كنى بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، وسمى إثبات الوصف في محل وابطال مثله في محل آخر بالنقل، وكل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا. أقول: محصل ما أفاده أن اطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق اي القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لاثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لامحاء شئ واثبات شئ آخر في محل آخر، وإذا إطرد هذا الوجه في سائر احكام الاعمال المذكورة عادت جميع هذه الاحكام مجازات، وقد عرفت انه سبحانه قرر هذه الاحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، ويبني عليه احكامه من المصالح والمفاسد، ولاريب ان هذه الاحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد ان الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا. هذا حال هذه الاحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن احكام العقل العملي، واما بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات الا بحسب التحليل بمعنى ان نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك. ومن احكام الاعمال: انها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امدا بعيدا " آل عمران - 30، وقال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقال تعالى: " ونكتب ما قدموا
وآثارهم وكل شئ احصيناه في إمام مبين " يس - 12، وقال تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقد مر البحث عن تجسم الاعمال. ومن احكام الاعمال: ان بينها وبين الحوادث الخارجية ارتباطا، ونعني بالاعمال
[ 181 ]
الحسنات والسيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية دون الحركات والسكنات التي هي آثار الاجسام الطبيعية فقد قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " الشورى - 30، وقال تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوئا فلا مرد له " الرعد - 11، وقال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الانفال - 53، والآيات ظاهرة في ان بين الاعمال والحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا. ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف - 96، وقوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم - 41. فالحوادث الكونية تتبع الاعمال بعض التبعية، فجرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغي والضلالة وفساد النيات وشناعة الاعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الامم بفشو الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان واعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من
هذا القبيل. فالامة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق " المؤمن - 21، وقال تعالى: " وإذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء - 16، وقال تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون - 44، هذا كله في الامة الطالحة،
[ 182 ]
والامة الصالحة على خلاف ذلك. والفرد كالامة يؤخذ بالحسنة والسيئة والنقم والمثلات غير ان الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما انه يؤخذ بمظالم غيره كابائه واجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " قال انا يوسف وهذا اخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع اجر المحسنين " يوسف - 90، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزة وغيرهما، وقال تعالى: " فخسفنا به وبداره الارض " القصص - 81، وقال تعالى: " وجعلنا له لسان صدق عليا " مريم - 50، وكأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: " جعلنا كلمة باقية في عقبه " الزخرف - 28، وقال تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فأراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما " الكهف - 82، وقال تعالى: " فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه. وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من افراد الانسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة انعمها عليه وامتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان
إذ يقول: " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام اكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " النمل - 40، وقال تعالى: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " ابراهيم - 7، والآية كسابقتها تدل على ان نفس الشكر من الاعمال الصالحة التي تستتبع النعم. وان كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه واستدراجا وإملائا يملى عليه كما قال تعالى: " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " الانفال - 30، وقال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون واملي لهم ان كيدي متين " القلم - 45، وقال تعالى: " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون " الدخان - 17. وإذا انزلت النوازل وكرت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحك، قال تعالى: " احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ام حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون " العنكبوت - 4
[ 183 ]
وقال تعالى: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " آل عمران - 140. وإن كان المصاب طالحا كان ذلك اخذا بالنقمة وعقابا بالاعمال، والآيات السابقة دالة على ذلك. فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله، وأما قوله تعالى: " ولو لا ان يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " الزخرف - 35، فغير ناظر إلى هذا الباب
بل المراد به (والله اعلم) ذم الدنيا ومتاعها وانها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه، ولذلك يؤثر للكافر، وان القدر للآخرة ولو لا ان افراد الانسان امثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر. فان قيل: الحوادث العامة والخاصة كالسيول والزلازل والامراض المسرية والحروب والاجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، وعليه فلا محل للتعليل بالاعمال الحسنة والسيئة بل هو فرضية دينية، وتقدير لا يطابق الواقع. قلت: هذا اشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: " ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الاعراف - 64. وجملة القول فيه: ان الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبه لمقاصد القرآن واهله، فهم لا يريدون بقولهم: " ان الاعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا، ابطال العلل الطبيعية وانكار تأثيرها، ولا تشريك الاعمال مع العوامل المادية، كما ان الالهيين لا يريدون بإثبات الصانع ابطال قانون العلية والمعلولية العام واثبات الاتفاق والمجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية واستناد بعض الامور إليه والبعض الآخر إليها، بل مرادهم اثبات علة في طول علة، وعامل معنوي فوق العوامل المادية، واسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن
[ 184 ]
بالترتيب: اولا وثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الانسان وإلى يده. ومغزى الكلام: هو ان سائق التكوين يسوق الانسان إلى سعادته الوجودية وكماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، ومن المعلوم ان من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الاعمال، فإذا عرض لهذا السير
عائق مانع يوجب توقفه أو اشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من اعضائه فإن وفق له اصلح المحل وان عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به. وقد دلت المشاهدة والتجربة على ان الصنع والتكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجه إليه، ولا معنى لاستثناء الانسان في نوعه وفرده عن هذه الكلية ! ودلتا ايضا على ان التكوين يعارض كل موجود نوعي بامور غير ملائمة تدعوه إلى اعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده ويوصله غايته وسعادته التي هيأها له، فما بال الانسان لا يعتنى في شأنه بذلك ؟ وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى " وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لا يعلمون " الدخان - 39، وقوله تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " ص - 27، فكما ان صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا ومن غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرد ايجاده، ولم يبال: إلى ما يؤل امره ؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة ؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لامره شاهدا على راسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لاجلها وركب اجزائه للوصول إليها اصلح حاله وتعرض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من راس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السموات والارض وما بينهما ومن جملتها الانسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، ولم يوجده هبائا، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: " افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون " المؤمنون - 115، وقال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم - 42، ومن الضروري حينئذ ان تتعلق العناية الربانية إلى
[ 185 ]
ايصال الانسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والارشاد، ثم بالامتحان والابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية، فإن في ذلك اتقانا للصنع في الفرد والنوع وختما للامر في امة وإراحة الآخرين، قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة ان يشاء يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشأكم من ذرية قوم آخرين " الانعام - 133، (انظر إلى موضع قوله تعالى: وربك الغني ذو الرحمة). وهذه السنة الربانية اعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي اخبر الله عنها انها سنة غير مغلوبة ولا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: " وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير وما انتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير " الشورى - 31، وقال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173. ومن احكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء: ان قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، ومن خواص قبيل السعادة كل صفة وخاصة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والامن والتأصل والبقاء، كما ان مقابلاتها من الزهاق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبية وما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء. والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: " كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم - 27، وقوله تعالى: " ليحق الحق ويبطل الباطل " الانفال - 8، وقوله تعالى: " والعاقبة للتقوى " طه - 132، وقوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم
المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون " يوسف - 21، إلى غير ذلك من الآيات. وتذييل الكلام في هذه الآية الاخيرة بقوله: ولكن اكثر الناس لا يعلمون، مشعر
[ 186 ]
بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل اكثرهم جاهلون بها، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل احد لم يجهلها الاكثرون، وانما جهلها من جهلها، وانكرها من انكرها من جهتين: الاولى: ان الانسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده ولا يغيب عنه، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعد غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم على كل شئ إذا حكم حكم فصلا، وإذا قضى قضى حقا، والاولى، والعقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) ان يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمه، فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب (ساء ما يحكمون)، لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران - 196. والثانية: ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات وقهرها ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا
يقتلون فريقا، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشائون بالتحكم والتهكم، وقد دل التجارب وحكم البرهان على ان الكره والقسر لا يدوم، وان سلطة الاجانب لا يستقر على الامم الحية استقرارا مؤبدا، وإنما هي رهينة أيام قلائل. وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، وبأن تربى أفرادا تعتقدها وتؤمن بها، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقر الايمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا وإن استخفى يوما أو برهة، ولذلك نجد ان الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ اكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة
[ 187 ]
فسلاح المعنى أشد بأسا. هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شؤونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال والوهم، وأما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح وأبين. فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال والباطل، وما ذا بعد الحق إلا الضلال، ومن المعلوم ان الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل. والحق من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف ولا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، وإن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار، ووافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: " إلا ان تتقوا منهم تقية " آل عمران - 28، وان قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " البقرة - 154. فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، اما ظاهرا وباطنا، واما باطنا فقط، قال تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " التوبة - 52. ومن هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا وباطنا معا، أما ظاهرا:
فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الانساني هداية تكوينية إلى الحق والسعادة، وسوف يبلغ غايته، فإن الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، وانما هو مقدمة لظهور الحق ولما ينقض سلسلة الزمان ولما يفن الدهر، والنظام الكوني غير مغلوب البتة، وأما باطنا: فلما عرفت ان الغلبة لحجة الحق. واما ان لحق القول الفعل كل صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن، ولباطل القول والفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الابحاث: ان المستفاد من قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ " المؤمن - 62، وقوله تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة -، وقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79، ان السيئات اعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض
[ 188 ]
للوجود بخلاف الحسنات، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كل جمال وحسن، ومنبع كل خير وسعادة كالثبات والبقاء، والبركة والنفع دون السيئ من القول والفعل، قال تعالى: " أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض " الرعد: 17. ومن احكام الاعمال: ان الحسنات من الاقوال والافعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الافعال والاقوال، وقد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل (ونعني بالعقل ما يدرك به الانسان الحق والباطل، ويميز به الحسن من السيئ). ولذلك أوصى باتباعه ونهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغش والغرر في المعاملات، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان
والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الافعال والاعمال توجب خبط العقل الانساني في عمله وقد ابتنيت الحياة الانسانية على سلامة الادراك والفكر في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية. وأنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية والفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت ان الاساس فيها هي الاعمال التي يبطل بها حكومة العقل، وان بقية المفاسد وان كثرت وعظمت مبنية عليها، ولتوضيح الامر في هذا المقام محل آخر سيأتي إنشاء الله تعالى. (بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرات القرآن ؟ قال وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
[ 189 ]
اقول: وفي الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإنما يختلف باختلاف الاعتبار، واما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مر ان عسى في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شئ في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب ! واعجب منه ما نقل عن بعض آخر: ان كل شئ من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن طلقكن، وفي بني إسرائيل عسى ربكم ان يرحمكم. وفي الدر المنثورايضا: اخرج ابن جرير من طريق السدي: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية وفيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الاسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن صفوان السلمي
حليف لبنى نوفل، وسهل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة. وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب مع ابن جحش كتابا وأمره ان لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه ان سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لاصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة وانفلت المغيرة، وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها اصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجعوا إلى المدينة بالاسيرين وما غنموا من الاموال، قال المشركون: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: " يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير لا يحل "، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين اكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمدا، والفتنة وهي الشرك اعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: وصد عن سبيل الله وكفر به. اقول: والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم، وروي هذا المعنى ايضا في المجمع، وفي بعض الروايات: ان السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش إلى
[ 190 ]
نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من اخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام، وكتب له كتابا قبل ان يعلمه انه يسير، فقال اخرج انت واصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامض له، ولا تستكرهن أحدا من اصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ان
امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من اخبار قريش بما اتصل اليك منهم، فقال لاصحابه حين قرء الكتاب: سمع وطاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني ماض لامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني ان استكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه يطلبانه، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف، أدم وزيت، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، وائتمر القوم بهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخر يوم من جمادي، فقالوا: لئن قتلتموهم انكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الاسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قال سقط في ايديهم وظنوا ان قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال، وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العير وفدى الاسيرين، فقال المسلمون: - يا رسول الله ! أتطمع ان يكون لنا غزوة ؟ فانزل الله: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش. اقول: وفي كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا الآية، نازلة في أمر
[ 191 ]
أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، والآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، وتدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب. وفي الروايات إشارة إلى ان المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، ويؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية، ويؤيد ذلك ان الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم. * * * يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون - 219. في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم - 220. (بيان) قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، والاصل في معناه الستر، وسمي به لانه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمرت الاناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت الخميرة خميرة لانها تعجن أولا ثم تغطى وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف
من اقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في اقسامه
[ 192 ]
تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمر. والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والاصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان اكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضا: الازلام والاقلام. وأما كيفيتة فهي انهم كانوا يشترون جزورا وينحرونه، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزئا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزئا، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلي سبعة، وهو أكثر القداح نصيبا، وأما الثلاثة الاخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الاجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الاخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الانصباء والسهام. قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، وقرء إثم كثير بالثاء المثلثة، والاثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشئ أو في العقل يبطئ الانسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاخرى وهذان على هذه الصفة. أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والامعاء والكبد والرئة وسلسلة الاعصاب والشرائين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما
الف فيه تأليفات من حذاق الاطباء قديما وحديثا، ولهم في ذلك احصائات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الامراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك. وأما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق وتأديته الانسان إلى الفحش، والاضرار والجنايات، والقتل وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الانسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في
[ 193 ]
الاعراض والنفوس والاموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملات الدنيا ونغصت عيشة الانسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم. وأما مضرته في الادراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الانسان وتغييره مجرى الادراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الاثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاخر. والشريعة الاسلامية كما مرت إليه الاشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهى كالخمر، والميسر، والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن اشد الافعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الافعال وقول الكذب والزور من بين الاقوال. فهذه الاعمال أعني: الاعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الانسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة الا وهي امر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء الا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة انشاء الله.
ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الاعمال الشهوانية اسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجرى على نواميس السعادة الانسانية، ولذلك ان الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الاحكام على سبيل التدريج، وكلفهم بالرفق والامهال. ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في إلآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: احديها: قوله تعالى: " قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق " الاعراف - 33، والآية مكية حرم فيها الاثم صريحا، وفي الخمر
[ 194 ]
اثم غير انه لم يبين ان الاثم ما هو وان في الخمر اثما كبيرا. ولعل ذلك انما كان نوعا من الارفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الاغماض كما يشعر به ايضا قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " النحل 67، والآية أيضا مكية، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى " النساء - 43، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في افضل الحالات وفي افضل الاماكن وهي الصلاة في المسجد. والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى ان تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاص بعد ورود النهى المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الاسهل إلى الاشق لا بالعكس. ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: " ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه
وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الاثم في الخمر " فيهما إثم كبير " وتقدم نزول آية الاعراف المكية الصريحة في تحريم الاثم. ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " لا يدل على أزيد من ان فيه إثما والاثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة اخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا انهم يتيسر لهم ان ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون ". وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الاثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الاثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الاثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما
[ 195 ]
عظيما " النساء - 47، وقوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى: " ان تبوء بإثمي وإثمك " المائدة - 29، وقوله تعالى: " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم " النور - 11، وقوله تعالى: " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات. وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول " وإثمهما أكبر من نفعهما " وارجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص. واما ثالثا: فهب ان الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الاثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الاعراف المحرمة للاثم صريحا
فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية. على ان آية الاعراف تدل على تحريم مطلق الاثم وهذه الآية قيدت الاثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في ان الخمر فرد تام ومصداق كامل للاثم لا ينبغي الشك في كونه من الاثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالاثم ولم يصف الاثم في شئ من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما " النساء - 48، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم. ثم نزلت آيتا المائدة: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون " المائدة - 91، وذيل الكلام يدل على ان المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر. واما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة امر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة انشاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما اثم
[ 196 ]
كبير ومنافع للناس، قد مر الكلام في معنى الاثم، واما الكبر فهو في الاحجام بمنزلة الكثرة في الاعداد، والكبر يقابل الصغر كما ان الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان اضافيان بمعنى ان الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر اكبر منه، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلة، ويشبه ان يكون اول ما تنبه الناس لمعنى الكبر انما
تنبهوا له في الاحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى: " إنها لاحدى الكبر " المدثر - 35، وقال تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الكهف - 5، وقال تعالى: " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " الشورى - 13، والعظم في معناه كالكبر، غير ان الظاهر ان العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد اجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الاصلية. والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الامور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما ان الخير والشر يطلقان على الامور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي، ولما قوبل ثانيا بين الاثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع والغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: واثمهما اكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما. قوله تعالى: ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الاثر والعفو بمعنى التوسط في الانفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم. والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين الآية. قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا والآخرة، الظرف أعني قوله
[ 197 ]
تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون وليس بظرف له، والمعنى لعلكم
تتفكرون في امر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وان الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا. وفي الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الاخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الانسان وشقاوته. وثانيا: ان القرآن وان كان يدعو إلى الاطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد، غير انه لا يرضي ان يؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الامر، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى. وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الاحكام والقوانين، وايضاح اصول المعارف والعلوم. قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير، في الآية اشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل ولو شاء الله لاعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في امر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والامر على ذلك، فإن ههنا آيات شديدة اللحن في امر اليتامى كقوله تعالى " ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " النساء - 10 وقوله تعالى: " وآتوا اليتامى اموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، فالظاهر ان الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي،
وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الاصلاح، دلالة على ان المرضي عند الله سبحانه نوع من الاصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحا في ظاهر الامر فقط،
[ 198 ]
فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لافاده التنويع فالمراد به الاصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلا -: والله يعلم المفسد من المصلح. قوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين اثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي، وبين الغني المثرى والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " الحجرات - 10. فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم ان يكون كالمخالطة بين الاخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالاية تحاذي قوله تعالى: " وآتوا اليتامى أموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، وهذه المحاذاة من الشواهد على ان في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، وكما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: ان المخالطة ان كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الاخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لو كان بغرض الاصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الامر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح. قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها
لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت هو الكلفة والمشقة. (بحث روائي) في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدى أبا الحسن عليه السلام عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل ؟ فإن الناس إنما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن ؟ فقال: قول الله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما
[ 199 ]
ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق (إلى ان قال:) فأما الاثم فإنها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر واثمهما اكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهدي ان قال لى: صدقت يا رافضي. اقول: وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية. وفي الكافي أيضا عن ابى بصير عن احدهما عليهما السلام قال: إن الله جعل للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر. وفيه أيضا عن ابى عبد الله عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الخمر رأس كل إثم. وفيه عن اسماعيل قال: أقبل أبو جعفر عليه السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم: فقال يا عم ما أكبر الكبائر ؟ قال عليه السلام: شرب الخمر.
وفيه أيضا عن ابى البلاد عن احدهما عليهما السلام قال: ما عصي الله بشئ أشد من شرب المسكر، إن احدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على امه وابنته، واخته وهو لا يعقل. وفي الاحتجاج: سأل زنديق أبا عبد الله عليه السلام: لم حرم الله الخمر ولالذة أفضل منها ؟ قال: حرمها لانها ام الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية الاركبها الحديث. اقول: والروايات تفسر بعضها بعضا، والتجارب والاعتبار يساعدانها. وفي الكافي عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه،
[ 200 ]
وبايعها، ومشتريها وآكل ثمنها. وفي الكافي والمحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر. اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى: " ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المائدة - 3. وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر. وفي الامالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال: إن شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه. وفي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: حق على الله ان يسقي من يشرب
الخمر مما يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه. اقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم " الدخان - 49. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة. وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار. اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عباس: إن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالا يأكل حتى يتصدق به.
[ 201 ]
وفي الدر المنثور أيضا عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: يارسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا ؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط. وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليه السلام: الكفاف. وفي رواية أبي بصير: القصد. وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.
وفي المجمع عن الباقر عليه السلام: العفو ما فضل عن قوت السنة. اقول: والروايات متوافقة، والاخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادق عليه السلام قال: إنه لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى: ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا، أخرج كل من كان عنده يتيم، وسالوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح. وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وإن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.
[ 202 ]
* * * ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون - 221.
(بيان) قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، ومحال ان يكون في الاصل للجماع ثم استعير للعقد لان أسماء الجماع، كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود. والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان، فالقول بتعدد الاله واتخاذ الاصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة - وخاصة - إنهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبائه وهو شرك، وأخفى منه القول باستقلال الاسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته، فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا، قال تعالى: " ولله على الناس حج البيت (إلى أن قال) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " آل عمران - 97، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافر بالحج، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل
[ 203 ]
الافعال المشاركة لها في مادتها، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم، ولاسناد الفعل حكم آخر. على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف
لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " البينة - 1، وقوله تعالى: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " التوبة - 28، وقوله تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد " التوبة - 7، وقوله تعالى: " وقاتلوا المشركين كافة " التوبة - 36، وقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 5 إلى غير ذلك من الموارد. وأما قوله تعالى: " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " البقرة - 135، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى: " ماكان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " آل عمران - 67، ففي إثبات الحنف له عليه السلام تعريض لاهل الكتاب، وتبرئه لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى معنوية النصارى محضا بل هو عليه السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا المشركين عبدة الاوثان. وكذا قوله تعالى: " وما يؤمن أكثر هم بالله إلا وهم مشركون " يوسف - 106، وقوله تعالى: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " فصلت - 7، وقوله تعالى: " إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " النحل - 100، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الاولياء المقربون من صالحي عباد الله. فقد ظهر من هذا البيان على طوله: ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب. ومن هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى:
[ 204 ]
" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية " المائدة - 6. أو أن الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة اعني قوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " الممتحنة - 10، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة. وجه الفساد: ان هذه الاية اعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن اخذ فيها عنوان الكوافر وهو اعم من المشركات ويشمل اهل الكتاب، فإن الظاهر ان اطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " البقرة - 98 إلا أن ظاهر الاية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية. ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتدائا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي ابية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة. على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة
غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق. قوله تعالى: ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم، الظاهر أن المراد بالامة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الاماء ويعيرون من
[ 205 ]
تزوج بهن، فتقييد الامة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الاماء واستذلالهن، والتحرز عن التزوج بهن يدل على ان المراد أن المؤمنة وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الانسان بحسب العادة. وقيل: ان المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية امة الله وعبده، وهو بعيد. قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن " الخ "، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة. قوله تعالى: اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى والمغفرة والجنة بإذنه، اشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق، والمعمية عن أبصار طريق الحق والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالاخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار، والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الايمان، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة باذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الايمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى الجنة والمغفرة. وكان حق الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنة " الخ " ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على ان المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية إلى ربهم، لا يستقلون في شئ من الامور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه:
" والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68. وفي الآية وجه آخر: وهو ان يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الخ "، فان جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والانس به الا البعد من الله سبحانه، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون، ويمكن ان يراد
[ 206 ]
بالدعوة الاعم من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم. " بحث روائي " في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن ابى مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان قويا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك ان تتزوج بي ؟ فقال: حتى استاذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع استاذن في التزوج بها. اقول: وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس. وفي الدر المنثور اخرج الواحدي من طريق السدي عن ابى مالك عن ابن عباس في هذه الآية: ولامة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له امة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فاتي النبي ليالله عليه وآله وسلم فاخبره خبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ماهي يا عبد الله ؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد ان لا إله إلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله، هذه مؤمنة فقال عبد الله: فو الذي بعثك بالحق لاعتقها ولاتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح امة، وكانوا يريدون ان ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم فانزل الله فيهم: ولامة مؤمنة خير من مشركة
وفيه ايضا عن مقاتل في الآية ولآمة مؤمنة، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة فاعتقها وتزوجها حذيفة. اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في اسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، الآية ناسخا لقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخا به، ستمر بك في تفسير الآية من سورة المائدة. * * * ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله
[ 207 ]
يحب التوابين ويحب المتطهرين - 222. نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين - 23 (بيان) قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى " الخ " المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرئة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل. والاذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما ان الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضر وضار، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، وايضا قال تعالى: " لن يضروكم الا اذى " آل عمران - 111، ولو قيل لن يضروكم إلاضررا لفسد الكلام، وايضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في امثال قوله تعالى: " ان الذين يؤذون الله ورسوله "
الاحزاب - 57، وقوله تعالى: " لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم " الصف - 5، فالظاهر ان الاذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه. وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للارضاع، واما على قولهم: ان الاذى هو الضرر فقد قيل: ان المراد بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال فاجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الاطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.
[ 208 ]
قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الانصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين. وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير ان العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في امر المحيض والتشديد في امر معاشرتهن
في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين. وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: ولا تقربوهن، إلا ان قوله تعالى اخيرا فأتوهن من حيث امركم الله - ومن المعلوم انه محل الدم - قرينة على ان قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ. فالاسلام قد اخذ في امر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والاهمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الاول اريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الاول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه. قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من
[ 209 ]
الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الاصول. وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر. فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة
والاستفادة منها لمأرب العيش فالانسان يقصد كل شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد. وربما عرض للشئ عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الاشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها. وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للامور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالانساب والافعال والاخلاق والعقائد والاقوال. هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الاصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الابل وتستبعد ويقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى
[ 210 ]
هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة
الشئ تبعد الانسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأن الاصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية. وقد اعتبر الاسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعممهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلية، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية "، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى: " وثيابك فطهر " المدثر - 4، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 6، وقال تعالى: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " المائدة - 41، وقال تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79. وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلوة وفي الاكل وفي الشرب، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الاعيان النجسة، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه. وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الاصل الواحد في فروعه. ومن هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان، وبعد ذلك أصول الاخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الاصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: " يريد ليطهركم " المائدة - 6، وقوله تعالى: " ويطهركم تطهيرا " الاحزاب - 33، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة. ولنرجع إلى ماكنا فيه فقوله تعالى: حتى يطهرن، أي ينقطع عنهن الدم،
وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهرن اي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، امر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو
[ 211 ]
كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الادب الالهي البارع، وتقييد الامر بالاتيان بقوله امركم الله، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما امر الله به امرا تكوينيا للدلالة على انه مما يتم به نظام النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من اصول النواميس التكوينية. وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، تماثل قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " البقرة - 187، وقوله تعالى: " فأتوا حرثكم انى شئتم وقدموا لانفسكم " البقرة - 223، من حيث السياق، فالظاهر ان المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالاعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما ان المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك، وهو ظاهر، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي المتعلق بالازواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد. وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنه مبني إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، وإما على الاستدلال بدلالة الامر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف. على ان الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى: فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب، ولو كان بالامر في قوله تعالى: من حيث امركم الله، فهو إن كان
امرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، وإن كان امرا تشريعيا كان للايجاب الكفائي، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للامر الايجابي العيني المولوي. قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الاخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الاصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصة
[ 212 ]
في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في الميحض، وقوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهرين، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله: التوابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا، أعني: إن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر. قوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الارض التي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنى من اسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربما استعمل في المكان أيضا، قال تعالى: " يا مريم
أني لك هذا قالت هو من عند الله " آل عمران - 37، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، وكيف كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو الذي يمنع الامر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لايجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته. ثم إن تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الاطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية الاطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه
[ 213 ]
أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما، ودلالتها أيضا على أن تحريم الاتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائما، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم " المائدة - 6. ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، المشتمل أولا على التوسعة، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: ان آية الحرث لا تصلح لنسخ
آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت. فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الانساني نسبة الحرث إلى الانسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وابقائها كذلك النساء يحتاج اليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لان الله سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الاصلية مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لانفسكم. ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الاطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لانفسكم، بالتسمية قبل الجماع. قوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين، قد ظهر: ان المراد من قوله: قدموا لانفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال
[ 214 ]
والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إلاحياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " الذاريات - 56، فلو أمرهم بشئ مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الارض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة. فالمراد بقوله: قدموا لانفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر
الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى انفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12. وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: ان المراد بتقديمهم لانفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " النبأ - 41، وقال تعالى أيضا: " وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " المزمل - 20، فقوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " الخ "، مماثل السياق لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " الحشر - 18، فالمراد (والله اعلم) بقوله تعالى: وقدموا لانفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الاولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتقوا الله، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنكم ملاقوه " إلخ " الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الانفال - 24، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.
[ 215 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج احمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو يعلى وابن المنذر وابو حاتم والنحاس في ناسخه وابو حيان والبيهقي في سننه عن انس: ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شئ الا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله ان اليهود قالت: كذا وكذا أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظننا ان قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم يحد عليهما. وفي الدر المنثور عن السدي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح. أقول: وروي مثله عن مقاتل ايضا. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، قال عليه السلام: هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله. وفي الكافي: سئل عن الصادق عليه السلام: ما لصاحب المرئه الحائض منها ؟ فقال عليه السلام: كل شئ ما عدا القبل بعينه. وفيه أيضا عنه عليه السلام: في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها، قال عليه السلام: إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء، قبل ان تغتسل، وفي رواية: والغسل أحب إلى. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قرائه يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة، ففيه
[ 216 ]
معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الاول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين
أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد الغسل كما أفاده عليه السلام بقوله: والغسل أحب إلى، لاحرمة الاتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى، فافهم ذلك. وفي الكافي ايضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. اقول: والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: ان اول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة. وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند ابي جعفر عليه السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وامتعنا بك -: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر عليه السلام إنما هي القلوب، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر عليه السلام أما إن اصحاب محمد قالوا يا رسول الله نخاف علينا من النفاق ؟ قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولم تخافون ذلك ؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولو لا انكم تذنبون فتستغفرون
الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، ان المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقال تعالى:
[ 217 ]
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه. أقول: وروي مثله العياشي في تفسيره، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه، وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى: " الذين إذا اصابتهم مصيبة " البقرة - 156. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا انكم تذنبون " الخ "، اشارة إلى سر القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الاسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين " الخ "، من كلام ابى جعفر عليه السلام، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79، من الاستدلال به على ان علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة. وكما ان الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى: " وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر - 21، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: " هو الذي أنزل
عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية " آل عمران - 7. ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الاشارة: ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه. ويظهر ايضا: معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله عليه السلام: انزل الله على ابراهيم عليه السلام الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فاما التي في الراس: فاخذ الشارب، واعفاء اللحى، وطم الشعر،
[ 218 ]
والسواك، والخلال، واما التي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والاخبار في كون هذه الامور من الطهارة كثيرة، وفيها: ان النوره طهور. وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: أي شئ تقولون في اتيان النساء في أعجازهن ؟ قلت بلغني ان اهل المدينة لا يرون به بأسا، قال (عليه السلام): ان اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في ادبارهن. وفيه عن الصادق (عليه السلام) في الآية فقال (عليه السلام): من قدامها ومن خلفها في القبل. وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال: وإياكم ومحاش النساء، وقال: إنما معنى نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي ساعه شئتم. وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) في مثله، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.
أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي، وهي تدل جميعا: ان الآية لاتدل على أزيد من الاتيان من قدامهن، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي عن عبد الله بن ابي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس ثم تلا هذه الآية: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم. اقول: الظاهر ان المراد بالاتيان في اعجازهن هو الاتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم. وفي الدر المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الانصار تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فأراد ان يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فاخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 219 ]
فأنزل: " فأتوا حرثكم أنى شئتم " أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد ان يكون في صمام واحد. اقول: وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا (عليه السلام). وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الاتيان في الفرج فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقول أئمة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم عليهم السلام إلا أنهم عليهم السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط: قال: " إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين " الحجر - 71، حيث عرض " عليه السلام " عليهم بناته
وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن. والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية حتى ان المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه. ففي الدر المنثور عن الدار قطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك علي المصحف يا نافع ! فقرأ حتى أتى على، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله " نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها. اقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة. وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي
[ 220 ]
في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الآية. وفيه أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه. وفيه أيضا: أخرج الطحاوي من طريق إصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم، قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني: وطى المرأة في
دبرها ثم قرأ: نسائكم حرث لكم، ثم قال: فأي شئ أبين من هذا ؟ وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم إنما كان هذا الحي من الانصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من امر أهل الكتاب ان لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أثر ما تكون المرأة، وكان هذا الحي من الانصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الانصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عز وجل: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. اقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق اخرى أيضا عن مجاهد، عن ابن عباس.
[ 221 ]
وفيه أيضا: اخرج ابن عبد الحكم: ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها (الاعكان جمع عكنة بضم العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال، أفيحرم ؟ قال: لا، قال: فكيف تحتج بما لا تقولون به ؟ وفيه أيضا: اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض ؟ قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهن من حيث امركم الله
فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال: كيف بالآية نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث ؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن انى شئتم من الليل والنهار. اقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لاتدل على أزيد من حرمة الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الادبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض ؟ على انك قد عرفت ان آية الحرث ايضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الادبار، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر الذي في قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله الآية، وقد عرفت فيما مر من البيان انه من افسد الاستدلال، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وان آية الحرث ايضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات. * * * ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم - 224. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم - 225. للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فائوا فإن الله غفور رحيم - 226. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم - 227.
[ 222 ]
(بيان) قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا إلى آخر الآية، العرضة
بالضم من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للاكل، ومنه ما يقال للهدف: إنه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح، وللدابة المعدة للسفر إنها عرضة للسفر وهذا هو الاصل في معناها، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخلية في اصل المعنى. والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للاصبع التي يسب بها. ومعنى الآية (والله اعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما امر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إنشاء الله. وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبروا " إلخ "، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى " يبين الله لكم أن تضلوا " النساء - 17، اي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن تبروا، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهيكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الاكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أديكم إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم
[ 223 ]
ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حد قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف مهين " القلم - 10، والانسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مر. وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى الاول أظهرها كما لا يخفى. قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم إلى آخر الآية، اللغو من الافعال مالا يستبعد أثرا، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومعلقاته، فلليمين إثر من حيث انه لفظ، واثر من حيث انه مؤكد للكلام، واثر من حيث انه عقد واثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شئ من قول: لا والله وبلى والله. والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من اعماله من خير أو شر ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذم، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونوهما بالآعمال المستتبعة لذالك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة
لنفسه، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك. وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لاغير. (كلام في معنى القلب في القرآن) وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح،
[ 224 ]
فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الاذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الانسان البتة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى: " وجاء بقلب منيب " ق - 33. والظاهر: أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وإن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والارادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئا لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للابصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إلى توسيط الآلة. وربما يؤيد هذا النظر: ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد
الدماغ إلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضرباته. وربما أيده أيضا: ان الابحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية أعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني، إذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد، وحدة حقيقية. ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي، فإن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم الازمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسميه مبدء الحكم
[ 225 ]
والامر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدواب والانعام، ورئاس السيف. فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى انفسهم، يقال: أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية. وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى: " يشرح صدره للاسلام " الانعام - 125، وقال تعالى: " إنك يضيق صدرك " الحجر - 97، وقال تعالى:
" وبلغت القلوب الحناجر " الاحزاب - 10، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى: " ان الله عليم بذات الصدور " المائدة - 7، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات في كتابه تعالى اشارة إلى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد. وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطد. ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للاشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى: " إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة - 284، وقال تعالى: " ولكن يناله التقوى منكم " الحج - 37. وفي قوله تعالى: والله غفور حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما
[ 226 ]
لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى: " وقد أفلح المؤمنون إلى أن قال والذين هم عن اللغو معرضون " المؤمنون - 3. قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم " الخ "، الايلاء من الالية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا واضرارا، وهو المراد في الآية، والتربص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع. والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربص بالاربعة أشهر فإنها الامد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع ايقاعه، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فإن الله سميع عليم، فإن السمع انما يتعلق
بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه. وفي قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: " لا يؤاخذكم " الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية " المائدة - 89. فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم اربعة اشهر فإن رجع إلى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق واوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم الآية، قال عليه السلام: هو قول الرجل: لا والله وبلى والله. وفيه أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك أو لا يكلم أمه. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل على يمين ان لاافعل.
[ 227 ]
اقول: والرواية الاولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث، فكأن المراد انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الاثم والله يغفر له، فيكون مصداقا للعامل بالآية. وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم الآية، قال: اللغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ. اقول: وهذا المعنى مروي في الكافي عنه عليه السلام من غير الطريق، وفي المجمع
عنه وعن الباقر عليه السلام. وفي الكافي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام انهما قالا: إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الاربعة اشهر، ولا إثم عليه في الكف عنها في الاربعة اشهر، فإن مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إما ان تفئ فتمسها وإما ان تطلق، وعزم الطلاق ان يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله. وفيه ايضا عن الصادق عليه السلام في حديث: والايلاء ان يقول: والله لا اجامعك كذا وكذا أو يقول: والله لاغيظنك ثم يغاظها، الحديث. اقول: وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة، والبحث فقهي مذكور في الفقه. * * * والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
[ 228 ]
درجة والله عزيز حكيم - 228. الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون - 229. فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها
لقوم يعلمون - 230. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم - 231. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 232. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم
[ 229 ]
بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير - 233. والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير - 234. ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم - 235. لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف
حقا على المحسنين - 236. وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير - 237. حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين - 238. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون - 239. والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم - 240. وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين - 241. كذلك يبين الله
[ 230 ]
لكم آياته لعلكم تعقلون - 242. (بيان) الآيات في احكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها، وفي خلالها شئ من احكام الصلاة. قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، اصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال. والتربص هو الانتظار والحبس، وقد قيد بقوله تعالى: بأنفسهن، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة اعني عدة الطلاق، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدة الاشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الانساب، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين والاحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، والجملة خبر أريد به الانشاء تأكيدا.
والقروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا، فهو على ما قيل من الاضداد، غير ان الاصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالاظهر ان يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القرائه، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأن الاصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة - 18، وقوله تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " بني إسرائيل - 106، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما، وبه سمي القرآن قرآنا.
[ 231 ]
قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسما جامع للامرين: الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى. قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك، وفي تقييده بقوله: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط اصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الاشارة إلى ان هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر
الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم، وهذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس ان أردت خيرا، وقولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء. قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحا، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل اصلا يشتق منه الالفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، وللارض المستعلية بعل، وللصنم بعل، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك. والضمير في بعولتهن للمطلقات إلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الاعم منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة، والتقييد بقوله ان ارادوا اصلاحا، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، الآية. ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الاول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق، والزوج الاول احق بها لسبق
[ 232 ]
الزوجية، غير ان الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الاول. ومن هنا يظهر: ان في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في ايام العدة، وهذه الاحقية انما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على ان الحكم مخصوص بالرجعيات، لا ان ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.
قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل اعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الادب. وحيث بنى الاسلام شريعته على اساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة، ومن احكام الاجتماع المبني على اساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما عليهم مثل مالهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقوي من حيث العمل قوته، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حق حقه، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والاسلام يرى في ذلك ان للرجال عليهن درجة، والدرجة المنزلة. ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قيد متمم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم،
[ 233 ]
وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها. قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمكساك بمعروف أو تسريح بإحسان، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما ان الدفعة والكرة والنزلة
مثلها وزنا ومعنى واعتبارا. والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الابل وهو ان ترعيه السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الابل وقد استعير في الآية لاطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجئ. والمراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرتان، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد: فإمساك " الخ "، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية. والمراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الاوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الاظهر انه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الاطلاق في تفريع قوله: فإمساك " الخ "، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها " الخ " بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الاجمالي. وفي تقييد الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان من لطيف العناية مالا يخفى، فإن الامساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك، يريد بذلك إيذائها والاضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه، بل الامساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع إليها بنوع من انواع الالتيام، ويتم به الانس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة. وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب، ويتصور بصورة الانتقام، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، وهذا التعبير هو الاصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيد
[ 234 ]
التسريح بالاحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. بيانه: ان التقييد بالمعروف والاحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفي الامساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان يأخذ الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالاحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي، ولو قيل: أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم " الخ "، فاتت النكتة. قوله تعالى: إلا ان يخافا الا يقيما حدود الله، الخوف هو الغلبة على ظنهما ان لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين، وذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك. قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كانه للاشارة إلى لزوم ان يكون الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة، لاما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها، ولذلك عدل أيضا عن الاضمار فقيل ألا يقيما حدود الله، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس. وأما نفى الجناح عنهما مع ان النهي في قوله: ولا يحل لكم ان تأخذوا " الخ "، إنما تعلق بالزوج فلان حرمة الاخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من باب الاعانة على الاثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية،
فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية، ولاجناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين على الاخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به. قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله " الخ "، المشار
[ 235 ]
إليه هي المعارف المذكورة في الايتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل اخلاقية، وأخرى علمية مبتنية على معارف اصلية، والاعتداء والتعدي هو التجاوز. وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والاصول الاخلاقية، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على اجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية " البقرة - 231. وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحل لكم، وقوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثم إلى المفرد في قوله: فاولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء. قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع ان المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، وليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد والوطئ جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الاول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين
الاوليين، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لان المراد بالحدود غير الحدود. وفي الآية من عجيب الايجاز مايبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير ان يوجب تعقيدا في الكلام، ولا إغلاقا في الفهم.
[ 236 ]
وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الاسماء المنكرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة اسماء منكرة، وقوله تعالى: مما آتيتموهن شيئا كني به عن المهر، وقوله تعالى: فإن خفتم، كني به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى: فيما افتدت به، كني به عن مال الخلع، وقوله تعالى: فإن طلقها، اريد به التطليقة الثالثة، وقوله تعالى: فلا تحل له، أريد به تحريم العقد والوطئ، وقوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، أريد به العقد والوطئ معا كناية مؤدبة، وقوله تعالى: ان يتراجعا، كني به عن العقد. وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله: إن ظنا ان يقيما حدود الله، والتفنن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها وقوله: ومن يتعد. قوله تعالى: وإذاطلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: لتعتدوا، المراد ببلوغ الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على ان المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، إذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة: وفي قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما
نهى عن التسريح بالاخذ من المهر في غير الخلع. قوله تعالى: ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الامساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والامساك خاصة رجوع إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة. فمن يفعل ذلك أي امسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الانسانية. على انه اتخذ آيات الله هزوا يستهزء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم
[ 237 ]
من الاحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذا وإعطائا وإمساكا وتسريحا وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتم بها سعادة الحياة الانسانية، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، وتطهر بها الارواح، وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا. والمراد بالنعمة في قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: " وأتممت عليكم نعمتي " المائدة - 3، وقوله تعالى: " وليتم نعمته عليكم " المائدة - 6، وقوله تعالى: " فأصبحتم بنعمته إخوانا " آل عمران - 103. وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به، كالمفسر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها
أعني أحكامها وحكمها. ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الالهية، التكوينية وغيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الاحكام وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شئ عليم، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره. قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، العضل المنع، والظاهر أن الخطاب في قوله: فلا تعضلوهن، لاوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لايسعهن مخالفته، والمراد بأزواجهن، الازواج قبل الطلاق، فالآية تدل على نهي الاولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة ان تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي.
[ 238 ]
اما اولا: فلان قوله: فلا تعضلوهن، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره. واما ثانيا: فلان اختصاص الخطاب بالاولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم، وأن النهى نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى: ذلكم ازكى لكم وأطهر. وربما قيل: إن الخطاب للازواج جريا على ما جرى به قوله: وإذا طلقتم النساء، والمعنى: وإذا طلقتم النساء يا أيها الازواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو
ذلك. وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهن، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجا وهو ظاهر. والمراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهن: انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لاحد من الاولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن احق بردهن في ذلك. على أن قوله تعالى: ان ينكحن، دون ان يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك. قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، هذا كقوله فيما مر: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر الآية، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالايمان بالله واليوم الآخر، وهو التوحيد، لان دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل دون الفصل. وفي قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والاصل في هذا الكلام خطاب المجموع اعني خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحده في غير جهات الاحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، وقوله فاولئك هم الظالمون، وقوله: وبعولتهن احق بردهن في ذلك، وقوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظا لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركن في هذه
[ 239 ]
المخاطبة وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره فخاطب بوساطته، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.
قوله تعالى: ذلكم ازكى لكم واطهر، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، وقد مر الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى ازواجهن، أو نفس رجوعهن إلى ازواجهن، والمال واحد، وذلك ان فيه رجوعا من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن واطهر لنفوسهن، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الاجانب إذا منعن عن نكاح ازواجهن. والاسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى: " ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 7. قوله تعالى: والله يعلم وانتم لا تعلمون، اي إلاما يعلمكم كما قال تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء " البقرة - 255، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله. قوله تعالى: والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعه. الوالدات هن الامهات، وإنما عدل عن الامهات إلى الوالدات لان الام اعم من الوالدة كما ان الاب اعم من الوالد والابن اعم من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، واما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه اشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه ان يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة امه التي ترضعه، ونفقتها، وكان على أمه ان لا تضار والده لان الولد مولود له.
[ 240 ]
ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لان الاولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الامهات، وأنشد المأمون بن الرشيد: وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللآباء أبناء. انتهى ملخصا، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: أولادهن ويقول: بولدها، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس. وقد اختلط على كثير من علماء الادب امر اللغة، وامر التشريع، حكم الاجتماع وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية. وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده اليهما معا، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الامم: فبعض الامم يلحقه بالوالدة، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: المولود له كما تقدم، والارضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سميت به لانها تحول، وإنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: اقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه اياما. وفي قوله تعالى: لمن اراد ان يتم الرضاعة، دلالة على ان الحضانة والارضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها، والبلوغ إلى آخر المدة ايضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك، واما الزوج فليس له في ذلك حق الا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن ارادا فصالا " الخ ". قوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا
وسعها، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: لا تكلف نفس الا وسعها، وقد فرع عليه حكمين
[ 241 ]
آخرين، احدهما: حق الحضانة والارضاع الذي للزوجة وما اشبهه فلا يحق للزوج ان يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة وحرج عليها، وثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله: بولده دون ان يقول به رفع التناقض المتوهم، فإنه لو قيل: ولا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى: ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لان إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي إن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده وولدها، وله فحسب تشريعا لانه مولود له. قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك، ظاهر الآية: ان الذى جعل على الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لانها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الاخبار، وهو الموافق أيضا لظاهر الآية. قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور إلى آخر الآية، الفصال: الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو حق يمكنها أن تتركه.
فمن الجائز ان يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس، وكذا من الجائز ان يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن ارضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، وهو قوله تعالى: وإن أردتم أن تسترضعوا اولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، أمر بالتقوى وان
[ 242 ]
يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الاعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن الآية من قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا ان الله بكل شئ عليم، فان تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، والمضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الاثر بعد. قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا، التوفي هو الاماتة، يقال: توفاه الله إذا اماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما، والمراد بالعشر الايام حذفت لدلالة الكلام عليه. قوله تعالى: فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف المراد ببلوغ الاجل انقضاء العدة، وقوله: فلا جناح " الخ " كناية عن إعطاء الاختيار لهن في افعالهن فإن اخترن لانفسهن الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميت منعهن عن شئ من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع وليس لاحد ان ينهي عن المعروف. وقد كانت الامم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحزاق
الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبني على أساس الانس والالفه، وللحب حرمة يجب رعايتها، وهذا وان كان معنى قائما بالطرفين، ومرتبطا بالزوج والزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الايدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه
[ 243 ]
الاقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، وقد عين الاسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة، أعني اربعة أشهر وعشرا. قوله تعالى: والله بما تعملون خبير، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها، وكان كل ذلك تشخيصا للاعمال مستندا إلى الخبرة الالهية كان الانسب تعليله بأن الله خبير بالاعمال مشخص للمحظور منها عن المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لانفسهن في مورد آخر، ولذا ذيل الكلام بقوله: والله بما تعملون خبير. قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في انفسكم التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح. والفرق بين التعريض
والكناية ان للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إني حسن المعاشرة واحب النساء، اي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد انه سخي. والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولايقال: خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء. والاكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الاكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في انفسكم، والكن بما يستر بشئ من الاجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى: " كأنهن بيض مكنون " الصافات - 49، وقال تعالى: " كأمثال اللؤلؤء المكنون " الواقعة - 23، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في امرها. قوله تعالى: علم الله انكم ستذكرونهن، في مورد التعليل لنفي الجناح عن
[ 244 ]
الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: ان ذكركم إياهن امر مطبوع في طباعكم والله لاينهي عن امر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم، بل يجوزه، وهذا من الموارد الظاهرة في ان دين الاسلام مبني على اساس الفطرة. قوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره الا ان يبطل من رأس، والعقدة من العقد بمعنى الشد. وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كأن حبالة النكاح تصير الزوجين
واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو امر قلبي اشارة إلى ان سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد والادراك، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة الآية " البقرة - 213، ففي الآية استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص الذي فرضه الله على المعتدات. فمعنى الآية: ولاتجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، وهذه الآية تكشف أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن، وعلى هذا فاللام في قوله: النساء للعهد دون الجنس وغيره. قوله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " الخ " ايراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، اعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الامور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها. قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضه، المس كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: ان عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر. قوله تعالى: ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف،
[ 245 ]
التمتيع إعطاء ما يتمتع به، والمتاع والمتعة ما يتمتع به، ومتاعا مفعول مطلق لقوله تعالى: ومتعوهن، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنه من الافعال المتعدية التي
كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد. ومعنى الآية: يجب عليكم ان تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف وإنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع، وعلى المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، والدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها. قوله تعالى: حقا على المحسنين، اي حق الحكم حقا على المحسنين، وظاهر الجملة وان كان كون الوصف اعني الاحسان دخيلا في الحكم، وحيث ليس الاحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا ان النصوص من طرق اهل البيت تفسر الحكم بالوجوب، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الاحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم - المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون، والله اعلم. قوله تعالى: وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن " الخ "، أي وان اوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور ايضا، أو الزوج فان عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لان من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الاعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه اقوى وأقدر. قوله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم " الخ " الفضل هو الزيادة كالفضول غير
[ 246 ]
ان الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي ان يؤثره الانسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الاحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: إن الله على كل شئ بصير، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولاد هن الآية. قوله تعالى: حافظوا على الصلوات إلى آخر الآية، حفظ الشئ ضبطه وهو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنث الاوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنما تفسيره السنة، وسيجئ ما ورد من الروايات في تعيينه. واللام في قوله تعالى: قوموا لله، للغاية، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: " كل له قانتون " البقرة - 116، وقال تعالى: " ومن يقنت منكن لله ورسوله " الاحزاب - 31، فمحصل المعنى: تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولاجله. قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إلى آخر الآية عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف. والفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي ان المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من اصله بل إن لم تخافوا شيئا وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسر عليكم
فقدروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدد الامن ثانيا عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه. والكاف في قوله تعالى: كما علمكم، للتشبيه، وقوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على
[ 247 ]
هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الامن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين. قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لالزواجهم. وصية مفعول مطلق لمقدر، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي. وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة، أعني الاربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نسائهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الازواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير ان هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه كان لهن ان يطالبن به، وان يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت ان يوصي للوالدين والاقربين بالمعروف، قال تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين " البقرة - 180. ومما ذكرنا يظهر ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن. قوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، الآية في حق مطلق المطلقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب. قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، الاصل في معنى العقل
العقد والامساك وبه سمي إدراك الانسان إدراكا يعقد عليه عقلا، وما أدركه عقلا، والقوة التي يزعم انها إحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلا، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة. والالفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الادراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأى، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك. والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان،
[ 248 ]
غير ان الحسبان كأن استعماله في الادراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا: عد زيدا من الابطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب. والشعور هو الادراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس. والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الادراك أو حفظه من ان يغيب عن الادراك. والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق. والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه. والفقه: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق. والدراية: هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الامر وتعظيمه، قال تعالى: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة - 2، وقال تعالى: انا انزلناه في ليلة القدر،
وما ادراك ما ليلة القدر " القدر - 2. واليقين: هو اشتداد الادراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن. والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات. والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير انه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الامور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والافتاء، والقول، غير ان استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لان القول في شئ يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه. والزعم: هو التصديق من حيث أنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا. والعلم كما مر: هو الادراك المانع من النقيض
[ 249 ]
والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال. والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها. والخبره: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها. والشهادة: هو نيل نفس الشئ وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والارادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك. والالفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الاخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: انه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم
أو يفقه أو غير ذلك. واما الالفاظ الخمسة الاخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: " والله بكل شئ عليم " النساء - 75، وقال تعالى: " وربك على كل شئ حفيظ " سبأ - 21، وقال تعالى: " والله بما تعملون خبير " البقرة - 234، وقال تعالى: " هو العليم الحكيم " يوسف - 83، وقال تعالى: " إنه على كل شئ شهيد " فصلت - 53. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الادراك من حيث ان فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في اول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الاشياء، وباخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الاشياء الخارجة عنها كالارادة، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات والامور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، وفي العمليات والامور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الاصلية، وهذا هو العقل.
[ 250 ]
لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الافراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الانسان يقضي في مواطن المعلومات
الباطلة بما يقضي، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الانسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب. وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الانسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير " الملك - 10. وقال تعالى: " أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج - 46، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الانسان بالقيام عليه بنفسه، والسمع في الادراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة - 130، وقد مر ان الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن الحديث. فقد تبين من جميع ما ذكرنا: ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي يتم للانسان مع سلامه فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " العنكبوت - 43. (بحث روائي) في سنن أبي داود عن اسماء بنت يزيد بن السكن الانصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق:
[ 251 ]
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " فكانت أول من انزلت فيها العدة للطلاق. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، عن
زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: ان من رأيي ان الاقراء التي سمى الله في القرآن انما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس إ بالحيض، قال: فدخلت على ابي جعفر عليه السلام فحدثته بما قال ربيعة فقال: ولم يقل برأيه انما بلغه عن علي عليه السلام فقلت: اصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك ؟ قال: نعم، كان يقول: انما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: اصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرا غير جماع بشهادة عدلين ؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للازواج، الحديث. اقول: هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه عليه السلام، وقوله: قلت: اصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك إنما استفهم ذلك بعد قوله عليه السلام: إنما بلغه عن علي، لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول: إن القروء في الآية هي الحيض دون الاطهار كما في الدر المنثور عن الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل للازواج، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك وينسبون إليه (عليه السلام): أن الاقراء الاطهار دون الحيض كما مرت في الرواية، وقد نسبوا هذا القول إلى عدة أخرى من الصحابة غيره (عليه السلام) كزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ورووه عنهم. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية: الحبل والحيض. وفي تفسير القمي: وقد فوض الله إلى النساء ثلاثة اشياء: الطهر والحيض والحبل. وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قال: قال عليه السلام حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال. اقول: وهذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان، عن ابي جعفر عليه السلام، قال: إن الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
[ 252 ]
أو تسريح بإحسان والتسريح بالاحسان هو التطليقة الثالثة. وفي التهذيب عن ابي جعفر عليه السلام، قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقرائها فإذا مضت اقرائها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، وإن أراد ان يراجعها أشهد على رجعتها قبل ان تمضي اقرائها، فتكون عنده على التطليقة الماضية، الحديث. وفي الفقيه عن الحسن بن فضال، قال: سألت الرضا عن العلة التي من اجلها لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال عليه السلام: إن الله عز وجل إنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز وجل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، ولدخوله فيما كره الله عز وجل من الطلاق الذي حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق ولا تضار النساء، الحديث. اقول: مذهب أئمة اهل البيت: ان الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إلا تطليقة واحدة، وإن قال طلقتك ثلاثا على ماروته الشيعة، واما اهل السنة والجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدل على وقوعه طلاقا واحدا، وبعضها يدل على وقوع الثلاثة، وربما رووا ذلك عن علي وجعفر بن محمد عليهما السلام، لكن يظهر من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم والنسائي وأبي داود وغيرهم: ان وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي الدر المنثور: اخرج عبد الرزاق ومسلم وابو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابي بكر وسنتين من خلافة عمر
طلاق الثلاث واحدا فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في امر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فامضاه عليهم. وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة ام ركانة ونكح امرأة من مزينة فجائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة اخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حميه فدعا بركانه واخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا وفلان منه كذا وكذا
[ 253 ]
قالوا نعم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، قال: راجع امرأتك ام ركانة فقال: اني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت ارجعها وتلا: يا ايها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وفي الدر المنثورعن البيهقي عن ابن عباس، قال: طلق ركانة امراة ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها ؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: نعم فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها فكان ابن عباس يرى انما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي امر الله بها: فطلقوهن لعدتهن. اقول: وهذا المعنى مروي في روايات أخرى ايضا والكلام على هذه الاجازة نظير الكلام المتقدم في متعة الحج. وقد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإن المرتين والثلاث لا يصدق على ما انشئ بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل، وفي المجمع في قوله تعالى: أو تسريح بإحسان، قال: فيه قولان، احدهما: انه الطلقة الثالثة، والثاني انه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، عن السدي والضحاك، وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. اقول: والاخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا ان يخافا ان لا يقيما حدود الله الآية، عن الصادق عليه السلام قال: الخلع لا يكون إلا ان تقول المرأة لزوجها: لاابرلك قسما، ولاخرجن بغير اذنك، ولاوطئن فراشك غيرك ولااغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك امرا أو تطلقني، فإذا قالت ذلك فقد حل له ان يأخذ منها جميع ما اعطاها وكل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، وهو خاطب من الخطاب، فإن شائت زوجته نفسها، وان شائت لم تفعل، فإن زوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين وينبغي له ان يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في شئ مما اعطيتني فأنا املك ببضعك، وقال عليه السلام: لا خلع ولا مباراة ولا تخيير الا